حِينَ دارَ بها العُمْرُ دَورَتَهُ الْكامِلَهْ
لَمْ تَكُنْ جدَّتِي قَدْ أَتَمَّتْ شُؤونَ الْحياةِ كَما تَشْتَهِي
وَرَأيْتُ لَها سِحْنةً، لا تُبَدِّلُها سَكْرةُ الْمَوتِ، لَكنَّها ..
كانَ يَشْغَلُها ما تَبَقَّى على ساعِدِ الأَرْضِ،
مِنْ خَيْمَةِ الْعائِلَهْ !
شَخَصتْ في الْفراغِ بِعينَينِ زائِغَتينِ وقالَتْ:
"بَنِيَّ!... أَنا رَاحِلَهْ! "
يَا بَنِيَّ اسْحَبُونِي بِرِفْقٍ إِلى قِبْلَتِي وَانْهَضُوا ..
رَتِّبُوا الْبَيْتَ، لاَ وَقْتَ يا فِتْيَتِي للْبُكاءِ
سَيَأْتِي الْمُعزُّونَ بَعْدَ قَلِيلٍ،
فَصُفُّوا الْكَراسِي وَلاَ تَغْفَلُوا عَنْ طعامِ الدَّجاجِ وَلاَ ..
ثُمَّ أَرْخَتْ على مَهلٍ رَأْسَها واسْتَراحتْ ..
كَنَرْجَسَةٍ ذابِلَهْ!
لَمْ أَكُنْ أَتَصوَّرُ يَومًا ..
بِأَنّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَفْرَغَ الأَرْضُ مِنْ ظِلِّها ..
أَوْ تَطِيرَ إِلَى عالَمٍ لاَ أَراهُ!
وَكُنتُ أَظُنُّ بِأَنَّ يَديْها يَدُ اللهِ حَوْلِي
وأنَّ الْخُطَى حينَ تمْشِي ... خُطاهُ!
وكانتْ كما السِّنْدِيانةُ في ساحةِ الْبيْتِ،
لَمْ تَسْقُطِ السِّنْدِيانةُ، لكنَّها سَقَطَتْ ..
وَرَأَيْتُ على خدِّها دَمْعةً نازِلَهْ ..
جدَّتِي لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ الْموتَ وجهًا لِوَجْهٍ ..
ولاَ فَكَّرَتْ أَيْنَ يَمْضِي بِها، أَوْ لِماذا؟ ..
ولَكِنّها لَمْ تَكُنْ -رغْمَ ذلِكَ – عَنْ سَهْمِهِ غَافِلَهْ!
هِيَ تَعْرفُ أَنَّ الْحَياةَ الَّتِي لاَ تُوَرَّثُ
لَيْسَتْ سِوى بُرْهةٍ زائِلَهْ!
غابَ عَنْها الْكَثيرُونَ ..
واسْتَغْرقَتْ في معارِكِها الْحَيَويَّةِ،
مُنذُ ثمانينَ عامًا ...
تُزَوِّجُ أَبناءَها وشُوَيْهاتِها
وَتَعُدُّ فِراخَ الدَّجاجاتِ كُلَّ مَساءٍ ..
تُنِيمُ الصِّغارَ على رُكْبَتَيْها كَراهِبَةٍ،
وتُحدِّثُهُمْ عنْ حَماقاتِ آبائِهِمْ فِي سِنِيِّ الطُّفُولةِ،
تَبْكِي لأَحْزانِ جارَاتِها، وَتُخاصِمُهُنَّ بِلا سَبَبٍ ..
تتَحدَّى كَنائِنِها، وتُذكِّرُهنَّ بِلا سَببٍ
أَنَّها لاَ تَزالُ كَعادَتِها دائِمًا،
رَبَّةَ الْبَيتِ، أُمَّ الرِّجالِ .. !
وأَنَّ لَها – رَغْمَ ما كانَ مِنْ مَكْرِهِنَّ ومِنْ كَيْدِهِنَّ –
يَدًا طائِلَهْ!
جدَّتِي أَثْخَنَتْها الْحُرُوبُ الصَّغيرَةُ، لَكِنَّها ..
رَبِحَتْ فِي النِّهايَةِ، كُلَّ الْحُرُوبِ الْكَبِيرَهْ ..
وظَلَّتْ علَى العَهْدِ
واقِفَةً في الْعراءِ بِوَجْهِ الرِّياحِ،
فَلَمْ تَقْتَلِعْ خَيْمَةَ الْعائِلَهْ !
مَرَّ ذاكَ الزّمانُ،
وَدارَ بها الْعُمْرُ دَوْرَتَهُ الْكامِلَهْ ..
هَا هِيَ الْيَومَ تَرْقُدُ بينَ يَدَيْ رَبِّها في سَلامٍ ..
تمامًا كما كانَ يبْدُو لَها عالَمُ الْمَوْتِ دَوْمًا ..
سُباتٌ عَمِيقٌ عَمِيقٌ ..
وحُلْمٌ يَطُولُ ولاَ يَنْتَهِي ...
يَرْتَقِي للسَّماءِ ..
فَتَفْتَحُ شُبَّاكَها وتُطِلُّ على البَيْتِ،
تَكْنُسُ باحَتَهُ،
وَتَرُدُّ الْغِطاءَ على الصِّبْيَة النَّائِمِينَ ..
تُدِيرُ الرَّحَى ...
وتُسَرِّحُ قبْلَ الشُّرُوقِ شُوَيْهاتِها ...
تتَفَقَّدُ قُنَّ الدَّجاجِ، وتَمخُضُ شَكْوَتَها ...
تِلْكَ كانتْ على الدَّومِ جَنَّتَها ..
في السَّماءِ أَوِ الأَرْضِ،
تَبْعُدُ يَومًا ... وتَقْرُبُ يَوْمًا، ولَكِنَّهَا ...
لَمْ تَكُنْ جَاهِلَهْ ...!
كُلُّ ما كَانَ يَعْنِيهِ سِرُّ الْحَياةِ لَها ...
كان قَطْعًا فقَطْ:
خَيْمَةَ الْعائِلَهْ ! !
شاعر وروائيّ ونائب بمجلس النوّاب التّونسيّ .
صدر له: خيبات طفل عظيم، عادات سيف الدولة، طوق الهلاك.
الثقب الأسود، أسوار الجنة، بيض الأفعى.
لَمْ تَكُنْ جدَّتِي قَدْ أَتَمَّتْ شُؤونَ الْحياةِ كَما تَشْتَهِي
وَرَأيْتُ لَها سِحْنةً، لا تُبَدِّلُها سَكْرةُ الْمَوتِ، لَكنَّها ..
كانَ يَشْغَلُها ما تَبَقَّى على ساعِدِ الأَرْضِ،
مِنْ خَيْمَةِ الْعائِلَهْ !
شَخَصتْ في الْفراغِ بِعينَينِ زائِغَتينِ وقالَتْ:
"بَنِيَّ!... أَنا رَاحِلَهْ! "
يَا بَنِيَّ اسْحَبُونِي بِرِفْقٍ إِلى قِبْلَتِي وَانْهَضُوا ..
رَتِّبُوا الْبَيْتَ، لاَ وَقْتَ يا فِتْيَتِي للْبُكاءِ
سَيَأْتِي الْمُعزُّونَ بَعْدَ قَلِيلٍ،
فَصُفُّوا الْكَراسِي وَلاَ تَغْفَلُوا عَنْ طعامِ الدَّجاجِ وَلاَ ..
ثُمَّ أَرْخَتْ على مَهلٍ رَأْسَها واسْتَراحتْ ..
كَنَرْجَسَةٍ ذابِلَهْ!
لَمْ أَكُنْ أَتَصوَّرُ يَومًا ..
بِأَنّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَفْرَغَ الأَرْضُ مِنْ ظِلِّها ..
أَوْ تَطِيرَ إِلَى عالَمٍ لاَ أَراهُ!
وَكُنتُ أَظُنُّ بِأَنَّ يَديْها يَدُ اللهِ حَوْلِي
وأنَّ الْخُطَى حينَ تمْشِي ... خُطاهُ!
وكانتْ كما السِّنْدِيانةُ في ساحةِ الْبيْتِ،
لَمْ تَسْقُطِ السِّنْدِيانةُ، لكنَّها سَقَطَتْ ..
وَرَأَيْتُ على خدِّها دَمْعةً نازِلَهْ ..
جدَّتِي لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ الْموتَ وجهًا لِوَجْهٍ ..
ولاَ فَكَّرَتْ أَيْنَ يَمْضِي بِها، أَوْ لِماذا؟ ..
ولَكِنّها لَمْ تَكُنْ -رغْمَ ذلِكَ – عَنْ سَهْمِهِ غَافِلَهْ!
هِيَ تَعْرفُ أَنَّ الْحَياةَ الَّتِي لاَ تُوَرَّثُ
لَيْسَتْ سِوى بُرْهةٍ زائِلَهْ!
غابَ عَنْها الْكَثيرُونَ ..
واسْتَغْرقَتْ في معارِكِها الْحَيَويَّةِ،
مُنذُ ثمانينَ عامًا ...
تُزَوِّجُ أَبناءَها وشُوَيْهاتِها
وَتَعُدُّ فِراخَ الدَّجاجاتِ كُلَّ مَساءٍ ..
تُنِيمُ الصِّغارَ على رُكْبَتَيْها كَراهِبَةٍ،
وتُحدِّثُهُمْ عنْ حَماقاتِ آبائِهِمْ فِي سِنِيِّ الطُّفُولةِ،
تَبْكِي لأَحْزانِ جارَاتِها، وَتُخاصِمُهُنَّ بِلا سَبَبٍ ..
تتَحدَّى كَنائِنِها، وتُذكِّرُهنَّ بِلا سَببٍ
أَنَّها لاَ تَزالُ كَعادَتِها دائِمًا،
رَبَّةَ الْبَيتِ، أُمَّ الرِّجالِ .. !
وأَنَّ لَها – رَغْمَ ما كانَ مِنْ مَكْرِهِنَّ ومِنْ كَيْدِهِنَّ –
يَدًا طائِلَهْ!
جدَّتِي أَثْخَنَتْها الْحُرُوبُ الصَّغيرَةُ، لَكِنَّها ..
رَبِحَتْ فِي النِّهايَةِ، كُلَّ الْحُرُوبِ الْكَبِيرَهْ ..
وظَلَّتْ علَى العَهْدِ
واقِفَةً في الْعراءِ بِوَجْهِ الرِّياحِ،
فَلَمْ تَقْتَلِعْ خَيْمَةَ الْعائِلَهْ !
مَرَّ ذاكَ الزّمانُ،
وَدارَ بها الْعُمْرُ دَوْرَتَهُ الْكامِلَهْ ..
هَا هِيَ الْيَومَ تَرْقُدُ بينَ يَدَيْ رَبِّها في سَلامٍ ..
تمامًا كما كانَ يبْدُو لَها عالَمُ الْمَوْتِ دَوْمًا ..
سُباتٌ عَمِيقٌ عَمِيقٌ ..
وحُلْمٌ يَطُولُ ولاَ يَنْتَهِي ...
يَرْتَقِي للسَّماءِ ..
فَتَفْتَحُ شُبَّاكَها وتُطِلُّ على البَيْتِ،
تَكْنُسُ باحَتَهُ،
وَتَرُدُّ الْغِطاءَ على الصِّبْيَة النَّائِمِينَ ..
تُدِيرُ الرَّحَى ...
وتُسَرِّحُ قبْلَ الشُّرُوقِ شُوَيْهاتِها ...
تتَفَقَّدُ قُنَّ الدَّجاجِ، وتَمخُضُ شَكْوَتَها ...
تِلْكَ كانتْ على الدَّومِ جَنَّتَها ..
في السَّماءِ أَوِ الأَرْضِ،
تَبْعُدُ يَومًا ... وتَقْرُبُ يَوْمًا، ولَكِنَّهَا ...
لَمْ تَكُنْ جَاهِلَهْ ...!
كُلُّ ما كَانَ يَعْنِيهِ سِرُّ الْحَياةِ لَها ...
كان قَطْعًا فقَطْ:
خَيْمَةَ الْعائِلَهْ ! !
شاعر وروائيّ ونائب بمجلس النوّاب التّونسيّ .
صدر له: خيبات طفل عظيم، عادات سيف الدولة، طوق الهلاك.
الثقب الأسود، أسوار الجنة، بيض الأفعى.