مقتطف محمود شاهين - عديقي اليهودي (9) * مؤلف جديد !

(9)

* مؤلف جديد !

التقيت يعقوب بعد ثلاثة أيام . كان متشوقا لأن أكمل له تحليل نص سفر التكوين، ويرغب في أن أحلل له الأسفار الأخرى، وهذه مسألة تحتاج إلى زمن طويل . قلت له وهو يتهيأ للإستماع إلي :

- ليس في الإمكان التوقف عند كل سفر من أسفار التوراة وما حواه من اصحاحات لكثرتها ، وأنا حين درست التوراة كلها بأسفارها أل 46، احتجت إلى مؤلف من عشرة أجزاء .

- سنتوقف عند أهم المفاصل فيها فقط حتى لا أطيل عليك .

- في الإصحاح الخامس من سفر التكوين يا يعقوب، نجد أنفسنا أمام كاتب آخر غير السابق الذي قص علينا قصة الخلق ، فهذا الكاتب يخبرنا أن آدم أنجب ابنا اسمه شيث ، ولم يتطرق لا إلى قابيل ولا إلى هابيل ولا إلى قصتهما !

قاطعني يعقوب بانفعال:

- معقول؟

- معقول جدا عند كتبة التوراة . فهذا الكاتب يبدأ شجرة العائلة بما يلي:


1 هذا كتاب مواليد آدم ، يوم خلق الله الإنسان. على شبه الله عمله

2 ذكرا وأنثى خلقه، وباركه ودعا اسمه آدم يوم خلقه

هنا إشارة تقبل أن يحمل آدم الذكورة والأنوثة في شخصه ! فالكلام عن شخص واحد وليس عن اثنين كما يمكن أن يتبادر إلى ذهن القارئ.

3وعاش آدم مئة وثلاثين سنة، وولد ولدا على شبهه كصورته ودعا اسمه شيثا

يتضح هنا أن آدم حمل ذاتيا دون امرأة ، بإرجاع الولادة إليه . وهكذا لا نعرف أي الكتبة نصدق الأول أم الثاني ، وإذا كان هابيل قد قتل قبل أن ينجب ، فلماذا لم يذكر هذا الكاتب ذلك ، ولماذا لم يتطرق لقايين ( قابيل ) الذي أنجب قبائل وأمماً وبنى مدينة ؟ واضح أن هذا الكاتب لا يعترف بوجود حواء وقابيل وهابيل، فلديه تصور مختلف.

- هذا يشير إلى أن كتبة التوراة يؤلفون حسب اجتهادهم ولا يستندون لا إلى وحي ولا إلى تاريخ حقيقي .

- بالضبط يا يعقوب . لنتابع :

4 وكانت أيام آدم بعد ما ولد شيثا ثماني مئة سنة، وولد بنين وبنات


5 فكانت كل أيام آدم التي عاشها تسع مئة وثلاثين سنة، ومات

6 وعاش شيث مئة وخمس سنين، وولد أنوش

7 وعاش شيث بعد ما ولد أنوش ثماني مئة وسبع سنين، وولد بنين وبنات

8 فكانت كل أيام شيث تسع مئة واثنتي عشرة سنة، ومات

9 وعاش أنوش تسعين سنة ، وولد قينان

10 وعاش أنوش بعد ما ولد قينان ثماني مئة وخمس عشرة سنة، وولد بنين وبنات

11 فكانت كل أيام أنوش تسع مئة وخمس سنين، ومات

يضع الكاتب أعمارا كما يشاء، وقبل المولود وبعده ، دون أن نعرف كيف عرف ذلك ، وينشئ أجيالا بالعقلية نفسها . العلم يقول لنا أن معدل عمر الإنسان ذلك الزمن في حدود 35 عاما وليس مئات السنين .. وتنتهي هذه السلسلة من التناسل إلى نوح وأولاده ، بعد أن أصبحت أمما ، لكنها تنقرض كلها في الطوفان المهول ، ما عدا أسرة نوح !


25 وعاش متوشالح مئة وسبعا وثمانين سنة، وولد لامك

28 وعاش لامك مئة واثنتين وثمانين سنة، وولد ابنا

29 ودعا اسمه نوحا، قائلا: هذا يعزينا عن عملنا وتعب أيدينا من قبل الأرض التي لعنها الرب

32 وكان نوح ابن خمس مئة سنة. وولد نوح: ساما، وحاما،ويافث

وهؤلاء الثلاثة الذين ستتناسل منهم بشرية جديدة ، حسب المؤلف . الطريف أن الإنجاب لا يتم إلا بعد عمر يقترب من المائتي سنة أو أكثر ، دون أن نعرف لماذا يتأخر الإنجاب إلى هذا الحد ، فهل هو لقصر السنين مثلا أم ماذا ؟ ويلاحظ أن التكاثر يتم دون إناث ،فالولادة تعزى إلى الذكور، أو أن الإناث لا يستحققن أن يذكر دورهن في الحمل والإنجاب ! مع أن الكاتب يتطرق فيما بعد إلى زوجات لنوح وأولاده

- لعل السنة كانت في حدود شهر !

- ههه ! في هذه الحال يا يعقوب تكون أيام الخلق الستة أقل من يوم !

- شيء محير فعلا .. ولا أعرف كيف يصدق الناس هذا الكلام ، فإذا كان الأقدمون جهلة ، ينطوي عليهم أي كلام ، فهل البشر المعاصرون جهلة أيضا ؟

- عمر الجهل مديد يا يعقوب . هل تريد ان نتوقف بشيء من التفصيل على طوفان نوح ؟

- أكيد فهذا الطوفان يشكل مفصلا بين البشرية الأولى والبشرية الثانية !

- إذن لنبحر مع سفينة نوح بدءا من الإصحاح السادس في سفر التكوين. إليك كبداية هذا المقطع من اسطورة بابلية يا يعقوب لتدرك أننا مع اسطورة لا تحدث إلا في مخيلة مؤلف :

" قوض بيتك وابن سفينة ، اهجر ممتلكاتك وانج بنفسك ، اترك متاعك وانقذ حياتك ، واحمل فيها بذرة كل ذي حياة"

يقول الكتبة التوراتيون يا يعقوب أن الشر قد كثر في الأرض :


5 ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصورأفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم

6 فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه

7 فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم

الله يحزن ويتأسف لخلق الإنسان والحيوان والطيور، وسيمحو الكل عن وجه الأرض ليتخلص من حزنه ! طريقة الله في الإنتقام لحزنه فظيعة ، سيبيد كل شيء ، ولا نعرف ماذا ارتكبت البهائم والحيوانات والطيور والحشرات والنباتات والأشجار، لتباد، وهذه الأخيرة ستباد كتحصيل حاصل ، ولم يتطرق الله إلى الكائنات البحرية ، ولم نعرف كيف سيبيدها ؟


13 فقال الله لنوح: نهاية كل بشر قد أتت أمامي، لأن الأرض امتلأت ظلما منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض

- حتى الأرض نالها الغضب؟

- ولماذا لا فلقد سبق وأن غضب الرب عليها ولعنها بسبب خطيئة آدم !


14 اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر. تجعل الفلك مساكن، وتطليه من داخل ومن خارج بالقار

- هذا يعني أن نوحا يعيش في عصر صناعة السفن . أي زمن غير بعيد في عمر التاريخ . ربما في العصر الفنيقي ، حيث ازدهرت صناعة السفن .

- صحيح يا يعقوب.أحسنت !


15 وهكذا تصنعه: ثلاث مئة ذراع يكون طول الفلك، وخمسين ذراعا عرضه، وثلاثين ذراعا ارتفاعه

وما يتبادر إلى الذهن هو التساؤل عمّا إذا كان نوح قادرا على صناعة فلك بهذا الحجم . ولماذا لم يصنعه الله له بكلمة وينتهي الأمر.


17 فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كل ما في الأرض يموت

18 ولكن أقيم عهدي معك ، فتدخل الفلك أنت وبنوك وامرأتك ونساء بنيك معك

19 ومن كل حي من كل ذي جسد، اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا وأنثى

20 من الطيور كأجناسها ، ومن البهائم كأجناسها، ومن كل دبابات الأرض كأجناسها. اثنين من كل تدخل إليك لاستبقائها

سنجد في الإصحاح السابع أن المطلوب سبعة أزواج من البهائم الطاهرة، وليس زوجين . ولا نعرف لماذا لا يتفق الكتبة على رقم محدد :


2 من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا وأنثى. ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين: ذكرا وأنثى

3 ومن طيور السماء أيضا سبعة سبعة: ذكرا وأنثى. لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض

4 لأني بعد سبعة أيام أيضا أمطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة. وأمحو عن وجه الأرض كل قائم عملته

- ترى هل يتمكن نوح وأولاده من بناء سفينة وجمع هذه الكائنات في سبعة أيام ؟ وهل يمكن للسفينة أن تتسع للكم الهائل من الكائنات؟

وبالعودة إلى الإصحاح السادس نجد :


1 وأنت، فخذ لنفسك من كل طعام يؤكل واجمعه عندك، فيكون لك ولها طعاما

- يحتاج نوح إلى مساعدة الله نفسه في المسألة وإلا لن ينجح في شيء! المؤسف أنه ليس ثمة إشارة من قبل المؤلف إلى أن الله قام بمساعدة نوح !


22 ففعل نوح حسب كل ما أمره به الله. هكذا فعل

لا نعرف كيف فعل نوح ذلك . كيف تم بناء الفلك وكم استغرق بناؤه وكم طابقا فيه، وكيف جمع الحيوانات والطيور وأدخلها إلى الفلك ، وكيف أتى بمؤونة تكفي للأسرة وللحيوانات والطيور لأربعين يوما وليلة ثم امتدت لمائة وخمسين يوما ، وهل اتسع الفلك لهذا الحشد من الكائنات والمؤن ؟


24 وتعاظمت المياه على الأرض مئة وخمسين يوما

أعتقد أن نوحا يحتاج إلى قدرة الله نفسه ليقوم بالعمل بكلمة كما كان يفعل الله ، ليتمكن من تنفيذ هذا الطلب الإعجازي ، وقد يحتاج إلى أن يأمر الحيوانات المفترسة أن تكون وديعة ولا تفترس الأخرى ، أو تفترسه وأسرته !

كاتب روسي طريف يدعى كوندراتوف حسب مساحة السفينة ، فوجد أنها 9120 مترا مربعا. كما أورد احصاء لبعض الكائنات الحية ، حسب زوجين من كل صنف وليس حسب سبعة كما ورد في الإصحاح السابع، فيقول:

"يقدر عدد أصناف الثدييات على الكرة الأرضية بثلاثة آلاف ونصف ، وبما أن نوحا أخذ من كل صنف اثنين سنحصل على سبعة آلاف فرد . فيلة ونمور . ذئاب وأرانب . ضباع وثعالب . غوريلا وفرس النهر دبابات وجواميس .. ألخ"

و"هناك أيضا حوالي عشرين ألف صنف من الطيور ( وهذا الرقم يجب ضربه في اثنين لأنه أخذ زوجا من كل صنف ) وحوالي خمسة آلاف من الزواحف ( ضرب اثنين ) وأكثر من مليون صنف من الحشرات . وكما يبدو أن هذا الحشد من الكائنات القافزة والمنقنقة والمزمجرة والمزقزقة والمجمجمة والمولولة ، أكبر من أن يتسع له فلك نوح . وما الذي يمكن قوله عن المؤونة التي لا بد من توفيرها لكل هذه الكائنات الحية ، التي يوجد بينها آكلة لحوم من الحيوانات والطيور ، وآكلة أعشاب ، ومفترسة ، وآكلة حشرات وآكلة كل شيء من الحيوانات والطيور والحشرات والزواحف" ( انتهى الإقتباس من كوندراتوف )
بقيت المياة عاما حتى جفت عن أجزاء من اليابسة، وثمة حيوانات مفترسة تحتاج إلى فريسة ربما كل يوم لتتغذى، فهل جمع نوح غذاء لها ، وكيف سيمنعها من أن تفتك ببعضها ، وعلى ماذا ستتغذى حتى بعد أن تجف المياه، فكل شيء يكون قد اندثر وتلاشى خلال عام . هل ستنتظر خلق كائنات جديدة ؟!
ونسي كوندراتوف أن يسأل كيف سيجمع نوح وجماعته كل هذه الكائنات ، التي يعجز حتى الله عن جمعها ، وقد تفترس الأسود نوحا وأنجاله قبل أن يتمكنوا من جلب أسد ولبؤة ! كما أن كوندراتوف لم يتساءل عن مصير الكائنات البحرية كالأسماك التي لن يضيرها الطوفان . ويبدو أن الله، أو الكاتب بتعبيرأدق، قد نسيها أو تجاهلها. وإذا كان هذا الحدث قد تم حوالي أواسط الألف الثالث قبل الميلاد حسب ما يذكر معظم الباحثين، فإن البشرية القائمة الآن بكل ملياراتها لا يزيد عمرها عن حوالي 4500 سنة . وينبغي علينا أن نصدق أن هذا النص كلام إلهي أو صادر عن إله أو بوحي منه . كلام لا يتفق بل ويتناقض بشكل مطلق مع أدنى حدود المنطق والعقل والفهم .
*******

الطوفان المهول :

رأينا أن نوحا نفذ الأمر الإلهي وجمع زوجا من كل الكائنات الحية . ولا نعرف ما إذا جمع من الحشرات كالبعوض والذباب ، وعرف الذكر من الأنثى! أو أن الكاتب الملهم افترض أن الله لم يخلق هذه الحشرات بعد ، أو أن انقاذها لم يكن ضروريا ، فهلكت ، وما الأكثرمن مليون صنف من الحشرات الكائنة اليوم التي ذكرها كوندراتوف، تم خلقها لاحقا !

انفتحت طاقات السماء وانهمر المطر أربعين يوما وليلة . غمرت المياه الأرض، وراحت سفينة عمنا نوح تطفو فوق الماء . وظلت المياه ترتفع إلى أن غطت جميع الجبال الشامخة . وحدد كاتب التوراة ارتفاع المياه بخمسة عشر ذراعا . فماتت الكائنات الحية جميعها . ولا نعرف كيف ماتت الكائنات المائية.


10 وحدث بعد السبعة الأيام أن مياه الطوفان صارت على الأرض

11 في سنة ست مئة من حياة نوح، في الشهر الثانى، في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم، انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم، وانفتحت طاقات السماء

المؤلف حريص على الزمن ، فيربطه بحياة نوح وليس بخلق آدم مثلا . وبذلك لا نعرف متى حدث الطوفان زمنيا إلا إذا عرفنا تاريخ ميلاد نوح !


12 وكان المطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة

13 في ذلك اليوم عينه دخل نوح، وسام وحام ويافث بنو نوح، وامرأة نوح، وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك

- لاحظ وجود نساء هنا.


14 هم وكل الوحوش كأجناسها، وكل البهائم كأجناسها، وكل الدبابات التي تدب على الأرض كأجناسها، وكل الطيور كأجناسها: كل عصفور، كل ذي جناح

15 ودخلت إلى نوح إلى الفلك، اثنين اثنين من كل جسد فيه روح حياة

هنا تبدو الكائنات وكأنها تدخل وحدها أو بأمر إلهي ،وهذا ما سأعود إليه لاحقا.


16 والداخلات دخلت ذكرا وأنثى، من كل ذي جسد، كما أمره الله. وأغلق الرب عليه

17 وكان الطوفان أربعين يوما على الأرض. وتكاثرت المياه ورفعت الفلك، فارتفع عن الأرض

18 وتعاظمت المياه وتكاثرت جدا على الأرض، فكان الفلك يسير على وجه المياه

19 وتعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض، فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء

20 خمس عشرة ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه، فتغطت الجبال

تغطت جميع الجبال الشامخة مع أن ارتفاع المياه لم يزد عن خمس عشرة ذراعا كما يحدده المؤلف . وهذا الإرتفاع بالكاد يغمر تلة لا يزيد ارتفاعها عن ذلك الرقم . فالمؤلف الجهبذ لا يعرف أن هناك أربعة عشر مرتفعا في العالم يزيد ارتفاعها على ثمانية آلاف متر عن سطح البحر. أما عن الإرتفاع الذي يزيد على الأذرع التي حددها، فهو أكثرمن أن يحصى ، وقد يزيد على الملايين .


21 فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكل الزحافات التي كانت تزحف على الأرض، وجميع الناس

22 كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات

23 فمحا الله كل قائم كان على وجه الأرض: الناس، والبهائم، والدبابات، وطيور السماء . فانمحت من الأرض. وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط

24 وتعاظمت المياه على الأرض مئة وخمسين يوما

غير الله رأيه فجعل تعاظم المياه 150 يوما بدلا من أربعين. هكذا يريد الكاتب!

وهكذا تآلف نوح وبنوه ونساء بنيه طوال 150 يوما مع الوحوش والأفاعي والزنابير وكل الكائنات الأخرى.
- لا يعقل أن يصدق البشر هذا الكلام على أنه كلام إلهي أو له علاقة بإله ما!
- أخذت المياه تنقص بعد مائة وخمسين يوما لتستقر السفينة على قمة جبل أرارات
أو أراراط ، كونه أعلى جبل ( حسب النص ) وكانت قمته هي الأولى التي نقصت عنها المياه . أو أنها لم تغمرها بشكل كبير.
يعلق كوندراتوف على الحدث قائلا:
"يبدو من الصعب أن نتصور ما ورد في التوراة من أن المياه غمرت قمم الجبال العالية عدا جبل أرارات ، لأنه يوجد في الكرة الأرضية جبال يزيد ارتفاعها عن ضعف ارتفاع جبل ارارات الجميل ، فكيف يمكن أن تغمر المياه هذه الجبال ، في حين يظل جبل أرارات بارزا فوق الماء ، ليكون ملاذا لنوح وعائلته ؟"
ويتطرق كوندراتوف إلى حجم المياه قائلا:
"لا يتوفر احتياطي من المياه يكفي لغمر كوكبنا وحتى لو بطبقة لا يزيد سمكها عن 200 سم ، حتى لو ذاب الجليد الإنتراكتيدا وجليد الجبال والمنطقة القطبية الشمالية وتحولت رطوبة الغلاف الجوي إلى أمطار غزيرة"
وفي محاولة منه لإثبات أصل أساطير التوراة يتطرق كوندراتوف إلى الطوفان السومري، الطوفان الأول الذي عرفته أساطيرالمنطقة ويورد بعض المقاطع من ملحمة جلجامش:
شاءت الآلهة وعلى رأسهم انليل الجبار أن تبعث بالطوفان على الجنس البشري ، غير أن الإله إيا الحنون على الناس ينبىء أوتنابشتيم بالأمر ، إذ بينما كان نائما هب على صوت يقول:
اهدم الكوخ وقم ببناء سفينة
اهجر الوفرة واهتم بالحياة
احتقر الثروة وانقذ روحك
واحمل في سفينتك كل حي
ويتابع كوندراتوف:
" جمع اوتنابشتيم " كل الناحية " وانصاعوا جميعا لأمره وراحوا يصنعون السفينة ، التي تضاهي بسعتها سفينة نوح . يقول اوتنا بشتيم لجلجامش:
حملتها بكل شيء أملكه
حملتها بكل ما أملكه من فضة
حملتها بكل ما أملكه من ذهب
حملتها بكل ما لدي من المخلوقات
ووضعت على السفينة كل عائلتي وسلالتي
ووضعت عليها ماشية السهوب والحيوانات من كل نوع
وعندما حل الوقت الذي حددته الآلهة هطلت الأمطار الغزيرة ليلا ، وكان النظر في " وجه الطبيعة " يثير الرعب!
كل ما كان منيرا انقلب عتمة .
انفلعت الأرض بأسرها كالفنجان
جاشت رياح جنوبية في اليوم الأول
هبت بسرعة فغمرت الجبال
كأنها الحرب داهمت البشر
ويذكر كوندراتوف أن الطوفان السومري يستمر ستة أيام وسبع ليال ، وأن
اوتنابشتيم فعل مثلما فعل نوح ( بعد الطوفان ) بعث بالطيورالرسل، الحمامة أولا وبعدها السنونو ومن ثم الغراب الذي لم يرجع.

نص نوح مختلف بعض الشيء إذ ليس فيه سنونو، ثم إن نوح يرسل الغراب أولا، ويرسل الحمامة مرتين.
هل عرفت قصة الطوفان التوراتية من أين جاءت يا يعقوب . سرق كتابكم القدامى الله وشوهوا فهمه، وسرقوا تراث الشعوب، وأنتم سرقتم الأرض ، وتسرقون حتى المطبخ والأزياء والعادات والتقاليد . أي لصوص أنتم يا يعقوب ؟ والمؤسف أننا نسعى للتعايش معكم!

- أعذرني يا عارف فليس لنا يد في كل ما جرى. حسب ما أخبرنا أبي، تم نسف كنيس في بغداد من قبل عملاء الحركة الصهيونية ، لإرهاب اليهود ودفعهم للهجرة إلى فلسطين ، وراحت القنابل تنهال على الأحياء اليهودية. قال أبي لم يكن أمامنا غير الهرب ، وقد تجمع في مطار بغداد أكثر من خمسين ألف يهودي في يوم واحد ، لتنقلهم الطائرات إلى فلسطين .

- أعرف ذلك يا يعقوب، وأعرف أن نوري السعيد قبض ثمنكم من الحركة الصهيونية خمسة ملايين دولار حسب ما تقول الوثائق التاريخية! أعرف قصص اليهود العرب وقصص يهود أوروبا . لولا اليهود العرب لما قامت لإسرائيل قائمة حينذاك .. يهود اليمن كانوا مشتتين في أودية وبقاع وجبال اليمن الشاهقة ، فكان لا بد من تجنيد جيش من راكبي الجمال لجلبهم عنوة وتسفيرهم إلى اسرائيل . فقد قبض ثمنهم أيضا .. وأعرف ما هو أخطر من ذلك يا يعقوب ، وكيف تآمرت الحركة الصهيونية حتى مع النازية لحرق المسنين من اليهود وتسفير الشباب إلى فلسطين لإقامة دولة اليهود ، حسب ما قرأت في بعض الأبحاث التاريخية.

- واضح أنك تعرف الكثير يا عارف.

- هل تريد يا يعقوب المزيد من أساطير الطوفان التي سبقت الطوفان التوراتي بآلاف السنين، لتعرف كيف يسرق مؤلفوكم تراث الأمم؟ !

- أتمنى ذلك !
يتحدث باحث سوري يدعى فراس سواح في كتابه مغامرة العقل الأولى ، وضمن جزء " سفر الطوفان " عن أساطير الطوفان في كافة أنحاء العالم ويأتي في مقدمتها السومري والبابلي وغيرهما .. ويقارن بينها وبين سفر الطوفان التوراتي ليجد الشبه في ثلاث عشرة نقطة . مما يثبت أن النص التوراتي - بل معظم نصوص التوراة -مأخوذة عن هذه الأساطير . ويعزو فراس التناقضات في النص التوراتي إلى أن كتاب التوراة قد أخذوا من أكثر من نص اسطوري دون تمحيص.. ويورد بعض المتناقضات التي أوردنا بعضها يقول فراس في تعليقه الذي استوقفني:
"أما كيف سيعمل بطل الطوفان على جمع كل هذه الحيوانات فيبدو أن الشخصية الإلهية هي التي تكلفت بدفعها إليه ليحملها إلى السفينة ، كما يبدو من ملحمة اتراحيس ومن سفر التكوين ، ففي ملحمة اتراحيس نرى إيا يقول لعبده " طرائد البرية ووحوشها وما استطعت من آكلي الأعشاب سأدفع بها إليك " كذلك في سفر التكوين نجد أن الحيوانات تأتي إلى نوح دونما إشارة إلى جهد منه لجمعها وحصرها " وتدخل الصندوق لتحيا معك " " يدخل إليك اثنين من كل لتحيا"
كيف سنعرف هنا أن ما فعله نوح هو مجرد إدخال، أي فتح باب السفينة للكائنات بما فيها الوحوش.
واستنتاج فراس سواح لا يؤكد أن الله هو من يجمع بل هو يستنتج استنادا إلى نص ورد في ملحمة اتراحيس ، وما أكده هو أن الحيوانات تأتي إلى نوح دون جهد منه .
نحن سنفترض أمرين . الأول هو إمكانية الله حسب التصور التوراتي:
إن الإله التوراتي – كما صوره الكتبة – الذي لم يكن قادرا على معرفة المكان الذي اختبأ فيه آدم وحواء بعد الأكل من ثمر شجرة المعرفة ، والذي لم يعرف أن قايين قد قتل أخاه ، والذي يحتاج إلى " لهيب سيف متقلب" ليحرس الطريق إلى شجرة الحياة ، لن يكون قادرا على معرفة الأماكن التي تختبيء فيها الأسود والنمور والثعالب وغيرها .

وإذا ما أخذنا بالأمر الثاني ، من مفهوم الإله القادر على كل شيء . فإنه لن يحتاج لا إلى سفينة ولا إلى طوفان ، ولا حتى إلى فيضان . ما عليه إلا أن ينطق بالأمر الإلهي الذي خلق به كل شيئ، ليكن كذا وسينتهي الأمر.
إنه العقل البدائي غير القادر على أن يعي الواقع والغيب والخيال إلا حسب الثقافة التي انتجته ، فما بالك إذا كانت هذه الثقافة مستلبة من ثقافات الأمم البدائية واجتهاداتها ، وليست ثقافة كاتبها ؟!
سأورد مقطعا أدبيا عن حدوث الطوفان البابلي ، لنرى الفرق بين روعة الأدب الأصل أو القريب إلى الأصل ، وبؤس النثر المنحول:
حل الموعد المضروب
في المساء أرسل سيد العاصفة مطراً مدمراً؛
قلبتُ وجهي في السماء أراقب الطقس،
كان الجو مرعباً لناظره
دخلت الفُلك وأغلقت عليَّ بابي،
أسلمت قياد السفينة للملاح بوزو- آموري،
أسلمته الهيكل العظيم بكل ما فيه
وما أن لاحت تباشير الصباح،
حتى علت الأفق غيمة كبيرة سوداء،
يجلجل في وسطها صوت أداد،
يسبقها (رسولاه) شوللات وخانيش،
نذيران عبر السهول والبطاح
اقتلع الإله أريجال خزانات المياه السفلية،
ثم تبعه الإله ننورتا وفتح السدود
رفع الأنوناكي مشاعلهم عالياً
حتى أضاء وهجها الأرض
بلغتْ ثورة أداد تخوم السماء،
أحالت كل نور إلى ظلمة،
والأرض الواسعة قد تحطمت كما الجرة
ثارت العاصفة يوماً كاملاً
وتزايدت سرعاتها حتى غمرت الجبال،
أتت على البشر، حصدتهم كما الحرب،
حتى عمي الأخ عن أخيه،
وبات أهل السماء لا يرون أهل الأرض.
حتى الآلهة ذُعرت من هول الطوفان،
هرب جميعهم صُعداً نحو سماء آنو،
ربضوا عند الجدار الخارجي ككلاب مرتعدة
صرخت عشتار كامرأة في المخاض،
ناحت سيدة الآلهة ذات الصوت العذب
لقد آلت إلى طين تلك الأيام القديمة،
لأني نطقتُ بالشر في مجمع الآلهة؛
فكيف نطقت بالشر في مجمع الآلهة؟
كيف أمرتُ بالحرب تحصد شعبي،
تدمر من أعطيتهم أنا الميلاد؟
وهاهم يملؤون البحر كصغار السمك!
بكى معها آلهة الأنوناكي،
تهالكوا وانحنوا يبكون،
وقد حجبوا أفواهم بأيديهم
ستة أيام وست ليال،
والرياح تهب، والعاصفة وسيول المطر تطغى على الأرض
ومع حلول اليوم السابع، العاصفة والطوفان،
اللذان داهما كجيش، خفت شدتهما
هدأ البحر وسكنت العاصفة وتراجع الطوفان
فتحتُ الكوة فسقط النور على وجهي؛
نظرتُ إلى البحر، كان الهدوء شاملاً،
وقد آل البشر إلى الطين
كان الـ …. بمحاذاة السقف
تهالكت، وانحنيت أبكي،
وقد أغرقتْ الدموع وجهي
ثم تطلعت في كل الاتجاهات مستطلعاً حدود البحر؛
على بُعد اثنتي عشرة ساعة مضاعفة انبثقت قطع من اليابسة
ثم استقرت السفينة على جبل نصير
جبل نصير أمسك بالسفينة، منع حركتها
أمسك الجبل بالسفينة ومنع حركتها يوماً وثانياً
أمسك الجبل بالسفينة ومنع حركتها يوماً ثالثاً ورابعاً
أمسك الجبل بالسفينة ومنع حركتها يوماً خامساً وسادساً
وعندما حلّ اليوم السابع،
أتيت بحمامة فأطلقتها
طارت الحمامة بعيداً ثم عادت إلي،
لم تجد مستقراً فعادت
ثم أتيت بسنونو وأطلقته،
فطار السنونو بعيداً ثم عاد إليَّ،
لم يجد مستقراً فعاد
ثم أتيت بغراب وأطلقته،
فطار الغراب بعيداً، ورأى أن الماء قد انحسر،
حام وحط وأكل ولم يعد

****

أرأيت كيف تجلت روعة الأدب هنا يا يعقوب . هنا يوجد حياة وأبطال من الآلهة والبشر والحيوانات. الربة عشتار سيدة الآلهة تبكي شعبها وتبكي معها الآلهة . وتلوم عشتار نفسها لأنها نطقت بالشر في مجمع الآلهة . فلا نجد هنا إلها ينتقم من خلقه ، بل إلها يندم ويحزن من فعله !

في الإصحاح الثامن تنحسر المياه يا يعقوب وتستقر السفينة على جبل أراراط الذي اتفق الباحثون على أنه جبل على الحدود بين تركيا وإيران وأرمينيا وأذربيجان ،وارتفاعه أكثر بكثير من الخمس عشرة ذراعا التي ارتفعت فيها مياه طوفان نوح عن الأرض. فالمصادر تذكر أن ارتفاع أعلى قممه في هضبة أرمينيا 5137 مترا عن سطح البحر:

1 ثم ذكر الله نوحا وكل الوحوش وكل البهائم التي معه في الفلك. وأجاز الله ريحا على الأرض فهدأت المياه

2 وانسدت ينابيع الغمر وطاقات السماء، فامتنع المطر من السماء

3 ورجعت المياه عن الأرض رجوعا متواليا. وبعد مئة وخمسين يوما نقصت المياه

4 واستقر الفلك في الشهر السابع، في اليوم السابع عشر من الشهر، على جبال أراراط

5 وكانت المياه تنقص نقصا متواليا إلى الشهر العاشر. وفي العاشر في أول الشهر، ظهرت رؤوس الجبال

6 وحدث من بعد أربعين يوما أن نوحا فتح طاقة الفلك التي كان قد عملها

7 وأرسل الغراب، فخرج مترددا حتى نشفت المياه عن الأرض

8 ثم أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلت المياه عن وجه الأرض

9 فلم تجد الحمامة مقرا لرجلها، فرجعت إليه إلى الفلك لأن مياها كانت على وجه كل الأرض. فمد يده وأخذها وأدخلها عنده إلى الفلك

10 فلبث أيضا سبعة أيام أخر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك

11 فأتت إليه الحمامة عند المساء، وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها. فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض

12 فلبث أيضا سبعة أيام أخر وأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه أيضا

13 وكان في السنة الواحدة والست مئة، في الشهر الأول في أول الشهر، أن المياه نشفت عن الأرض. فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر، فإذا وجه الأرض قد نشف

14 وفي الشهر الثاني، في اليوم السابع والعشرين من الشهر، جفت الأرض

15 وكلم الله نوحا قائلا

16 اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك

17 وكل الحيوانات التي معك من كل ذي جسد: الطيور، والبهائم، وكل الدبابات التي تدب على الأرض، أخرجها معك. ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض

18 فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه

19 وكل الحيوانات، كل الدبابات، وكل الطيور، كل ما يدب على الأرض، كأنواعها خرجت من الفلك

المؤسف أن نوحا وأسرته والكائنات الأخرى لن يجدوا ما يقتاتون عليه بعد فعلة الله . فكل شيء قد أبيد خلال ما يقرب من نصف عام من الطوفان ، وهذا ما لم يعرفه المؤلف ، الذي ربما يدرك جهل القراء ، فلا يتنبهون لكل مغالطاته وتناقضات نصه .

- عاجز عن شكرك أستاذ عارف لمحاضراتك القيمة وتحاليلك الرائعة التي لا تقبل النقض والنقد!

- وأنا أشكرك لحسن استماعك يا يعقوب . ينتهي هذا الإصحاح بأن يبني نوح مذبحا للرب ، رغم الظروف التي لا يحسد عليها بعد الطوفان المهول :

20 وبنى نوح مذبحا للرب . وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح !!

*****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...