لقد أطل الخريف، على تلك الغابة المعزولة في الوسط، محاطة بالأدغال، تشبه قصعة تكالب عليها كلاب برية، عندما لم تجد فرائس لتشبع مسغبتها، أو ربما اجتياحها من طبيعتها، هجومها كائن سواء بتلك أو بتلك. عند الإطلالة ألف تشتتا في صلة الرحم، وفوضى في عرى المودة، وقلاقل في الأوراق، وتمردا في الأغصان، وانقلابا في الجذوع و...وحتى الجذور لم تسلم، فقال: ألهذا أتيت؟
أغصان الأشجار تذبل من تجعدها، وتمردها على قانون الأدغال، حتى أصابها النخر رويدا رويدا، هكذا هي سترحل ثم تودع الأوراق باكية، أوراقها كذلك آيلة للسقوط، تستعد لتيبسها على الثرى الذي يمد يداه، وكأنما يناديها ليحتضنها شوقا، بعد غياب طويل، وكأنه أم فارهة باللقاء. الفراشات تجمع أجنحتها لترحل، مخلفة رحيق الورد يتناثر هباء، العصافير تترك أعشاشها راحلة ململمة ما تعلق بريشها من بقايا الزمان الجميل، الحياة الخضراء تصفر حزنا، لأنها سوف ترحل، وتحل مكانها حياة ذهبية في اسمها، وحزينة في سرها
وتبقى شجرة وحيدة لا ترحل، وهي تعاني حزنها. يقطنها عصفور هو كذلك لا يريد أن يرحل، ليس له مكان في هذا العالم، يريد أن يقاسمها السراء والضراء
عندما أتى الربيع من شرفة السماء، حاملا معه بعض النسائم في محفظته، يفرقها كرسائل إلى أصحابها، يضع رسالة محكمة الإغلاق، عند أسفل الشجرة التي لم يبق منها إلا اسمها، خط على يافطة، عند جذعها في البستان المجاور للغابة المهجورة. ثم رحل متجها إلى ذلك العصفور الحزين، الذي يحمل في قلبه هما لمملكته التي تفرغ شيئا فشيئا... طرق الربيع بابا في قنه، أطل العصفور برفق، ثم مد له رسالته في كتاب مختوم، وظل واقفا ينتظر أن يُفض الكتاب ليُعلم ما فيه… لكن العصفور لم يبال، تريث قليلا وهو شاردُ الذهن، يفكر في محتواها
فقال له الربيع مقاطعا شروده: هلا قرأت ما في الرسالة؟
!قال: وهل الرسائل تقرأ على سُعاتها؟
. قال: اللهم نعم، إذا كانت الرسالة سرية تُحمل عبر القلوب، وأنا جئتك بكتاب خاص
استغرب العصفور، وفض الكتاب فلم يجد أية رسالة (…)!! فعلم أن الرسالة شفاهية
!!فقال: كتاب أحكم إغلاقه فارغا
،قال الربيع هو كذلك، لنجعل رسالتنا سرية كي لا يفتضح أمرها، إذا قدر لها الضياع أو السرقة أو... و تحمل شفاهيا كي لا يطلع عليها جن فيفسدها، ولا عبد فيكشفها ولا خائن فيبيعها، ولا سلطان فيَهتكها
هي من فصل الصيف، يصف لك فيها أحوال الغابات في العهد القديم
قال: كيف يصف لي أحوالا من العهد قديم، ولم يبق منه إلا الرسوم الزائفة ممزوجة بالحق؟
ثم اقترب قائلا: أوليس الصيف يدور عبر الأزمنة منذ أمد بعيد؟! أولم يحمل معه ما تبقى من خبر دفين، وسر غامض من أغصان وأوراق، لم تبل ولم تموت؟! تمتم العصفور بكلمات لم يسمع منها سوى (ش د)... ثم تمتم الرسول في أذنه بكلمات، تفهّم العصفور فحوى الرسالة، زقزق فرحا وودع الشجرة قائلا: لو كان لك جناحان لطرت معي إلى خط شرقي