لم يكن الوداع هذه المرة وداعاً بالروح والشعور، بل كان وداعاً بالجسد، فظن الجميع في رحيلها النسيان، ولكنها أبداً لم ترحل من ذاكرتي وأعماق قلبي، فهي باقية الدهر والزمان، وإن كان النسيان أمر فطري طبيعي، فلم تتوانى بأن تُودِع لي جسداً بريئاً صادقاً مؤنساً يُزهر الحياة جمالاً، ويبعثُ في آفاق عقلي ضياءاً ونوراً، ويُثلج صدري ويطيب قلبي، علّه ينفرج من ثورات ألمه وحزنه.
في تمام الساعة العاشرة مساءأً من يوم الثلاثاء في أبريل الماضي، دقت أجراس المدينة دقات تهليل وفرح وسعادة، الأطفال في المدينة يمرحون ويبتهجون، النساء والفتيات يرفعن صحياتهم عالياً، الرجال يحمدون الله، لم يرى أحداً في هذه الليلة ظلاماً أو بؤساً، ولم تشهد المدينة في تلك الليلة نوماً أبداً، ليلة أضاءت القلوب وأخمدت نيران الصدور باستقبال روحاً ونوراً وأملاً ومَلاكاً، بعد أن كان الأملُ مُنطفئاً منذ عشر سنوات.
لم تحظى تلك الأسرة طوال هذا العقد بجُرعة أمل تُنسيهم أهوال هذه السنوات القاسية، حتى شاء القدر بدعائهم ودعاء أهل المدينة أجمع.
إن "وليد" لم يبلغ الثلاث عقودٍ من العمر حين تزوج ب "جميلة"، عشقه لها لم يكن كعشق العُشاق في الكُتب وروايات الغزل وقصص الحُب المُنبثقة بعقل كاتبٍ لا تُحاكي حقيقة الحياة، بل إن هذا العشق هو عشق العقل بأفكاره ورؤية القلب في أعنف لحظاته وتقلب خواطره، لحظات الحُب تلك تُفقد العقل رؤيته، فتكون حقيقة الحُب في تلقائيته وجماله، حين يغفو الحبيب في لقائه فيغفل عقله عن الوصف فلا يرى شكلاً ولا يرى جمالاً ظاهرياً ولا تَصّنع، بل إن ما يراه هو وليدة الحُب حين خُلق ومن بداية وجوده، وكأن الحُب وُلد من جديد فكان الحظ بأن يكونا هما مصدرا ذلك الحُب.
وبمرور الأعوام، شهدت المدينة اكتمال هذا الحبُ بالزواج الهانئ المُطمئن السعيد، ليالٍ تخلُفها ليالٍ، وحُزن يعقبه فرح، وأعيادُ وأفراحُ، وأسى وظلام ورحيل، وداع مُحب، وفراق صديق، وقهر أيام، وجُهد بألم، ومَذاق عُسر، ولحظة ندم، وقول بلا فعل، وفُقدان الشغف، وخناق حياة، واضطرابات بيت مُحب.
فتلك هي الحياة لا تدوم بفرحها أبداً، ولا يطول حُزنها دائماً، مُد يداك بالرحمة واللين والحب، وإن اشتدت ستُفرج، وإن تعسرت فما بعد العُسر إلا يٌسرا جميلاً.
في أحد تلك الليالي المُظلمة، فارق وليد جَميلة، حيث أصاب الهمُ بيتهم وتمكن الزمان من قُلوبهم، فأفقدتهم الحياة نشوتها، وأصبح الفُراق على أعتاب الحياة حقيقة.
مرت ليلة ومن بعدها ليالٍ قاسية، اشتدت بالوداع والفراق المُؤلم، فاشتعلت من بعدها أشواقاً مُولعة، وثار القلبُ ثورات لم يشهد التاريخ مثلها، فراقهم أظلم البيت، وأفقد مدينتهم صوت ألحان مُترنمة، ونغم أشواق ثائرة.
فذهب نور الحُب الذي يمنح للحياة نبضِها ورونقها وجمالها المُعتاد.
كانت تلك الليالي عزاءاً قاسياً، وحُزناً مُؤلماً.
فلم يقبلُ وليد بذلك الحزن بعد ثورات من القلب ومُناهدات وانتفاضات مُشتعلة، وأصر على أن هذا الحُب لن تُفرقه ليال حُزن مهما طالت واقتربت، ومهما كان المصير مُقدراً، والزمان مُلتوياً مُتأرجحاً، فلن يموت هذا الحُب، ولن يُفقد، حتى عادت الروح للجسد مرة أخرى بعد ليالٍ مُظلمة، حيث كانت الليلة الواحدة تشهدُ من الزمان دهراً وعُمراً طويلاً.
ليلة وراء ليلة، وحُبُ عاد للحياة من جديد بقوة وصبر، حتى شاء القدر، وأقبل للحياة طفلاً جميلاً، أضاء المدينة بعد ظُلمة دامت عشر سنوات، وصبر أعجز الصبر نفسه، فظن الصبر في نفسه عجزاً.
بعد سويعات من وضع رضيع تتهاتف صرخاته لتُصارع الحياة، ومع بداية الصرخة الأولى، أتبعها فرحاً هائلاً وكبيراً، ولم تستمرُ المدينة في ذلك الفرح ليلة واحدة، حتى شاء القدرُ مصيره مرة أخرى، وكأن القدرُ يمنح الخير بابتلاء آخر، فيرى مدى قُدرة الإنسان على الصبر في خير مُبتلى.
رحلت مَن أفنت العُمر وغادرت، رحلت مَن تمنت أن ترى نور ذلك الطفل، رحلت مَن ضَحت وتألمت، مَن جاهدت للحياة وصبرت.
ليلة الوداع أشبه بليلة الموت، لم يتمالك وليد نفسه في تلك الليلة التي أشعلت المدينة حُزناً، وأظلمت الحياة وبكى الجميع، وأسدلت أستار الفرح، وانطفئت أنوار المدينة بأكملها، حل الصمت في جوف الليل، تساقطت أوراق المدينة فُراقاً وألماً، جفت الحياة وانتهت، وابتلعت الأرض روح امرأة أخذت معها أرواح المدينة كُلها.
مرت الأعوام، وامتلك النسيان أطراف المَدينة، فتناسوا تلك الليلة التي ودعنا فيها الحياة، ولم ينسى وليد أبداً، فكان ذلك الوداع خالداً في ذاكرته عُمراً مَديداً، فكان من عادته أن يصطحب طفله إلى حديقة المدينة كل ليلة جُمعة، حيث أن هذه الحديقة كانت مُلتقى وليد بجميلة، فداوم على ذلك طوال عُمره، وكأن روح جميلة تنتظرهم في طُرقات الحديقة وتهمس لطفلها بالحنان والعطف، وتُقبله قبل رحيله، فرحيلُ جميلة أفقد وليد قلبه، فأودعته قلباً آخراً لينبُض قلبه من جديد، وهو قلبُ ذلك الطفل.
في تمام الساعة العاشرة مساءأً من يوم الثلاثاء في أبريل الماضي، دقت أجراس المدينة دقات تهليل وفرح وسعادة، الأطفال في المدينة يمرحون ويبتهجون، النساء والفتيات يرفعن صحياتهم عالياً، الرجال يحمدون الله، لم يرى أحداً في هذه الليلة ظلاماً أو بؤساً، ولم تشهد المدينة في تلك الليلة نوماً أبداً، ليلة أضاءت القلوب وأخمدت نيران الصدور باستقبال روحاً ونوراً وأملاً ومَلاكاً، بعد أن كان الأملُ مُنطفئاً منذ عشر سنوات.
لم تحظى تلك الأسرة طوال هذا العقد بجُرعة أمل تُنسيهم أهوال هذه السنوات القاسية، حتى شاء القدر بدعائهم ودعاء أهل المدينة أجمع.
إن "وليد" لم يبلغ الثلاث عقودٍ من العمر حين تزوج ب "جميلة"، عشقه لها لم يكن كعشق العُشاق في الكُتب وروايات الغزل وقصص الحُب المُنبثقة بعقل كاتبٍ لا تُحاكي حقيقة الحياة، بل إن هذا العشق هو عشق العقل بأفكاره ورؤية القلب في أعنف لحظاته وتقلب خواطره، لحظات الحُب تلك تُفقد العقل رؤيته، فتكون حقيقة الحُب في تلقائيته وجماله، حين يغفو الحبيب في لقائه فيغفل عقله عن الوصف فلا يرى شكلاً ولا يرى جمالاً ظاهرياً ولا تَصّنع، بل إن ما يراه هو وليدة الحُب حين خُلق ومن بداية وجوده، وكأن الحُب وُلد من جديد فكان الحظ بأن يكونا هما مصدرا ذلك الحُب.
وبمرور الأعوام، شهدت المدينة اكتمال هذا الحبُ بالزواج الهانئ المُطمئن السعيد، ليالٍ تخلُفها ليالٍ، وحُزن يعقبه فرح، وأعيادُ وأفراحُ، وأسى وظلام ورحيل، وداع مُحب، وفراق صديق، وقهر أيام، وجُهد بألم، ومَذاق عُسر، ولحظة ندم، وقول بلا فعل، وفُقدان الشغف، وخناق حياة، واضطرابات بيت مُحب.
فتلك هي الحياة لا تدوم بفرحها أبداً، ولا يطول حُزنها دائماً، مُد يداك بالرحمة واللين والحب، وإن اشتدت ستُفرج، وإن تعسرت فما بعد العُسر إلا يٌسرا جميلاً.
في أحد تلك الليالي المُظلمة، فارق وليد جَميلة، حيث أصاب الهمُ بيتهم وتمكن الزمان من قُلوبهم، فأفقدتهم الحياة نشوتها، وأصبح الفُراق على أعتاب الحياة حقيقة.
مرت ليلة ومن بعدها ليالٍ قاسية، اشتدت بالوداع والفراق المُؤلم، فاشتعلت من بعدها أشواقاً مُولعة، وثار القلبُ ثورات لم يشهد التاريخ مثلها، فراقهم أظلم البيت، وأفقد مدينتهم صوت ألحان مُترنمة، ونغم أشواق ثائرة.
فذهب نور الحُب الذي يمنح للحياة نبضِها ورونقها وجمالها المُعتاد.
كانت تلك الليالي عزاءاً قاسياً، وحُزناً مُؤلماً.
فلم يقبلُ وليد بذلك الحزن بعد ثورات من القلب ومُناهدات وانتفاضات مُشتعلة، وأصر على أن هذا الحُب لن تُفرقه ليال حُزن مهما طالت واقتربت، ومهما كان المصير مُقدراً، والزمان مُلتوياً مُتأرجحاً، فلن يموت هذا الحُب، ولن يُفقد، حتى عادت الروح للجسد مرة أخرى بعد ليالٍ مُظلمة، حيث كانت الليلة الواحدة تشهدُ من الزمان دهراً وعُمراً طويلاً.
ليلة وراء ليلة، وحُبُ عاد للحياة من جديد بقوة وصبر، حتى شاء القدر، وأقبل للحياة طفلاً جميلاً، أضاء المدينة بعد ظُلمة دامت عشر سنوات، وصبر أعجز الصبر نفسه، فظن الصبر في نفسه عجزاً.
بعد سويعات من وضع رضيع تتهاتف صرخاته لتُصارع الحياة، ومع بداية الصرخة الأولى، أتبعها فرحاً هائلاً وكبيراً، ولم تستمرُ المدينة في ذلك الفرح ليلة واحدة، حتى شاء القدرُ مصيره مرة أخرى، وكأن القدرُ يمنح الخير بابتلاء آخر، فيرى مدى قُدرة الإنسان على الصبر في خير مُبتلى.
رحلت مَن أفنت العُمر وغادرت، رحلت مَن تمنت أن ترى نور ذلك الطفل، رحلت مَن ضَحت وتألمت، مَن جاهدت للحياة وصبرت.
ليلة الوداع أشبه بليلة الموت، لم يتمالك وليد نفسه في تلك الليلة التي أشعلت المدينة حُزناً، وأظلمت الحياة وبكى الجميع، وأسدلت أستار الفرح، وانطفئت أنوار المدينة بأكملها، حل الصمت في جوف الليل، تساقطت أوراق المدينة فُراقاً وألماً، جفت الحياة وانتهت، وابتلعت الأرض روح امرأة أخذت معها أرواح المدينة كُلها.
مرت الأعوام، وامتلك النسيان أطراف المَدينة، فتناسوا تلك الليلة التي ودعنا فيها الحياة، ولم ينسى وليد أبداً، فكان ذلك الوداع خالداً في ذاكرته عُمراً مَديداً، فكان من عادته أن يصطحب طفله إلى حديقة المدينة كل ليلة جُمعة، حيث أن هذه الحديقة كانت مُلتقى وليد بجميلة، فداوم على ذلك طوال عُمره، وكأن روح جميلة تنتظرهم في طُرقات الحديقة وتهمس لطفلها بالحنان والعطف، وتُقبله قبل رحيله، فرحيلُ جميلة أفقد وليد قلبه، فأودعته قلباً آخراً لينبُض قلبه من جديد، وهو قلبُ ذلك الطفل.
"تم بحمد الله"
الكاتب /أحمد الطيب