محمد عارف مشّة - من الذكريات..

( ثانيا )

قصة كتابة ونشر مجموعة ( همسة في زمن الضجيج ) القصصية

( 1 )​

هبطت الطائرة على تمام الساعة العاشرة ليلا في أرض المطار ، بعد التنقل بأكثر من طائرة وأكثر من مطار ، ولمّا لم يكن هناك فنادق متاحة ، وكنتُ برفقة زوجتي وابني بشار في عمر الستة أشهر ، فقد نزلت في بيت صديق برفقة زوجته .

ذهبنا في صباح اليوم التالي لمراجعة مديرية المعارف للبنين ، أو ما يُعرف مديرية التربية والتعليم ، فبدأت مرحلة المعاناة بالتنقل بين غرف مكاتب المديرية لإتمام اجراءات تحديد موقع المدرسة التي سأعمل فيها معارا من وزارة التربية والتعليم الأردنية . تمتّ الاجراءات وتم تسمية المدرسة في قرية تدعى ( الحيمة ) ، وتم تحديد موقعها بواسطة سكان المنطقة ، بعد أن قمت برفقة صديقي بشراء أثاث البيت كاملا ، وبطبيعة الحال لم أكن أمتلك تكاليف شراء الأثاث ، فكانت أولى مرات في حياتي ، أن أضطر للاستدانة من أحد ، وأنا الذي كنت في وطني معززا مكرما ، دخلي يكفي نفقاتي . لكن سامح الله الروائي المرحوم يوسف ابو العز ، فقد أغواني قبل سفري كونه يعمل في مجلة كانت تصدر في جدة ، أن أعمل كاتب مقال ، إضافة لعملي في التدريس ، وتحسين الوضع المعيشي . لكن مشروع عملي فشل بالعمل بسبب بعد المسافة ، ولابدّ أن أداوم في مبنى المجلة .

قطعت السيارة الشارع الاسفلتي بسهولة ، إلى أن وصلت بنا السيارة لمنطقة تسمى ( وادي بن هشبل ) ، فبدأت معاناة الطريق الصحراوي الرملي غير المعبّد ، برفقة الظمأ والتعب وارتفاع الحرارة ، إلى أن وصل بنا ترحالنا ، لبيت كنا قد استأجرناه بمبلغ ثلاثمائة ريال شهريا . البيت كان معقولا ، كان اسمنتيا مسقوفا ، فيه كهرباء ، ولا ماء فيه ، يقع على تلة في طرف القرية ، ولا يوجد جار لي سوى صاحب البيت ، يعيش في بيت طيني ولديه أغنام .

في صبيحة اليوم التالي ، ذهبت للمدرسة سيرا على الأقدام ، لمسافة لا تقل عن 2 كم . وصلت . دخلت المدرسة ، فقابلت شابا مبتسما ، رحب بي وعرّف بنفسه نصر حمدي باشا من مصر الشقيقة ، ثم على معلم من سوريا ، وآخر من مدينة إربد الحبيبة ، فتعانقنا ونحن لا يعرف أحدنا الاخر . شربنا الشاي الذي كان معدّا في سخانات لمن يشاء وقتما يشاء ، ثم دخلنا لغرفة الإدارة المدرسية ، وقاما بالتعريف بي لدير المدرسة ، الذي عرّف بنفسه أنه ابن القرية ، واسمه عبد الله أبو راشد ، ومساعده من القرية أيضا واسمه عبد الرحمن .

قضينا اليوم الأول واليوم الثاني بسلاسة ، وفي اليوم الثالث أو الرابع ، انتهى ماء الشرب ، الذي كما قد أحضرناه معنا من المدينة في ( جراكل ) سطول ماء مغلقة ، فكانت أصعب المهمات وأقساها الحصول على ماء الشرب عن طريقين هما : ـــ إما عن طريق شراء تنك ماء كاملا بقيمة مائة وخمسين ريالا ، وهو مبلغ مرتفع ولا قدرة لي على دفعه ، خاصة أن الراتب الشهري لن ينزل قبل شهرين . والطريقة الثانية ، فهي أكثر تعقيدا ، إذ يجب الحصول على رخصة قيادة سيارة ليس قبل شهرين أيضا ، ويكون لديك سيارة خاصة ، لتتمكن من السير بها في الصحراء لمدة ليس أقل من ساعة ذهابا وإيابا ، للحصول على الماء الصالح للشرب ، أو يسمح لك أحدهم بإحضار ( جركل أو اثنين ) لك ، حين يذهب لشراء ماء الشرب له ولأسرته، فيسرها الله سبحانه في البداية . بقي الماء المالح أو غير الصالح للشرب ، فقد كان متوفرا ، ومن السهل الحصول عليه من الجار صاحب البيت .

في الاسبوع الأول من وصولنا القرية ، وفي ليلة ارتفعت درجة حرارة بشّار ، وأصيب بإسهال شديد . لم يكن لدينا أدوية لطفل رضيع ، وكان في القرية طبيب من السودان الشقيق يسكن في المركز الصحي ، وكان عليّ السير على الأقدام في ليلة مظلمة ، بين أشجار حينا ، وبين طريق رملي صحراوي حينا آخر ، وسط ظلام وكلاب ضالة مفترسة ، وأفاع وعقارب حينا آخر ، وسط هذا الذعر والخوف ، لم يمنعني حبي وعطفي على ابني ، من الوصول إلى المركز الصحي لإحضار الطبيب ، فخاف الطبيب من الخروج ليلا ، اعتذر وطلب مني إحضار طفلي ليلا ، أو الانتظار للصباح . عدتُ منكسرا مهزوما راكضا ثانية مصمما على حمل ابني الرضيع للمركز صحي القرية . وعندما وصلت البيت ، أصابتني حيرة ، هل اخاطر بابني وزوجتي ليلا والعودة للمركز الصحي ، أم الانتظار لصباح اليوم التالي ؟ ...
التفاعلات: نبيلة غنيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...