محمد علي الرباوي - أغـنية إلى أمِّـي..

أُمِّي..
حِينَ تَصَدَّرَ أَوْرَاقِي
ذَاتَ خَرِيفٍ رَقْمُ التَّأْجِيرِ
وَأَمْسَى
- إِمَّا ٱتَّسَقَ القَمَرُ الْعَاشِقُ
إِمَّا غَبِشَ اللَّيْلُ الْمَعْشُوقُ-
يُزَاحِمُ كُلَّ حُرُوفِ ٱسْمِي الْمَكْسُورِ
وَأَصْبَحْتُ أُنَاقِشُ جَهْراً
مَا تَحْمِلُهُ أَعْمِدَةُ الصُّحُفِ الْيَوْمِيَّةِ
قُلْتُ- وَلَوْ لَمْ يَكُ لِي
فِي الْبَنْكِ رَصِيدٌ-:
اَلْآنَ كَبِرْتُ وَصِرْتُ أَنَا رَجُلَا
****
أُمِّي..
حِينَ وَقَفْتُ أَمَامَ الطَّلَبَهْ
أَشْرَحُ أَبْيَاتَ مُعَلَّقَةٍ
وَقَّعَهَا بَيْتاً
بَيْتاً
خَلْفَ القُضْبَانِ مَسَاكِينُ بِلَادِي الْمُغْتَصَبَهْ:
هَذَا يَسْمَعُ
ذَاكَ بِعَاطِفَةٍ غَامِضَةٍ
يَتَصَفَّحُ- وَالْخَوْفُ يُمَزِّقُهُ-
قَسَمَاتِ مُحَيَّايَ الْعَاشِقِ
يُرْسِلُ نَحْوِي نَظَرَاتٍ مُكْتَئِبَهْ
وَالْآخَرُ تُشْعِلُهُ كَلِمَاتِي الْمُلْتَهِبَهْ
قُلْتُ: ٱلْآنَ كَبِرْتُ وَصِرْتُ أَنَا رَجُلَا
****
حِينَ أَيَا أُمِّي
أَصْبَحَ لِي
بَيْتٌ/ أُلْقِي جَسَدِي فِي أَحْضَانِهْ
بِنْتٌ/ تَقْتُلُ مَا فِي جَوْفِي مِنْ أَصْدَاءْ
زَوْجٌ/ أَخْزِنُ فِي قَلْبَيْهَا تَعَبِي
تُخْفِي عَنْ عَيْنَيَّ جُنُونِي/
قُلْتُ: ٱلآنَ كَبِرْتُ وَصِرْتُ أَنا رَجُلَا
****
أُمِّي..
حِينَ صَبَاحَ الْيَوْمِ حَمَلْتُ القُفَّهْ
وَخَرَجْتُ وَحِيداً يَا أُمِّ إِلَى السُّوقِ
أُصَارِعُ غَابَاتِ الْأَسْعَارِ الْمُشْتَعِلَهْ
كَانَ حِصَانِي حِيناً يَكْبُو
حِيناً يَجْفِلُ،
يَتَحَدَّى كُلَّ الْأَنْهَارِ الْمَسْعُورَهْ
..................................
أُمِّي..
حِينَ إِلَى البَيْتِ رَجَعْتُ
عَلَى فَرَسٍ بَيْضَاءَ
وَفِي القُفَّةِ أَشْجَارُ التِّينِ
وَأَشْجَارُ الزَّيْتُونِ
وَأَشْجَارُ اللَّيْمُونِ
وَأَشْجَارُ التُّفَّاحْ
كانَتْ سَارَةُ، بِنْتِي، تَتَسَلَّقُنِي
وَالْفَرْحَةُ نَشْوَى تَتَدَفَّقُ
مِنْ عَيْنَيْهَا الصَّاحِيَتَيْنْ
كَانَتْ تَقْطِفُ مِنْ أَغْصَانِي
مَا طَابَ لَهَا
مِنْ فَاكِهَةٍ رَطْبَهْ
وَتَقُولُ بِنَبْرَتِهَا الْعَذْبَهْ:
"اَلْآنَ كَبِرْتَ وَصِرْتَ، أَبِي، رَجُلَا"
حَقًّا أُمِّي
اَلْآنَ كَبِرْتُ وَصِرْتُ أَنَا رَجُلَا
****
أُمِّي
آهٍ يَا أُمِّي.. آهْ
حِينَ دَخَلْتُ أَقَالِيمَ الغُرْبَةِ يَا أُمَّاهْ
حِينَ تَمَزَّقْتُ وَعِشْتُ بَعِيداً
عَنْ عَيْنَيْكِ الْمُمْطِرَتَيْنْ
كَانَ قَلِيلاً زَادِي وَبَعِيداً سَفَرِي
وَطَرِيقِي غَطَّتْ جَنَبَاتِهْ
سِيقَانُ الْغِيلَانِ
وَأَغْصَانُ الْجِنِّ الْمُشْتَبِكَهْ
حِينَئِذٍ سَقَطَتْ مِنْ جَسَدِي
عَضَلَاتِي الْمُرْتَبِكَهْ
سَقَطَتْ مِنْ وَجْهِي عَيْنَايَ.
وَمِنْ صَدْرِي رِئَتَايَ.
وَمِنْ رَأْسِي شَعْرِي
حِينَئِذٍ أَدْرَكْتُ بِأَنِّي
مَا زِلْتُ كَمَا عَهِدَتْنِي
عَيْنَاكِ أَيَا أُمِّي طِفْلَا.
هَلْ يَقْدِرُ طِفْلٌ أَنْ يَحْيَا
فِي الْبَطْحَاءِ بِلَا أُمِّ
فَمُرِي بِاللهِ عَلَيْكِ رِيَاحَ الْمَشْرِقِ
أَنْ تَحْمِلَ لِي
مَعَ هَذَا الْفَجْرِ الرَّقْرَاقِ
قَمِيصاً نَسَجَتْهُ يَدَاكِ
عَسَى بِحَدَائِقِهِ
تَتَحَوَّلُ عَيْنَايَ سِرَاجاً وَهَّاجَا
****
أُمِّي..
أَعْتَرِفُ الْآنَ بِأَنِّي
لَمْ أَبْلُغْ بَعْدُ أَشُدِّي
لَمْ أَبْلُغْ بَعْدُ أَشُدِّي


فاس:6/11/1983

* الجزء الأول من "رياحين الألم" الطبعة الثانية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...