مقتطف إبراهيم قيس جركس - شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت] -25- (عَنْ ألف هَدَف وهَدَف)

[25]
((عَنْ ألف هَدَف وهَدَف))

تقدّم جميع أعمال نيتشه لمحة عن الصراع والكفاح المُستَعِر من أجل تحقيق الإنسانية المحاصرة بين يديّ قوة تتقاطع بين علم الأحياء والثقافة. وبالتالي فهو يساهم في حَلّ المشكلة التي خلقتها نظرية داروين الأصلية الموضّحة بالتفصيل في كتابه "أصل الأنواع" (1859)، أي ما إذا كانت قوانين التطوّر البيولوجية قابلة للتطبيق أيضاً في مجالي التاريخ والثقافة الإنسانية. ويتطلّب وجود وعي عند الجنس البشري والمَلَكَات الاجتماعية والثقافية والحضارية للبشر إجراء تحقيق خاص في هذا المجال الذي يُماثل الطبيعة كثيراً وبالمعنى الأوسع، لكنّه مستقلٌ إلى حدٍ ما عنها.

تناول داروين نفسه مشكلة الثقافة والتطوّر الثقافي في عام 1871 في كتابه "أصل الإنسان" و"الانتقاء الجنسي" الذي يناقش _من بين عدد من القضايا ذات الصلة_ إمكانية نطبيق نظرية التطوّر في المجال الاجتماعي. وقد أدّى ذلك إلى ظهور حركة جديدة في أوروبا تبنّت نظرية التطور الاجتماعية خلال فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر وسُمّيَت "بالداروينية الاجتماعية".

ينبغي أن يُقرأ كتاب زرادشت _مع إبراز نظرية إرادة القوة_ كعامل مساهِم في هذا المجال. ومع ذلك، لايمكننا القول بأنّ أياً من أعمال نيتشه قد غذّى بأيّ طريقة كانت هذا الفرع من النظرية الداروينية الاجتماعية والذي أعطى لاحقاً مكانة خاصة لمفاهيم مثل العرق المتفوّق وعلم تحسين النسل.

السؤال المركزي الذي يطرحه نيتشه ليس ما إذا كانت قوانين التطور الطبيعية تنطبق على مجال الثقافة، وإنّما ما هي الطرق التي يتمّ بها تطبيق قوانين التطوّر الطبيعية في المجال الثقافي، وما الذي يتطلّبه الأمر لإدراك هذه المعلومة الثورية واستيعابها. ليس واضحاً ما إذا كان نيتشه قد قرأ أعمال داروين بشكلٍ مباشر (ظهرت أوّل ترجمة ألمانية لكتاب أصل الأنواع في عام 1860). لكن لاشكّ في أنّ نيتشه قد قرأ كُتُباً مثل كتاب فريدريك ألبرت لانغ: تاريخ المادية ونقد أهميتها في الوقت الحاضر Geschichte des Materialismus und Kritik seiner Bedeutung in der Gegenwart الذي نُشِرَ عام 1866. هناك، جرت محاولة لنقل فكرة داروين البيولوجية عن الصراع من أجل البقاء والهيمنة إلى المجال الاجتماعي. وقد كان نيتشه يحتفظ بنسخة من الكتاب ضمن مكتبته الشخصية.

توجد في الخلفية أيضاً مجموعة متنوّعة من مذاهب وأنماط التفكير التطوري الألماني الغريب الذي سبق المحاولات الأنجلوسكسونية بأكثر من نصف قرن. لقد نشأ مذهب تطوّري ألماني Entwicklungsdenken، أو النظرية التطورية، خلال سبعينيات القرن الثامن عشر كجزء ممّا يسمّى بحركة Sturm-Und-Drang "العاصفة والاندفاع. حيث شملت هذه النظرية جوانب من النقد الفني والأنثروبولوجيا البشرية والثقافية وكذلك علوم الأرض والدراسة الفيزيولوجية للبيئات الجغرافية، ممّا أدّى لوحده إلى فَتح آفاق جديدة في جميع هذه المجالات. وعلاوة على ذلك، هناك أدلّة كثيرة على أنّ داروين كان على اطّلاع ودراية بهذه الأفكار. وفي هذا السياق يستخدم نيتشه مفاهيم التطوّر والغريزة/الدافع.

# نيتشه ونظرية التطوّر

يلخّص هذا القسم وصف زرادشت لطبيعة "الشعب". يجب أن نقول إنّ الشعب يُعَرّف على أنّه مجموعة من الناس/البشر ذات نمط حياة متجانس وناجح وصحّي على نطاق واسع. والميزة الأكثر وضوحاً هي مجموعة القيم (الخير والشر) التي تكرّسها الأنشطة والمؤسسات الثقافية (المدرسة، ألأديان، القوانين، على سبيل المثال). ومن خلال هذه القيم "يحافظ" الناس أو "يصونون" تلك الحياة المتجانسة والمستقرّة وصحّتها. أيضاً يمكننا الآن أن نفهم عنوان هذا القسم كإشارة إلى قصص ألف ليلة وليلة: فحكاية المزرعة تدور حول البقاء والمحافظة على الاستمرار في وجه قوى الدمار، وفي النهاية الحصول على مَسْكَن، واقتران مناسب مع تلك القوى. "الخير" هو تلك الأشياء اللازمة للبقاء، وكلّما تفاقمت الصعوبات وعَمّت النُدرة، ازداد "الخير"، أمّا "الشر" فهو تلك الأشياء المُهَدّدة بالدمار والمُنذِرَة بالخراب.

تعكس هذه القيم تجاوزها أو إرادتها للقوة _أي أنّها تعبّر عن نمط الحياة ذاته والتاريخ الذي أصبحت من خلاله قيم متجانسة وناجحة وصحّية وما إلى ذلك. ضمن "نمط الحياة" هذا يشمل زرادشت الشعوب بالإضافة إلى "البلد والسماء والجار" _بعبارة أخرى إنّ الشعب هو نمط حياة نمى وتطوّر إلى حالة جغرافية ومناخية وتاريخية معيّنة. إنه نظام تاريخي وبيولوجي وبيئي. قيمته تنتمي إليه وحده، ولايمكن تفسيرها للشعوب الأخرى. و"هدفه" أو "أمله" هو التغلّب على ذاته باستمرار نحو تحقيق أكمل لهذه القيم. لايمكن لأي شعب أن يحافظ على وفسه ببساطة إذا بقي الأفراد بداخله على قيد الحياة، بغضّ النظر عن الظروف (لايمكن أن يوجد مستعبداً على سبيل المثال)، ولايمكنه الاسترخاء فقط بسبب منظر طبيعي أو نرويض لجار ما له. ("يريد أعداءً وليس سلاماً" الكتاب الأول، القسمان 20 و24). لأنّ هذه ليست ممارسة الفضيلة التي هي تعبير عن إرادة القوة التي تميّز ذلك الشعب. إنّ الحفاظ أو المحافظة يمكن أن يعني فقط الاستمرار في السعي لتحقيق أسمى الأهداف _وبالتالي، يجادل نيتشه في كتابه "ماوراء الخير والشر" بأنّ الحفاظ على الذات من جانب كل كائن حي فردي أو جماعي هو في الحقيقة تأثير اشتقاقي، إنّه مجرّد طريقة تسعى من خلالها إرادة القوة إلى ممارسة شعورها بالقوة والاستمتاع بها [ماوراء الخير والشر، شذرة13]. وبالتالي فإنّ التكرار في هذا القسم لكلمة "صعب": هذا جديرٌ بالثناء كما أنّه يشير إلى الصراع من أجل تحقيق أهداف الناس. ولاحظ هذه الازدواجية أيضاً: ((الحب الذي يبتغي سيطرة، والحب الذي يبتغي طاعة))، كل منهما لحظة تدميرية/إبداعية (سيطرة) واللحظة الحافظة (طاعة) ضرورية للعملية الشاملة لصحّة الحياة وسلامتها وتقدّمها. طبعاً وصف نيتشه هذه الثنائية بشكلٍ عام بأنّها ذمورية وأنثوية. إذ أنّنا نرى ذلك بشكلٍ أوضح في الجزء الأول، القسم 18، وأيضاً في هذه الفضيلة (تظهر إرادة القوة كأسلوب معيّن في العيش) على أنّها امرأة في الجزء الأول، الفصل5، أو مرة أخرى كعلاقة بين المرأة والطفل (لاحقاً في الكتاب الثاني).

في منتصف المقطع حدّد زرادشت أربعة شعوب على وجه الخصوص من خلال تسمية أعلى قيمهم التي جعلوا أنفسهم من خلالها "عظماء". من الواضح أنّ الثلاثة الأوائل هم الإغريق والفُرس واليهود، أمّا النوع الرابع فأقلّ وضوحاً. هل هو يشير إلى الرومان أو إلى الألمان؟ ربما يكون هذا الغموض مُتَعَمَّداً، وهذا ما تدُلّ عليه الدعوة ليس إلى الإنجازات الحالية بل إلى مستقبل ((أحْبَل ومُثقَلاً بعظيم الآمال)). يجبر هذا الغموض القُرّاء الألمان على مواجهة المشكلة الخطيرة والإبداعية لهويتهم كشعب وعلاقتهم بالعالم القديم، والقيام بذلك بشكلٍ منفصل تماماً عن النزعة القومية والعسكرية للدولة الألمانية الجديدة التي من الواضح أنّها واحدة من الأهداف الواردة في الجزء الأول من القسم21.

إنّ القيم تنتج عن أعمال التقييم وإعادة النظر التي تقوم بها الشعوب، أو الخلق والابتكار في النهاية. سيكون الوجود "أجوَفاً" وبِلا قيمة لولا هذه الأفعال. لكن ما هي هذه الأفعال؟ إنّها متطابقة مع المهمة التاريخية لأي شخص يسعى للتغلّب على ذاته وتجاوزها من أجل الوصول إلى نمط حياة ناجح وسليم.

يُعَرَّف الإبداع أو الخَلق على أنّه اختراع أو ابتكار أو انتقاء ممّا يعَزّز نمط الحياة (نشاط، أو حالة، أو فكرة، أو مؤسسة، أو مورد). لكنّ الإبداع الأعلى يكون باختراع نمط حياة جديد (تغيير القيم _هذا يعني تغيير المبدعين والمبتكرين). هذا هو الإبداع العالي الذي يتوصّره زرادشت في نهاية القسم: ((الهدف الواحد هو الذي مازال ينقصنا)). مثل هذا الإبداع العالي سيكرّر ألف عمل إبداع أصلي، لكنه سيفعل ذلك نيابةً عن البشرية ككل، ممّا يخلق مايفوق الإنسانية، أي الإنسان الأعلى. (من هنا فكرة "الشعب المختار" في نهاية الكتاب الأول). كان المبدعون/ الخالقون شعوباً في الأصل، والمُبدع الفرد ليس سوى ابتكار حديث. ثمّ حَدَثّ الخَلق عن وعي مُسبَق أو غريزي. الأمر الذي يتوافق مع تحليل الثقافات البشرية في كتاب نيتشه ألأول "ميلاد المأساة". في الآونة الأخيرة، وضمن العديد من أُطُرِ الشعوب، أصبح الفرد البشري مركزياً باعتباره حاملاً للحقوق السياسية أو الاقتصادية أو المسؤوليات الأخلاقية، وتمّ تحديده بموجب القانون باعتباره الوكيل المسؤول عن جميع الإجراءات. لكنّ هذا الفرد هو إنجار إبداعي يساعد بطريقة ما في التغلّب على الذات وتجاوزها الدائم.

من الواضح أنّ نيتشه ليس فردانياً، إذا كنّا نعني بذلك أنّ قيمة ومعنى الحياة يبدأآن وينتهيان بأفعال الفرد في التقييم وإعادة النظر أو إضفاء المعنى. الفرد موجود فقط لأنّ الحياة تريده ليوجَد، بوصفه وظيفة أو أداة _كما يصفه نيتشه في نهاية الكتاب الأول ((الآن يرقص إلهٌ من خلالي)). يسمّي زرادشت الوظيفة: "الخضوع لإرادة" القطيع. ويتمّ شرح هذا المفهوم عن الفرد بشكل أوضح في كتاب "العلم المرح"، القسم 23. هناك، يكتب نيتشه أنّ الفرد يظهر كوظيفة لثقافة أو (شعب) تجاوزت تاريخ صلاحيتها، إذا جاز التعبير، وتحتاج إلى تطوير، وما أن تجري عملية التطوير هذه، حتى يندمج الفرد مرّةً أخرى ويذوب، أمّا الآن فهو زائدٌ عن الحاجة فيما يتعلّق بالحياة البشرية.

يذكّرنا الاستخدام المفاجئ لمصطلح "قطيع" أنّه على الرغم من اللغة الحماسية التي استخدمها زرادشت في هذا القسم _وهو يتعجّب من الأعمال الإبداعية التي أنتجت شعوباً عظيمة_ فقد تمّ تقييم مفهوم "الشعب" بشكل سلبي منذ الديباجة كشيء خطير يتهدّد مهمّة زرادشت. من منظور الحياة البشرية ككل، فإنّ "الشعب" يشكّل حاجز أو عائق بالنسبة له.

يجب الآن أن تنتقل الوظيفة الإبداعية التي كانت مجالاً أو فضاءً للشعوب إلى أولئك الذين تعني إبداعاتهم التغلّب على الإنسان ومحاولة تجاوزه (انظر كتاب "ماوراء الخير والشر"، شذرة262: كل منهما لصالح الشعوب وفضائلها، ولحظات الانتقال في حالة من التغلّب). هذا يعني أيضاً أنّ الأخير سيحمل سِمَةَ "الشرير"، و"مُلحد"، و"مجنون"، أو "بربري" أو سمّه ما شئت. الهدف الجديد هو أنّ الإنسان الأعلى يمثّل نهاية عصر الشعوب (رغم أنّه، مرّةً أخرى، لايعني بدء عصر "الأفراد"). وسيتوضّح ذلك لاحقاً.

تأتي هذه الأفكار مع مجموعة قيّمة من الفروق. على سبيل المثال، التمييز بين الحياة البشرية بحدّ ذاتها أو ككلّ (الحياة التي تتجاوز كل فرد أو حتى أي شخص كنظام لإرادة القوّة المجهولة) والحياة كطريقة محدّدة ومعيّنة للعيش (إرادة القوّة تتحقّق كشعب _أو كنوع فرعي داخل شعب، كهنته أو جنوده، أو في حالات استثنائية فرد واحد حتى_ بقيمه وفضائله المشهورة).

قد يضرّ الحفاظ على الأخير بطريقة ما الحفاظ على الأول. وبالمثل يجب أن نميّز بين الصحّة بحدّ ذاتها (صحّة الحياة البشرية ككلّ، والتي، كما الحياة تماماً، يجب أن تنمو وتتطوّر لتوجد أصلاً) وصحّة نمط معيّن من حياة الإنسان (صحّة استقرارها وملائمتها لبيئتها وتاريخها والتي تحافظ على نفسها من خلال قيَمها أو فضائلها).

قد يكون النمط الأخير "للصحة" _خاصةً في الغايات التي تسعى إليها للحفاظ على نفسها وتدمير "بشرها"_ في الواقع مَرَضاً مستعصياً من وجهة نظر النمط الأول، بقدر مايعيق ويؤخّر إمكانيات النمو البشري. وأخيراً، قد نفرّق بين المعنى الضيّق لمصطلح "الحفاظ" (الحفاظ على الشكل) والحفاظ على الحياة بحدّ ذاتها (الذي يتضمّن تدمير شكل لصالح شكل آخر جديد). لقد رأينا العديد من الأمثلة على مثل هذه الفروق في العمل، وأوضحها على الأرجح "الإنسان الأخير" المذكور في الديباجة.

إبراهيم قيس جركس 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...