عندما كان يفيق من غيبوبته العام ١٩٩٢ كان يردد شِعرا لأبي فراس الحمداني ثم يذهب إلى الغيبوية من جديد .. وهو كتب نعيه بيده و اشترط أن لا يُنشر هذا النعي إلا بعد دفنه.. لذلك لم يمش في جنازته إلا بضعة أفراد والنعي الذي كتبه كان عبارة عن جملتين :
" توفي أمس الكاتب الكبير يحيى حقي .. من يقرأ هذا النعي يقرأ له الفاتحة"
وهو كان رفض في حياته طبعا أن ينشر مقالاته الأسبوعية التي يكتبها في الجرائد الأكثر انتشاراً و فضل اللجوء للأركان شبه الخفية لنشرها .. وعندما كنتُ أرافقه من مقر " المجلة " في عبد الخالق ثروت إلى أول عرابي لكي يركب .. كان يمشي متمهلاً وفي ذراعه المطوية حقيبة من الشبك مما تستخدمها ربات البيوت في حمل الخضر و الفاكهة وقد ملأها بالقصص والقصائد والمقالات .
كان رحمه الله أحد النماذج المثلى للتربية التي يجب أن يكون عليها الفنان .. ومن أكثر كتابنا إدراكاً لوحدة الظاهرة الإبداعية.. فالكلمة و النغمة و اللون و الحجر هي وسائط تعبير ضمن هذه العائلة الكبيرة .. كل وسيط أو لغة من هذه اللغات له إمكاناته التعبيرية التي يتميز بها .. الكاتب مثلا لن يستطيع أن يمنحك مشهدا مرئيا بما يتضمنه من حدث ينمو كما يستطيع الرسام أو السينمائي أن يفعل .. فاللغة ليست هي الوسيط الأمثل لتقديم ما هو مرئي ولكن نفس الكاتب إذا اهتم بمعرفة طبيعة الإمكانات التعبيرية لهذه الفنون الأخرى يمكنه أن يُغني أدواته ويوسع من إمكانات المادة التي بين يديه .. تقدير الكاتب للأشكال المعمارية مثلا يعلمه أن الذوق السليم هو إحساس بالنسبية ويعينه على بناء عمله الأدبي بشكل يستحيل معه حذف أو إضافة أي كلمة من دون الإخلال ببناء العمل ومعناه وطبقة الصوت التي نحكي بها حكايتنا .. هي مسألة ذات صلة بالموسيقى و هكذا .
كان العم " يحيى " عارفاً بهذه الوحدة و أنا كتبت عن علاقتي به في مرة سابقة لكني أحاول فقط إضافة تفصيل أو آخر على هامش هذه العلاقة.
كنت أيام تعرفت به أعمل في هيئة المواصلات السلكية و اللا سلكية .. أغادر البيت مبكراً من أجل الجولة اليومية لسور الأزبكية تفقداً للكتب القديمة وهي جولة كانت مُقدسة بالنسبة لي و للكثيرين من أبناء جيلي .. بعد ذلك أتجه إلى عبد الخالق ثروت و أجلس إليه في حضور الأصدقاء القدامى كمال ممدوح ، حمدي وسامي فريد سكرتيرا " تحرير المجلة _سجل الثقافة الرفيعة " .. ثم أرافقه إلى صف من عربات السرفيس على ناصية عرابي حيث يركب هو في طريقه لمصر الجديدة .
نحن نمشي متمهلين إذن .. العم يحيى بقامته القصيرة المفعمة بالمعرفة و رهافة الإحساس .. العصا في يده والحقيبة إياها في اليد الأخرى .. يكتفي بالابتسام سواء تكلمت أنا طيلة الوقت أو لم أتكلم .. وباقة متألقة من كتاب القصة القصيرة تنشر أعمالها في تلك الأيام وهي محل إهتمام ومتابعة و أنت لا تسأله رأيه في واحدة من هذه القصص لأنه لن يقول إلا بعد أن تقول أنت .. إذا اتفق رأيك مع رأيه أعرب عن استحسانه للعمل بأن يلتفت إليك و يهز رأسه راضياً و إذا لم يتفق سكت لا يعلق بشئ .. وفي وقت من الأوقات ظننت أنا بسبب تربيته الحسنة وتلك اللمسة الأرستقراطية في مسلكه فهو الدبلوماسي القديم الرقيق الذي تؤذيه الكلمة النابية ظننت أنه لم يكن يعرف هؤلاء الشعبيين الذين كتب عنهم و ليس ابناً لهم و أن شغفه بتفاصيل هذا المشهد الشعبي و معاناته له هي معاناة الذواقة المستمتع وليست معاناة من اكتوى به .. استغربت أن يكون كذلك بينما هو في الوقت ذاته أحد أدق و أرهف الأصوات التي عبرت عنه ثم تبينّا بعدما ظننا وتقدم العمر أن العبرة ليست أبداً في معرفة الناس و لكن في الإحساس بهم .
# شئ من هذا القبيل
# إبراهيم أصلان
" توفي أمس الكاتب الكبير يحيى حقي .. من يقرأ هذا النعي يقرأ له الفاتحة"
وهو كان رفض في حياته طبعا أن ينشر مقالاته الأسبوعية التي يكتبها في الجرائد الأكثر انتشاراً و فضل اللجوء للأركان شبه الخفية لنشرها .. وعندما كنتُ أرافقه من مقر " المجلة " في عبد الخالق ثروت إلى أول عرابي لكي يركب .. كان يمشي متمهلاً وفي ذراعه المطوية حقيبة من الشبك مما تستخدمها ربات البيوت في حمل الخضر و الفاكهة وقد ملأها بالقصص والقصائد والمقالات .
كان رحمه الله أحد النماذج المثلى للتربية التي يجب أن يكون عليها الفنان .. ومن أكثر كتابنا إدراكاً لوحدة الظاهرة الإبداعية.. فالكلمة و النغمة و اللون و الحجر هي وسائط تعبير ضمن هذه العائلة الكبيرة .. كل وسيط أو لغة من هذه اللغات له إمكاناته التعبيرية التي يتميز بها .. الكاتب مثلا لن يستطيع أن يمنحك مشهدا مرئيا بما يتضمنه من حدث ينمو كما يستطيع الرسام أو السينمائي أن يفعل .. فاللغة ليست هي الوسيط الأمثل لتقديم ما هو مرئي ولكن نفس الكاتب إذا اهتم بمعرفة طبيعة الإمكانات التعبيرية لهذه الفنون الأخرى يمكنه أن يُغني أدواته ويوسع من إمكانات المادة التي بين يديه .. تقدير الكاتب للأشكال المعمارية مثلا يعلمه أن الذوق السليم هو إحساس بالنسبية ويعينه على بناء عمله الأدبي بشكل يستحيل معه حذف أو إضافة أي كلمة من دون الإخلال ببناء العمل ومعناه وطبقة الصوت التي نحكي بها حكايتنا .. هي مسألة ذات صلة بالموسيقى و هكذا .
كان العم " يحيى " عارفاً بهذه الوحدة و أنا كتبت عن علاقتي به في مرة سابقة لكني أحاول فقط إضافة تفصيل أو آخر على هامش هذه العلاقة.
كنت أيام تعرفت به أعمل في هيئة المواصلات السلكية و اللا سلكية .. أغادر البيت مبكراً من أجل الجولة اليومية لسور الأزبكية تفقداً للكتب القديمة وهي جولة كانت مُقدسة بالنسبة لي و للكثيرين من أبناء جيلي .. بعد ذلك أتجه إلى عبد الخالق ثروت و أجلس إليه في حضور الأصدقاء القدامى كمال ممدوح ، حمدي وسامي فريد سكرتيرا " تحرير المجلة _سجل الثقافة الرفيعة " .. ثم أرافقه إلى صف من عربات السرفيس على ناصية عرابي حيث يركب هو في طريقه لمصر الجديدة .
نحن نمشي متمهلين إذن .. العم يحيى بقامته القصيرة المفعمة بالمعرفة و رهافة الإحساس .. العصا في يده والحقيبة إياها في اليد الأخرى .. يكتفي بالابتسام سواء تكلمت أنا طيلة الوقت أو لم أتكلم .. وباقة متألقة من كتاب القصة القصيرة تنشر أعمالها في تلك الأيام وهي محل إهتمام ومتابعة و أنت لا تسأله رأيه في واحدة من هذه القصص لأنه لن يقول إلا بعد أن تقول أنت .. إذا اتفق رأيك مع رأيه أعرب عن استحسانه للعمل بأن يلتفت إليك و يهز رأسه راضياً و إذا لم يتفق سكت لا يعلق بشئ .. وفي وقت من الأوقات ظننت أنا بسبب تربيته الحسنة وتلك اللمسة الأرستقراطية في مسلكه فهو الدبلوماسي القديم الرقيق الذي تؤذيه الكلمة النابية ظننت أنه لم يكن يعرف هؤلاء الشعبيين الذين كتب عنهم و ليس ابناً لهم و أن شغفه بتفاصيل هذا المشهد الشعبي و معاناته له هي معاناة الذواقة المستمتع وليست معاناة من اكتوى به .. استغربت أن يكون كذلك بينما هو في الوقت ذاته أحد أدق و أرهف الأصوات التي عبرت عنه ثم تبينّا بعدما ظننا وتقدم العمر أن العبرة ليست أبداً في معرفة الناس و لكن في الإحساس بهم .
# شئ من هذا القبيل
# إبراهيم أصلان