مقتطف إبراهيم قيس جركس - شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت] -26- (عَنْ محبّة القريب)

[26]
(عَنْ محبّة القريب)

يتبع هذا القسم القسمين 22 "عن ذباب السوق" والقسم 24 "عن الصديق" حيث تمّ تقديم مفهوم "القريب". جاء في القسم 22 تصنيف الصداقة على أنها أكثر الروابط حميميّةً بين البشر، وكذلك النواة الاجتماعية لتجاوز الإنسانية نحو الإنسان الأعلى. في المقابل، يتمّ الآن استكشاف السياق السلبي للعلاقة بشكلٍ أوسع وأكثر تفصيلاً: العلاقات الشخصية غير الملائمة. يتحدّث الخطاب عن الاسم الألماني المركّب Nāchstenliebe (أي حبّ الجار) والذي يحوّله نيتشه إلى مصطلح Frenstenliebe (أي حبّ البعيد/الأبعد). إنّ المبدأ المسيحي القائل بمحبّة القريب (من العهد الجديد "أحِبْ جارك كنفسك" [إنجيل متّى 22: 39]) انقلب رأساً على عَقِب واستُبدِلَ بأمرٍ مُلائِمٍ أكثر للبحث عن الإنسان الأعلى: أحِبّْ أولئك الأبعد و"الشبح" و"ماسيأتي". هنا يهاجم نيتشه النزعة النفعية المسيحية والإحسان المسيحي على أنّه مجرّد نفاق: إذ أنّ حُبَّ الجار يصل إلى ((أنّكم لاتطيقون أنفسكم، ولاتحبّون أنفسكم بما فيه الكفاية))، كما أنّه يجسّد هروب من الذات إلى الآخر. إنّ فكرة "الحبّ الرديء" تعني شيئين مترابطين: إمّا أن يعادل "الرديء" الحب (شكل تفاعلي أو غير صحي من حُبّ الذات)، أو ينفيه (كراهية الذات). ترتبط الحالة الأولى ارتباطاً وثيقاً بالشفقة، حيث يكون الحب "الظاهري" للآخر في الواقع محاولة لاكتساب القوة من خلال تخفيف الشعور بالعار أو توليده. وقد رأينا النوع الأخير عند أولئك الذين يكرهون الجسد بشكل تفاعلي، ويمقتون هذه الحياة وهذا العالم.

إنّ حُبّ القريب إذن "فضيلة" يُقصَد بها أن تنعكس بصورة جيدة على الذات ("تلمّح سحنتك بخطئه" _وبالتالي هذا أيضاً نوعٌ من الاستعارة الدينية والشرعية "للشهادة"). "تفاعلي": تعني أنّ القيم لاتظهر كسعي للتغلّب على الذات بل كحفظ عنيد ومتعنّت، علاوةً على ذلك، لايتمّ تشكيلها فقط كردّ فعل على الآخرين بل كَقَلب وعكس لها، في محاولة لإلغاء أو تجنّب القوي: هنا، إنّ قلب أو عكس الروضة "النزيهة" لإرادة القوة بوصفها حباً للحياة. لاحظ وصف زرادشت اللطيف لمثل "انعدام النزاهة" هذا: ((مَنْ يتحدّث خلافاً لما يعرفه)). في هذا النمط من التحوّل الاجتماعي، إنّ آلية الإسقاط من الذات إلى الآخر والعودة مرّةً أخرى التي رأيناها ناجحة في علاقة الصداقة قد تسوء. القريب هو عدوّ أكبر وأعظم من الصديق الذي تحوّل إلى عدوّ: إنّه الطبيعة المتواضعة والعادية للإنسان الرمادي المعاصر، وهو عائقٌ كبير أمام الحَثّ على الثورة الثقافية والتطورية.

يقدّم زرادشت هنا بعض التفسيرات الأنثروبولوجية لهذه النصيحة ((الأنتَ أقدمُ عَهداً من الأنا...)) فالقاعدة الأخلاقية لحبّ قريبك جاءت من مرحلة قديمة جداً من مراحل تطوّر الحضارة البشرية سبقت تطوّر المرحلة اللاحقة تاريخياً لمرحلة الفردانية (راجع القسم السابق). وهكذا فإنّ القاعدة الأخلاقية تنبع من فترة تاريخية حيث كانت توفّر الرابطة الاجتماعية للجوار والقرابة المأوى البشري من خلال استيعاب كائنات بشرية موحّدة. إنّ مجال القريب هو الشكل البدائي لفضاء السوق في القسم 22. هنا يتمّ تحديد احتفالاتنا وعاداتنا للنقد، الأمر الذي يمقته زرادشت لأنّها مسكونة بفنّانين مهمّين لأنفسهم يلقون بثقلهم حول (فاغنر) وحشود سطحية وضحلة وسخيفة تتبعهم بوصفهم نماذج يُحتَذى بها.

في المقابل، تدرك فلسفة الإنسان الأعلى أنّ المرحلة الفردانية للثقافة الإنسانية هي أداة لتطوير الحياة، ويجب فهمها على هذا النحو_ وبالتالي يجب إعلان "الأنا" كأداة مؤقتة لتجاوز الإنسان. يتضمّن مفهوم "حبّ البعيد" معنى حباً ليس للكائنات البشرية كما هي بل لإمكانيات نموّهم وتطوّرهم وارتقائهم، من أجل "حبّ الأشياء والأشباح".

يجب استبدال احتفالات القربى والجوار، بمجتمع الصديق باعتباره "مهرجان الأرض" الدائم (أنظر أيضاً قسم "عيد الحمار" في الكتاب الرابع، الذي يبدو كمثال على ذلك لكن بصورة نقيضة، وهو مثال لمثل هذا الاحتفال الجديد والمحاكاة الساخرة للاحتفالات). نلاحظ أنّ الصديق الذي "يخلقه" المرء هو الآن صديقٌ "مُبدعٌ" و "خَلاق". لكن لايشير هذا إلى المعاملة بالمثل، كما لو أنّ الصديق والذات يساعدان بعضهما البعض، بل كما سنعرف في الفصل التالي أنّ الإبداع هو عمليّة تحوّل دائم. لذا فإنّ خلق الصديق يعني أيضاً تحويل الذات إلى كائن قادر على التعرّف على الأصدقاء واستحقاقهم، كما يعني أيضاً تأويل الآخر بشكل رحيم على أنّه صديق (أن تكون "وحدته" كما في القسم 24 "عن الصديق")، وأن تحبّ الصديق/التوأم بشكلٍ لايختلف عن حبّ الإنسان الأعلى. لهذا السبب فإنّ الصديق لديه عالمٌ كاملٌ ليَهبَه.

تقدّم نهاية المقطع أقصر الرؤى الديونيزية، العالم على شكل حلقات يذكّرنا بعالم دانتي ألجييري الذي رسمه في الكوميديا الإلهية. بالنسبة للصديق، الذي نَلمَح فيه مستقبل الإنسان الأعلى، يتفكّك العالم (هذه هي اللحظة التدميرية، النظرة في الأعماق، وخطر العَدَمية) ومعاً (ينبغي خلق قيم جديدة، والاعتراف بالإمكانيات الكامنة داخل الإنسان التي تسقط إلى ماوراء الإنسان وتتجاوزه). وعلاوةً على ذلك، فإنّه يتحوّل إلى قيم وتأويلات هادفة. هنا، وبشكل مكثّف ومذهل، يكمن جوهر فلسفة نيتشه الناضجة، التي تضمّ (1) منهجية التحليل. (2) مراحل نمو العقل. (3) نموذج كوني لدمار العالم والكوكب وإعادة البناء مرةً أخرى (هذه الصورة تقودنا لاحقاً إلى مفهوم العَود الأبدي). (4) المبدأ الكامن وراء التطوّر التاريخي للقيم الأخلاقية. إنّ الأضداد الظاهرة كالخير والشر، أو "الغايو والصدفة"، ليست اُسُسَاً _أي ليست مبادئ مطلقة غير تاريخية أو متعالية_ بل تتطوّر خِلسَةً عن بعضها البعض وهذا مبدأ نيتشه الأساسي لفهم طبيعة ووظيفة القيم والغايات والمُثُل الثقافية الأخرى ذات الصلة. بعد بضع سنوات، في كتابه "جينيالوجيا الأخلاق"، سيبتكر نيتشه مصطلحه الشهير "جينيالوجيا" ويضعه قيد التطبيق الفلسفي لاكتشاف ووصف الأصل التاريخي والعلاقات المتبادلة للتحكيمات/التحيّزات المتعارضة ظاهرياً ضمن سلسلة معقدّة من الحلقات النشطة الإبداعية والتفاعلية.

إبراهيم قيس جركس 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...