محمود الصباغ - حواري مصر: درب شكمبة* وسويقة اللا لا**

"ورّينا القوّة
يا ابني انت وْهُوّا
مين عنده مروّة، وعامللي فتوّة
يقدر بقدارة على زقّ الطّارة
ويفرقع بمبة
--وسع وسع وسع وسع
أنا أزق الطارة.. ‏وأضرب 100 بمبة
ده انا لُسطى عمارة من درب شكمبة
‏صيتي من القلعة
-مِ القلعة
--لسويقة اللالا..
-لا لا لالا..
--صيتي من القلعة لسويقة اللالا ...أنا واخد السمعة
-طب يلا تعالا
--لايا عم سعيدة
-هاأو
--دي البدلة جديدة
-ههههأه سعيدة .. يا بو بدلة جديدة"
......
تلك كلمات خطّها صلاح جاهين ولحّنها سيد مكاوي فيما يعرف بأوبريت الليلة الكبيرة (عرضت أول مرة في الفاتح من أيار/مايو 1961)، ومن ينسى(من أبناء جيلي على الأقل) مجاز "الأسطى عمارة" الذي هو من درب شكمبة و"فشخرته ***" الفارغة واستعراضه الأجوف المُخالف للواقع والوقائع.
تعتبر الموالد ظاهرة قديمة في المدن والأحياء المصرية والعربية، وكان القصد منها الاحتفال بالأولياء والرجال المباركين، فكان الناس يجتمعون أمام ضريح أو مقام أو زاوية الوليّ الصالح ذو الكرامات والنذور قادمين من المدن البعيدة والقريبة ومن الأحياء المختلفة، ويكون الاحتفال مناسبة للتجارة والتسوق والتعارف****، وفي المولد تنشط عروض مسرح العرائس حيث نتعرف على الأسطى "القبضاي" والأراجوز وبائع الحمص وبائع البخت وصبي القهوة والمعلم وابن الريف ومروض الأسود والمصوراتي ومعلن السيرك والمنشد.. يعني الشرائح الشعبية المختلفة.
الصورة: درب شكمبة في القاهرة القديمة.
‏.........
* الدرب لغةً يعني المضيق في الجبال والمدخل الضيق، وهو كل طريق يؤدي إلى ظاهر البلد، والدرب باب السكة الواسع، وهو الباب الأكبر، والمعنى واحد. ودرب شكمبة يقع ضمن شارع ضيق يدعى شارع السد ويبعد أمتار قليلة عن مسجد السيدة زينب في قلب القاهرة الفاطمية ويمتاز ببيوته القديمة ذات المشربيات المعدنية والبوابات الخشبية الضخمة، وأول عهد درب شكمبة أنه كان سكناً لعليّة القوم، واسمه يعود إلى شكمبة باشا أحد الباشوات الأتراك المقربين من حاشية الملك فاروق، والذي كان له منزلاً هناك (لم يعد قائماً الآن)، كما سكن الدرب أيضاً الباشا أحمد آغا قاميش أحد مسؤولي حرملك الملك فاروق وكان يقطن بدارة (فيلا) قريبة من منزل شكمبة باشا. واشتهر درب شكمبة بوجود عدد من الحمّامات البلدية، وأشهرها حمّام شكمبة. ومما يجدر ذكره أن اسم شكمبة يتطابق مع نوع من الطعام منتشرعلى ضفاف المتوسط شمالاً وجنوباً، ففي تونس ثمة طبق يعرف باسم “الشمنكة” يتم إعداده في أيام عيد الأضحى ومشهور لدى يهود تونس أيضاً، وقوامه الأساسي مرق بالكرش البقري أوالخروف والفلفل الأحمر المجفّف والثوم والتوابل والبندورة، والكلمة التونسية قد تكون تحريف للأكلة التركية işkembe çorbası (بمعنى شوربة شكمبة)، أما في الشرق الجزائري "مدينة عنّابة" فتعرف باسم "الشكمبة" وفي مصر تسمى "شوربة الشكمبة" كما هو حال الكلمة التركية تماماً، كما تحمل أسماء قريبة مشابهة في دول البلقان التي كانت خاضعة للاحتلال العثماني فهي في بلغاريا shkembe-chorba وفي صربيا Škembići، وربما يكون أصل شكمبة فارسي من "اشكنبه" بمعنى "المعدة الثالثة عند الحيوانات المجترة " - من كلمة اشكم (شكم) بمعنى الكرش.
**سويقة اللالا: هي تصغير لكلمة سوق، والسويقة كاسم مكان اشتهر في عدة بلدان عربية بحكم الدلالة الوظيفية، ففي دمشق ثمة شارع في قلب حي الميدان يدعى السويقة يتم الوصول إليه من المنفذ الشمالي لباب المصلى، وفي تونس حي باب سويقة هو أحد الأحياء الشعبية بالعاصمة، ويُنسب اسم الحي لأحد أبواب مدينة تونس العتيقة (تعرّض للهدم سنة 1861)، وهناك حي السويقة في مدينة قسنطينة الجزائرية. وحي السويقة في مدينة شفشاون المغربية الذي يعد من أقدم أحيائها وهو موطن العديد من العائلات الأندلسية؛ وكذلك حي السويقة في تطوان في المغرب وحي السويقة في تلمسان في الجزائر أيضاً، وكذلك هناك أحياء السويقة في مكة والطائف وغيرها من الحواضر العربية.
ودعيت سويقة اللالا بهذا الاسم نسبة إلى "الست صفية اللالا" التي كانت مربية لأولاد الملوك والأمراء في تلك الحارة، وكلمة اللالا باللغة التركية تعني المربي أوالمعلم. ومازال في الحارة ثمة زاوية تسمى "صفية اللالا" حيث دفنت بها لالا صفية بجوار جدها عبدالجليل بيك في العام 1295م، وكان يُقام لها احتفال يشبه المولد كل عام، (لم يعد سكان السويقة يحتفلون بالست لالا صفية في الوقت الحاضر). وتقع سويقة اللالا في عطفة العراقي ويقول عنها علي مبارك في خططه أنها كانت "متخربة فجددها المرحوم عبد الجليل بك سنة 1295 هجرية، وجعل بها حنفيات وعمل بها بئراً وأقام شعائرها إلى الآن، ويعمل بها مولد كل سنة للست لالا المدفونة بها". والزائر للمكان الآن لن يعثر على تلك الزاوية المذكورة في "الخطط التوفيقية" لعلي مبارك بل سيجد زاوية أخرى جديدة، علماً أن سويقة اللالا الآن متخفية خلف عمارات شارع بورسعيد بالسيدة زينب وتقع في آخر شارع الحنفي بجوار درب الهياتم، وتنتهي بشارع الدرب الجديد، ويقع بأول الحارة مقام سيدي محمد الحلفاوي الذي يقال أنه أتى مع السيدة زينب إلى مصر، ويوجد في المقام شجرة نبق يابسة يعتقد أهل السويقة أنها تبكي كلما همَّ أحد بقطعها. وكان في الجهة المقابلة للمقام حمام تاريخي يحمل شهرة واسعة بين سكان الحارة باسم حمام الشيخ علي، تهدمت جدرانه ويقع في مكانه الآن عمارة سكنية.
يعود تاريخ السويقة للقرن السادس عشر، حيث كان يوجد في أحد عطفاتها مسجد داود باشا، الذي تعرض للتلف والتصدع إثر زلزال 1992، ولم يتم ترميمه وإصلاحه منذ ذلك الحين، ويمكن للزائر الآن أن يلاحظ وجود بوابة قديمة قرب جامع داود باشا يعلوها نحت بارز لعلم مصر القديم الأخضر، ويطلق سكان المنطقة على هذه البوابة اسم منزل داود باشا. وتقول الحكاية أن داود باشا هذا تولى وزارة مصر"والياً عثمانياً على مصر" في عهد السلطان سليمان القانوني من سنة 1538 حتى 1549، ويقول عنه أمين سامي فى كتابه (تقويم النيل): " كان يشتهر بداود باشا الخصي حيث كان من عبيد السلطان العثماني سليمان القانوني. تصدى له الشيخ أحمد بن عبدالحق شيخ الأزهر مرة وقال له: أنت لا تصلح للحكم وأنت تحت الرق وما دمت غير معتوق، فالأحكام باطلة. فهمَّ الوالي بإعدامه. ولكن منعه الجند وتعصبوا للشيخ. وبلغ الأمر السلطنة فأرسلت للوالي ورقة عتقه (مع الشكر لشيخ الأزهر)". وثمة من يردد من أهل الحارة أن داود باشا هذا كان يهودياً وأسلم، وهو أول والٍ عثماني يدفن في مصر حيث أوصى بدفنه إلى جوار قبر الإمام الليث بن سعد. وظلت حارة " سويقة اللالا" مسكناً للأمراء والباشوات وعليّة القوم قبل حدوث النهضة العمرانية فى أواخر القرن التاسع عشر في عهد الخديوي اسماعيل، ومن سكّانها الأمير أصلان باشا، والأمير حسين باشا الطوبجي، وكذلك إبراهيم باشا أدهم مؤسس الصناعة العسكرية الحديثة في مصر، الذي يقول عنه عبد الرحمن الرافعي" كان في مقدمة الضباط الأكفاء الذين نهضوا بالمدفعية المصرية، وأنه تولى إدارة المهمات الحربية، وأسس دار صناعة ترسانة القلعة لصنع الأسلحة وصب المدافع". ومن أشهر من سكنوا السويقة العالم اللغوي "مرتضى الزبيدي" مؤلف أضخم قاموس في اللغة العريية " تاج العروس من جواهر القاموس"، وقد مات بمنزله فى سويقة اللالا بالطاعون سنة 1790م. ويقول الجبرتي للتدليل على مكانة سويقة اللالا في عصر الزبيدي أن هذا الأخير "قد تحسنت أحواله المادية بعد تصنيفه كتاب تاج العروس، فانتقل في أوائل سنة 1189 هجرية من منزله في عطفة الغسال بخط سويقة المظفر إلى منزل بسويقة اللالا تجاه جامع محرم أفندي، وكان هذا حياً يسكن فيه الأعيان والأثرياء"
***يقول المصريون في محكم أمثالهم: "بتحب المنظرة وتموت في الفشخره ".. و"الفشخرة جايبانا ورا"؛ ويقولون أيضاً: "قلع توب الفشخرة لبس توب المسخرة". والفشخرة- على ما يشاع- كلمة مركبة أصلها من القبطية “فاش-خارو” مشتقة من المصرية القديمة "فيش" بمعنى عريان أو فارغ و"خيروأو" بمعنى العظمة أوالتفاخر، ويصبح المعنى التفاخر الفارغ، والتباهي الذي لا أصل له. واستخدم المصريون الكلمة في الحالات المختلفة "فعل وفاعل وصفة.. إلخ" فهو متفشخر لأنه يتفشخر فشخرةً، وما أكثر الفشخرة والمتفشخرين على مر العصور والسنين، ولعل أشهر نموذج عن المتفشخرين في عصرنا، الزعيم الليبي "ملك ملوك أفريقيا" العقيد معمر القذافي الذي دفع نصف ثروة بلاده لمعاداة أمريكا ثم دفع النصف الثاني لمصالحتها، وكلنا يذكر كيف قام باتصالات مكثفة بعد الهجوم الأمريكي على العراق مباشرة للتخلص من ترسانته الكيماوية باتفاق مع منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في العام 2004 في مشهدية مثيرة للسخرية والتهكم، بقدر ما هي مثيرة للحزن والأسف.
وفي أوبريت الليلة الكبيرة يصور صلاح جاهين "الأسطى عمارة" على قاعدة "شوفوني و أنا عامل بطل"، غير أنه بطل سلبي يشبه البطل الذي ينافس عنترة على حب عبلة.. ولم تكن الاستعارة للاسم فقط بل اشتملت على مجمل القيم السلبية وصفات الخسة والنذاله مقابل قيم الشهامة والفروسية والبلاغة و الشجاعة التي يتحلى بها عنترة كفارس نبيل.
****يقول الباحث والصديق خالد أيوب Khaled Ayoub " كثيراً ما استعان المبدعون بالأسطورة والملاحم الشعبيه وسخّروا أبطالها في أعمالهم ونتاجهم الإبداعي، مثل الشاعر العظيم أمل دنقل الذي استحضر كلمة كليب ووصيته للزير (لا تصالح) " في معرض إشارته لزيارة السادات للقدس. ويطرح الأستاذ أيوب الرحابنة كمثال آخر لانتقاد الفشخرة في عرضهم لشهرزاد وشهريار واستعراضه وتباهيه كإشارة للظلم "التاريخي" الذي وقع على المرأة. ويرى الاستاذ أيوب أن احتفالات الموالد في مصر تشبه في بعض أوجهها الاحتفالات الشعبية الفلسطينية التي تسمى مواسم، مثل موسم النبي صالح وموسم النبي موسى والنبي روبين.. هذه الأعمال تشبه إلى حد ما احتفالية الليله الكبيره.. حيث يفد سكان القرى للمشاركة في احتفالات المواسم تلك بلباسهم الشعبي الخاص بمنطقتهم وأغانيهم وزوادتهم من الخصار و لفواكه وقد يتعدى الأمر ذلك ليكون "الموسم" فرصة للتعارف والحب والخطبة والزواج.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...