[3]
الوجود في العالم
((تنويه: الدازاين Dasein معناه "الوجود-هناك" في العالَم))
كيف قَلَبَ هيدغر ديكارت رأساً على عَقِب: لنكون أولاً، ثمّ نفكّر بعدها.
تحدّثتُ في مقالتي الأولى[1] عن محاولة هيدغر هدم ألفاظنا ومصطلحاتنا الفلسفية التقليدية المألوفة، واستبدالها بشيء آخر جديد تماماً. أمّا ما يسعى هيدغر بالتحديد لهدمه فهو ذلك التصوّر الشائع في الفكر الفلسفي للعلاقة بين الإنسان والعالم. ذلك التصوّر الذي أدخَلَهُ الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (طبعاً ديكارت هو المتّهم الرئيسي الذي يقف على منصّة الاتهام في هذا الكتاب). باختصار شديد، إنّها الفكرة التي تقول أنّ هناك نوعان من الجواهر في هذا العالم: الأشياء المفكّرة والواعية مثلنا نحن البشر، والأشياء المُمتَدّة، أي ذات الامتداد في المكان كالطاولة والكرسي، وبالتأكيد كامل نسيج المكان والزمان.
إنّ العلاقة بين الأشياء المفكّرة والآشياء الممتدّة علاقة معرفة، وتكمن الوظيفة الفلسفية والعلمية في ضمان وصول الذات _كما سُميَت لاحقاً_ إلى عالم الأشياء. وهذا مايمكن أن نطلق عليه “الترجمة الأبستمولوجية” للعلاقة بين الإنسان والعالم، حيث أنّ أبستمولوجيا تعني “نظرية المعرفة”، وهيدغر لا ينفي أهمية المعرفة، بل يرفض أولويتها وأسبقيتها بكلّ بساطة. هناك وحدة عميقة سابقة لهذه الصورة الثنائية للعلاقة بين الإنسان والعالم يحاول هيدغر وضع يده عليها ضمن صيغته الشهيره: ((الدازاين هو: الوجود- في-العالم)). لكن ما الذي يعنيه بذلك؟
إذا كان الإنسان “موجوداً-في-العالم” فعلاً، عندها يستلزم ذلك أنّ العالم نفسه هو جزء من القانون الأساسي لِما يعني أن تكون إنساناً. هذا معناه: أنا لستُ ذاتاً منفصلة هائمة، أو “أنا” حرّة مستقلّة تواجه لوحدها عالَماً من الأشياء التي تقابلني وتصطفّ أمامي. بل أنا هو عالمي، على حدّ تعبير هيدغر. العالم جزءٌ مني، قطعة من كينونتي، من نسيح وجودي. يمكننا أن ندرك لُبّ فكرة هيدغر هنا بالنظر إلى الدازاين ليس كذات منفصلة عن عالم الأشياء، بل كتجربة انفتاح، حيث أنّ كينونتي غير منفصلة عن كينونة العالم. فأنا متّصل ومُتَشَرّب بعالمي، ولستُ مفصولاً عنه بنوعٍ من “العقل”، أو مايسميه هيدغر “خِزانة الوعي”.
حجّة هيدغر الأساسية في نقاشه عن العالم بكتابه “الكينونة والزمان” هي أنّ العالم يعلن عن ذاته “مبدئياً وعادةً” Zunäscht und Zumeist كشيء مفيد وفي متناول اليد، عالم التجربة الحياتية اليومية العادية والمألوفة. تفاعلي القريب مع الطاولة التي أكتب عليها هذه الكلمات ليس بوصفها شيئاً مصنوعة من مواد معروفة موجودة في العالم (خشب وحديد على سبيل المثال)، وموضوعة ضمن حيّز مكاني منتظم ومرتّب هندسياً. بل هي مجرّد طاولة أستخدمها للكتابة عليها، وهي شيء مفيد لتنظيم أوراقي فوقها، وحاسوبي الشخصي وفنجان قهوتي. ويشير هيدغر بإصرار بأنّنا يجب أن “نتجاهل ميولنا التفسيرية ونضعها جانباً، تلك الميول التي تلقي بغطائها كاملاً على كامل تجربتنا اليومية للعالم وتنزع لإضفاء صبغتها على الأشياء من حولنا”.
العالم يعجّ بالأشياء المفيدة التي تتواجد معنا ككل، وهي في متناول يدي، وذات معنى بالنسبة لي. وبصورة أكثر تبسيطاً، العالم مليء بالأشياء المترابطة فيما بينها: حاسوبي الشخصي على مكتبي، تظارتي التي تستند على أنفي، المكتب فوق الأرض، ويمكنني النظر خارج نافذة غرفتي، وأرى الحديقة وأسمع ضجيج المدينة وهدير سيارات الشرطة والإسعاف وجميع الأمور التي تشير إلى الحياة في المدينة. وهذا مايطلق عليه هيدغر اسم “البيئة/الوسط” Umwelt، حيث يحاول وصف العالم الذي يحيط بالإنسان والذي هو مغمورٌ وغارقٌ فيه بكليته.
يشير هيدغر إلى أنّ هذه التجربة المعاشة للعالم قد تمّ نسيانها أو فقدانها أو صرف النظر عنها من خلال البحث العلمي أو عن طريق فلسفة العقل التقليدية، والتي تفترض مسبقاً وجود فصل ثنائي بين العقل والواقع. كل مايتطلّبه الأمر هو نوع من الفلسفة الظاهراتية لتجاربنا الحياتية للعالم، تلك التجارب التي قد تبدو حقيقية للشخص الذي تظهر نفسها أمامه أولاً وقبل كل شيء في تجاربنا. وللتعبير عن هذه الفكرة بكلمات أخرى أبسط وأسهل على الأفهام، يمكننا القول أنّ هيدغر يحوّل التفريق المألوف بين النظرية والممارسة: تفاعلي المبدئي مع العالم ليس نظرياً، إنّه ليس تجربة أحصّلها من خلال منظاري أو مجهري أوجّهه نحو عالمٍ منزوع القيمة. بل أتفاعل مبدئياً مع هذا العالَم بصورة عملية تجريبية بصفته عالَماً من الأشياء، تلك الأشياء مفيدة وفي متناول يدي ومشبعة بالأهمية والقيمة الإنسانية. إنّ المقاربة النظرية أو العلمية إلى الأشياء الموجودة عند بعض الفلاسفة أمثال ديكارت مبنية على أساس خبرة عملية مفتونة ومهتمّة بالأشياء.
يميّز هيدغر بين نوعين من المقاربات إلى العالم، نوعين من أساليب النظر إلى العالم وتجربته: تجربة المُثول Vorhandenheit، وتجربة الخبرة Zuhandenheit. تشير تجربة المثول إلى مقاربتنا النظرية لعالم مكوّن من أشياء. إنّه النظرة إلى العالم التي ينطلق منها العلم. أمّا تجربة الخبرة فتصف علاقتنا العملية بالأشياء المفيدة لنا والتي بمتناولنا. يقول هيدغر أنّ الخبرة أو الممارسة Practice تسبق النظرية Theory. وأنّ الخبرة تسبق المثول. ومشكلة أغلب الفلسفات التي جاءت بعد ديكارت هي أنّها تدرك العالم بطريقة نظرية وبذلك تتخيّل، أو تتصوّر على غرار يكارت، بأنّ الإنسان يمكنه الشكّ في وجود العالم الخارجي، بل وحتى الشك في وجود الأشخاص الموجودون فيه والذين يملأونه _فَمَنْ يدري، قد يكونون رجالاٍ آليين!.
بالنسبة لهيدغر، الأمر يجري على العكس تماماً. إنّ ماهيتنا وحقيقتنا ككائنات بشرية مرتبطة ومترابطة فيما بينها عبر شبكة معقدة من النشاطات والممارسات الاجتماعية التي تشكّل العالم. العالم هو جزء من كينونتي وكينونة كل شخص فيه. بالنسبة لهيدغر، انفصال المرء عن العالم وانقطاعه عنه، كما جرى مع ديكارت، يعني فقدانه لكينونته: فنسيج انفتاحنا على العالم هو كلٌ شاملٌ. ولاينبغي تقسيم ذلك الكل وتقطيع أوصاله. أضِف إلى ذلك، العالم ليس مليئاً فقط بأشياء مفيدة ذات معنى بكل هذه البساطة، إنّما مليء بالناس/الأشخاص. إذا كنتَ جزءاً متّصلاً بعالمي، عندها سيكون هذا العالم عالماً مشتركاً أختبره وأعيش تجاربه مع آخرين. وهذا ما يطلق عليه هيدغر “الوجود-مع” Mitsein.
===============
الوجود في العالم
((تنويه: الدازاين Dasein معناه "الوجود-هناك" في العالَم))
كيف قَلَبَ هيدغر ديكارت رأساً على عَقِب: لنكون أولاً، ثمّ نفكّر بعدها.
تحدّثتُ في مقالتي الأولى[1] عن محاولة هيدغر هدم ألفاظنا ومصطلحاتنا الفلسفية التقليدية المألوفة، واستبدالها بشيء آخر جديد تماماً. أمّا ما يسعى هيدغر بالتحديد لهدمه فهو ذلك التصوّر الشائع في الفكر الفلسفي للعلاقة بين الإنسان والعالم. ذلك التصوّر الذي أدخَلَهُ الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (طبعاً ديكارت هو المتّهم الرئيسي الذي يقف على منصّة الاتهام في هذا الكتاب). باختصار شديد، إنّها الفكرة التي تقول أنّ هناك نوعان من الجواهر في هذا العالم: الأشياء المفكّرة والواعية مثلنا نحن البشر، والأشياء المُمتَدّة، أي ذات الامتداد في المكان كالطاولة والكرسي، وبالتأكيد كامل نسيج المكان والزمان.
إنّ العلاقة بين الأشياء المفكّرة والآشياء الممتدّة علاقة معرفة، وتكمن الوظيفة الفلسفية والعلمية في ضمان وصول الذات _كما سُميَت لاحقاً_ إلى عالم الأشياء. وهذا مايمكن أن نطلق عليه “الترجمة الأبستمولوجية” للعلاقة بين الإنسان والعالم، حيث أنّ أبستمولوجيا تعني “نظرية المعرفة”، وهيدغر لا ينفي أهمية المعرفة، بل يرفض أولويتها وأسبقيتها بكلّ بساطة. هناك وحدة عميقة سابقة لهذه الصورة الثنائية للعلاقة بين الإنسان والعالم يحاول هيدغر وضع يده عليها ضمن صيغته الشهيره: ((الدازاين هو: الوجود- في-العالم)). لكن ما الذي يعنيه بذلك؟
إذا كان الإنسان “موجوداً-في-العالم” فعلاً، عندها يستلزم ذلك أنّ العالم نفسه هو جزء من القانون الأساسي لِما يعني أن تكون إنساناً. هذا معناه: أنا لستُ ذاتاً منفصلة هائمة، أو “أنا” حرّة مستقلّة تواجه لوحدها عالَماً من الأشياء التي تقابلني وتصطفّ أمامي. بل أنا هو عالمي، على حدّ تعبير هيدغر. العالم جزءٌ مني، قطعة من كينونتي، من نسيح وجودي. يمكننا أن ندرك لُبّ فكرة هيدغر هنا بالنظر إلى الدازاين ليس كذات منفصلة عن عالم الأشياء، بل كتجربة انفتاح، حيث أنّ كينونتي غير منفصلة عن كينونة العالم. فأنا متّصل ومُتَشَرّب بعالمي، ولستُ مفصولاً عنه بنوعٍ من “العقل”، أو مايسميه هيدغر “خِزانة الوعي”.
حجّة هيدغر الأساسية في نقاشه عن العالم بكتابه “الكينونة والزمان” هي أنّ العالم يعلن عن ذاته “مبدئياً وعادةً” Zunäscht und Zumeist كشيء مفيد وفي متناول اليد، عالم التجربة الحياتية اليومية العادية والمألوفة. تفاعلي القريب مع الطاولة التي أكتب عليها هذه الكلمات ليس بوصفها شيئاً مصنوعة من مواد معروفة موجودة في العالم (خشب وحديد على سبيل المثال)، وموضوعة ضمن حيّز مكاني منتظم ومرتّب هندسياً. بل هي مجرّد طاولة أستخدمها للكتابة عليها، وهي شيء مفيد لتنظيم أوراقي فوقها، وحاسوبي الشخصي وفنجان قهوتي. ويشير هيدغر بإصرار بأنّنا يجب أن “نتجاهل ميولنا التفسيرية ونضعها جانباً، تلك الميول التي تلقي بغطائها كاملاً على كامل تجربتنا اليومية للعالم وتنزع لإضفاء صبغتها على الأشياء من حولنا”.
العالم يعجّ بالأشياء المفيدة التي تتواجد معنا ككل، وهي في متناول يدي، وذات معنى بالنسبة لي. وبصورة أكثر تبسيطاً، العالم مليء بالأشياء المترابطة فيما بينها: حاسوبي الشخصي على مكتبي، تظارتي التي تستند على أنفي، المكتب فوق الأرض، ويمكنني النظر خارج نافذة غرفتي، وأرى الحديقة وأسمع ضجيج المدينة وهدير سيارات الشرطة والإسعاف وجميع الأمور التي تشير إلى الحياة في المدينة. وهذا مايطلق عليه هيدغر اسم “البيئة/الوسط” Umwelt، حيث يحاول وصف العالم الذي يحيط بالإنسان والذي هو مغمورٌ وغارقٌ فيه بكليته.
يشير هيدغر إلى أنّ هذه التجربة المعاشة للعالم قد تمّ نسيانها أو فقدانها أو صرف النظر عنها من خلال البحث العلمي أو عن طريق فلسفة العقل التقليدية، والتي تفترض مسبقاً وجود فصل ثنائي بين العقل والواقع. كل مايتطلّبه الأمر هو نوع من الفلسفة الظاهراتية لتجاربنا الحياتية للعالم، تلك التجارب التي قد تبدو حقيقية للشخص الذي تظهر نفسها أمامه أولاً وقبل كل شيء في تجاربنا. وللتعبير عن هذه الفكرة بكلمات أخرى أبسط وأسهل على الأفهام، يمكننا القول أنّ هيدغر يحوّل التفريق المألوف بين النظرية والممارسة: تفاعلي المبدئي مع العالم ليس نظرياً، إنّه ليس تجربة أحصّلها من خلال منظاري أو مجهري أوجّهه نحو عالمٍ منزوع القيمة. بل أتفاعل مبدئياً مع هذا العالَم بصورة عملية تجريبية بصفته عالَماً من الأشياء، تلك الأشياء مفيدة وفي متناول يدي ومشبعة بالأهمية والقيمة الإنسانية. إنّ المقاربة النظرية أو العلمية إلى الأشياء الموجودة عند بعض الفلاسفة أمثال ديكارت مبنية على أساس خبرة عملية مفتونة ومهتمّة بالأشياء.
يميّز هيدغر بين نوعين من المقاربات إلى العالم، نوعين من أساليب النظر إلى العالم وتجربته: تجربة المُثول Vorhandenheit، وتجربة الخبرة Zuhandenheit. تشير تجربة المثول إلى مقاربتنا النظرية لعالم مكوّن من أشياء. إنّه النظرة إلى العالم التي ينطلق منها العلم. أمّا تجربة الخبرة فتصف علاقتنا العملية بالأشياء المفيدة لنا والتي بمتناولنا. يقول هيدغر أنّ الخبرة أو الممارسة Practice تسبق النظرية Theory. وأنّ الخبرة تسبق المثول. ومشكلة أغلب الفلسفات التي جاءت بعد ديكارت هي أنّها تدرك العالم بطريقة نظرية وبذلك تتخيّل، أو تتصوّر على غرار يكارت، بأنّ الإنسان يمكنه الشكّ في وجود العالم الخارجي، بل وحتى الشك في وجود الأشخاص الموجودون فيه والذين يملأونه _فَمَنْ يدري، قد يكونون رجالاٍ آليين!.
بالنسبة لهيدغر، الأمر يجري على العكس تماماً. إنّ ماهيتنا وحقيقتنا ككائنات بشرية مرتبطة ومترابطة فيما بينها عبر شبكة معقدة من النشاطات والممارسات الاجتماعية التي تشكّل العالم. العالم هو جزء من كينونتي وكينونة كل شخص فيه. بالنسبة لهيدغر، انفصال المرء عن العالم وانقطاعه عنه، كما جرى مع ديكارت، يعني فقدانه لكينونته: فنسيج انفتاحنا على العالم هو كلٌ شاملٌ. ولاينبغي تقسيم ذلك الكل وتقطيع أوصاله. أضِف إلى ذلك، العالم ليس مليئاً فقط بأشياء مفيدة ذات معنى بكل هذه البساطة، إنّما مليء بالناس/الأشخاص. إذا كنتَ جزءاً متّصلاً بعالمي، عندها سيكون هذا العالم عالماً مشتركاً أختبره وأعيش تجاربه مع آخرين. وهذا ما يطلق عليه هيدغر “الوجود-مع” Mitsein.
===============