خالد شاطي - جرذ..

( حدست الطفلة بغريزتها أنّ أمَّها ستقتلها.
أثار استغرابها أولاً أن تُدخلها الحمام فجأةً؛ في الوقت الذي كانتا فيه على وشك الخروج من المنزل...)
قالت زوجتي (هل هذه قصة حقيقية أخرى؟)
(نعم. رواها لي إسحاق. سمعها من أخي القاضي الذي نظر في القضية)
تطلعت إلى جمهوري الصغير المتحلق حول مائدة الغداء: زوجتي وابنتي وابني. بدا واضحاً أن الاستهلال حقق واحداً من أهم الوظائف الاثنتي عشرة المتوخاة منه، والتي أحصيتها ذات تأمل: التشويق.
((... الحقيبتان- حقيبتها وحقيبة أمها الكبيرة- مركونتان قرب باب المطبخ؛ وتغصان بكل ما تحتاجانه. مصابيح المنزل أُطفئت، وأُبقيت مصابيح غرفة الضيوف المطلة على الباحة مضاءة (لإيهام الجميع أن المنزل مسكون) كما كانت تقول أمها. الستائر أسدلت. صنابير الماء ومفاتيح الغاز تم التأكد من اغلاقها. هندامهما كامل، حتى أن أمها أكملت وضع المكياج على وجه ابنتها بالطريقة التي تحبها، رغم أنها فعلت ذلك- كما فعلت باقي الأشياء- بعجالة. راقبتْ أمها تفتح صنبور الماء في البانيو؛ راقبتها وهي تخلعها ملابسها بعصبية وترمي ما تخلعه خلفها على غير عادتها. تمكنت من القول
( ماما، آني ما سويتها على روحي) ذلك أن أمها حممتها ضحى ذلك اليوم نفسه. بدا على الأم أنها لم تسمع ما قالته الطفلة، إما أن تكون لم تسمعها حقاً بسبب وهن صوتها الخائف وطغيان صوت طرطشة الماء في الحوض. وإما أنها تجاهلت ما سمعت. امتلأ الحوض بالماء وراح يسيل من جوانبه مما ضاعف خوف الطفلة. أغلقت الأم صنبور الماء وأومأت برأسها لابنتها أن ادخلي الحوض.
خافت. أدركت أن ما يجول في رأس أمها أبعد ما يكون عن اصطحابها إلى بيت جدتها لبضعة أيام كما أخبرتها. تراجعت ببطء والتصقت بالجدار.
أغمضت عينيها وقالت ( لا ماما لا، الله يخليج.. لا تقتليني.) ثم - بصوت أقرب للصراخ- ألقت بالعبارة التي طالما سمعت أمها تصرخها في الهاتف وفي شجاراتها مع أبيها ( أريد أعيش.)
هوتْ الأم على ركبتيها وأجهشت بالبكاء. في الواقع انفتح فمها على اتساعه وأُطبق عدة مرات دون أن يصدر صوتاً. اقتربت الطفلة منها بحذر. أحاطت وجهها بكفيها ثم مسحت عنه خيطي الدموع المختلطين بالكحل وهمست( أريد أعيش.)... ))
( لم توقفت؟) قال ابني.
(انظر ما يفعل بك ادمان الأفلام.) قالت زوجتي.
(ليست المشكلة هنا) قلتُ ( تعرفون أني أحذر الميلودراما)
( من الصعب جداً الإفلات من الميلودراما في قصة كهذه) قالت ابنتي ( القليل منها على الأقل.)
( حسناً) قلتُ وواصلت القراءة:
(( ضمَّتْ الأم طفلتها بقوة وشهقت بالبكاء. ربتت الطفلة على كتف أمها كما لو كانت تنيمها؛ وقالت:
( آني بنتج الوحيدة ماما. أنتِ مو تحبيني؟)
( اي ماما اي.. أنتِ أغلى شي بحياتي.)
أرجعت الطفلة رأسها إلى الوراء لتحدق في وجه أمها باستنكار
( وين أكو أم تقتل بنتها؟) قالت وأشاحت بوجهها جانباً كعادة الصغار عندما يستاؤون. أعادت الأم رأس ابنتها إلى كتفها وراحت تحدق في الفراغ. قالت ( منين لج هذا الحجي ماما؟ آني مستحيل أقتلج)
أرجعت الطفلة رأسها للوراء ثانية وقالت ( ماما ليش ترجفين؟)
(ماكو شي ماما؛ ماكو شي) قالت الأم وهي تغالب دموعها. رنّ هاتف الأم في جيبها، مرة مرتان ثلاث ثم توقف.
(ماما ابقي بالبيت لا تروحين. بابا من يجي من الشغل تعبان؛ خطية ما يلكاج بالبيت، ويلكاني ميتة)
راحت شفتا المرأة تختلجان؛ وازداد ارتعاش جسدها.
(كافي ماما، لا تحجين بعد) قالت الأم.
(ماما آني أموت عليج) قالت الطفلة.
(ولا كلمة)
(أنتِ حياتي)
رفعت الأم رأسها ناظرة إلى السقف وصاحت (ياربي شوفلي حل)
تراجعت الطفلة مذعورة إلى زاوية الحمام. جثت الأم على ركبتيها ويديها وراحت تنقل نظراتها في أرضية الحمام كأنها تبحث عن شيء.
(يا ربي يا ربي دخيلك يا ربي....)
(ماما والله هذا يضحك عليج) قالت الطفلة.
(يا ربي يا ربي يا ربي...)
(ماما راح أموت من الخوف) صاحت الطفلة.
(يا ربي وينك... )
(صدكيني ماما، والله يضحك عليج)
رفعت المرأة رأسها إلى ابنتها فاغرة فمها، اقتربت منها زاحفة على ركبتيها. أمسكتها من كتفيها وثبتتها أمامها. تطلعت في عينيها بحدة، لكن كلماتها خرجت مرتعشة:
(يضحك عليّ!. منو هذا؟ )
(هذا اللي تسولفين وياه بالموبايل يومية وتريدين تروحين وياه... )
نظرت الأم إلى وجه طفلتها الشاحب الذي صيّره الخوف عينين واسعتين فقط. حدقت في شفتيها المرتعشتين. مسدت بأناملها رقبتها الطويلة الدقيقة ثم خفضت نظرها. نهضت وخرجت من الحمام. أغلقت الباب وأقفلته بالمفتاح... ))
قاطعتني زوجتي (ما لذي رواه لك إسحاق بالضبط؟)
(نتف قليلة. امرأة قتلت طفلتها لتهرب مع عشيقها، والطفلة استعطفت أمها. هذا كل شيء. ألححتُ في طلب تفاصيل أخرى لكنني لم أحصل على شيء آخر، فلم يكن بد من الإتكال على خيالي.)
(ما لذي حدث للمرأة حقيقةً؟) قال ابني.
(قلتُ أن قاضياً نظر في القضية. أين كنت؟)
ذكرتُ أنني أفكر في المرأة، في أن من الممكن أن أقود القارىء لأحمله على التعاطف معها أو على الأقل ايجاد مبرر عاطفي لفعلتها. قال ابني بانزعاج:
( لا تخرّب بالقصة. اكتبها كما حدثت)
اعترضتُ ( ولكن من الصعب تصديق أن امرأة تقتل طفلتها لأجل عشيق)
قالت ابنتي وهي تهز الشوكة أمامنا لتؤكد كلامها ( النساء يفعلن ما هو أفظع هذه الأيام.. دعونا نستمع للقصة حتى النهاية)
((مشت المرأة نحو الأريكة لكنها عدلت عن الجلوس. كانت تفكر. طرقت الطفلة باب الحمام بكل قوتها وصاحت (ماما طلعيني، أخاف). رنّ الهاتف في جيب المرأة. أخرجته. تطلعت إليه ثم ضغطت بيد مرتعشة على زر فيه فاختفى الصوت. راحت المرأة تذرع الصالة بخطوات سريعة وقصيرة في مسارات عشوائية فيما كانت الطفلة تواصل طرق الباب. رنّ الهاتف مجدداً، فلم تعره انتباهاً. قالت الطفلة ( بعد منين لج بنية تسبحينها وتمشطين شعرها وتخليلها مكياج؟).
ضغطت المرأة على أذنيها بكلتا يديها. خطت باتجاه الحمام ثم عادت لمكانها. رنّ هاتفها بنغمة قصيرة. ضغطت المرأة زراً في الهاتف وحدقت فيه لثوان. كانت تقرأ. أغلقته وأعادته إلى جيبها.
(ماما عوفيني وروحي) قالت الطفلة.
عاودت المرأة السير في الصالة بخطواتها العصبية على غير هدى. جلست على أريكة وراحت تفرك كفيها ببعضهما.
(عوفيني وحدي وروحي. آني بعد ما أخاف)
نظرت المرأة إلى الساعة الجدارية. كانت تشير إلى الثالثة وبضع دقائق. خفّ صوت الطرقات على الباب وصار خفيفاً ومتباعداً. نهضت المرأة واقتربت من باب الحمام. انحنت واضعة أذنها على الباب. كانت الطفلة تردد بوهن ( بعد ما أخاف). فتحت المرأة الباب بسرعة. حملت الطفلة المستندة إلى الجدار لصق الباب وضمّت وجهها إلى صدرها بالضغط على رأس الطفلة بكلتا يديها. اختلج جسد الطفلة. (وحدة منا بس، لازم تعيش) قالت المرأة وعيناها مصوبتان إلى أعلى. كانت تلهث وجبينها يتعرق. انتظرت حتى سكن جسد الطفلة لترقده على أرضية الحمام. تطلعت إلى جسد الطفلة بعينين غائمتين. خرجت من الحمام ودخلت المطبخ عبر الصالة. فتحت باب المطبخ وخطت نحو باب المنزل فتحتها وخرجت إلى الشارع. فعلت ذلك بآلية، لم يبد على ملامحها أي تعبير ولم تلتفت لشيء؛ حتى أنها نسيت أن تأخذ حقيبتها معها.))
عم صمت تام. نظرتُ إلى شباك المطبخ، إلى أشعة الشمس التي تدخل عبره في هذه الساعة المتأخرة من الظهيرة، فغمرتني سعادة مفاجئة. مسحت زوجتي وجنتها وهي تنهض. صبّت لي قدح شاي وقالت ( كان عليك قول ما ترمي إليه بطريقة مباشرة بدل اللف والدوران)
(ليست هذه طريقتي في كتابة القصة، عزيزتي)
(باعتقادي، لا يوجد لف ودوران في القصة. لا أعرف عم تتحدثان؟!) قال ابني.
رفعت زوجتي صحون الطعام وقالت ( ما الذي ستفعله بشأن الجرذ؟)
( لا أدري، إنني أتقزز منه. لا يمكنني قتله)
قالت (فكر في شرك أو سم)
( قد تتأذى القطط أو الحمام. لا، لا يمكنني)
قالت ابنتي ( هو لا يظهر إلا في الليل. واصلي إقفال الأبواب والشبابيك وستنامين مطمئنة)
( احساسي أنه في مكان ما في البيت يقلقني) قالت زوجتي وهي تمسح دمعة أخرى (حتى أنني رأيته في أحلامٍ لا أستطيع ذكرها)
نهض ابني من المائدة ودخل الصالة.
عبر باب المطبخ المشبكة؛ راقبتُ حمامة حطتْ في باحة المنزل. تلفتت ثم خطت متمهلة نحو الحنفية. راحت تشرب من الماء المتقطر من الحنفية والمتشكل مثل جدول صغير بموازاة الحائط حتى باب الشارع. حطت حمامة أخرى ثم أخرى وأخرى؛ ورحن يشربن، فبيتنا كان دائماً بيتاً هادئاً.

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1336799946671538&id=100010246351654

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...