الباب متهالك تملأه الشقوق والثقوب، تمايلت الواح الخشب فيه كما راق وسمح الزمن لها. كل الوانه تنوعات للَّون الرمادي، فهنا رمادي داكن يميل للسواد، وهناك رمادي فاتح كالفضة، لا مقبض له ولا مزلاج، ولا تميزه لافتة او كتابة، باب لا يختلف عن معظم أبواب بيوت تلك الحارة التي يقصدها بخطى تكاد تكون واثقة، يفتحه ريحٌ وتوشك أن توصده نسمة هواء.
في نزوله، متجها صوب ذلك الباب بعينه، لا يشوب يقينه شك أو تردد في انه مقصده ومراده، وثبت لفكره عبارة قديمة، لا يذكر من رددها على سمعه مرارا: "لا أسهل من باب نصف مغلق"، ومن خلفه، على بعد أمتار معدودة، امرأة تتتبع خطاه ببطء وحذر خشية تورط كعب حذائها العالي في شقوق الطريق. غلّف مسيرتهما صمت، لم يبدده حديث أو نداء أو ضجيج الحارة التي بدت خالية من أهلها.
عند وصوله مشارف البيت المقصود، ومن خلال شقوق بابه الرمادي، تراءى له مشهد يختلف كثيرا عما كاد يجزم من قبل أنه يعرفه يقينا، فمن خلف الباب، تستقبله درجات سُلّم قصير تؤدي الى عمق الدار، ويُرَى، دون شك، ضوء النهار المنبعث بغضب من شرفةٍ ونوافذٍ من الاسمنت المسلح تطل على وادٍ رملي سحيق.
انفتح الباب بقسوة، وباهتته امرأة في الأربعين تدعوه للدخول، بابتسامة تعودتْ عليها، تحمل بين يديها صاجا تراصت فيه قضبان من لحم ابيض، أعدته لتوها لتلقي به في نار فرن ما. أما هو، فلم يبد عليه فزع او إحراج. التفَتَ للخلف بهدوء، محاولًا، بيديه وكتفيه وايماءات وجهه، أن يُبين لتلك التي تابعته، أن شيئا ما لم يستقم في مقصده، وأن الدار ليست نفس الدار التي رامها عند بدء مسيرته، وأن المرأة، صاحبة الدار، غريبة لم يعرفها من قبل، بالرغم من كل ما ابدته من كرم وجلال ضيافة، إلا أن تابعته كانت قد جلست القرفصاء، عن بعد، على واحدة من أواخر درجات الحارة، تنظر الى قدميها وتتحسس ساقيها، متجاهلة ما يحدث على بعد أمتار منها، لا تدركها إشاراته ولا يصلها تلويحه.
في انزلاقه للداخل، رغما عن كل ما صورته له أوهامه من قدرة على التحكم في قراراته ومصيره، احتوته بين جناحيها غُمة يعرفها من زمن سحيق، يضيق بها صدره وتضطرب لها أنفاسه، غير أن شيئا من هذا لم يمنع انزلاقه اللاإرادي الي حيث هدته ربة البيت، وهي تردد بصوت واثق صريح:
- لا يصح الا الصحيح، تعالَ، تعالَ واسمع ممن ينتظر منك السمع ولا يرتقب الطاعة، من يتمنى لك أن ترى لا أن تنظر
- عفوا، أليس هذا دار م...
لم تدعه المرأة ليكمل ما شرع في نطقه، وولت عنه بصاجها الكبير، مرددة:
- وما أهمية ذلك؟ ما أهمية ذلك يا عزيزي؟ انت هنا، وهذا كل ما في الأمر
لم يجد في نفسه رغبة في جدل، فقد كانت كلماتها أمرا لا عرضا، وغدا قبوله رغبة لا حاجة، يعلم في ذاته تأخره عن موعد قديم في مكان لا يبدو صحيحا، واحتوته دائرة زمن تفوق سرعتها ما اعتادت عليه اطرافه وخلاياه، إلا انه، في نفس الوقت، كان قادرا على التقاط وفهم واستيعاب كم هائل من المشاهد والاصوات والالحان التي بدأت تقذف بنفسها في مجاله، وبدا، بعكس ما عهد من نفسه، متمهلا رزينا يُنحي خوفه جانبا، كلما لاح له خوفٌ، وكأنه يهش على ذباب واهن في تصميمه. ترك لقدميه القرار والقى بيديه لتلامسا فخذيه بالكاد في مسيرة حذرة حينا وطائشة حينا، حتى وصل للغرفة الوسطى التي برزت امامه تعج بالكثيرين، اضواؤها لا تستقر على شدة او خفوت او لون.
عدد مَنْ تواجد في الغرفة، وجلبته وتحركاته العصبية السريعة، يتناقض وهدوء الحارة، يتناقض وسكون صدر البيت عند بابه الخشبي، كأن شيئا لم يره، ولا يراه، قد عزل سمعه وبصره حتى الآن عن هذا الحشد القريب.
تعرف، بين الوجوه، على وجهي أخيه واخته، وأنكر ما تبقى من الحاضرين، بعد أن حاول عبثا أن يحيط بعددهم خبرا، فأغلب الوجوه تتغير ملامحها بين لحظة وأخرى، وتتراقص الرؤوس بين قائم وقاعد كأمواج بحيرة جن جنونها. وفجأة، تسمرت عيناه على صاحبة رداء بني قد سكنت ركنا بعيدا عن الحشد، يميزها ثوبها، كما ميزها سكونها وإيمانه بمعرفته بها دون أن يعلم لصلتهما بداية أو اصلا. تحدثه نفسه، فقط، أنهما حميمان، وإن لم يتذكر من ماضيهما شيئا، وإن كان لسانه قد تعثر في النطق باسمها، فخطواته لم تتعثر في السعي والوصول اليها في طرفة عين، ليتلقفها بين ذراعيه محتضنا إياها بشوق اختزنته عاطفته عشرات السنين، يلثم جيدها حينا، وشفتيها حينا آخر فيسكر بلذة لم يعرفها ابدا، ويجن لها شوقا كلما طال أمد وصالهما.
همس في اذنها، بتوسل من يشرف على الغرق، أن تعده بالبقاء، أو ان تعاهده على لقاء. أنفاسها فقط كانت كل ما يصل اليه، ومن أنفاسها التي هدهدت عنقه وصدره، أحس بانتمائها غير المشروط له، وانتمائه الازلي لها، فاكتست روحه بالسكينة، واستكان بدنه باطمئنان. لم يمتنع عن أي سلوك مألوف أو داهمٍ معها، ولم يدرك كم طال بهما اللقاء قبل أن تخترق سمعه صيحة تردد اسمه مرارا وتكرارا، حاملة بين موجاتها تأنيبا ولوما كثيرا، فقد حانت ساعة الرحيل.
نظر لوجه صاحبته، كي يرسم ملامحها في ذاكرته رسما لا ينمحي ولا يزول، وتحسس بكفيه ردائها، يمتص منه وجودها، لينقله، عبر شرايينه واعصابه، الى جوف كيانه وشعوره، ليبقى خالدا ابدا فيهما، ثم التفت بيأس صوب المنادي، ليجد ربة الدار وقد توسطت الغرفة التي رحل عنها كل حي يسعى، تقول كأنها تهمس:
- ستسمع النداء كلما اردت انت ذلك، ستصعب عليك مقاومته، إلا أن ايامك لن تكون كتلك التي اعتدت عليها
خرج، بخطوات طائرة، عبر الباب الرمادي المتهالك، وهناك، على بعد أمتار منه، لم تزل تابعته، تدلك ساقيها وتنظر الى قدميها، هاتفة بضيق: "هل وصلنا؟ لقد أنهكني السير"، وفي الناحية الأخرى، هناك، قرب زوال البصر، التقط طرفه شبحا يأفل، لامرأة ذات رداء بني تشير بسبابتها، بحركات دائرية، أن لهما عودة، وابتسم بشجن وأسى.
في نزوله، متجها صوب ذلك الباب بعينه، لا يشوب يقينه شك أو تردد في انه مقصده ومراده، وثبت لفكره عبارة قديمة، لا يذكر من رددها على سمعه مرارا: "لا أسهل من باب نصف مغلق"، ومن خلفه، على بعد أمتار معدودة، امرأة تتتبع خطاه ببطء وحذر خشية تورط كعب حذائها العالي في شقوق الطريق. غلّف مسيرتهما صمت، لم يبدده حديث أو نداء أو ضجيج الحارة التي بدت خالية من أهلها.
عند وصوله مشارف البيت المقصود، ومن خلال شقوق بابه الرمادي، تراءى له مشهد يختلف كثيرا عما كاد يجزم من قبل أنه يعرفه يقينا، فمن خلف الباب، تستقبله درجات سُلّم قصير تؤدي الى عمق الدار، ويُرَى، دون شك، ضوء النهار المنبعث بغضب من شرفةٍ ونوافذٍ من الاسمنت المسلح تطل على وادٍ رملي سحيق.
انفتح الباب بقسوة، وباهتته امرأة في الأربعين تدعوه للدخول، بابتسامة تعودتْ عليها، تحمل بين يديها صاجا تراصت فيه قضبان من لحم ابيض، أعدته لتوها لتلقي به في نار فرن ما. أما هو، فلم يبد عليه فزع او إحراج. التفَتَ للخلف بهدوء، محاولًا، بيديه وكتفيه وايماءات وجهه، أن يُبين لتلك التي تابعته، أن شيئا ما لم يستقم في مقصده، وأن الدار ليست نفس الدار التي رامها عند بدء مسيرته، وأن المرأة، صاحبة الدار، غريبة لم يعرفها من قبل، بالرغم من كل ما ابدته من كرم وجلال ضيافة، إلا أن تابعته كانت قد جلست القرفصاء، عن بعد، على واحدة من أواخر درجات الحارة، تنظر الى قدميها وتتحسس ساقيها، متجاهلة ما يحدث على بعد أمتار منها، لا تدركها إشاراته ولا يصلها تلويحه.
في انزلاقه للداخل، رغما عن كل ما صورته له أوهامه من قدرة على التحكم في قراراته ومصيره، احتوته بين جناحيها غُمة يعرفها من زمن سحيق، يضيق بها صدره وتضطرب لها أنفاسه، غير أن شيئا من هذا لم يمنع انزلاقه اللاإرادي الي حيث هدته ربة البيت، وهي تردد بصوت واثق صريح:
- لا يصح الا الصحيح، تعالَ، تعالَ واسمع ممن ينتظر منك السمع ولا يرتقب الطاعة، من يتمنى لك أن ترى لا أن تنظر
- عفوا، أليس هذا دار م...
لم تدعه المرأة ليكمل ما شرع في نطقه، وولت عنه بصاجها الكبير، مرددة:
- وما أهمية ذلك؟ ما أهمية ذلك يا عزيزي؟ انت هنا، وهذا كل ما في الأمر
لم يجد في نفسه رغبة في جدل، فقد كانت كلماتها أمرا لا عرضا، وغدا قبوله رغبة لا حاجة، يعلم في ذاته تأخره عن موعد قديم في مكان لا يبدو صحيحا، واحتوته دائرة زمن تفوق سرعتها ما اعتادت عليه اطرافه وخلاياه، إلا انه، في نفس الوقت، كان قادرا على التقاط وفهم واستيعاب كم هائل من المشاهد والاصوات والالحان التي بدأت تقذف بنفسها في مجاله، وبدا، بعكس ما عهد من نفسه، متمهلا رزينا يُنحي خوفه جانبا، كلما لاح له خوفٌ، وكأنه يهش على ذباب واهن في تصميمه. ترك لقدميه القرار والقى بيديه لتلامسا فخذيه بالكاد في مسيرة حذرة حينا وطائشة حينا، حتى وصل للغرفة الوسطى التي برزت امامه تعج بالكثيرين، اضواؤها لا تستقر على شدة او خفوت او لون.
عدد مَنْ تواجد في الغرفة، وجلبته وتحركاته العصبية السريعة، يتناقض وهدوء الحارة، يتناقض وسكون صدر البيت عند بابه الخشبي، كأن شيئا لم يره، ولا يراه، قد عزل سمعه وبصره حتى الآن عن هذا الحشد القريب.
تعرف، بين الوجوه، على وجهي أخيه واخته، وأنكر ما تبقى من الحاضرين، بعد أن حاول عبثا أن يحيط بعددهم خبرا، فأغلب الوجوه تتغير ملامحها بين لحظة وأخرى، وتتراقص الرؤوس بين قائم وقاعد كأمواج بحيرة جن جنونها. وفجأة، تسمرت عيناه على صاحبة رداء بني قد سكنت ركنا بعيدا عن الحشد، يميزها ثوبها، كما ميزها سكونها وإيمانه بمعرفته بها دون أن يعلم لصلتهما بداية أو اصلا. تحدثه نفسه، فقط، أنهما حميمان، وإن لم يتذكر من ماضيهما شيئا، وإن كان لسانه قد تعثر في النطق باسمها، فخطواته لم تتعثر في السعي والوصول اليها في طرفة عين، ليتلقفها بين ذراعيه محتضنا إياها بشوق اختزنته عاطفته عشرات السنين، يلثم جيدها حينا، وشفتيها حينا آخر فيسكر بلذة لم يعرفها ابدا، ويجن لها شوقا كلما طال أمد وصالهما.
همس في اذنها، بتوسل من يشرف على الغرق، أن تعده بالبقاء، أو ان تعاهده على لقاء. أنفاسها فقط كانت كل ما يصل اليه، ومن أنفاسها التي هدهدت عنقه وصدره، أحس بانتمائها غير المشروط له، وانتمائه الازلي لها، فاكتست روحه بالسكينة، واستكان بدنه باطمئنان. لم يمتنع عن أي سلوك مألوف أو داهمٍ معها، ولم يدرك كم طال بهما اللقاء قبل أن تخترق سمعه صيحة تردد اسمه مرارا وتكرارا، حاملة بين موجاتها تأنيبا ولوما كثيرا، فقد حانت ساعة الرحيل.
نظر لوجه صاحبته، كي يرسم ملامحها في ذاكرته رسما لا ينمحي ولا يزول، وتحسس بكفيه ردائها، يمتص منه وجودها، لينقله، عبر شرايينه واعصابه، الى جوف كيانه وشعوره، ليبقى خالدا ابدا فيهما، ثم التفت بيأس صوب المنادي، ليجد ربة الدار وقد توسطت الغرفة التي رحل عنها كل حي يسعى، تقول كأنها تهمس:
- ستسمع النداء كلما اردت انت ذلك، ستصعب عليك مقاومته، إلا أن ايامك لن تكون كتلك التي اعتدت عليها
خرج، بخطوات طائرة، عبر الباب الرمادي المتهالك، وهناك، على بعد أمتار منه، لم تزل تابعته، تدلك ساقيها وتنظر الى قدميها، هاتفة بضيق: "هل وصلنا؟ لقد أنهكني السير"، وفي الناحية الأخرى، هناك، قرب زوال البصر، التقط طرفه شبحا يأفل، لامرأة ذات رداء بني تشير بسبابتها، بحركات دائرية، أن لهما عودة، وابتسم بشجن وأسى.