منذ كتب طه حسين «مستقبل الثقافة فى مصر» فى سنة 1938، أى منذ 76 عاما، ومنذ كتب عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم، كتاب «فى الثقافة المصرية» فى 1954، أى منذ ستين عاما، حدثت أحداث كثيرة ومهمة فى مصر وفى العالم، لم يكن طه حسين ولا أنيس ومحمود العالم يستطيعون التنبؤ بها، بل وأكاد أقول إنها لم يكن من الممكن أن تخطر لهم على بال.
ها هم ثلاثة من أنبغ وأذكى المصريين، حاولوا التنبؤ بما يأتى به المستقبل للثقافة المصرية، وأن يرسموا لها طريقا جديدا، فإذا بما يحدث فى الواقع يتجاوز بكثير ما تصوروه حينئذ. لابد أن كلا منهم قد شاهد فيما حدث فى حياته ما خيب الكثير من آماله.
إذ عاش طه حسين 35 عاما أخرى بعد نشر كتابه، وعاش أنيس والعالم خمسين عاما بعد نشر كتابهما، ورأوا جميعا كيف أصبحت مصر شيئا مختلفا جدا عما رأوه وتمنوه، وما أغرب ما كانوا ليرونه فى مصر والعالم لو قدر لهم أن يظلوا معنا إلى اليوم.
لقد أتم طه حسين كتابه ونشره قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، أى قبل قدوم ما يمكن أن يسمى بـ«العصر الأمريكى»، بكل ما أحدثه هذا العصر من تغيرات فى الثقافة فى العالم كله. كان طه حسين يكتب فى ظل سيادة الثقافة الأوروبية: الاستعمار الأوروبى كان لا يزال سائدا، ولم يحل محله بعد الاستعمار الأمريكى بسماته الجديدة والغريبة.
والحضارة الغربية كانت لا تزال تحمل سمات الثقافة الأوروبية لا الأمريكية فما الذى كان يمكن أن نتوقعه من مثقف مصرى كبير، شديد التعلق بالحضارة الأوروبية، ويعتقد أن أفضل ما يمكن أن يحدث للثقافة فى مصر هو أن نحذو خطوات أوروبا بالضبط، ونقتدى بكل ما تفعل، «حلوه ومره، ما نحب منه وما نكره?».
كان طه حسين قد ذاق «المر» الأوروبى، ولكنه لم يكن قد ذاق بعد «المرّ الأمريكى»، فماذا عساه أن يقول لو ذاق هذا المرّ مثلنا؟
أما محمود العالم وعبدالعظيم أنيس فكانا يكتبان بعد شهور قليلة من قيام ثورة 1952، التى أتاحت للمثقفين المصريين بعض الحريات وسلبت منهم بعضها الآخر. أصبح من الممكن أن يتناول المثقف المصرى، بصراحة تامة، وحرية كاملة، ما كان يشوب «العهد البائد»، الذى قضت عليه الثورة، من ظلم اجتماعى أصبح من المسموح به، بل ومن المرحب به، الكلام عن تحيز الثقافة المصرية لصالح الطبقات العليا وعن غياب القضية الاجتماعية فى أعمال معظم الكتاب، فيما بين ثورتى 1919 و1952.
وهذا هو بالضبط ما فعله العالم وأنيس فى كتابهما الصادر فى 1954.
وكان أنيس والعالم قد تجاوزا السبعين من العمر عندما سقطت التجربة الشيوعية سقوطا مدويا فى أواخر الثمانينيات، وسقط الاتحاد السوفييتى الذى كان الاشتراكيون المصريون يعلقون عليه أكبر الآمال. يضاف إلى ذلك تغيرات أخرى كثيرة لم يكن الفكر الاشتراكى التقليدى قادرا على التعامل معها وإعطائها ما تستحق من اهتمام.
لا وجه هنا لتوجيه اللوم إلى أحد، أو اتهام أحد التقصير وإنما أريد فقط أن ألفت النظر إلى الحدود والقيود التى تفرضها علينا الظروف، التى تكتب فى ظلها، وإلى التغيرات العميقة التى تعرض لها المثقفون المصريون خلال الستين أو السبعين سنة الماضية، مما يمكن أن يفسر لنا بعض سمات الثقافة المصرية السائدة الآن.
لنبدأ بأثر «العصر الأمريكى». لقد لعب قدوم هذا العصر بالثقافة المصرية (مثلما لعب بثقافات العالم الثالث الأخرى) كما تلعب العاصفة فى البحر بالقوارب الصغيرة.
جاء العصر الأمريكى بالانقلابات العسكرية (التى تحول بعضها إلى ثورات)، ولكن سواء كان ما حدث انقلابا أو ثورة، فقد فرض قيودا شديدة على الحريات التى كانت متاحة قبله.
لم يكن رجل مثل طه حسين يتصور عندما كان يكتب كتابه أن يكون من الأفكار التى تهدد الثقافة فى مصر الانقلابات العسكرية وما يمكن أن تفرضه من قيود على الحريات، أما أنيس والعالم فلم يكونا فقط يتوقعان فرض مثل هذه القيود بل كانا أيضا يرحبان بها كلما كانت تؤدى إلى إحداث التغير الطبقى المتشدد.
كان من جراء ما حققته ثورة 1952 من تغيير فى النظام الطبقى، أن اتخذت الثقافة المصرية اتجاها مخالفا تماما عما كانت عليه قبل هذا العصر. أخذ الإنتاج الثقافى مصر يعبر عن مصالح طبقات جديدة ظلت محرومة من التعبير عن نفسها عشرات السنين بل قرونا عديدة، وأطلق عقال كثير من المواهب التى كانت تتوق إلى التعبير عن هذه الطبقات. ولكن هذا لم يكن بلا ثمن، وإن كان ثمنا لابد من توقعه فى ظل نظام اجتماعى جديد، ونظام سياسى لا يعتبر نفسه ملزما باتباع الطقوس الديمقراطية المعهودة.
كان من بين ما دفع ثمنا عاليا لهذا التغير الاجتماعى اللغة العربية.
قد يبدو لنا ما حدث للغة العربية فى مصر خلال الخمسين أو الستين عاما الماضية وكأنه كان من الممكن تجنبه ولكن الحقيقة أنه كان تطورا شبه حتمى، إذ كان تجنبه يحتاج إلى ما يشبه المعجزة. كيف كان لنا أن نتصور تطبيقا شاملا لمجانية التعليم، والتوسع المفاجئ فى التعليم، فى سائر المدن والقرى، مما يتطلب اكتظاظ عشرات التلاميذ فى الحجرة الواحدة، والاستعانة بمدرسين لم يحظوا هم أنفسهم بالدرجة اللازمة من التعليم أو الثقافة، دون أن يحدث تساهل شديد فى تطبيق قواعد اللغة، خاصة أن الأحوال السائدة فى خارج المدرسة كانت تساعد على هذا التساهل.
كان المسئولون السياسيون الجدد، هم أنفسهم، ذوى ثقافة محدودة، ويعلقون أهمية مع النتائج العملية أكثر مما يعلقون على اللغة المستخدمة، والتى أصبحت تعتبر من قبيل«الشكل» الذى تجوز التضحية به فى سبيل «المضمون». كذلك وجد هؤلاء المسئولون الجدد أنفسهم فى حاجة إلى وسائل للدعاية لنظامهم الجديد، لم يشعر المسئولون القدامى بالحاجة إلى مثلها.
ولكن الدعاية المطلوبة كانت تتطلب بدورها الوصول إلى الجاهل والمتعلم ونصف المتعلم. المهم هو تحقيق الأثر النفسى المنشود، بصرف النظر عن الوسيلة المستخدمة لتحقيقه. والتساهل فى قواعد اللغة ثمن هين، فى نظر المسئولين فى سبيل حماية الثورة أو النظام.
ليس هذا فحسب، بل ساد فى ذلك الوقت ما سمى «بأفضلية أهل الثقة على أهل الخبرة»، وهو شعار يتفق تماما مع التضحية بالوسيلة فى سبيل الغاية المنشودة. ومن بين الوسائل المضحى بها، ليس فقط الالتزام بقواعد اللغة الصحفية، بل واستخدام النوع الأفضل من المثقفين، الذين قد يكونون أفضل حقا، وأكثر خبرة، ولكنهم لا يحوزون بالقدر الكافى من «الثقة» أى لا يمكن الاطمئنان إليهم كل الاطمئنان فى تحقيق أهداف الثورة (أو أهداف النظام).
استمر كل هذا ما يقرب من عشرين عاما، أى طوال العقدين التاليين لثورة 1952، توفى فى نهايتها طه حسين دون أن نقرأ له تقييما صريحا عما حدث خلالهما للثقافة المصرية. وتوقفت فى نهاية هذين العقدين أيضا، الثورة الاجتماعية التى كان يدعو إليها عبدالعظيم أنيس ومحمود العالم، اللذان لابد أنهما رأيا أن التضحيات التى قدمتها الثقافة المصرية فى سبيل تحقيق التغير الاجتماعى المنشود، كانت أكبر مما تحقق بالفعل من هذا التغير الاجتماعى. ولكن لا أظن أن طه حسين (لو كان قد امتد به العمر) ولا أنيس والعالم، كانوا يتصورون ما يمكن أن يحدث للثقافة المصرية بعد ذلك من جراء الانفتاح الاقتصادى والتضخم. وهو ما يحتاج إلى مقال آخر.
جلال أمين
ها هم ثلاثة من أنبغ وأذكى المصريين، حاولوا التنبؤ بما يأتى به المستقبل للثقافة المصرية، وأن يرسموا لها طريقا جديدا، فإذا بما يحدث فى الواقع يتجاوز بكثير ما تصوروه حينئذ. لابد أن كلا منهم قد شاهد فيما حدث فى حياته ما خيب الكثير من آماله.
إذ عاش طه حسين 35 عاما أخرى بعد نشر كتابه، وعاش أنيس والعالم خمسين عاما بعد نشر كتابهما، ورأوا جميعا كيف أصبحت مصر شيئا مختلفا جدا عما رأوه وتمنوه، وما أغرب ما كانوا ليرونه فى مصر والعالم لو قدر لهم أن يظلوا معنا إلى اليوم.
لقد أتم طه حسين كتابه ونشره قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، أى قبل قدوم ما يمكن أن يسمى بـ«العصر الأمريكى»، بكل ما أحدثه هذا العصر من تغيرات فى الثقافة فى العالم كله. كان طه حسين يكتب فى ظل سيادة الثقافة الأوروبية: الاستعمار الأوروبى كان لا يزال سائدا، ولم يحل محله بعد الاستعمار الأمريكى بسماته الجديدة والغريبة.
والحضارة الغربية كانت لا تزال تحمل سمات الثقافة الأوروبية لا الأمريكية فما الذى كان يمكن أن نتوقعه من مثقف مصرى كبير، شديد التعلق بالحضارة الأوروبية، ويعتقد أن أفضل ما يمكن أن يحدث للثقافة فى مصر هو أن نحذو خطوات أوروبا بالضبط، ونقتدى بكل ما تفعل، «حلوه ومره، ما نحب منه وما نكره?».
كان طه حسين قد ذاق «المر» الأوروبى، ولكنه لم يكن قد ذاق بعد «المرّ الأمريكى»، فماذا عساه أن يقول لو ذاق هذا المرّ مثلنا؟
أما محمود العالم وعبدالعظيم أنيس فكانا يكتبان بعد شهور قليلة من قيام ثورة 1952، التى أتاحت للمثقفين المصريين بعض الحريات وسلبت منهم بعضها الآخر. أصبح من الممكن أن يتناول المثقف المصرى، بصراحة تامة، وحرية كاملة، ما كان يشوب «العهد البائد»، الذى قضت عليه الثورة، من ظلم اجتماعى أصبح من المسموح به، بل ومن المرحب به، الكلام عن تحيز الثقافة المصرية لصالح الطبقات العليا وعن غياب القضية الاجتماعية فى أعمال معظم الكتاب، فيما بين ثورتى 1919 و1952.
وهذا هو بالضبط ما فعله العالم وأنيس فى كتابهما الصادر فى 1954.
وكان أنيس والعالم قد تجاوزا السبعين من العمر عندما سقطت التجربة الشيوعية سقوطا مدويا فى أواخر الثمانينيات، وسقط الاتحاد السوفييتى الذى كان الاشتراكيون المصريون يعلقون عليه أكبر الآمال. يضاف إلى ذلك تغيرات أخرى كثيرة لم يكن الفكر الاشتراكى التقليدى قادرا على التعامل معها وإعطائها ما تستحق من اهتمام.
لا وجه هنا لتوجيه اللوم إلى أحد، أو اتهام أحد التقصير وإنما أريد فقط أن ألفت النظر إلى الحدود والقيود التى تفرضها علينا الظروف، التى تكتب فى ظلها، وإلى التغيرات العميقة التى تعرض لها المثقفون المصريون خلال الستين أو السبعين سنة الماضية، مما يمكن أن يفسر لنا بعض سمات الثقافة المصرية السائدة الآن.
لنبدأ بأثر «العصر الأمريكى». لقد لعب قدوم هذا العصر بالثقافة المصرية (مثلما لعب بثقافات العالم الثالث الأخرى) كما تلعب العاصفة فى البحر بالقوارب الصغيرة.
جاء العصر الأمريكى بالانقلابات العسكرية (التى تحول بعضها إلى ثورات)، ولكن سواء كان ما حدث انقلابا أو ثورة، فقد فرض قيودا شديدة على الحريات التى كانت متاحة قبله.
لم يكن رجل مثل طه حسين يتصور عندما كان يكتب كتابه أن يكون من الأفكار التى تهدد الثقافة فى مصر الانقلابات العسكرية وما يمكن أن تفرضه من قيود على الحريات، أما أنيس والعالم فلم يكونا فقط يتوقعان فرض مثل هذه القيود بل كانا أيضا يرحبان بها كلما كانت تؤدى إلى إحداث التغير الطبقى المتشدد.
كان من جراء ما حققته ثورة 1952 من تغيير فى النظام الطبقى، أن اتخذت الثقافة المصرية اتجاها مخالفا تماما عما كانت عليه قبل هذا العصر. أخذ الإنتاج الثقافى مصر يعبر عن مصالح طبقات جديدة ظلت محرومة من التعبير عن نفسها عشرات السنين بل قرونا عديدة، وأطلق عقال كثير من المواهب التى كانت تتوق إلى التعبير عن هذه الطبقات. ولكن هذا لم يكن بلا ثمن، وإن كان ثمنا لابد من توقعه فى ظل نظام اجتماعى جديد، ونظام سياسى لا يعتبر نفسه ملزما باتباع الطقوس الديمقراطية المعهودة.
كان من بين ما دفع ثمنا عاليا لهذا التغير الاجتماعى اللغة العربية.
قد يبدو لنا ما حدث للغة العربية فى مصر خلال الخمسين أو الستين عاما الماضية وكأنه كان من الممكن تجنبه ولكن الحقيقة أنه كان تطورا شبه حتمى، إذ كان تجنبه يحتاج إلى ما يشبه المعجزة. كيف كان لنا أن نتصور تطبيقا شاملا لمجانية التعليم، والتوسع المفاجئ فى التعليم، فى سائر المدن والقرى، مما يتطلب اكتظاظ عشرات التلاميذ فى الحجرة الواحدة، والاستعانة بمدرسين لم يحظوا هم أنفسهم بالدرجة اللازمة من التعليم أو الثقافة، دون أن يحدث تساهل شديد فى تطبيق قواعد اللغة، خاصة أن الأحوال السائدة فى خارج المدرسة كانت تساعد على هذا التساهل.
كان المسئولون السياسيون الجدد، هم أنفسهم، ذوى ثقافة محدودة، ويعلقون أهمية مع النتائج العملية أكثر مما يعلقون على اللغة المستخدمة، والتى أصبحت تعتبر من قبيل«الشكل» الذى تجوز التضحية به فى سبيل «المضمون». كذلك وجد هؤلاء المسئولون الجدد أنفسهم فى حاجة إلى وسائل للدعاية لنظامهم الجديد، لم يشعر المسئولون القدامى بالحاجة إلى مثلها.
ولكن الدعاية المطلوبة كانت تتطلب بدورها الوصول إلى الجاهل والمتعلم ونصف المتعلم. المهم هو تحقيق الأثر النفسى المنشود، بصرف النظر عن الوسيلة المستخدمة لتحقيقه. والتساهل فى قواعد اللغة ثمن هين، فى نظر المسئولين فى سبيل حماية الثورة أو النظام.
ليس هذا فحسب، بل ساد فى ذلك الوقت ما سمى «بأفضلية أهل الثقة على أهل الخبرة»، وهو شعار يتفق تماما مع التضحية بالوسيلة فى سبيل الغاية المنشودة. ومن بين الوسائل المضحى بها، ليس فقط الالتزام بقواعد اللغة الصحفية، بل واستخدام النوع الأفضل من المثقفين، الذين قد يكونون أفضل حقا، وأكثر خبرة، ولكنهم لا يحوزون بالقدر الكافى من «الثقة» أى لا يمكن الاطمئنان إليهم كل الاطمئنان فى تحقيق أهداف الثورة (أو أهداف النظام).
استمر كل هذا ما يقرب من عشرين عاما، أى طوال العقدين التاليين لثورة 1952، توفى فى نهايتها طه حسين دون أن نقرأ له تقييما صريحا عما حدث خلالهما للثقافة المصرية. وتوقفت فى نهاية هذين العقدين أيضا، الثورة الاجتماعية التى كان يدعو إليها عبدالعظيم أنيس ومحمود العالم، اللذان لابد أنهما رأيا أن التضحيات التى قدمتها الثقافة المصرية فى سبيل تحقيق التغير الاجتماعى المنشود، كانت أكبر مما تحقق بالفعل من هذا التغير الاجتماعى. ولكن لا أظن أن طه حسين (لو كان قد امتد به العمر) ولا أنيس والعالم، كانوا يتصورون ما يمكن أن يحدث للثقافة المصرية بعد ذلك من جراء الانفتاح الاقتصادى والتضخم. وهو ما يحتاج إلى مقال آخر.
جلال أمين