في مطلع الصيف كنت على موعد مع الأستاذ الكبير الدكتور طه بك حسين لأقدم إليه نسخة من كتاب (ليلى المريضة في العراق) ولأقرأ معه صفحات من ذلك الكتاب، ولكني حين وصلت في الموعد المحدّد لم أجده في البيت، فسلمت الكتاب لجنديْ يرابط هناك وانصرفت.
ولم يعزّني عن إخلاف الدكتور طه حسين إلا لحظات عذاب قضيتُها في منزل الآنسة أم كلثوم، وبينه وبين منزل الدكتور طه بضع خطوات.
وفي اليوم التالي سألت عنه بالتليفون لأعرف كيف أخلف الموعد، فاعتذر بلطف وأكّد أنه نسي ذلك الموعد كل النسيان، ودعاني إلى تجديد الموعد، فقلت: إني أتأهب للسفر إلى بغداد للاشتراك في تأبين الملك غازي، وسأحرص على التشرف بمقابلتك حين أعود.
وكنت أحب أن آنس بلقائه بعد أن رجعتُ من بغداد، ولكني خشيت أن يكون أخلف الموعد الأول عن عمد، لأن أولاد الحلال لا يزالون (يصلحون) ما بيني وبينه من صلات.
ثم سافر الدكتور طه إلى باريس، وسارت الأخبار بأنه سيعتذر عن الحضور في العام المقبل ليستريح من عناء المشكلات الجامعية وليؤلف كتاباً عن تاريخ الشعر العربي.
وكنت في تلك المدة شرعت في الهجوم على الأستاذ أحمد أمين؛ وندْ القلم فوقعت منه غمزات تمسْ الدكتور طه حسين بدون موجب. وكذلك استوحشت من المضيّ للتسليم عليه حين عرفت أنه رجع من باريس.
ثم عدت فقررت أن أودي الواجب في تحية الدكتور طه، راجياً أن يكون في تأدية هذه التحية تبديد للظلمات التي يخلقها من يأكلون العيش بحياكة الأقاويل والأراجيف.
كان ذلك في مساء اليوم الثالث عشر من شعبان، والقمر يقدِّم إلى الوجود أفانين من الرفق والحنان، ويذكِّر القلوب الخوامد بماضيها الجميل في مقارعة الصبوة والفتون؛ فنزلت من السيارة عند جسر فؤاد لأمتع القلب والروح بمشاهدة النيل، وهو يواجه القمر في أيام الطغيان، ولأستقبل الزمالك بأدب وخشوع؛ فما كان ثراها الغالي إلا نثائر أكبادٍ وقلوب.
وأخذت أجتاز الزمالك من حَرَم إلى حَرَم إلى أن بلغت منزل الدكتور طه حسين. وكنت أرجو أن أجده وحده، لأني وصلت بعد الساعة التاسعة، وهو عنده وقت هدوء؛ ولكن يظهر أن قدومه من السفر رفع الحجاب فكان منزله في أنس بجماعة من أهل الفضل هم الأساتذة شفيق غربال، وعبد الواحد خلاف، ومنصور فهمي، وعلي عبد الرزاق، وسعيد لطفي، وأمين الخولي، وتوفيق الحكيم، وعبد الوهاب عزام، وإبراهيم مصطفى، وعبد الحميد العبادي.
سلّمتُ على الدكتور طه تسليم المحب المشتاق، وسألته عن باريس وعن السوربون، فأجاب إجابات موجزة دلتْ على أنه يريد أن يكتم عني أشياء. فهل آذت الحرب بعض أصدقائي هناك؟ لا قدر الله ولا سمح!
وبعد لحظة حضر الأستاذ أحمد أمين فنهضت واقفاً لمصافحته، ولكنه زوى وجهه وتجاهل وجودي، ورأيت المقام لا يتسع لمحاسبته على ما صنع، فتكلفتُ الابتسام وأنا مَغِيظ.
وخطر في البال أن حضوري قد يعَكر المجلس، وأن من الخير أن أنصرف؛ ثم تذكرت أنني أحق الناس بمودة الدكتور طه حسين، وإن حالت بيننا الدسائس حيناً من الزمان، فقد كنت صديقه الحق قبل أن يعرف أصدقاء اليوم. كنت صديقه الحميم في ظروف لا يسأل فيها الشقيق عن الشقيق، فكيف أخرج من منزله ليخلو الجوْ لصديق مثل أحمد أمين؟
يجب أن أقضي السهرة كاملة، وعلى من يؤذيه حضوري أن يتفضل بالانصراف!
وبعد أن دارت السجائر على الزائرين شرع الأستاذ أمين الخولي في الحديث
أمين الخولي - يا زكي، ما تترك أبداً أخلاق المنوفية؟
طه حسين - وما أخلاق المنوفية؟
أمين الخولي - هي المشاغبة واللجاجة والعناد
طه حسين - وزكي مبارك مشاغب؟ قل كلاماً غير هذا يا أمين، فما عرف الناس زكياً إلا مثال اللطف والأدب والذوق. الدكتور زكي حقيقة رجل لطيف؛ ومن آيات لطفه أنه ينظر فيرى الناس قد ضجروا من الهدوء والسكون فيسلط عليهم القذائف القلمية ليتذوقوا نعمة الحركة والجدَل والنضال.
علي عبد الرزاق - يظهر أنك راض عن الدكتور زكي مبارك طه حسين - وهل أملك غير ذلك؟
زكي مبارك - تملك كلمة النصح يا سيدي الدكتور، إن رأيت ما يوجب كلمة النصح
طه حسين - لا، يا عم، يفتح الله!
زكي مبارك - يظهر يا سيدي الدكتور أنك غضبان
طه حسين - لست بغضبان، ولكن يحق لي أن أنزعج من بعض ما أقرأ لك
عبد الواحد خلاف - لعل الدكتور يشير إلى مقالاته في مهاجمة الأستاذ أحمد أمين
أحمد أمين - أنا أحتج على إثارة هذا الموضوع في هذا المجلس
خلاف - الخطب سهل، ونحن نحاول تصفية القلوب
أحمد أمين - أنا أحتمل كل شيء إلا التعرض لنبالتي
طه حسين - وهل تعرض زكي مبارك لنبالتك بشيء؟ إن هذا لو صحّ لكان خروجاً على شِرعة العقل!
أحمد أمين - لقد تعرض لنبالتي بأشياء
إبراهيم مصطفى - إن الدكتور زكي لم يتعرض لنبالتك، يا حضرة الأستاذ
زكي مبارك - أنتم تخوضون في شجون من الأحاديث لا عهد لي بها قبل اليوم، فما كنت أعرف أن الأستاذ أحمد أمين فوق النقد، ولا كنت أظن أن التعرض لتفنيد آرائه يعد هجوماً على قدسيته الذاتية! فهل تعتقد يا أستاذ أني تجنيت عليك؟
أحمد أمين - ليس لي معك كلام، ولا أقبل الدخول معك في نقاش، وأنت حرٌّ فيما تنشر من زور وبهتان
زكي مبارك - زور وبهتان؟ وهل النبالة أن تنطق بهذه الكلمات في هذا المجلس؟
منصور فهمي - لاحظ يا زكي أنك جرّحت الأستاذ أحمد أمين وأن من حقه أن يعلن غضبه عليك، والنفس الإنسانية معرضة للرضا والغضب، والفرح والترح، والرجاء والقنوط. فالأستاذ أحمد أمين يعبر تعبيراً طبيعياً عن السريرة الإنسانية
زكي مبارك - وكيف يكون الحال لو استبحتُ من التعبير ما استباح؟
أحمد أمين - وهل تورعت عن شيء؟ إن مقالاتك عني هي الشاهد الحيُّ على مبلغ أدبك!
زكي مبارك - وأنا راض عما قلت فيك، وما قلت إلا الحق والصدق، وأنا أنتظر أن يغضب الله عليك فيجازيك على سوء ما صنعت في تحقير ماضي الأدب العربي
طه حسين - إيه الحكاية؟
أحمد أمين - الحكاية أن زكي مبارك يقول إن طه حسين جاهل، وإن أحمد أمين جهول!
طه حسين - خبر أسود!
سعيد لطفي - أنا كنت أظن أن المسألة مزاح في مزاح. وأين نشر الدكتور زكي هذا الكلام المزعج؟!
أحمد أمين - نشره في مجلة الرسالة وعند الزيات. الرسالة التي خلقتها بقلمي
زكي مبارك - والزيات الذي سويته بيديك!
طه حسين - لقد قرأت المقالة الأولى قبل السفر، وأوصيت الأستاذ عبده عزام بحفظ المجموعة لأقرأها يوم أعود، وسأقرأها في هذه الأيام، فإن رأيت فيها أني جاهل وأن أحمد أمين جهول فستكون وقعتك يا زكي زيْ الزفت!
أحمد أمين - وما ذنب لطفي باشا حتى يتعرض له زكي مبارك بسوء؟
إبراهيم مصطفى - لقد قرأت تلك المقالات مرات. . .
طه حسين - قرأتها بالقراءات السَّبع؟
إبراهيم مصطفى - أريد أن أقول إني قرأتها بعناية ولم أجد فيها أية إشارة لسعادة لطفي باشا
علي عبد الرزاق - لطفي باشا لا يُغضبه أن يكون في بال الناقدين والباحثين
زكي مبارك - ومن أجل هذا أهجم عليه من وقت إلى وقت
سعيد لطفي - هذا أسلوب طريف في البر والوفاء!
طه حسين - طبعا. طبعاً، فصاحبنا زكي مبارك يتوهم أن الخلود لن يكون إلا من نصيب من يتعرض لهم في مقالاته ومؤلفاته بالقبيح أو الجميل. وأشهد أنه سلْ سخائم صدري يوم قال إنه لا يهجم علي إلا وهو يعتقد أن الهجوم معناه (بونجور)
أحمد أمين - وأنا لا أريد منه بونجور ولا بونسوار!
زكي مبارك - ولكني لن أتركك بعافية أو تكف شرك عن الأدب العربي
أحمد أمين - وما شأنك بالأدب العربي؟ وما هي خدماتك لهذا الأدب الذي تقول إنك تغار عليه كما تغار على عِرضك؟
زكي مبارك - يكفي أني من تلامذة طه حسين
طه حسين - العفو! العفو! إني والله راض بأن تكون من أساتذة طه حسين!
زكي مبارك - يا سيدي الدكتور. . .
طه حسين - تقتلني حين تقول (سيدي الدكتور) وأنت ترى أني جاهل وأن أحمد أمين جهول
علي عبد الرزاق - لم أشهد في حياتي أروع من هذا الحوار، وهو يستحق التسجيل
إبراهيم مصطفى - بشرط ألا يذكر فيه أسمي
علي عبد الرزاق - وما المانع من أن يذكر أسمك في هذا الحوار؟
إبراهيم مصطفى - لا تعرف ما المانع. إن هذا الحديث يوم يسجَّل لن يسجله غير زكي مبارك الذي ابتدع فن الأسمار والأحاديث
علي عبد الرزاق - وهل تخشى أن يتزيد عليك؟
إبراهيم مصطفى - أنا لا أخاف التزيد ولا أهاب الافتراء، لأني أملك تكذيب المفتريات، وأستطيع دحض الأباطيل؛ ولو كان زكي مبارك يفتري على الناس لكان أمره أخفْ وأسهل، ولكنه مع الأسف يبرع في تصوير الصدق
منصور فهمي - وما الخطر من تصوير الصدق؟
إبراهيم مصطفى - الخطر عظيم جداً. وإليك توضيح هذه المعضلة: زكي مبارك يحرص على أن يصورك في أحسن أحوالك، وأحسن أحوال المؤمن حال الصلاة. فهل تعرف كيف يصورك وأنت في صلاتك؟ يصورك وأنت راكع أو ساجد! فهل يرضيك أن تصوّر في حال الركوع أو السجود؟
توفيق الحكيم - هذه أخيلة باريسية، وهي تشهد بروعة ذكائك يا أستاذ إبراهيم
إبراهيم مصطفى - العفو، يا أستاذ توفيق، فتلك وثبة من الخيال ساقها هذا الحوار الطريف
أحمد أمين - أرجو أن تعفوني من هذه المطايبات، فلولا مراعاة المقام لانصرفت
طه حسين - أؤكد لك أن الدكتور زكي لم يقصد إيذاءك فيما كتب عنك. ألم تر كيف احتملته سنين وهو يلحْ في اتهامي بالجهل؟ زكي مبارك - لم أتهم سيدي الدكتور بالجهل المطلق، معاذ الله، وإنما اتهمته بالجهل بالقياس إلى المسيو برونو والمسيو دي لاكروا، وقد توليا عمادة كلية الآداب في باريس
أمين الخولي - كلام طيب، يا فتوة المنوفية، فلا مانع عند الدكتور طه من أن يكون في باريس من هو أعلم منه، فقد تخرَّج في مدينة النور وهو يثني على أساتذتها في كل حين، ولكنك اتهمت الأستاذ أحمد أمين بالعاميّة الفكرية، فما هو المخرج من هذا الاتهام الفظيع؟
زكي مبارك - لم أتهم الأستاذ أحمد أمين بالعامية المطلقة، ولكن بالقياس إلى الشيخ خربوش
طه حسين - ومن الشيخ خربوش؟
زكي مبارك - الشيخ خربوش عالم علامّة لا يقاس إليه الأستاذ أحمد أمين
علي عبد الرزاق - ألم أقل لكم إن هذا الحوار يستحق التدوين؟
عبد الواحد خلاف - هذا الحوار ينفع في تهدئة أعصاب الأستاذ أحمد أمين، وقد بدأ يبتسم، ولكن المهم هو الاستفادة من هذا المجلس في تغيير المذهب الأدبي للدكتور زكي مبارك، فهو أقدر أدبائنا جميعاً على إحداث الضجات الأدبية، ولا أدري كيف رجع سليماً من العراق. . .
توفيق الحكيم - كنت تنتظر أن يلقى حتفه هناك؟
طه حسين - كان يستريح ويريح، كما قال أحد الكتّاب
زكي مبارك:
لن تزالوا كذلكم ثم لا زل ... ت لكم خالداً خلود الجبال
أحمد أمين - أي جبال وأي خلود؟ أليست لنا أقلام تفل قلمك بأيسر جهد؟
عبد الواحد خلاف - أرجو أن تسمعوا بقية كلامي. إن زكي مبارك أقدر أدبائنا جميعاً على إحداث الضجات الأدبية، ولكنه لا يوجِّه نشاطه إلى ما يفيد.
زكي مبارك - وبماذا تشير أيها السيد؟
عبد الواحد خلاف - أشير بأن تعود سيرتك يوم كنت تؤلف في النثر الفني والتصوف الإسلامي، فتوجه مجادلاتك ومصاولاتك إلى القدماء
طه حسين - الأمل بعيد في توجيه الدكتور زكي مبارك إلى ما يفيد وينفع زكي مبارك - يا سيدي الدكتور. . .
طه حسين - فلقتني يا أخي بعبارة (سيدي الدكتور) وقد تحيرت في أمرك، فأنت في المجلس رجل لطيف، ولكنك حين تخلو إلى قلمك تنقلب إلى شيطان مَريد
أمين الخولي - دافع عن نفسك يا زكي فإني أخشى أن ينهزم فتوة المنوفية
زكي مبارك - لي كلمة يا سيدي الدكتور، ولا تؤاخذني بالحرص على هذه العبارة، فقد حضرت دروسك بضع سنين ولا أستبيح الهجوم عليك
طه حسين - ألم أقل لكم إن زكي مبارك رجل
زكي مبارك - أشكر لك هذا اللطف يا سيدي الدكتور، ثم أقول إني تلقيت عنك مبادئ الظلم والاعتساف.
عبد الوهاب عزام - إيوه، يا عم زكي، هات ما عندك هات
زكي مبارك - تذكرون المناوشة التي قامت بين الدكتور طه والدكتور منصور على صفحات الأهرام في سنة 1921؟
منصور فهمي - أية مناوشة؟ ذَكِّرني فقد نسيت
زكي مبارك - كنت يا سيدي الدكتور أثنيت على أسلوب المنفلوطي، فهاج أستاذنا الدكتور طه وماج، ودعاك إلى أن تسمي الجمل جَملاً والأرنب أرنباً، أو كما قال، ومعنى ذلك أن المنفلوطي ليس بكاتب ولا أديب
طه حسين - ثم؟
زكي مبارك - ثم جاء الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين الذي أنكر أن يكون المنفلوطي كاتباً أو أديباً فاعترف بأن الأستاذ أحمد أمين كاتب وأديب وسمح بأن يدرس أسلوبه على طلبة السنة الأولى بكلية الآداب
طه حسين - ما هذا الحشيش؟
زكي مبارك - أنا لم أذق الحشيش أبداً، ولكني أؤكد أن أسلوب أحمد أمين يدرس في كلية الآداب
طه حسين - هذا مستحيل
أحمد أمين - الكلية تدرس أساليب المعاصرين جميعاً.
زكي مبارك - وأنت كاتب ولك أسلوب؟
منصور فهمي - احترس يا زكي من الخروج على أدب الخطاب
أحمد أمين - ليتكم صدقتموني حين قلت إن زكي مبارك لا ينقد الباحث نقد العالم للعالم وإنما ينقده نقد المصارع للعالم
زكي مبارك - وأنت عالم يا أستاذ؟ وهل يكال العلم أيضاً بمكيال؟
أحمد أمين - العلم كله عندك، ونحن تلاميذ مبتدئون!
علي عبد الرزاق - هذا الحوار لا يستحق التسجيل!
عبد الحميد العبادي - هو على كل حال صورة من صور التاريخ!
توفيق الحكيم - أنا والله شديد الحسرة على ما وصلنا إليه؛ فقد كنت أحب أن تكون بين الأدباء صداقات عظيمة كالذي يعرفه الأدباء العظماء في باريس ولندن وبرلين
عبد الوهاب عزام - وكالذي شهدناه بين زكي مبارك وأحمد أمين!
طه حسين - إن ذهني لا يسيغ القول بأن النقد يفسد ما بين الأصدقاء
شفيق غربال - أعتقد أن الدكتور زكي رجل طيب القلب. وقد قرأت مقالاته عن الأستاذ أحمد أمين بارتياح، وجنيت منها كثيراً من الفوائد الأدبية. ولو أنه نزه قلمه عن بعض العبارات التي جرت مجرى السخرية من الأستاذ أحمد أمين لما استطاع أحد أن يوجه إليه أي ملام
توفيق الحكيم - ولهذه المقالات مزية أخرى غير الفوائد الأدبية، فقد بغَّضتني في الجو الأدبي عندنا وحببّت إليّ قضاء الصيف في أوربا، ولم أرجع إلا بعد أن ظننت أنها انتهت؛ ثم كانت حسرتي شديدة حين رأيت أن زكي مبارك لا يزال يبدي ويعيد في شرح جنايات أحمد أمين. ولولا الحرب لرجعت من حيث أتيت، فمن أين يجد زكي مبارك كل هذا الكلام الطويل العريض؟
شفيق غربال - المسئول عن هذه المتاعب هو الأستاذ أحمد أمين
أحمد أمين - أنا المسئول؟
شفيق غربال - بالتأكيد، أنت المسئول، لأنك مضيت في بحثك طول الصيف، وهيأت المجال للدكتور زكي مبارك. والذي يقدِّم الوقود للنار لا ينكر عليها الاشتعال طه حسين - هل أفهم من هذا أن الجوْ الأدبي عرف الحياة في هذا الصيف؟
زكي مبارك - يكفي يا سيدي الدكتور أن تعرف أن الأستاذ أحمد أمين نقل مكتبته إلى الإسكندرية في هذا الصيف ليجد الشواهد تحت يديه وهو يردّ عليّ
أحمد أمين - أنا رددت عليك؟ وهل قلتَ كلاماً يُرَدّ عليه؟
زكي مبارك - الله يعلم كيف شغلت قلبك وعقلك، وكيف قهرتك على مراجعة المؤلفات الأدبية، والمصنفات الفقهية. وهل تستطيع يا أستاذ أن تقول إنك تجهل منزلتي الأدبية؟
أحمد أمين - إن مقالاتك في الهجوم عليّ زهدت القراء في علمك وأدبك
شفيق غربال - سمعت غير هذا. سمعت أن مقالات الدكتور زكي مبارك في الهجوم على الأستاذ أحمد أمين دلتْ على اطلاع فائق وتفكير عميق، وسمعت من يقول إنه لم يعرف قيمة زكي مبارك إلا بفضل هذه المقالات
منصور فهمي - وهذا يشرح جانباً من عقلية المجتمع، فالجمهور يعرف زكي مبارك الناقد ولا يعرف زكي مبارك المؤلف، لأنه ينقد وهو ثائر ويؤلف وهو هادئ
طه حسين - زكي مبارك يصطنع الثورة في كل شيء حتى التأليف، ولكن ثورته في مؤلفاته لا تلفت نظر الجمهور لأنها في الأغلب متصلة بالقدماء، والهجوم على القدماء لا يثير تطلْع الناس إلا حين يمس العقائد من قرب أو من بعد، كالذي وقع يوم ظهر كتاب الشعر الجاهلي
زكي مبارك - ومن أجل هذا حرص سيدي الدكتور على تغليظ بعض الألفاظ ليوجه الأنظار إلى كتابه النفيس!
طه حسين - وبعدين لك، يا دكتور زكي؟
زكي مبارك - لا بَعْدين ولا قَبْلين، ولكني أحب أن أعرف كيف تكون الصراحة حلالاً في وقت وحراماً في وقت؟ وكيف يحلْ لسيدي الدكتور ما يحرُم على سائر الناس؟
طه حسين - يظهر أنك تحب أن تتمتع بالحرية الكاملة في حياتك العقلية، ويظهر مع الأسف أنك لم تعتبر بما عاناه أحرار الفكر في هذه البلاد، فما تحسدني عليه حلال لك حين تشاء. وإني أرجو أن يبعد اليوم الذي ترجع فيه عن شططك وجموحك، اليوم الذي تيئس فيه من إنصاف الناس كما يئستُ من إنصاف الناس منصور فهمي - ولكن ما الموجب للتعرض لما يمس العقائد؟
طه حسين - اسأل نفسك يا منصور فلك مع العقائد تاريخ
منصور فهمي - كان ذلك في عهد الشباب
طه حسين - وكان مني ما كان في عهد الشباب، وإن لم يمض عليه غير عشر سنين، والحسرة تلذع قلبي كلما تذكرت أني لا أملك مكايدة الجماهير من جديد. وهل نكايد الجماهير إلا بفضل ما يثور في دمائنا من ثورة وطغيان؟
عبد الواحد خلاف - ومعنى ذلك أن الدكتور زكي مبارك يكايد جماهير الأدباء لأنه لا يزال في عنفوان الشباب؟
طه حسين - الذي أعرفه أن زكي مبارك صار من طبقة الكهول، بحكم السن على الأقل، فقد شهدت مشاغبته بدروس الأستاذ علي عبد الرزاق في الأزهر سنة 1912
زكي مبارك - وأنا شهدت مشاغبتك يا سيدي الدكتور بدروس الشيخ محمد المهدي في الجامعة المصرية سنة 1913
أحمد أمين - ومع هذه السن العالية لا يزال زكي مباركك يمعن في الغزل والتشبيب كأنه في سن العشرين
شفيق غربال - هذه الدعابة تدل على أن الأستاذ أحمد أمين صفت نفسه وطابت
طه حسين - فهل نرجو أن يكف زكي مبارك عن العدوان بعد هذا الصفاء؟
زكي مبارك - هل تصافينا حقيقة؟
أحمد أمين - لن نتصافى أبداً بعد الذي كان
زكي مبارك - يظهر انك تستروح بالهجوم عليك، وسأخيِّب ظنك فأسكت عنك بعد ثلاث أو أربع مقالات. . . مساء الخير، يا سيدي الدكتور، والحمد لله الذي أرجعك إلينا بخير وعافية.
(مصر الجديدة)
زكي مبارك
مجلة الرسالة/العدد 327/
بتاريخ: 09 - 10 - 1939
ولم يعزّني عن إخلاف الدكتور طه حسين إلا لحظات عذاب قضيتُها في منزل الآنسة أم كلثوم، وبينه وبين منزل الدكتور طه بضع خطوات.
وفي اليوم التالي سألت عنه بالتليفون لأعرف كيف أخلف الموعد، فاعتذر بلطف وأكّد أنه نسي ذلك الموعد كل النسيان، ودعاني إلى تجديد الموعد، فقلت: إني أتأهب للسفر إلى بغداد للاشتراك في تأبين الملك غازي، وسأحرص على التشرف بمقابلتك حين أعود.
وكنت أحب أن آنس بلقائه بعد أن رجعتُ من بغداد، ولكني خشيت أن يكون أخلف الموعد الأول عن عمد، لأن أولاد الحلال لا يزالون (يصلحون) ما بيني وبينه من صلات.
ثم سافر الدكتور طه إلى باريس، وسارت الأخبار بأنه سيعتذر عن الحضور في العام المقبل ليستريح من عناء المشكلات الجامعية وليؤلف كتاباً عن تاريخ الشعر العربي.
وكنت في تلك المدة شرعت في الهجوم على الأستاذ أحمد أمين؛ وندْ القلم فوقعت منه غمزات تمسْ الدكتور طه حسين بدون موجب. وكذلك استوحشت من المضيّ للتسليم عليه حين عرفت أنه رجع من باريس.
ثم عدت فقررت أن أودي الواجب في تحية الدكتور طه، راجياً أن يكون في تأدية هذه التحية تبديد للظلمات التي يخلقها من يأكلون العيش بحياكة الأقاويل والأراجيف.
كان ذلك في مساء اليوم الثالث عشر من شعبان، والقمر يقدِّم إلى الوجود أفانين من الرفق والحنان، ويذكِّر القلوب الخوامد بماضيها الجميل في مقارعة الصبوة والفتون؛ فنزلت من السيارة عند جسر فؤاد لأمتع القلب والروح بمشاهدة النيل، وهو يواجه القمر في أيام الطغيان، ولأستقبل الزمالك بأدب وخشوع؛ فما كان ثراها الغالي إلا نثائر أكبادٍ وقلوب.
وأخذت أجتاز الزمالك من حَرَم إلى حَرَم إلى أن بلغت منزل الدكتور طه حسين. وكنت أرجو أن أجده وحده، لأني وصلت بعد الساعة التاسعة، وهو عنده وقت هدوء؛ ولكن يظهر أن قدومه من السفر رفع الحجاب فكان منزله في أنس بجماعة من أهل الفضل هم الأساتذة شفيق غربال، وعبد الواحد خلاف، ومنصور فهمي، وعلي عبد الرزاق، وسعيد لطفي، وأمين الخولي، وتوفيق الحكيم، وعبد الوهاب عزام، وإبراهيم مصطفى، وعبد الحميد العبادي.
سلّمتُ على الدكتور طه تسليم المحب المشتاق، وسألته عن باريس وعن السوربون، فأجاب إجابات موجزة دلتْ على أنه يريد أن يكتم عني أشياء. فهل آذت الحرب بعض أصدقائي هناك؟ لا قدر الله ولا سمح!
وبعد لحظة حضر الأستاذ أحمد أمين فنهضت واقفاً لمصافحته، ولكنه زوى وجهه وتجاهل وجودي، ورأيت المقام لا يتسع لمحاسبته على ما صنع، فتكلفتُ الابتسام وأنا مَغِيظ.
وخطر في البال أن حضوري قد يعَكر المجلس، وأن من الخير أن أنصرف؛ ثم تذكرت أنني أحق الناس بمودة الدكتور طه حسين، وإن حالت بيننا الدسائس حيناً من الزمان، فقد كنت صديقه الحق قبل أن يعرف أصدقاء اليوم. كنت صديقه الحميم في ظروف لا يسأل فيها الشقيق عن الشقيق، فكيف أخرج من منزله ليخلو الجوْ لصديق مثل أحمد أمين؟
يجب أن أقضي السهرة كاملة، وعلى من يؤذيه حضوري أن يتفضل بالانصراف!
وبعد أن دارت السجائر على الزائرين شرع الأستاذ أمين الخولي في الحديث
أمين الخولي - يا زكي، ما تترك أبداً أخلاق المنوفية؟
طه حسين - وما أخلاق المنوفية؟
أمين الخولي - هي المشاغبة واللجاجة والعناد
طه حسين - وزكي مبارك مشاغب؟ قل كلاماً غير هذا يا أمين، فما عرف الناس زكياً إلا مثال اللطف والأدب والذوق. الدكتور زكي حقيقة رجل لطيف؛ ومن آيات لطفه أنه ينظر فيرى الناس قد ضجروا من الهدوء والسكون فيسلط عليهم القذائف القلمية ليتذوقوا نعمة الحركة والجدَل والنضال.
علي عبد الرزاق - يظهر أنك راض عن الدكتور زكي مبارك طه حسين - وهل أملك غير ذلك؟
زكي مبارك - تملك كلمة النصح يا سيدي الدكتور، إن رأيت ما يوجب كلمة النصح
طه حسين - لا، يا عم، يفتح الله!
زكي مبارك - يظهر يا سيدي الدكتور أنك غضبان
طه حسين - لست بغضبان، ولكن يحق لي أن أنزعج من بعض ما أقرأ لك
عبد الواحد خلاف - لعل الدكتور يشير إلى مقالاته في مهاجمة الأستاذ أحمد أمين
أحمد أمين - أنا أحتج على إثارة هذا الموضوع في هذا المجلس
خلاف - الخطب سهل، ونحن نحاول تصفية القلوب
أحمد أمين - أنا أحتمل كل شيء إلا التعرض لنبالتي
طه حسين - وهل تعرض زكي مبارك لنبالتك بشيء؟ إن هذا لو صحّ لكان خروجاً على شِرعة العقل!
أحمد أمين - لقد تعرض لنبالتي بأشياء
إبراهيم مصطفى - إن الدكتور زكي لم يتعرض لنبالتك، يا حضرة الأستاذ
زكي مبارك - أنتم تخوضون في شجون من الأحاديث لا عهد لي بها قبل اليوم، فما كنت أعرف أن الأستاذ أحمد أمين فوق النقد، ولا كنت أظن أن التعرض لتفنيد آرائه يعد هجوماً على قدسيته الذاتية! فهل تعتقد يا أستاذ أني تجنيت عليك؟
أحمد أمين - ليس لي معك كلام، ولا أقبل الدخول معك في نقاش، وأنت حرٌّ فيما تنشر من زور وبهتان
زكي مبارك - زور وبهتان؟ وهل النبالة أن تنطق بهذه الكلمات في هذا المجلس؟
منصور فهمي - لاحظ يا زكي أنك جرّحت الأستاذ أحمد أمين وأن من حقه أن يعلن غضبه عليك، والنفس الإنسانية معرضة للرضا والغضب، والفرح والترح، والرجاء والقنوط. فالأستاذ أحمد أمين يعبر تعبيراً طبيعياً عن السريرة الإنسانية
زكي مبارك - وكيف يكون الحال لو استبحتُ من التعبير ما استباح؟
أحمد أمين - وهل تورعت عن شيء؟ إن مقالاتك عني هي الشاهد الحيُّ على مبلغ أدبك!
زكي مبارك - وأنا راض عما قلت فيك، وما قلت إلا الحق والصدق، وأنا أنتظر أن يغضب الله عليك فيجازيك على سوء ما صنعت في تحقير ماضي الأدب العربي
طه حسين - إيه الحكاية؟
أحمد أمين - الحكاية أن زكي مبارك يقول إن طه حسين جاهل، وإن أحمد أمين جهول!
طه حسين - خبر أسود!
سعيد لطفي - أنا كنت أظن أن المسألة مزاح في مزاح. وأين نشر الدكتور زكي هذا الكلام المزعج؟!
أحمد أمين - نشره في مجلة الرسالة وعند الزيات. الرسالة التي خلقتها بقلمي
زكي مبارك - والزيات الذي سويته بيديك!
طه حسين - لقد قرأت المقالة الأولى قبل السفر، وأوصيت الأستاذ عبده عزام بحفظ المجموعة لأقرأها يوم أعود، وسأقرأها في هذه الأيام، فإن رأيت فيها أني جاهل وأن أحمد أمين جهول فستكون وقعتك يا زكي زيْ الزفت!
أحمد أمين - وما ذنب لطفي باشا حتى يتعرض له زكي مبارك بسوء؟
إبراهيم مصطفى - لقد قرأت تلك المقالات مرات. . .
طه حسين - قرأتها بالقراءات السَّبع؟
إبراهيم مصطفى - أريد أن أقول إني قرأتها بعناية ولم أجد فيها أية إشارة لسعادة لطفي باشا
علي عبد الرزاق - لطفي باشا لا يُغضبه أن يكون في بال الناقدين والباحثين
زكي مبارك - ومن أجل هذا أهجم عليه من وقت إلى وقت
سعيد لطفي - هذا أسلوب طريف في البر والوفاء!
طه حسين - طبعا. طبعاً، فصاحبنا زكي مبارك يتوهم أن الخلود لن يكون إلا من نصيب من يتعرض لهم في مقالاته ومؤلفاته بالقبيح أو الجميل. وأشهد أنه سلْ سخائم صدري يوم قال إنه لا يهجم علي إلا وهو يعتقد أن الهجوم معناه (بونجور)
أحمد أمين - وأنا لا أريد منه بونجور ولا بونسوار!
زكي مبارك - ولكني لن أتركك بعافية أو تكف شرك عن الأدب العربي
أحمد أمين - وما شأنك بالأدب العربي؟ وما هي خدماتك لهذا الأدب الذي تقول إنك تغار عليه كما تغار على عِرضك؟
زكي مبارك - يكفي أني من تلامذة طه حسين
طه حسين - العفو! العفو! إني والله راض بأن تكون من أساتذة طه حسين!
زكي مبارك - يا سيدي الدكتور. . .
طه حسين - تقتلني حين تقول (سيدي الدكتور) وأنت ترى أني جاهل وأن أحمد أمين جهول
علي عبد الرزاق - لم أشهد في حياتي أروع من هذا الحوار، وهو يستحق التسجيل
إبراهيم مصطفى - بشرط ألا يذكر فيه أسمي
علي عبد الرزاق - وما المانع من أن يذكر أسمك في هذا الحوار؟
إبراهيم مصطفى - لا تعرف ما المانع. إن هذا الحديث يوم يسجَّل لن يسجله غير زكي مبارك الذي ابتدع فن الأسمار والأحاديث
علي عبد الرزاق - وهل تخشى أن يتزيد عليك؟
إبراهيم مصطفى - أنا لا أخاف التزيد ولا أهاب الافتراء، لأني أملك تكذيب المفتريات، وأستطيع دحض الأباطيل؛ ولو كان زكي مبارك يفتري على الناس لكان أمره أخفْ وأسهل، ولكنه مع الأسف يبرع في تصوير الصدق
منصور فهمي - وما الخطر من تصوير الصدق؟
إبراهيم مصطفى - الخطر عظيم جداً. وإليك توضيح هذه المعضلة: زكي مبارك يحرص على أن يصورك في أحسن أحوالك، وأحسن أحوال المؤمن حال الصلاة. فهل تعرف كيف يصورك وأنت في صلاتك؟ يصورك وأنت راكع أو ساجد! فهل يرضيك أن تصوّر في حال الركوع أو السجود؟
توفيق الحكيم - هذه أخيلة باريسية، وهي تشهد بروعة ذكائك يا أستاذ إبراهيم
إبراهيم مصطفى - العفو، يا أستاذ توفيق، فتلك وثبة من الخيال ساقها هذا الحوار الطريف
أحمد أمين - أرجو أن تعفوني من هذه المطايبات، فلولا مراعاة المقام لانصرفت
طه حسين - أؤكد لك أن الدكتور زكي لم يقصد إيذاءك فيما كتب عنك. ألم تر كيف احتملته سنين وهو يلحْ في اتهامي بالجهل؟ زكي مبارك - لم أتهم سيدي الدكتور بالجهل المطلق، معاذ الله، وإنما اتهمته بالجهل بالقياس إلى المسيو برونو والمسيو دي لاكروا، وقد توليا عمادة كلية الآداب في باريس
أمين الخولي - كلام طيب، يا فتوة المنوفية، فلا مانع عند الدكتور طه من أن يكون في باريس من هو أعلم منه، فقد تخرَّج في مدينة النور وهو يثني على أساتذتها في كل حين، ولكنك اتهمت الأستاذ أحمد أمين بالعاميّة الفكرية، فما هو المخرج من هذا الاتهام الفظيع؟
زكي مبارك - لم أتهم الأستاذ أحمد أمين بالعامية المطلقة، ولكن بالقياس إلى الشيخ خربوش
طه حسين - ومن الشيخ خربوش؟
زكي مبارك - الشيخ خربوش عالم علامّة لا يقاس إليه الأستاذ أحمد أمين
علي عبد الرزاق - ألم أقل لكم إن هذا الحوار يستحق التدوين؟
عبد الواحد خلاف - هذا الحوار ينفع في تهدئة أعصاب الأستاذ أحمد أمين، وقد بدأ يبتسم، ولكن المهم هو الاستفادة من هذا المجلس في تغيير المذهب الأدبي للدكتور زكي مبارك، فهو أقدر أدبائنا جميعاً على إحداث الضجات الأدبية، ولا أدري كيف رجع سليماً من العراق. . .
توفيق الحكيم - كنت تنتظر أن يلقى حتفه هناك؟
طه حسين - كان يستريح ويريح، كما قال أحد الكتّاب
زكي مبارك:
لن تزالوا كذلكم ثم لا زل ... ت لكم خالداً خلود الجبال
أحمد أمين - أي جبال وأي خلود؟ أليست لنا أقلام تفل قلمك بأيسر جهد؟
عبد الواحد خلاف - أرجو أن تسمعوا بقية كلامي. إن زكي مبارك أقدر أدبائنا جميعاً على إحداث الضجات الأدبية، ولكنه لا يوجِّه نشاطه إلى ما يفيد.
زكي مبارك - وبماذا تشير أيها السيد؟
عبد الواحد خلاف - أشير بأن تعود سيرتك يوم كنت تؤلف في النثر الفني والتصوف الإسلامي، فتوجه مجادلاتك ومصاولاتك إلى القدماء
طه حسين - الأمل بعيد في توجيه الدكتور زكي مبارك إلى ما يفيد وينفع زكي مبارك - يا سيدي الدكتور. . .
طه حسين - فلقتني يا أخي بعبارة (سيدي الدكتور) وقد تحيرت في أمرك، فأنت في المجلس رجل لطيف، ولكنك حين تخلو إلى قلمك تنقلب إلى شيطان مَريد
أمين الخولي - دافع عن نفسك يا زكي فإني أخشى أن ينهزم فتوة المنوفية
زكي مبارك - لي كلمة يا سيدي الدكتور، ولا تؤاخذني بالحرص على هذه العبارة، فقد حضرت دروسك بضع سنين ولا أستبيح الهجوم عليك
طه حسين - ألم أقل لكم إن زكي مبارك رجل
زكي مبارك - أشكر لك هذا اللطف يا سيدي الدكتور، ثم أقول إني تلقيت عنك مبادئ الظلم والاعتساف.
عبد الوهاب عزام - إيوه، يا عم زكي، هات ما عندك هات
زكي مبارك - تذكرون المناوشة التي قامت بين الدكتور طه والدكتور منصور على صفحات الأهرام في سنة 1921؟
منصور فهمي - أية مناوشة؟ ذَكِّرني فقد نسيت
زكي مبارك - كنت يا سيدي الدكتور أثنيت على أسلوب المنفلوطي، فهاج أستاذنا الدكتور طه وماج، ودعاك إلى أن تسمي الجمل جَملاً والأرنب أرنباً، أو كما قال، ومعنى ذلك أن المنفلوطي ليس بكاتب ولا أديب
طه حسين - ثم؟
زكي مبارك - ثم جاء الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين الذي أنكر أن يكون المنفلوطي كاتباً أو أديباً فاعترف بأن الأستاذ أحمد أمين كاتب وأديب وسمح بأن يدرس أسلوبه على طلبة السنة الأولى بكلية الآداب
طه حسين - ما هذا الحشيش؟
زكي مبارك - أنا لم أذق الحشيش أبداً، ولكني أؤكد أن أسلوب أحمد أمين يدرس في كلية الآداب
طه حسين - هذا مستحيل
أحمد أمين - الكلية تدرس أساليب المعاصرين جميعاً.
زكي مبارك - وأنت كاتب ولك أسلوب؟
منصور فهمي - احترس يا زكي من الخروج على أدب الخطاب
أحمد أمين - ليتكم صدقتموني حين قلت إن زكي مبارك لا ينقد الباحث نقد العالم للعالم وإنما ينقده نقد المصارع للعالم
زكي مبارك - وأنت عالم يا أستاذ؟ وهل يكال العلم أيضاً بمكيال؟
أحمد أمين - العلم كله عندك، ونحن تلاميذ مبتدئون!
علي عبد الرزاق - هذا الحوار لا يستحق التسجيل!
عبد الحميد العبادي - هو على كل حال صورة من صور التاريخ!
توفيق الحكيم - أنا والله شديد الحسرة على ما وصلنا إليه؛ فقد كنت أحب أن تكون بين الأدباء صداقات عظيمة كالذي يعرفه الأدباء العظماء في باريس ولندن وبرلين
عبد الوهاب عزام - وكالذي شهدناه بين زكي مبارك وأحمد أمين!
طه حسين - إن ذهني لا يسيغ القول بأن النقد يفسد ما بين الأصدقاء
شفيق غربال - أعتقد أن الدكتور زكي رجل طيب القلب. وقد قرأت مقالاته عن الأستاذ أحمد أمين بارتياح، وجنيت منها كثيراً من الفوائد الأدبية. ولو أنه نزه قلمه عن بعض العبارات التي جرت مجرى السخرية من الأستاذ أحمد أمين لما استطاع أحد أن يوجه إليه أي ملام
توفيق الحكيم - ولهذه المقالات مزية أخرى غير الفوائد الأدبية، فقد بغَّضتني في الجو الأدبي عندنا وحببّت إليّ قضاء الصيف في أوربا، ولم أرجع إلا بعد أن ظننت أنها انتهت؛ ثم كانت حسرتي شديدة حين رأيت أن زكي مبارك لا يزال يبدي ويعيد في شرح جنايات أحمد أمين. ولولا الحرب لرجعت من حيث أتيت، فمن أين يجد زكي مبارك كل هذا الكلام الطويل العريض؟
شفيق غربال - المسئول عن هذه المتاعب هو الأستاذ أحمد أمين
أحمد أمين - أنا المسئول؟
شفيق غربال - بالتأكيد، أنت المسئول، لأنك مضيت في بحثك طول الصيف، وهيأت المجال للدكتور زكي مبارك. والذي يقدِّم الوقود للنار لا ينكر عليها الاشتعال طه حسين - هل أفهم من هذا أن الجوْ الأدبي عرف الحياة في هذا الصيف؟
زكي مبارك - يكفي يا سيدي الدكتور أن تعرف أن الأستاذ أحمد أمين نقل مكتبته إلى الإسكندرية في هذا الصيف ليجد الشواهد تحت يديه وهو يردّ عليّ
أحمد أمين - أنا رددت عليك؟ وهل قلتَ كلاماً يُرَدّ عليه؟
زكي مبارك - الله يعلم كيف شغلت قلبك وعقلك، وكيف قهرتك على مراجعة المؤلفات الأدبية، والمصنفات الفقهية. وهل تستطيع يا أستاذ أن تقول إنك تجهل منزلتي الأدبية؟
أحمد أمين - إن مقالاتك في الهجوم عليّ زهدت القراء في علمك وأدبك
شفيق غربال - سمعت غير هذا. سمعت أن مقالات الدكتور زكي مبارك في الهجوم على الأستاذ أحمد أمين دلتْ على اطلاع فائق وتفكير عميق، وسمعت من يقول إنه لم يعرف قيمة زكي مبارك إلا بفضل هذه المقالات
منصور فهمي - وهذا يشرح جانباً من عقلية المجتمع، فالجمهور يعرف زكي مبارك الناقد ولا يعرف زكي مبارك المؤلف، لأنه ينقد وهو ثائر ويؤلف وهو هادئ
طه حسين - زكي مبارك يصطنع الثورة في كل شيء حتى التأليف، ولكن ثورته في مؤلفاته لا تلفت نظر الجمهور لأنها في الأغلب متصلة بالقدماء، والهجوم على القدماء لا يثير تطلْع الناس إلا حين يمس العقائد من قرب أو من بعد، كالذي وقع يوم ظهر كتاب الشعر الجاهلي
زكي مبارك - ومن أجل هذا حرص سيدي الدكتور على تغليظ بعض الألفاظ ليوجه الأنظار إلى كتابه النفيس!
طه حسين - وبعدين لك، يا دكتور زكي؟
زكي مبارك - لا بَعْدين ولا قَبْلين، ولكني أحب أن أعرف كيف تكون الصراحة حلالاً في وقت وحراماً في وقت؟ وكيف يحلْ لسيدي الدكتور ما يحرُم على سائر الناس؟
طه حسين - يظهر أنك تحب أن تتمتع بالحرية الكاملة في حياتك العقلية، ويظهر مع الأسف أنك لم تعتبر بما عاناه أحرار الفكر في هذه البلاد، فما تحسدني عليه حلال لك حين تشاء. وإني أرجو أن يبعد اليوم الذي ترجع فيه عن شططك وجموحك، اليوم الذي تيئس فيه من إنصاف الناس كما يئستُ من إنصاف الناس منصور فهمي - ولكن ما الموجب للتعرض لما يمس العقائد؟
طه حسين - اسأل نفسك يا منصور فلك مع العقائد تاريخ
منصور فهمي - كان ذلك في عهد الشباب
طه حسين - وكان مني ما كان في عهد الشباب، وإن لم يمض عليه غير عشر سنين، والحسرة تلذع قلبي كلما تذكرت أني لا أملك مكايدة الجماهير من جديد. وهل نكايد الجماهير إلا بفضل ما يثور في دمائنا من ثورة وطغيان؟
عبد الواحد خلاف - ومعنى ذلك أن الدكتور زكي مبارك يكايد جماهير الأدباء لأنه لا يزال في عنفوان الشباب؟
طه حسين - الذي أعرفه أن زكي مبارك صار من طبقة الكهول، بحكم السن على الأقل، فقد شهدت مشاغبته بدروس الأستاذ علي عبد الرزاق في الأزهر سنة 1912
زكي مبارك - وأنا شهدت مشاغبتك يا سيدي الدكتور بدروس الشيخ محمد المهدي في الجامعة المصرية سنة 1913
أحمد أمين - ومع هذه السن العالية لا يزال زكي مباركك يمعن في الغزل والتشبيب كأنه في سن العشرين
شفيق غربال - هذه الدعابة تدل على أن الأستاذ أحمد أمين صفت نفسه وطابت
طه حسين - فهل نرجو أن يكف زكي مبارك عن العدوان بعد هذا الصفاء؟
زكي مبارك - هل تصافينا حقيقة؟
أحمد أمين - لن نتصافى أبداً بعد الذي كان
زكي مبارك - يظهر انك تستروح بالهجوم عليك، وسأخيِّب ظنك فأسكت عنك بعد ثلاث أو أربع مقالات. . . مساء الخير، يا سيدي الدكتور، والحمد لله الذي أرجعك إلينا بخير وعافية.
(مصر الجديدة)
زكي مبارك
مجلة الرسالة/العدد 327/
بتاريخ: 09 - 10 - 1939