سوف أحرقها
سوف أحرقها كلها
لن أبقي على شيء منها، ولأبقَ بلا ذاكرة، بلا ذكريات، بلا تاريخ. لسوف ألقي عليها النظرة الأخيرة واحدة بعد أخرى ثم أطعمها للنار، أؤجج بها اللهب، أجعله يتراقص. يجنّ، ولسوف أدخل بها الدفء الى جسدي البارد، في هذا الهزيع المتأخر من ليل الخريف، في هذا الخريف من العمر. سأقيم من أجلها طقوسا جميلة عجيبة مجنونة، أضحك خلالها، أبكي، أفرح، أحزن، أجَنّ. سأثير كل صنوف التناقضات وكل ضروب الأحاسيس في قرارة نفسي.
كم سيكون رائعا!
أحدد الحديقة الخلفية للمنزل مكاناً لإقامة مراسيم احتفالي. البيت غارق بالصمت، لا أحد غيري فقد خرجت الأسرة كلها لزيارة ما. أطفئ الأنوار كي تزداد النار ألقا وسحرا وجاذبية وتأثيرا في نفسي. أجلس على كرسي الحديقة الخشبي، أخرج من عبّي رزمة كبيرة من الأوراق وأضعها الى جانبي على الطاولة الصغيرة . ثمة قنينة من النبيذ الأحمر في متناول يدي، أحتسي منها جرعة بين الفينة والأخرى فتزداد أجواء احتفالي ثمالة. أشغل في هاتفي مقطوعة من الموسيقى الهادئة وأدور مع ألحانها، أتمايل، يأخذني الوجد.
سأشعل النار فيها جميعا.. لن أحفل بشيء بعد اليوم.
مع كلماتي هذه أطلق ضحكة ضارية. عليّ أن أغسل قلبي من كل تردد، عليّ أن أنفذ هذا الأمر كما لو كنت أزيح حملا ثقيلا عن كاهلي، كما لو كنت أغسل ذاكرتي من كل الصور السوداء والتراجيدية، أفرغها من كل الذكريات المزعجة، من كل لحظات الانكسار والندم، علني أفلح في هذه المرحلة الجديدة القصيرة من حياتي أن أعيش بسكينة وراحة، بقلب متفتح خال من الأحقاد.
أضع الملف على ركبتي وأفتحه. أمد يدي الى الورقة الأولى؛ أول ورقة ضممتها في هذا الملف قبل تسعة وثلاثين عاما، أضعها أمام غيني لكنني لا أستطيع تمييز الحروف بسبب الظلمة فأوقد القداحة فأرى الورقة المصفرّة التي بها أمر تعييني موظفا. أنقّل عيني فوق الكلمات المكتوبة فأرى اسمي في القائمة وأمامها خط أحمر بهتت حمرته. البسمة التي ترتسم على فمي تخبئ حزنا عميقا دفينا، لقد كان يوما رائعا؛ كان المستقبل يرتسم أمامي مضيئا متفتحا، كان زمنا مليئا بالثقة والحماس، بالآمال والأحلام. ألملم جرأتي وأقرب حافة الورقة شيئا فشيئا من نار القداحة كما لو كنت أعتصر قلبي فتشب فيها النار وتستحيل تلك الورقة المصفرة في غضون ثوان الى مجرد رماد. أتأملها ثم أغمض عيني وآخذ نفسا عميقا.
نعم، سأحرقها بالتأكيد.
سأحرقها جميعا، لا أرغب بأية ذكريات، لا أريد مزيدا من الأحزان والأوجاع بعد اليوم.
لقد رتبت الأوراق داخل الملف حسب تسلسلها الزمني. كانت أوراق المجموعة الثانية تضم جميع كتب الشكر والمكافآت والعقوبات والدورات وكتب النقل. ألقي عليها النظرة الأخيرة واحدة بعد أخرى كأنني ألقي عليها تحية الوداع ثم ألقمها للنار فتعلو وتتوهج ويسري دفؤها الى جسدي، ترخيه، تسكره.
أحرص بشدة على ألا تعبر أية ورقة من بين يدي دون أن أنقّل نظري فيها. كل ورقة هي ذكرى ترتبط بيوم بعينه، بمناسبة أو واقعة بعينها. اليوم الأول من العمل في تلك المديرية الكبيرة حيث أقضي ساعات النهار الطوال ولا أكاد أحظى ببرهة لشرب الشاي أو التدخين أو الاستراحة. تلك البحار من الأيام التي كنت أعود الى البيت في نهايتها منهكا جائعا.
تلك الأيام والشهور والسنوات أنظر اليها الآن كضربٍ من العبودية، مرتبطة بمواعيد الذهاب والإياب الى العمل ومنه، مرتبطة بالأوامر والتعليمات المفروضة فرضا، بغض النظر عن إيمانك بها أو عدمه، ولا أهمية لتوافق ذلك العمل مع ميولك، لا أهمية لأن يسبب عملك الأذى لشخص أو مجموعة أشخاص، كل هذا لا يهم. المهم أن تنفذ التعليمات دون إغضاب مسؤوليك في العمل وعبوسهم وتذمرهم وشكواهم الدائمين، دون أن تتمتع بيوم إجازة واحد عند حاجتك اليها. رغم كل هذا، وبعد تسعة وثلاثين عاما من الخدمة وحرمان نفسي من كثير من مسرات الحياة وبعد أن أحال الى التقاعد أذهب اليوم لأستلم أول رواتبي التقاعدية فأجد الاحترام الجميل الذي ألاقى به أنا وبقية المتقاعدين! أكثر من أربع ساعات ونحن ننتظر تحت الشمس الحارقة حتى خرج لنا موظف المصرف أخيرا وشرع بقراءة الأسماء وتجمعنا نحن الكهول من حوله وكل منا يصغي اليه ليعرف إن كان اسمه موجودا أم لا. انتظرت حتى النهاية ولم أسمع اسمي فخطر لي أن أعود الى البيت وأدوس بأقدامي كل سنوات الخدمة تلك، أن أحرقها وأكنسها من ذهني.
الأوراق تحترق وأنا أتطهر، أرتاح من هذه الهموم والآلام والأحزان. كدت أن أحرق كل صوري معها لكنني لم أستطع فعل ذلك، هممت بذلك بيد أنني رأيت أن تلك الصور لا تعود لي وحدي فهي ملك مشترك مع أسرتي وأصدقائي وهم جميعا يظهرون فيها معي. تحترق الاوراق وأولد أنا من جديد، سأعلق حقيبتي على كتفي وأسافر، سأغادر هذه الأوضاع المريرة. سأهجر كل هذا النفاق والتملق وهذا العالم الكاذب الظالم. سأذهب لوحدي نحو قلب الطبيعة، على حافة ماء، عند أقدام جبل، لأعيش بين أناس بسطاء أبرياء.
كنت حريصا طوال حياتي على الاحتفاظ بجميع الوثائق والكتب والصور والرسائل وما شابه من أمور، خصوصا في أوقات الهجرة والفرار عندما كان الحفاظ عليها أول شيء يخطر على بالي. كنت أدفنها أحيانا تحت الأرض، أو أحملها في حقيبة أضعها وراء ظهري، أو أودعها أحيانا أخرى عند بعض من أثق بهم من الأصدقاء. وها أنذا، في أواخر العمر وبعد كل هذه العناء والاهتمام، أجمعها في ملف وأطعمها ورقة ورقة، وبقلب آمن مطمئن، لهذه النار المباركة.
خطتي تمضي بسلاسة ولطف، يا له من طقس جميل وساحر، أشعر كأنني اتحرر من السجن وأعيش حرا طليقا في أحضان الطبيعة. حقيبتي جاهزة. طقسي يوشك على الانتهاء. الأوراق تحترق، تستحيل رماداً، القنينة تنفد هي الأخرى. أقوم وأتطلع حولي، أتطلع للسماوات، أفتح ذراعي على وسعهما وأشرع في رقصة صوفية على وقع الموسيقى. أعلق حقيبتي على كتفي وأنطلق مرتحلا نحو عالم آخر.
2018
سوف أحرقها كلها
لن أبقي على شيء منها، ولأبقَ بلا ذاكرة، بلا ذكريات، بلا تاريخ. لسوف ألقي عليها النظرة الأخيرة واحدة بعد أخرى ثم أطعمها للنار، أؤجج بها اللهب، أجعله يتراقص. يجنّ، ولسوف أدخل بها الدفء الى جسدي البارد، في هذا الهزيع المتأخر من ليل الخريف، في هذا الخريف من العمر. سأقيم من أجلها طقوسا جميلة عجيبة مجنونة، أضحك خلالها، أبكي، أفرح، أحزن، أجَنّ. سأثير كل صنوف التناقضات وكل ضروب الأحاسيس في قرارة نفسي.
كم سيكون رائعا!
أحدد الحديقة الخلفية للمنزل مكاناً لإقامة مراسيم احتفالي. البيت غارق بالصمت، لا أحد غيري فقد خرجت الأسرة كلها لزيارة ما. أطفئ الأنوار كي تزداد النار ألقا وسحرا وجاذبية وتأثيرا في نفسي. أجلس على كرسي الحديقة الخشبي، أخرج من عبّي رزمة كبيرة من الأوراق وأضعها الى جانبي على الطاولة الصغيرة . ثمة قنينة من النبيذ الأحمر في متناول يدي، أحتسي منها جرعة بين الفينة والأخرى فتزداد أجواء احتفالي ثمالة. أشغل في هاتفي مقطوعة من الموسيقى الهادئة وأدور مع ألحانها، أتمايل، يأخذني الوجد.
سأشعل النار فيها جميعا.. لن أحفل بشيء بعد اليوم.
مع كلماتي هذه أطلق ضحكة ضارية. عليّ أن أغسل قلبي من كل تردد، عليّ أن أنفذ هذا الأمر كما لو كنت أزيح حملا ثقيلا عن كاهلي، كما لو كنت أغسل ذاكرتي من كل الصور السوداء والتراجيدية، أفرغها من كل الذكريات المزعجة، من كل لحظات الانكسار والندم، علني أفلح في هذه المرحلة الجديدة القصيرة من حياتي أن أعيش بسكينة وراحة، بقلب متفتح خال من الأحقاد.
أضع الملف على ركبتي وأفتحه. أمد يدي الى الورقة الأولى؛ أول ورقة ضممتها في هذا الملف قبل تسعة وثلاثين عاما، أضعها أمام غيني لكنني لا أستطيع تمييز الحروف بسبب الظلمة فأوقد القداحة فأرى الورقة المصفرّة التي بها أمر تعييني موظفا. أنقّل عيني فوق الكلمات المكتوبة فأرى اسمي في القائمة وأمامها خط أحمر بهتت حمرته. البسمة التي ترتسم على فمي تخبئ حزنا عميقا دفينا، لقد كان يوما رائعا؛ كان المستقبل يرتسم أمامي مضيئا متفتحا، كان زمنا مليئا بالثقة والحماس، بالآمال والأحلام. ألملم جرأتي وأقرب حافة الورقة شيئا فشيئا من نار القداحة كما لو كنت أعتصر قلبي فتشب فيها النار وتستحيل تلك الورقة المصفرة في غضون ثوان الى مجرد رماد. أتأملها ثم أغمض عيني وآخذ نفسا عميقا.
نعم، سأحرقها بالتأكيد.
سأحرقها جميعا، لا أرغب بأية ذكريات، لا أريد مزيدا من الأحزان والأوجاع بعد اليوم.
لقد رتبت الأوراق داخل الملف حسب تسلسلها الزمني. كانت أوراق المجموعة الثانية تضم جميع كتب الشكر والمكافآت والعقوبات والدورات وكتب النقل. ألقي عليها النظرة الأخيرة واحدة بعد أخرى كأنني ألقي عليها تحية الوداع ثم ألقمها للنار فتعلو وتتوهج ويسري دفؤها الى جسدي، ترخيه، تسكره.
أحرص بشدة على ألا تعبر أية ورقة من بين يدي دون أن أنقّل نظري فيها. كل ورقة هي ذكرى ترتبط بيوم بعينه، بمناسبة أو واقعة بعينها. اليوم الأول من العمل في تلك المديرية الكبيرة حيث أقضي ساعات النهار الطوال ولا أكاد أحظى ببرهة لشرب الشاي أو التدخين أو الاستراحة. تلك البحار من الأيام التي كنت أعود الى البيت في نهايتها منهكا جائعا.
تلك الأيام والشهور والسنوات أنظر اليها الآن كضربٍ من العبودية، مرتبطة بمواعيد الذهاب والإياب الى العمل ومنه، مرتبطة بالأوامر والتعليمات المفروضة فرضا، بغض النظر عن إيمانك بها أو عدمه، ولا أهمية لتوافق ذلك العمل مع ميولك، لا أهمية لأن يسبب عملك الأذى لشخص أو مجموعة أشخاص، كل هذا لا يهم. المهم أن تنفذ التعليمات دون إغضاب مسؤوليك في العمل وعبوسهم وتذمرهم وشكواهم الدائمين، دون أن تتمتع بيوم إجازة واحد عند حاجتك اليها. رغم كل هذا، وبعد تسعة وثلاثين عاما من الخدمة وحرمان نفسي من كثير من مسرات الحياة وبعد أن أحال الى التقاعد أذهب اليوم لأستلم أول رواتبي التقاعدية فأجد الاحترام الجميل الذي ألاقى به أنا وبقية المتقاعدين! أكثر من أربع ساعات ونحن ننتظر تحت الشمس الحارقة حتى خرج لنا موظف المصرف أخيرا وشرع بقراءة الأسماء وتجمعنا نحن الكهول من حوله وكل منا يصغي اليه ليعرف إن كان اسمه موجودا أم لا. انتظرت حتى النهاية ولم أسمع اسمي فخطر لي أن أعود الى البيت وأدوس بأقدامي كل سنوات الخدمة تلك، أن أحرقها وأكنسها من ذهني.
الأوراق تحترق وأنا أتطهر، أرتاح من هذه الهموم والآلام والأحزان. كدت أن أحرق كل صوري معها لكنني لم أستطع فعل ذلك، هممت بذلك بيد أنني رأيت أن تلك الصور لا تعود لي وحدي فهي ملك مشترك مع أسرتي وأصدقائي وهم جميعا يظهرون فيها معي. تحترق الاوراق وأولد أنا من جديد، سأعلق حقيبتي على كتفي وأسافر، سأغادر هذه الأوضاع المريرة. سأهجر كل هذا النفاق والتملق وهذا العالم الكاذب الظالم. سأذهب لوحدي نحو قلب الطبيعة، على حافة ماء، عند أقدام جبل، لأعيش بين أناس بسطاء أبرياء.
كنت حريصا طوال حياتي على الاحتفاظ بجميع الوثائق والكتب والصور والرسائل وما شابه من أمور، خصوصا في أوقات الهجرة والفرار عندما كان الحفاظ عليها أول شيء يخطر على بالي. كنت أدفنها أحيانا تحت الأرض، أو أحملها في حقيبة أضعها وراء ظهري، أو أودعها أحيانا أخرى عند بعض من أثق بهم من الأصدقاء. وها أنذا، في أواخر العمر وبعد كل هذه العناء والاهتمام، أجمعها في ملف وأطعمها ورقة ورقة، وبقلب آمن مطمئن، لهذه النار المباركة.
خطتي تمضي بسلاسة ولطف، يا له من طقس جميل وساحر، أشعر كأنني اتحرر من السجن وأعيش حرا طليقا في أحضان الطبيعة. حقيبتي جاهزة. طقسي يوشك على الانتهاء. الأوراق تحترق، تستحيل رماداً، القنينة تنفد هي الأخرى. أقوم وأتطلع حولي، أتطلع للسماوات، أفتح ذراعي على وسعهما وأشرع في رقصة صوفية على وقع الموسيقى. أعلق حقيبتي على كتفي وأنطلق مرتحلا نحو عالم آخر.
2018