إلى ذكرى معلمي الأول: سي عمر، ومديري الأول: مسْيو أنْطونا
نفض الطفل بيدين مرتجفتين باردتين، بقايا عَمَشٍ عالق بزاويتيْ عينيْه، وحاول ـ جاهدا ـ وبما يملك من هزال «منصف»، وسعال مسعف، طرْدَ طائف من لذاذة حلم وحلوى، وسُؤْرِ نوم ما انفك يُدَوِّخُه، ويثقل رأسه الحليقَ المثلوجَ كالصينية النحاسية المخضرة المُطَحلبة، وفوقها نوع من النبات لعل اسمه: ( لَزَّازْ) لتباركه النجوم، الصينية التي ما فتئت أمه تُبَيّتُها على السطح الجليدي تحت سماء سوداء كالحة ومتجهمة.
تقدم إلى الكُتَّابِ الذي لم يكن سوى حيِّزٍ ضيق محشور في ركن من أركان مسجد المدينة الواحد الكبير، في انتظار إنهاء أشغال بناء كُتّابٍ جدير بالتسمية. وكان العمال النِّحافُ الحزانَى، يسابقون الوقت لإتمام البناء سريعا، ما جعلهم يعملون، على قدم وساق، منذ الفجر إلى ما بعد العصر. وكان الطفل قد خَبَرَ ذلك وعرفه من اختلافه اليومي بعد ذاك « اليوم الخالد»، إلى الحيز ذاك أولا، ثم إلى الكتاب الفعلي ثانيا، طيلة أعوام طبَعَتْهُ، وشكلت وعيه البدْئيَّ، وكونته قاعديا بآيِ القرآن الكريم، ما زوده بِعُدَّةٍ وعَتاد لغوي صافٍ مشرقٍ وعظيمٍ سيستمر معه حيّاً إلى اليوم.
ــ ( خَلِّ لْوَلْدْ عليكْ، وسِرْ لْخَدَّمْتَكْ ). كانت الكلمة الآمرة الناهية حاسمةً لا تقبل الرد من أبيه الذي انصاع وغادر، تاركا فلذة كبده « فريسة» بين « براثن «، قصدت بين يديْ لَفْقيهْ سي عمر: معلمه الأول الذي علمه القراءة والكتابة واللغة والحساب، وأنشأه طفلا آخر شبه محروم من اللعب مع أترابه، محجوزاً الساعات الطوال في ذلك الركن البارد بآخر زوايا المسجد على اليمين، المفروش بحُصُرٍ من نبات الحَلْفاء والدّوم.
في الحيز المركون ذاك، الذي سيصير إلى كُتّابٍ بعد أشهر معدودات، وقد بُنيَ بمحاذاة المسجد، كنا ننحشر انحشاراً، ونَتَرَاصُّ تَراصّاً حتى نستمد الدفء من بعضنا بعضاً ونحن نتصايح رافعين عقائرنا عاليا بتلاوة القرآن، ورؤوسنا الصغيرة الحليقة تَتَدَنْدَلُ يمنة ويسرة، وخلفا وأماما كأنما نكايةً بالصمت المريب، والصقيع الخارق. وكانت مدينة جرادة موطنا ومكانا جغرافيا سعيدا وشقيا، ومسرحا أثيراً للأمطار والعواصف والغبار، والنشاط السوقي العام، والغدو والرواح اللاَّينتهي، والحراك العمالي الذي لا يفتر. فالتناوب على العمل بآبار الفحم الحجري، سواء ب» حاسي بْلالْ «، أو ب» جرادة»، أو ب « سيدي أحمد بن الشيخ «، كان يغطي اليوم بكامله: ليله ونهاره؛ وصافرة الإيقاظ وضبط الوقت « الإسرافيلية»، كان دويّها المزعج العظيم، يصل إلى كل شبر من أشبار المدينة، بل وأطراف الغابة المحيطة، ظلت علامةً على « حرب « مدنية قائمة على مدار اليوم، وعلامة على العمل المُضْني المداوم الدائم، وعلى الحياة اليومية، والسعي الدائب المشكور الذي كان يدب في أوصال وأبدان وأرواح البشر والحجر.
في الكُتّابِ، حفظ الطفل ثُلُثيْ المصحف الشريف، عن ظهر غيب. ويا كَمْ فرح وهو يمحو مئات الآيات، وعشرات السور، بالماء، ويكسو اللوح بياضا بصلصال مُؤَاتٍ. ويهتز من حبور ومرح كلما حل يوم الأربعاء الذي كان يوم عطلة، وفك أَسْرٍ، يوم « التَّحْريرَة «، إذ يقوم به ويضمنه لنا: الكرماءُ ذوو الأريحية من آباء « لَمَحْضْريّة «: ( الصغار المتمدرسين )، والجيران المحاذين للكتاب، وذلك بنفح سي عمر بما تيسر من نقود، وما يضعونه من صينيات تتكاثر أحيانا مما يزرع الرحمة في قلب معلمنا فجأة، فيبتسم ويُنَحْنِح، ويوزع علينا ما فَضُلَ، وما لم يستطع أكله وشربه من أطايب وأشربة ساخنة كالشاي والقهوة والحليب المغَلّى، والرقائق المدهونة، والحرشة الفواحة الفوارة، والتمر والتين العسليين. ( لذةً للشاربين، وشهوةً وتلَمُّظاً للرائين الناظرين ).
على يد معلمي سي عمر الإمام والمؤذن والمحدث، تعلمت، ورددت محفوظاتٍ دينيةً وعظيةً، ومنها محفوظة لم تبرح ذهني وقلبي إلى الآن، ولم أفلح في الاهتداء إلى باقي أبياتها، وإلى من يكون صاحبها. وكانت ترجُّني رجّاً حتى أنني كنت أرددها أمام جاراتنا مزهوا، وأمام أمي وأبي: والديَّ اللذين كانا يَرَيان إليَّ غداً وقد حققت حلمهما، ورفعت عنهما الوِزْرَ الذي أنقضَ ظهرهما، وعِبْءَ وجودهما ومعيشهما القاسي.
يا كمْ رددتُ منتشيا: ( أشرقت الشمس وقد ولَّى الظلام هاربا ). فهل تكون المحفوظة مطلع قصيدة وطنية ضد المستعمر، أو مفتتح قصيدة دينية مدحية في رسول الله العظيم إذ أن ولادته ورسالته كانتا بمثابة شمسٍ بدَّدتْ ظلام الشرك والأوثان، كما لا نحتاج إلى بيان؟
وها هو الطفل ـ وقد بلغ سن التمدرس ـ بعد أن سلخ أعواما من باكورة طفولته الغضة الأولى، متعلما في الكُتّاب، ها هو ذا وجها لوجه أمام مَسْيو أنْطونا مدير مدرسة ابن سينا للبنين. وكان مديراً لمدرسة البنات أيضا التي لم يكن يفصلها عن البنين إلا سور طويل مستطيل ودائري يتوسطه بابٌ حديدٌ يفضي إلى ساحة البنات. وويلٌ لمن حاول من تلاميذ المتوسط الثاني ( وكانوا يستعدون للعشق والغرام )، فتح الباب، والمغامرة ولو بإطلالة خجولة وعجلى على الطفلات الغضات وهن يلعبن الحجلة، ويتصايحن فرحاتٍ وهن في أوج غبطتهن النفسية والجسدية والروحية. ولعل أقران الطفل ـ أقران تلك المرحلة والأيام ـ يعرفون من يكون مَسْيو أنطونا ذو الرأس الغليظة، والبشرة المحمرة الملفوحة، والعينين الزرقاوين الضيقتين الناريتين، والقد المربع المكتنز، والقِصَر المضحك البادي. كان عربةً واطئةً مربعةً تمشي. مَسْيو أنطونا الذي اشتهر بالشدة والقسوة والغلظة، وعدم العفو عن التلاميذ الصغار متى ما تأخروا، أو عرضت لهم حاجة، ومتى ما تعاركوا في الساحة وقت الاستراحة، ومتى ما أرسلتهم معلمة الفرنسية أو معلم العربية إلى مكتبه، شَكاةً منهما بهم لنسيانٍ أو سهو يتصل بدفتر أو بدرس لم يحفظوه، وتمرين لم ينجزوه: كانت عصاه الحديدية اللامعة تسبقه إلى وعظه التربوي والأخلاقي بينما عيناه تقدحان شرراً، وتنضحان احمراراً مخيفا يكون كافيا لبكائهم وتوسلاتهم، والبول في سراويلهم.
لكنه كان مديرا فرنسيا حقيقيا غيورا علينا، كما لو أنه مغربي تنخسه عاطفة الوطنية، وحب الآخر، والحرص على أن يخرجنا من تخلفنا وتأخرنا لنلحق ببلاده في ما كان يقول. لذلك لم يكن يَعْيا من توجيهنا وتذكيرنا بما نحن عليه، وبما ينبغي أن نقوم ونتحلى به من أدب وخلق قويم، وخصال حميدة، وعلم وتحصيل.
ويشهد الطفل ـ من ناحية ثانية ـ أن المعلمات الفرنسيات المتعاونات كُنَّ من المعدن والطينة نفسها: غيرة علينا، وخوفا من تقاعسنا؛ فشبح الطرد يهددنا، و» الحاسي « حاسي الفحم الحجري ينتظرنا.
وكم استغرب الطفل ذاك الاهتمامَ لما صار شابا يافعا، متسائلا عن سر ذلك؟ لقد كنَّ بمثابة أمهات لنا. ألم تكن مدامْ غولارْ مد الله في عمرها أو رحمها الله، تأخذ النجباء منا إلى بيتها القريب، لتطعمهم من جوع، وتكسوهم من عُرْيٍ، وتنفحهم دريهمات ليشتروا بها ما يستر عريهم، أو ما يَقي أقدامهم من الحجر المسنون، وشظايا الزجاج المكسور المنثور في كل مكان؟
سقى الله ذكرى مديري أنطونا الذي علمتني شدته وقسوته أن الكِتاَبَ يؤخذ بقوة، والدرسَ يُتَحَصَّلُ بالمثابرة والألم، والطريقَ إلى الهدف، محفوفٌ بالحجارة والشوك، والترع، والحفر. تلك حقائق مقررة لم نتوصل إليها إلا بعد أن رحل أنطونا ومعه كل الفرنسيات والفرنسيين الذين درَّسونا بالابتدائي، ما عدا نزرا قليلا منهم استمر عاملا متعاونا بالثانوي إلى أواسط سبعينيات القرن الماضي.
وها دمع معلماتي وأستاذاتي الفرنسيات الجميلات الأنيقات، يَهْمي تلقائيا، لم يغب عن ناظري، لحظةً، وهن يودعن بشجي الصوت، وشجن القلب، ودمع المآقي، مديرهن / مديري مَسْيو أنطونا، بهذا النشيد الحزين المحفور في الذاكرة والعقل والقلب:
Faut – il nous quitter sans espoir
Sans espoir de retour
Faut- il nous quitter sans espoir
De nous revoir un jour ?
لقد بكى الطفل لبكائهن، وعَرَاهُ حزن شديد وهو يطل من خصاص النوافذ، ومن بين سواري الصالة الفسيحة حيث أقيم حفل الوداع بمدرسة ابن سينا للبنات. كُنَّ يأكلن الحلوى، ويتساقين المشروبات، وهن يذرفن الدمع الهتونَ.
ألا فليرحمِ الله كافة معلمي وأساتذتي، ويمد في عمر من لا يزال على قيد الحياة.
محمد بودويك
بتاريخ : 20/11/2020
نفض الطفل بيدين مرتجفتين باردتين، بقايا عَمَشٍ عالق بزاويتيْ عينيْه، وحاول ـ جاهدا ـ وبما يملك من هزال «منصف»، وسعال مسعف، طرْدَ طائف من لذاذة حلم وحلوى، وسُؤْرِ نوم ما انفك يُدَوِّخُه، ويثقل رأسه الحليقَ المثلوجَ كالصينية النحاسية المخضرة المُطَحلبة، وفوقها نوع من النبات لعل اسمه: ( لَزَّازْ) لتباركه النجوم، الصينية التي ما فتئت أمه تُبَيّتُها على السطح الجليدي تحت سماء سوداء كالحة ومتجهمة.
تقدم إلى الكُتَّابِ الذي لم يكن سوى حيِّزٍ ضيق محشور في ركن من أركان مسجد المدينة الواحد الكبير، في انتظار إنهاء أشغال بناء كُتّابٍ جدير بالتسمية. وكان العمال النِّحافُ الحزانَى، يسابقون الوقت لإتمام البناء سريعا، ما جعلهم يعملون، على قدم وساق، منذ الفجر إلى ما بعد العصر. وكان الطفل قد خَبَرَ ذلك وعرفه من اختلافه اليومي بعد ذاك « اليوم الخالد»، إلى الحيز ذاك أولا، ثم إلى الكتاب الفعلي ثانيا، طيلة أعوام طبَعَتْهُ، وشكلت وعيه البدْئيَّ، وكونته قاعديا بآيِ القرآن الكريم، ما زوده بِعُدَّةٍ وعَتاد لغوي صافٍ مشرقٍ وعظيمٍ سيستمر معه حيّاً إلى اليوم.
ــ ( خَلِّ لْوَلْدْ عليكْ، وسِرْ لْخَدَّمْتَكْ ). كانت الكلمة الآمرة الناهية حاسمةً لا تقبل الرد من أبيه الذي انصاع وغادر، تاركا فلذة كبده « فريسة» بين « براثن «، قصدت بين يديْ لَفْقيهْ سي عمر: معلمه الأول الذي علمه القراءة والكتابة واللغة والحساب، وأنشأه طفلا آخر شبه محروم من اللعب مع أترابه، محجوزاً الساعات الطوال في ذلك الركن البارد بآخر زوايا المسجد على اليمين، المفروش بحُصُرٍ من نبات الحَلْفاء والدّوم.
في الحيز المركون ذاك، الذي سيصير إلى كُتّابٍ بعد أشهر معدودات، وقد بُنيَ بمحاذاة المسجد، كنا ننحشر انحشاراً، ونَتَرَاصُّ تَراصّاً حتى نستمد الدفء من بعضنا بعضاً ونحن نتصايح رافعين عقائرنا عاليا بتلاوة القرآن، ورؤوسنا الصغيرة الحليقة تَتَدَنْدَلُ يمنة ويسرة، وخلفا وأماما كأنما نكايةً بالصمت المريب، والصقيع الخارق. وكانت مدينة جرادة موطنا ومكانا جغرافيا سعيدا وشقيا، ومسرحا أثيراً للأمطار والعواصف والغبار، والنشاط السوقي العام، والغدو والرواح اللاَّينتهي، والحراك العمالي الذي لا يفتر. فالتناوب على العمل بآبار الفحم الحجري، سواء ب» حاسي بْلالْ «، أو ب» جرادة»، أو ب « سيدي أحمد بن الشيخ «، كان يغطي اليوم بكامله: ليله ونهاره؛ وصافرة الإيقاظ وضبط الوقت « الإسرافيلية»، كان دويّها المزعج العظيم، يصل إلى كل شبر من أشبار المدينة، بل وأطراف الغابة المحيطة، ظلت علامةً على « حرب « مدنية قائمة على مدار اليوم، وعلامة على العمل المُضْني المداوم الدائم، وعلى الحياة اليومية، والسعي الدائب المشكور الذي كان يدب في أوصال وأبدان وأرواح البشر والحجر.
في الكُتّابِ، حفظ الطفل ثُلُثيْ المصحف الشريف، عن ظهر غيب. ويا كَمْ فرح وهو يمحو مئات الآيات، وعشرات السور، بالماء، ويكسو اللوح بياضا بصلصال مُؤَاتٍ. ويهتز من حبور ومرح كلما حل يوم الأربعاء الذي كان يوم عطلة، وفك أَسْرٍ، يوم « التَّحْريرَة «، إذ يقوم به ويضمنه لنا: الكرماءُ ذوو الأريحية من آباء « لَمَحْضْريّة «: ( الصغار المتمدرسين )، والجيران المحاذين للكتاب، وذلك بنفح سي عمر بما تيسر من نقود، وما يضعونه من صينيات تتكاثر أحيانا مما يزرع الرحمة في قلب معلمنا فجأة، فيبتسم ويُنَحْنِح، ويوزع علينا ما فَضُلَ، وما لم يستطع أكله وشربه من أطايب وأشربة ساخنة كالشاي والقهوة والحليب المغَلّى، والرقائق المدهونة، والحرشة الفواحة الفوارة، والتمر والتين العسليين. ( لذةً للشاربين، وشهوةً وتلَمُّظاً للرائين الناظرين ).
على يد معلمي سي عمر الإمام والمؤذن والمحدث، تعلمت، ورددت محفوظاتٍ دينيةً وعظيةً، ومنها محفوظة لم تبرح ذهني وقلبي إلى الآن، ولم أفلح في الاهتداء إلى باقي أبياتها، وإلى من يكون صاحبها. وكانت ترجُّني رجّاً حتى أنني كنت أرددها أمام جاراتنا مزهوا، وأمام أمي وأبي: والديَّ اللذين كانا يَرَيان إليَّ غداً وقد حققت حلمهما، ورفعت عنهما الوِزْرَ الذي أنقضَ ظهرهما، وعِبْءَ وجودهما ومعيشهما القاسي.
يا كمْ رددتُ منتشيا: ( أشرقت الشمس وقد ولَّى الظلام هاربا ). فهل تكون المحفوظة مطلع قصيدة وطنية ضد المستعمر، أو مفتتح قصيدة دينية مدحية في رسول الله العظيم إذ أن ولادته ورسالته كانتا بمثابة شمسٍ بدَّدتْ ظلام الشرك والأوثان، كما لا نحتاج إلى بيان؟
وها هو الطفل ـ وقد بلغ سن التمدرس ـ بعد أن سلخ أعواما من باكورة طفولته الغضة الأولى، متعلما في الكُتّاب، ها هو ذا وجها لوجه أمام مَسْيو أنْطونا مدير مدرسة ابن سينا للبنين. وكان مديراً لمدرسة البنات أيضا التي لم يكن يفصلها عن البنين إلا سور طويل مستطيل ودائري يتوسطه بابٌ حديدٌ يفضي إلى ساحة البنات. وويلٌ لمن حاول من تلاميذ المتوسط الثاني ( وكانوا يستعدون للعشق والغرام )، فتح الباب، والمغامرة ولو بإطلالة خجولة وعجلى على الطفلات الغضات وهن يلعبن الحجلة، ويتصايحن فرحاتٍ وهن في أوج غبطتهن النفسية والجسدية والروحية. ولعل أقران الطفل ـ أقران تلك المرحلة والأيام ـ يعرفون من يكون مَسْيو أنطونا ذو الرأس الغليظة، والبشرة المحمرة الملفوحة، والعينين الزرقاوين الضيقتين الناريتين، والقد المربع المكتنز، والقِصَر المضحك البادي. كان عربةً واطئةً مربعةً تمشي. مَسْيو أنطونا الذي اشتهر بالشدة والقسوة والغلظة، وعدم العفو عن التلاميذ الصغار متى ما تأخروا، أو عرضت لهم حاجة، ومتى ما تعاركوا في الساحة وقت الاستراحة، ومتى ما أرسلتهم معلمة الفرنسية أو معلم العربية إلى مكتبه، شَكاةً منهما بهم لنسيانٍ أو سهو يتصل بدفتر أو بدرس لم يحفظوه، وتمرين لم ينجزوه: كانت عصاه الحديدية اللامعة تسبقه إلى وعظه التربوي والأخلاقي بينما عيناه تقدحان شرراً، وتنضحان احمراراً مخيفا يكون كافيا لبكائهم وتوسلاتهم، والبول في سراويلهم.
لكنه كان مديرا فرنسيا حقيقيا غيورا علينا، كما لو أنه مغربي تنخسه عاطفة الوطنية، وحب الآخر، والحرص على أن يخرجنا من تخلفنا وتأخرنا لنلحق ببلاده في ما كان يقول. لذلك لم يكن يَعْيا من توجيهنا وتذكيرنا بما نحن عليه، وبما ينبغي أن نقوم ونتحلى به من أدب وخلق قويم، وخصال حميدة، وعلم وتحصيل.
ويشهد الطفل ـ من ناحية ثانية ـ أن المعلمات الفرنسيات المتعاونات كُنَّ من المعدن والطينة نفسها: غيرة علينا، وخوفا من تقاعسنا؛ فشبح الطرد يهددنا، و» الحاسي « حاسي الفحم الحجري ينتظرنا.
وكم استغرب الطفل ذاك الاهتمامَ لما صار شابا يافعا، متسائلا عن سر ذلك؟ لقد كنَّ بمثابة أمهات لنا. ألم تكن مدامْ غولارْ مد الله في عمرها أو رحمها الله، تأخذ النجباء منا إلى بيتها القريب، لتطعمهم من جوع، وتكسوهم من عُرْيٍ، وتنفحهم دريهمات ليشتروا بها ما يستر عريهم، أو ما يَقي أقدامهم من الحجر المسنون، وشظايا الزجاج المكسور المنثور في كل مكان؟
سقى الله ذكرى مديري أنطونا الذي علمتني شدته وقسوته أن الكِتاَبَ يؤخذ بقوة، والدرسَ يُتَحَصَّلُ بالمثابرة والألم، والطريقَ إلى الهدف، محفوفٌ بالحجارة والشوك، والترع، والحفر. تلك حقائق مقررة لم نتوصل إليها إلا بعد أن رحل أنطونا ومعه كل الفرنسيات والفرنسيين الذين درَّسونا بالابتدائي، ما عدا نزرا قليلا منهم استمر عاملا متعاونا بالثانوي إلى أواسط سبعينيات القرن الماضي.
وها دمع معلماتي وأستاذاتي الفرنسيات الجميلات الأنيقات، يَهْمي تلقائيا، لم يغب عن ناظري، لحظةً، وهن يودعن بشجي الصوت، وشجن القلب، ودمع المآقي، مديرهن / مديري مَسْيو أنطونا، بهذا النشيد الحزين المحفور في الذاكرة والعقل والقلب:
Faut – il nous quitter sans espoir
Sans espoir de retour
Faut- il nous quitter sans espoir
De nous revoir un jour ?
لقد بكى الطفل لبكائهن، وعَرَاهُ حزن شديد وهو يطل من خصاص النوافذ، ومن بين سواري الصالة الفسيحة حيث أقيم حفل الوداع بمدرسة ابن سينا للبنات. كُنَّ يأكلن الحلوى، ويتساقين المشروبات، وهن يذرفن الدمع الهتونَ.
ألا فليرحمِ الله كافة معلمي وأساتذتي، ويمد في عمر من لا يزال على قيد الحياة.
محمد بودويك
بتاريخ : 20/11/2020
موجز سنوات اللوح « المحفوظ»، وسبورة القاعات «العصرية» - AL ITIHAD
إلى ذكرى معلمي الأول: سي عمر، ومديري الأول: مسْيو أنْطونا نفض الطفل بيدين مرتجفتين باردتين، بقايا عَمَشٍ عالق بزاويتيْ
alittihad.info