مقتطف إبراهيم قيس جركس - شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت] -27- (عَنْ طريق المُبدِع)

-27-
(عَنْ طريق المُبدِع)

هذا القسم عبارة عن سلسلة من التأمّلات وثيقة الصّلة بموضوع ما معنى أن يكون الإنسان مُبدعاً، بمعنى "المبدع" الذي تمّ التأسيس له في الكتاب الأول، القسم الأول، إذ أنّ سمته التحضيرية هي العُزلة والتوحّد لسبيل المرء إلى نفسه. وقد مرّ معنا موضوع العُزلة/التوحّد عدّة مرّات من قبل، منذ سنوات زرادشت العشر الأولى وعزلته في الجبال، إلى قصّة الجمل في الصحراء القاحلة، إلى نصائح الهروب من السوق والخروج منها. ونعلم أيضاً أنّ العُزلَةَ لاتتعارض مع شكلٍ معيّن من الصداقة أو الحب أيضاً. لذلك فالجديد في هذا الفصل هنا هي فكرة ((السبيل إلى نفسك)) [فكرة أن تصبح ما أنت عليه في الحقيقة هي فكرة متكرّرة في الكتاب. أنظر بشكلٍ خاص الكتاب الرابع، القسم الأول]. كما رأينا، فإنّ الفرد على هذا النحو ليس معزولاً بالفعل، لأنّه قد يكون ذلك الفرد قد خُلِقَ لخدمة احتياجات الناس ومساعدتهم.

لايهمّ إذا قيل أنّ لدى الناس "ضميرٌ واحد"، أو ما إذا قيل أنّه يتكوّن من أفراد "بضميرٍ واحد". يحدّد الضمير هنا القيمة بقدر ما لَهَا من قوّة معيارية وبقدر ما يشعر بها. وبالتالي، ليست الفردانية هي الفكرة الرئيسية هنا، بل العُزلَة/التوحّد.

العُزلة: سواء حَدَثَت داخل كهف في الجبال أو وسط مدينة مدينة مليئة بالأصدقاء والأقارب _تعني أنّه يجب على المرء أن يعزل نفسه عن القطيع حتى في ضميره، يجب أن يمرّ المرء بـــ"معاناة" قتل هذا الضمير داخل نفسه، من أجل إعادة اكتشاف جوهر ماهو صحي ونبيل في النفس. ومع ذلك، فإنّ الكثيرين مِمَّن تخلّصوا من نيرهم أيضاً ((فهناك مَن رَمَى بآخر قيمة له عندما رَمَى بآخر أواصر عبوديته)). هناك مَن هُم ذوو قيمة ليس فقط بالنسبة للآخرين، بل لجزء كبير من البشرية، وربّما حتى بالنسبة لمشروع تجاوز الإنسان والتغلّب عليه فقط بقدر ما لايعزلون أنفسهم عن ضمير الناس، وهناك من تكون فردانيتهم في خدمة الشهوة والطموح ("الأنا الماكرة، وعديمة المحبّة" كما جرى وصفه في الكتاب الأول، "عن ألف هدف وهدف").

مَنْ إذن الذي له "الحق" بمثل هذه العُزلة؟ "العَجَلَة ذاتية الدفع"، التي تحاكي وصف روح الطفل في الكتاب الأول، القسم1. بعبارة أخرى، الشخص ليس المدمّر فقط، بل والخالق/المبدع أيضاً. ما الذي تحرّر منه؟ لا يهم. ما أنتَ حُرٌّ فيه _أن تكون حُرّاً في التعبير عن "فكرتك المسيطرة" الجديدة والسعي وراءها _ هو مايمنَحُكَ هذا الحق (مَرَّةً أخرى، المفهوم الكانطي للحرية على أنّها منح القانون لنفسك).

لكنّ المبدع اليوم سيواجه محاكمات: ((لكنك ستتعب في يومٍ ما من جرّاء وحدتك)). المحاكمة هي العَدَمية: فحتى خَلقك سيبدو مجرّد خطأ وبلاقيمة. وبالمثل، فإنّ الخالق المبدع سيواجه محاكمات خارجياً. ((إنك ترغم الكثيرين على مراجعة معرفتهم بك)). [راجع على سبيل المثال أنشودة ختام كتاب "ماوراء الخير والشر"]. إنّ أعظم خطر في أي عملية تجاوز للذات هو من الذات نفسها.

مرّةً أخرى، إنّ الضمير الذي تشترك فيه "أنت" مع الناس ليس تأثيراً أجنبياً آتياً من الخارج، بل إنّه أنت، بجسدك ذاته، وحتى إن تمكّنتَ من تجاوز هذا الضمير والتغلّب عليه، لاتزال هناك شياطين سبعة في انتظارك. أمّا قائمة تلك الشياطين فقد قدّمها زرادشت هنا بدون ذكر الكثير من التفاصيل. تحتوي القائمة على مايجب أن يكون في الوقت الحالي فارغاً وارقاماً رمزية لامعنى لها. ومع ذلك، هناك بعض التشابه بين هذه القائمة ومجموعة الشخصيات التي يلتقي بها زرادشت في مكانٍ آخر [الساحر، ربما]، وخاصة سلسلة "البشر المتفوّقين" الذين يواجههم زرادشت في الكتاب الرابع.

من الغريب أنّ "الأخطار" التي نوقشَت في هذا المقطع يُنظَر إليها بشكل سلبي في المقام الأول كمحاكمات أو تحذيرات. وهناك نوعين من الاختلافات الإيجابية حول الفكرة التي يجب إضافتها. إذ يمكننا العثور على النوع الأول بشكل ملحوظ في قول نيتشه الشهير: ((عن المدرسة الحربية للحياة: ما لايقتلني يجعلني أكثر قوّةً)) [غسق ألأوثان، قسم أمثال ولواذع، شذرة8]. الفكرة هنا هي أنّ الظروف المعاكسة لاتختبر فرداً لوحده فقط، بل تمارس ضغطاً على جماعة أو مجموعة أو فئة، وتوفّر أيضاً نوعاً من الانضباط وبالتالي فرصة لاستعادة القوّة أو إنتاج أشكال أعلى وأرقى), ومن الأمثلة على ذلك، القيود التعسفية على الممارسات الفنية التي شكّلت الظروف المناسبة لظهورها (أنظر شذرة 188 من كتاب "ماوراء الخير والشر").

ثانياً، ضرورة الكفاح وإعلان الحرب ضدّ أي عملية نموّ موضوع تطرّقنا إليه بالفعل عدّة مرات ("عن شجرة الجبل" مثلاً). وفقاً لذلك، يجب أن يتضمّن الرصيد الكلي لطريق المبدع أيضاً الأفكار التي تمّ التعبير عنها في نصائح نيتشه الشهيرة عن كيفية العيش بطريقة خطرة ("كتاب العلم المرح"، شذرة 283). توجد إرادة القوّة بشكل علائقي كاختلافات وفروق في القوة والشعور بهذه الفروقات، وبدون هذه الفروقات وما يترتّب عنها من صراع فيما بينها، لايمكن أن يكون هناك تعزيز في الشعور بالقوة وبالتالي لايوجد تطوّر عضوي (حتى الإغداق والعَطاء يصبح صراعاً بهذا المعنى. سنتحدّث بالتفصيل عن ذلك لاحقاً).

إنّ البقاء آمناً هو أن تكون على شاكلة البشر الأخيرين، وأن تحافظ على نمط معيّن من الحياة على حساب الصحّة الأكبر للبشرية ككل. ومع ذلك، القضية هنا أنّ ليس كل الصراعات ذات قيمة في الحياة ومفيدة لها: فبدلاً من البقاء ساكناً وكَشّ الذباب، يجب على المرء ببساطة أن يغادر السوق. على سبيل المثال، إنّ السعي للهيمنة على الضعيف أمرٌ مُهين، يعني السعي وراء القوة حيث لا يوجد سوى أمراض معنّدة وأسقاع والمخاطرة بالتقاط عدواها. غالباً ما يتحدّث نيتشه عن "ضبط النفس" ويعني القدرة على عدم إبراز أو إظهار أي رد فعل أمام أي محفّز _ولكن ذلك يختلف عن الرواقيين بقدر ما لا يرقى إلى مستوى الانسحاب من العالم.

إبراهيم قيس جركس 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...