كان أوّل ما سمعت بابن سودون المصري (ولد في القاهرة 1407 وتوفي في دمشق 1463)، عام 1973 في مؤتمر الأدباء العرب الذي انعقد في تونس، في أمسية قرأ فيها الشاعر السوري فايز خضّور قصيدة لا أتذكّر عنوانها؛ وظّف فيها أبياتا شهيرة لابن سودون: «عجبٌ عجبٌ عجبٌ عجبُ/ بقرٌ تمشي ولها ذنبُ»، واستبدل لفظة «عرب» بلفظة «بقر». وضحكنا يومها كثيرا، وصرنا نردّد هذه الأبيات وغيرها ممّا يحفظه صديقنا الشاعر التونسي الراحل عمّار منصور؛ وكان شغوفا بنوادر التراث ولطائفه. ثمّ طوى الزمن ابن سودون في ما طوى، ولم نعد نذكره إلاّ لماما؛ كلّما استمعنا إلى كلام هو من تحصيل الحاصل، أو من الحشو؛ أو اللغو، وما كان لفظه زائدا على أصل المعنى، من غير أن تحمل الزيادة أيّ فائدة أو إضافة؛ ونقول عندها للمتكلّم:»أنت تبذل جهدا ضائعا أو أنت كمن يحمل التمر إلى هجر؛ أو كما يقول المثل الفرنسي حرفيّا: أنت تحمل الماء إلى الوادي، أو أنت تفسّر الماء بالماء». على أنّ لابن سودون شأنا مختلفا، فهذا شاعر كاتب يتعمّد هذا الصنيع؛ ويحتفي بحقيقة الموجودات في ذاتها، بصرف النظر عن كونها من القضايا البيّنة التي لا تحتاج إلى دليل أو برهان.
عجبٌ عجبٌ هذا عجبُ / بقرٌ تمشي ولها ذنَبُ
ولها في بزْبزها لبنٌ / يبدو للناس إذا حلبوا
من أعجب ما في مصر يُرى / الكرْمُ يرى فيه العنبُ
والنخل يرى فيه بلحٌ / ويرى أيضا فيه رطَبُ
والناقة لامنقار لها / والوزّة ليس لها قنبُ
لابدّ لهذا من سببٍ / حزّرْ فزّرْ ماذا السببُ
يبني ابن سودون الصورة بما تبنى به الأملوحة أي بملء «المعنى الشاغر» فمن وظائف اللغة الثابتة التواصل، ولذلك من الطبيعيّ أن يكون كلّ جزء فيها قابلا للفهم؛ أو أن لا يُستخدم إلاّ في معنى مفهوم. فإذا استعمل المتكلّم كلمة في معنى مختلف، أو هو استعملها على مقتضى المعنى المتعارف، في الظاهر، وكان قصده منها معنى آخر؛ فإنّ المحصّلة ليست الغموض، وإنّما المعنى المزدوج. فلا غرابة أن تتعطّل «الشعريّة» أو «الجماليّة» إذ هي تتحدّد عندنا على ما جرت به الأعراف الأدبيّة؛ بمدى الفرق عن الكلام العادي أو المبتذل المبذول؛ ولكن من غير أن يتعطّل التواصل، أو تتفكّك مفهوميّة اللغة، بل تخيب العلاقة بين المتكلّم والمخاطب، إذ يكفي أن يذهب الشاعر إلى المحسوس فيما المجرّد هو المقصود، أو أن يعود إلى المعنى الحرفيّ فيما اللعب هو المقصود.
والكلمة عنده ليست «اسما بلا مسمّى «، ولا هي اسم موضوع على جوهر أو عرض بدون تعيينه أو تمييزه، إنّما مسمّاها عنده معلوم معيّن كما هو عندنا؛ ما دامت تتّسع لكلّ هذه الحالات التي ذكرها. ومن المفيد أن نذكّر في هذا السياق بضرورة التّمييز بين إشارة إراديّة تواصليّة «مشفّرة» وأخرى غير إراديّة أي تعبيريّة تتعلّق بالمشاعر والانفعالات التي تثيرها الأشياء والكلمات في النفس؛ وهذه قد تندّ عن تعريف قرينتها. ولكنّنا نعرف «أنّ شيئا ما ليس إشارة إلاّ لكونه مؤوَّلا من حيث هو إشارة لشيء ما بواسطة مؤوِّل»، وإذا كان ذلك كذلك فإنّ إرادة التأويل من حيث هي سلطة يمكن أن تغيّر من مواقعها، فلا تظلّ الرسالة متوقّفة على توصيل المرسل، وإنّما هي تتوسّع وتُحدّ بالنسبة إلى الذي يعيد تحيينها لمقصد خاصّ. وقد لا يكون لـ«دلائليّة المضمر» من موضوع سوى هذه «الدلتا» التي يتجمّع فيها هذا الكمّ المرسل المدرك، ويتشعّب إلى ما يشبه الدال؛ بيد أنّ المضمر في كلام ابن سودون، لا يرجع إلى المجاز، وإنّما إلى المعجم، من حيث هو يمثّل نظاما من التصنيف والترتيب. وكلّ تصنيف إنّما يقوم على إجراء مزدوج: اختياريّ وتجريديّ حيث يُستصفى قاسم مشترك وتجرّد الخواصّ الذاتيّة. وبهذا المعنى فإنّ ابن سودون يفعل باللغة ما تفعله اللغة نفسها وهي تشظّي الواقع وترتّبه، وتحوّله إلى عناصر جزئيّة أكثر فأكثر بما يجعلها تجرّد جزءا من هذا الواقع نفسه. فالكلام على «بقرة» هو تجريد مختلف أنواع البقر أو جواهرها وأعراضها، أي اختزال البقرة في الحيوان. والبقرة بهذا المفهوم لا وجود لها، والبقر أنواع وهي من الأهلي والوحشي، وتكون للمذكّر والمؤنّث، ومنه الحلوب وغير الحلوب؛ وقد يرمز إلى الغنى والوفرة، مثلما يرمز إلى العوز والضيق، أو شيء ما موضوع استغلال، أو إلى ذهاب العقل.
ولكنّ الصّفات غير المتشابهة، تضمحلّ إذا نحن قصرنا المعنى على صفة وأهملنا غيرها. وكلمة «بقرة» لا تحفل بها أبدا، إذ هي تحتكم إلى قاسم مشترك. ولا تؤخذ الصفات أو العناصر المتفارقة بالحسبان، إلاّ إذا انتقلنا من الكلمة الجنس إلى أنواعها.
شاعر لا يتردّد في استجلاب القاصي والدّاني من الكلام، كأن يقحم في التركيب «كلمة مألوفة وكلمة شعبيّة وكلمة مستهجنة ليستخلص منها أثرا من واقعيّة غير متوقّعة. وهو يحتفظ للكلمة بسياقها، فينبّهنا إلى أنّ دلالتها محكومة بـ«مقام القول». ونقصد بهذا أنّها محصّلة كلّ المؤشّرات التي تجعل من الخطاب فعلا لغويّا تؤدّيه ذات تعيد استخدام اللّغة المشتركة، إذ الكلمة ليســـت مأخوذة مباشرة بلا وسيط، وإنّما تلوكها الألسنة قبل أن تنتظم في النصّ، فتضفي على الخطاب قيمة مثلما يمكن أن تسلبه إيّاها.
وليس بالمستغرب أن نسم هذه الألفاظ بالركاكة والسوقيّة والسخافة، فالأمر راجع إلى تفاوت في مراتب الإنشائيّة، حيث يلابس العاميّ الفصيح، وإلى استهانة بأوضاع اللغة الشعريّة وأعرافها، حتّى لكأنّ هذا الشعر في أبيات منه كلام موزون مترجم إلى الفصحى أو ما يشبه الفصحى؛ ولكن بمخيّلة سماعيّة وبصريّة وذوقيّة وشميّة ولمسيّة. والطريف أنّه يستعمل الكلمة في حيّز ما يقرّه الاستعمال ويجري عليه؛ فيضحكنا، أو يجعلنا نعيد النظر في العلاقة ما بين المعنى والمرجع؛ فالاسم يستدعي المعنى، والمعنى يستدعي الاسم. وقد نعتبرها من الاستعارات «الذاوية» أو «البالية» أو «الميّتة». ومن المفيد أن نميّز الاستعارة من حيث هي «مبدأ الوجود الشّامل للغة» من الاستعارة الشعريّة النوعيّة. والأولى من اختصاص النحويّ الذي يقدّر الكلمات ويقيسها حسب اشتقاقاتها. على حين أنّ الثانية من اختصاص البلاغيّ الذي يقدّر الكلمات حسب أثرها الاستعاريّ في السامع، ويجعل عيارها الصّحيح قصد صاحبها منها، بل لعلّ الأصوب أن نعتبرها «استعارات لغويّة» اضطراريّة وظيفتها إبراز السمة الظاهرة في الشيء، وليست بالاستعارات الجماليّة الاختياريّة التي تخرج الشيء غير مخرج الألفة. استعارات تمثّلها الاستعمال المطّرد، وفقدت صورتها المجازيّة لتلتحق بأشباه لها ونظائر في ما أسماه بلاغيو العرب « دلالة المطابقة « أي دلالة الشّيء على تمام ما وضع له. شاعر لا يزال يضحكنا، بما يجعلنا نقيم مسافة انفعاليّة بالنسبة إلى الشيء الذي يستثير ضحكنا.
على أنّ لابن سودون نثرا، قد لا نجد أبلغ منه في وصف حال العربي اليوم؛ وقد تقطّعت به السبل، ولم يستدلّ الطريق إلى بيته:
«كنت وأنا صغير بليداً لا أصيب فى مقال ولا أفهم ما يقال. فلمّا نزل بي المشيب زوّجتني أمّي بامرأة كانت أبعد مني ذهناً؛ إلا أنها أكبر مني سناً وما مضت مدّة طويلة حتى ولدت. والتمست منّي طعاماً حارّا، فتناولت الصحفة مكشوفة، ورجعت إلى المنزل آخذ المكبّة. والمكبة هي غطاء الصحفة؛ فنسيت الصحفة. فلمّا كنت في السوق، تذكّرت ذلك؛ فرجعت وأخذت الصحفة، ونسيت المكبّة. وصرت كلّما أخذت واحدة نسيتُ الأخرى. ولم أزل كذلك حتى غربت الشمس فقلت: لا أشتري لها في هذه الليلة شيئاً وأدعها تموت جوعاً. ثم ّرجعت إليها وهي تئنّ، وإذا ولدها يستغيث جوعاً. فتفكرت كيف أربّيه. وتحيّرت في ذلك. ثمّ خطر ببالي أن الحمامة إذا أفرخت وماتت ذهب زوجها والتقط الحَبّ. ثم يأتي ويقذفه في فم ابنه وتكون حياته بذلك. فقلت: لا والله لا أكون أعجز من الحمام، ولا أدع ولدي يذوق كأس الحِمام (الموت). ثم مضيت وأتيته بجوْز ولوز فجعلته في فمي. ونفخته في فمه فرادى وأزواجاً، أفواجاً أفواجاً؛ حتى امتلأ جوفه وصار فمه لا يسع شيئاً وصار الجوز واللوز يتناثران من أِشداقه حتى امتلأ، فسررت بذلك وقلت: لعله قد استراح. ثمّ نظرت إليه وإذا به هو قد مات. فحسدته على ذلك وقلت: يا بنيّ إنّه قد انحطّ سعد أمّك وسعدك قد ارتفع؛ لأنها ماتت جوعاً وأنت متّ من الشبع! وتركتهما ميّتين ومضيت آتيهما بالكفن والحنوط . ولمّا رجعت لم أعرف طريق المنزل. وها أنا في طلبه إلى يومنا هذا!».
٭ كاتب تونسي
www.alquds.co.uk
عجبٌ عجبٌ هذا عجبُ / بقرٌ تمشي ولها ذنَبُ
ولها في بزْبزها لبنٌ / يبدو للناس إذا حلبوا
من أعجب ما في مصر يُرى / الكرْمُ يرى فيه العنبُ
والنخل يرى فيه بلحٌ / ويرى أيضا فيه رطَبُ
والناقة لامنقار لها / والوزّة ليس لها قنبُ
لابدّ لهذا من سببٍ / حزّرْ فزّرْ ماذا السببُ
يبني ابن سودون الصورة بما تبنى به الأملوحة أي بملء «المعنى الشاغر» فمن وظائف اللغة الثابتة التواصل، ولذلك من الطبيعيّ أن يكون كلّ جزء فيها قابلا للفهم؛ أو أن لا يُستخدم إلاّ في معنى مفهوم. فإذا استعمل المتكلّم كلمة في معنى مختلف، أو هو استعملها على مقتضى المعنى المتعارف، في الظاهر، وكان قصده منها معنى آخر؛ فإنّ المحصّلة ليست الغموض، وإنّما المعنى المزدوج. فلا غرابة أن تتعطّل «الشعريّة» أو «الجماليّة» إذ هي تتحدّد عندنا على ما جرت به الأعراف الأدبيّة؛ بمدى الفرق عن الكلام العادي أو المبتذل المبذول؛ ولكن من غير أن يتعطّل التواصل، أو تتفكّك مفهوميّة اللغة، بل تخيب العلاقة بين المتكلّم والمخاطب، إذ يكفي أن يذهب الشاعر إلى المحسوس فيما المجرّد هو المقصود، أو أن يعود إلى المعنى الحرفيّ فيما اللعب هو المقصود.
والكلمة عنده ليست «اسما بلا مسمّى «، ولا هي اسم موضوع على جوهر أو عرض بدون تعيينه أو تمييزه، إنّما مسمّاها عنده معلوم معيّن كما هو عندنا؛ ما دامت تتّسع لكلّ هذه الحالات التي ذكرها. ومن المفيد أن نذكّر في هذا السياق بضرورة التّمييز بين إشارة إراديّة تواصليّة «مشفّرة» وأخرى غير إراديّة أي تعبيريّة تتعلّق بالمشاعر والانفعالات التي تثيرها الأشياء والكلمات في النفس؛ وهذه قد تندّ عن تعريف قرينتها. ولكنّنا نعرف «أنّ شيئا ما ليس إشارة إلاّ لكونه مؤوَّلا من حيث هو إشارة لشيء ما بواسطة مؤوِّل»، وإذا كان ذلك كذلك فإنّ إرادة التأويل من حيث هي سلطة يمكن أن تغيّر من مواقعها، فلا تظلّ الرسالة متوقّفة على توصيل المرسل، وإنّما هي تتوسّع وتُحدّ بالنسبة إلى الذي يعيد تحيينها لمقصد خاصّ. وقد لا يكون لـ«دلائليّة المضمر» من موضوع سوى هذه «الدلتا» التي يتجمّع فيها هذا الكمّ المرسل المدرك، ويتشعّب إلى ما يشبه الدال؛ بيد أنّ المضمر في كلام ابن سودون، لا يرجع إلى المجاز، وإنّما إلى المعجم، من حيث هو يمثّل نظاما من التصنيف والترتيب. وكلّ تصنيف إنّما يقوم على إجراء مزدوج: اختياريّ وتجريديّ حيث يُستصفى قاسم مشترك وتجرّد الخواصّ الذاتيّة. وبهذا المعنى فإنّ ابن سودون يفعل باللغة ما تفعله اللغة نفسها وهي تشظّي الواقع وترتّبه، وتحوّله إلى عناصر جزئيّة أكثر فأكثر بما يجعلها تجرّد جزءا من هذا الواقع نفسه. فالكلام على «بقرة» هو تجريد مختلف أنواع البقر أو جواهرها وأعراضها، أي اختزال البقرة في الحيوان. والبقرة بهذا المفهوم لا وجود لها، والبقر أنواع وهي من الأهلي والوحشي، وتكون للمذكّر والمؤنّث، ومنه الحلوب وغير الحلوب؛ وقد يرمز إلى الغنى والوفرة، مثلما يرمز إلى العوز والضيق، أو شيء ما موضوع استغلال، أو إلى ذهاب العقل.
ولكنّ الصّفات غير المتشابهة، تضمحلّ إذا نحن قصرنا المعنى على صفة وأهملنا غيرها. وكلمة «بقرة» لا تحفل بها أبدا، إذ هي تحتكم إلى قاسم مشترك. ولا تؤخذ الصفات أو العناصر المتفارقة بالحسبان، إلاّ إذا انتقلنا من الكلمة الجنس إلى أنواعها.
شاعر لا يتردّد في استجلاب القاصي والدّاني من الكلام، كأن يقحم في التركيب «كلمة مألوفة وكلمة شعبيّة وكلمة مستهجنة ليستخلص منها أثرا من واقعيّة غير متوقّعة. وهو يحتفظ للكلمة بسياقها، فينبّهنا إلى أنّ دلالتها محكومة بـ«مقام القول». ونقصد بهذا أنّها محصّلة كلّ المؤشّرات التي تجعل من الخطاب فعلا لغويّا تؤدّيه ذات تعيد استخدام اللّغة المشتركة، إذ الكلمة ليســـت مأخوذة مباشرة بلا وسيط، وإنّما تلوكها الألسنة قبل أن تنتظم في النصّ، فتضفي على الخطاب قيمة مثلما يمكن أن تسلبه إيّاها.
وليس بالمستغرب أن نسم هذه الألفاظ بالركاكة والسوقيّة والسخافة، فالأمر راجع إلى تفاوت في مراتب الإنشائيّة، حيث يلابس العاميّ الفصيح، وإلى استهانة بأوضاع اللغة الشعريّة وأعرافها، حتّى لكأنّ هذا الشعر في أبيات منه كلام موزون مترجم إلى الفصحى أو ما يشبه الفصحى؛ ولكن بمخيّلة سماعيّة وبصريّة وذوقيّة وشميّة ولمسيّة. والطريف أنّه يستعمل الكلمة في حيّز ما يقرّه الاستعمال ويجري عليه؛ فيضحكنا، أو يجعلنا نعيد النظر في العلاقة ما بين المعنى والمرجع؛ فالاسم يستدعي المعنى، والمعنى يستدعي الاسم. وقد نعتبرها من الاستعارات «الذاوية» أو «البالية» أو «الميّتة». ومن المفيد أن نميّز الاستعارة من حيث هي «مبدأ الوجود الشّامل للغة» من الاستعارة الشعريّة النوعيّة. والأولى من اختصاص النحويّ الذي يقدّر الكلمات ويقيسها حسب اشتقاقاتها. على حين أنّ الثانية من اختصاص البلاغيّ الذي يقدّر الكلمات حسب أثرها الاستعاريّ في السامع، ويجعل عيارها الصّحيح قصد صاحبها منها، بل لعلّ الأصوب أن نعتبرها «استعارات لغويّة» اضطراريّة وظيفتها إبراز السمة الظاهرة في الشيء، وليست بالاستعارات الجماليّة الاختياريّة التي تخرج الشيء غير مخرج الألفة. استعارات تمثّلها الاستعمال المطّرد، وفقدت صورتها المجازيّة لتلتحق بأشباه لها ونظائر في ما أسماه بلاغيو العرب « دلالة المطابقة « أي دلالة الشّيء على تمام ما وضع له. شاعر لا يزال يضحكنا، بما يجعلنا نقيم مسافة انفعاليّة بالنسبة إلى الشيء الذي يستثير ضحكنا.
على أنّ لابن سودون نثرا، قد لا نجد أبلغ منه في وصف حال العربي اليوم؛ وقد تقطّعت به السبل، ولم يستدلّ الطريق إلى بيته:
«كنت وأنا صغير بليداً لا أصيب فى مقال ولا أفهم ما يقال. فلمّا نزل بي المشيب زوّجتني أمّي بامرأة كانت أبعد مني ذهناً؛ إلا أنها أكبر مني سناً وما مضت مدّة طويلة حتى ولدت. والتمست منّي طعاماً حارّا، فتناولت الصحفة مكشوفة، ورجعت إلى المنزل آخذ المكبّة. والمكبة هي غطاء الصحفة؛ فنسيت الصحفة. فلمّا كنت في السوق، تذكّرت ذلك؛ فرجعت وأخذت الصحفة، ونسيت المكبّة. وصرت كلّما أخذت واحدة نسيتُ الأخرى. ولم أزل كذلك حتى غربت الشمس فقلت: لا أشتري لها في هذه الليلة شيئاً وأدعها تموت جوعاً. ثم ّرجعت إليها وهي تئنّ، وإذا ولدها يستغيث جوعاً. فتفكرت كيف أربّيه. وتحيّرت في ذلك. ثمّ خطر ببالي أن الحمامة إذا أفرخت وماتت ذهب زوجها والتقط الحَبّ. ثم يأتي ويقذفه في فم ابنه وتكون حياته بذلك. فقلت: لا والله لا أكون أعجز من الحمام، ولا أدع ولدي يذوق كأس الحِمام (الموت). ثم مضيت وأتيته بجوْز ولوز فجعلته في فمي. ونفخته في فمه فرادى وأزواجاً، أفواجاً أفواجاً؛ حتى امتلأ جوفه وصار فمه لا يسع شيئاً وصار الجوز واللوز يتناثران من أِشداقه حتى امتلأ، فسررت بذلك وقلت: لعله قد استراح. ثمّ نظرت إليه وإذا به هو قد مات. فحسدته على ذلك وقلت: يا بنيّ إنّه قد انحطّ سعد أمّك وسعدك قد ارتفع؛ لأنها ماتت جوعاً وأنت متّ من الشبع! وتركتهما ميّتين ومضيت آتيهما بالكفن والحنوط . ولمّا رجعت لم أعرف طريق المنزل. وها أنا في طلبه إلى يومنا هذا!».
٭ كاتب تونسي
معاصرنا ابن سودون: حزّرْ، فزّرْ | منصف الوهايبي
كان أوّل ما سمعت بابن سودون المصري (ولد في القاهرة 1407 وتوفي في دمشق 1463)، عام 1973 في مؤتمر الأدباء العرب الذي انعقد في تونس، في أمسية قرأ فيها الشاعر السوري فايز خضّور قصيدة لا أتذكّر عنوانها؛ وظّ