تختلف دوافع الكتابة الأدبية من كاتب إلى آخر، باختلاف الظروف المحيطة به وتعدّد المؤثرات الإنسانية والاجتماعية والنفسية التي تُشكل جزءا من ذائقته، لذا من البديهي أن يختلف النص الروائي وشكله من مبدع إلى آخر. كما أنه لا يختلف اثنان في أن راهن السرد في العالم العربي، أصبح ملكاً يكاد يكون كلياً لجنس الرواية، التي هيمنت – مثل نظيرتها الغربية – على المشهد الأدبي، وذلك حينما وجدت لنفسها روّاد ومُحبّين ومُريدين، وأغرت في الآن نفسه أقلاماً كانت أَمْيَل إلى قراءة أجناس أدبية أخرى وكتابتها، كالشعر والمسرح ومختلف أشكال القصة. فأمست الرواية فعلا “غانية السرد” بلا منازع.
كنت أحد أولئك الذين أغرتهم “غانية السرد”، من المُغرّر بهم في محرابها الفنّي، الذي يغري العين إلى النهل من القراءة ومواصلتها بحثاً عن ثيمات وشخصيات وأماكن وأحداث، تُشكّل بدورها أهم لبنات البناء الروائي وتخدم حبكته السردية في هذا المحراب الأبدي.
البدايات:
في بواكير العمر، كانت نصوص القراءة في الصفوف الأولى تُغريني مثلما تُغري أبناء جيلي، وترسم في داخلي شغف الاكتشاف القرائي وتَحسُّسَ جماليات النص الروائي، من خلال تناسق تلك العناصر.
مع التدرج الدّراسي، تطور الاهتمام بالنصوص، وكانت حصص المُطالعة ملجأ لأمثالي، كي يحتفوا بالنصوص الروائية الجيّدة، ومتابعة جديدها وتنوّعها.
هيمن التيار الكلاسيكي على الأدب في عشريات القرن العشرين سواءٌ في المشرق والمغرب العربيين، واكتشفت عبره نصوص الآباء المؤسسين للنصوص الواقعية، وتعدّدت النصوص المبهرة: من دعاء الكروان، ويوميات نائب في الأرياف، وصولا إلى بين القصرين، هذه الثلاثية التي أيقظت في داخلي الروائي الذي كان في سبات موسمي، وسرت سريعا فرادة صاحب الرواية نجيب محفوظ إلى أعماق تفكيري، وحفّزتني ثلاثيته إلى الانهماك في قراءة كل ما كان بمقدوري اقتناءه من رواياته، القاهرية المكان والحدث في مُجملها. وتتابع الاهتمام مع تتابع الأيام من “الثلاثية” إلى باقي الحارات وصولا إلى تكية الحرافيش، وهكذا وجدتني مسكونا بـ نجيب محفوظ وبواقعيته، فدفعني ذلك إلى أن أُطِلّ على المزيد من التجارب الروائية، واكتشف النص المغاربي من جديد المكتوب بلسانيه العربي والفرنسي. أعدت قراءة الطّاهر وطّار الذي أغرتني نصوصه اللّاز وعرس بغل والزلزال والعديد غيرها، تميّزت باختلاف الثيمة وسحر المتعة، مما دفعني إلى التهام باقي النصوص المغاربية دون تمييز لساني.
من النقد إلى الرواية:
تزامنت الفترات الدراسية التالية مع توافدت الروايات الأجنبية سواء باللغة الأم أو المترجمة، فاتسع الاهتمام وتجاوزتُ المتعة القرائية إلى الدراسة الجادة والغور في تقنيات الكتابة واكتساب شيء من النضج الروائي.
مع الدراسة الجامعية، كان اختيار منحى النقد الأدبي آلياً، وكتبتُ المقالات بلهفة وترجمتُ من الفرنسية ما تكتبه كثير من الدوريات النقدية، غير أن “روائيا مُضمرا” في داخلي أبى إلا أن يستعير من ذلك الناقد -“الناشئ” الذي كنته – قراءاته للنصوص ومختاراته السردية، الممزوجة بين العربية والفرنسية، ليبحث لنفسه عن ثيمة، تجمع الشرق بالغرب، وتكون نواة لعمل روائي. فكانت تلك الفكرة المُبهرة بالنسبة لبادئ بالكتابة الروائية الجادة، وزاوجتُ بين شاعرين يمثلان حقبتين ويعيشان في ضفتين كل واحدة منهما تُقابل الأخرى، وطفت سريعا فكرة “التعايش”، وهكذا انبعثت هذه الثيمة كعنصر شفاف بدّد تردّدي في الكتابة، وكانت تلك الشفافية سليلة للمنبع الأبدي، ألا وهي المياه. وهكذا أمسى الماء منبعا للنص الروائي وكانت “بُحيرة بورجي” الفرنسية شرارة الحدث المبدئي في روايتي الأولى “بُحيرة الملائكة”.
بُحيرة الملائكة:
يعرف الكثيرون من المهتمين بالآداب الأجنبية أن لامارتين (1790-1869) هو أحد رواد الشعر الرومانسي في فرنسا الأولى[1]، لكن القلة ربما من يعرفون أن بحيرة “بورجي” حيث يعيش الشاعر هي المُلهمة الأولى لنصه الشعري الذي خلّده “البُحيرة”. بورجي إذن مُلهمة الشاعر الفرنسي، وباعثةٌ لنصي الروائي الأول “بُحيرة الملائكة”.
عاصر لامارتين الملك الفرنسي نابليون الثالث، المعروف عنه علاقته الخاصة بالأمير عبد القادر الجزائري (1808-1883)، الذي كان الشخصية الثانية في النص.
لم يكن سهلا على أي كاتب لنصي روائي يغرف من التاريخ فكرته الأساسية أن يفرّ من صراع الحقيقة والتخييل، والشعر والسرد، لكن عامل الزمن والدراسات النقدية المقارنة السابقة، خفّفت من وطأة العقبات واكتمل العمل في غضون عام ونصف. وانتقل التعب من الكتابة وعنائها إلى مسألة النشر وهواجسه.
من الكتابة إلى النشر:
كانت سبل النشر قليلة وشاقة، فلم يكن لأي ناشر في الجزائر ليُغامر بنشر عمل يستحضر التاريخ ويُزاوج بين الشعر والنثر، وصاحبه ليس معروفاً بالشكل الكافي كي يُطلّ على القرّاء بثقة، تجعل نشر الرواية يسير بوتيرة سريعة. وطال أمد الانتظار وبين اليأس وقليل من الأمل، اقتنعت دار جزائرية اسمها “الخليل” بالنص وبصاحبه واكتمل النشر، وكان الترقب.
بعد نسخة جزائرية نُشرت في أواخر 2011، اهتم الناشر المصري بمضمون العمل وأطلت النسخة القاهرية في 2014، من خلال دار إبداع للنشر. لاقت الرواية ترحاباً في معرض القاهرة ثم معرض الجزائر، وحجزت الرواية مكاناً لها ضمن العديد من جوائز الجزائر، وهكذا تلاشى اليأس الذي صاحبني مع انتظار نشر الرواية، وأغرتني “غانية السرد” مرّة أخرى كي أجلس بين الكتب واستحضار التجربة علّني أستطيع كتابة نص آخر. وهكذا كان ونشرت روايتي الثانية “أحلام شهريار” 2013. استعذب ذلك الروائي المضمر الكتابة السردية، وبدأ يتلاشى تعب الساعات وتواصل النص السردي في ملاحقتي وتعدّدت الثيمات بتعدد العناوين:
غُبار المدينة (جائزة أطلس للرواية العربية، مصر 2015).
خيام المنفى (جائزة الطاهر وطار للرواية 2018).
قلبُ أسمر (جائرة راشد بن حمد الشرقي للرواية 2019).
كافي ريش “مقهى ريش”.
محمد فتيلينه – الجزائر
samaward.net
كنت أحد أولئك الذين أغرتهم “غانية السرد”، من المُغرّر بهم في محرابها الفنّي، الذي يغري العين إلى النهل من القراءة ومواصلتها بحثاً عن ثيمات وشخصيات وأماكن وأحداث، تُشكّل بدورها أهم لبنات البناء الروائي وتخدم حبكته السردية في هذا المحراب الأبدي.
البدايات:
في بواكير العمر، كانت نصوص القراءة في الصفوف الأولى تُغريني مثلما تُغري أبناء جيلي، وترسم في داخلي شغف الاكتشاف القرائي وتَحسُّسَ جماليات النص الروائي، من خلال تناسق تلك العناصر.
مع التدرج الدّراسي، تطور الاهتمام بالنصوص، وكانت حصص المُطالعة ملجأ لأمثالي، كي يحتفوا بالنصوص الروائية الجيّدة، ومتابعة جديدها وتنوّعها.
هيمن التيار الكلاسيكي على الأدب في عشريات القرن العشرين سواءٌ في المشرق والمغرب العربيين، واكتشفت عبره نصوص الآباء المؤسسين للنصوص الواقعية، وتعدّدت النصوص المبهرة: من دعاء الكروان، ويوميات نائب في الأرياف، وصولا إلى بين القصرين، هذه الثلاثية التي أيقظت في داخلي الروائي الذي كان في سبات موسمي، وسرت سريعا فرادة صاحب الرواية نجيب محفوظ إلى أعماق تفكيري، وحفّزتني ثلاثيته إلى الانهماك في قراءة كل ما كان بمقدوري اقتناءه من رواياته، القاهرية المكان والحدث في مُجملها. وتتابع الاهتمام مع تتابع الأيام من “الثلاثية” إلى باقي الحارات وصولا إلى تكية الحرافيش، وهكذا وجدتني مسكونا بـ نجيب محفوظ وبواقعيته، فدفعني ذلك إلى أن أُطِلّ على المزيد من التجارب الروائية، واكتشف النص المغاربي من جديد المكتوب بلسانيه العربي والفرنسي. أعدت قراءة الطّاهر وطّار الذي أغرتني نصوصه اللّاز وعرس بغل والزلزال والعديد غيرها، تميّزت باختلاف الثيمة وسحر المتعة، مما دفعني إلى التهام باقي النصوص المغاربية دون تمييز لساني.
من النقد إلى الرواية:
تزامنت الفترات الدراسية التالية مع توافدت الروايات الأجنبية سواء باللغة الأم أو المترجمة، فاتسع الاهتمام وتجاوزتُ المتعة القرائية إلى الدراسة الجادة والغور في تقنيات الكتابة واكتساب شيء من النضج الروائي.
مع الدراسة الجامعية، كان اختيار منحى النقد الأدبي آلياً، وكتبتُ المقالات بلهفة وترجمتُ من الفرنسية ما تكتبه كثير من الدوريات النقدية، غير أن “روائيا مُضمرا” في داخلي أبى إلا أن يستعير من ذلك الناقد -“الناشئ” الذي كنته – قراءاته للنصوص ومختاراته السردية، الممزوجة بين العربية والفرنسية، ليبحث لنفسه عن ثيمة، تجمع الشرق بالغرب، وتكون نواة لعمل روائي. فكانت تلك الفكرة المُبهرة بالنسبة لبادئ بالكتابة الروائية الجادة، وزاوجتُ بين شاعرين يمثلان حقبتين ويعيشان في ضفتين كل واحدة منهما تُقابل الأخرى، وطفت سريعا فكرة “التعايش”، وهكذا انبعثت هذه الثيمة كعنصر شفاف بدّد تردّدي في الكتابة، وكانت تلك الشفافية سليلة للمنبع الأبدي، ألا وهي المياه. وهكذا أمسى الماء منبعا للنص الروائي وكانت “بُحيرة بورجي” الفرنسية شرارة الحدث المبدئي في روايتي الأولى “بُحيرة الملائكة”.
بُحيرة الملائكة:
يعرف الكثيرون من المهتمين بالآداب الأجنبية أن لامارتين (1790-1869) هو أحد رواد الشعر الرومانسي في فرنسا الأولى[1]، لكن القلة ربما من يعرفون أن بحيرة “بورجي” حيث يعيش الشاعر هي المُلهمة الأولى لنصه الشعري الذي خلّده “البُحيرة”. بورجي إذن مُلهمة الشاعر الفرنسي، وباعثةٌ لنصي الروائي الأول “بُحيرة الملائكة”.
عاصر لامارتين الملك الفرنسي نابليون الثالث، المعروف عنه علاقته الخاصة بالأمير عبد القادر الجزائري (1808-1883)، الذي كان الشخصية الثانية في النص.
لم يكن سهلا على أي كاتب لنصي روائي يغرف من التاريخ فكرته الأساسية أن يفرّ من صراع الحقيقة والتخييل، والشعر والسرد، لكن عامل الزمن والدراسات النقدية المقارنة السابقة، خفّفت من وطأة العقبات واكتمل العمل في غضون عام ونصف. وانتقل التعب من الكتابة وعنائها إلى مسألة النشر وهواجسه.
من الكتابة إلى النشر:
كانت سبل النشر قليلة وشاقة، فلم يكن لأي ناشر في الجزائر ليُغامر بنشر عمل يستحضر التاريخ ويُزاوج بين الشعر والنثر، وصاحبه ليس معروفاً بالشكل الكافي كي يُطلّ على القرّاء بثقة، تجعل نشر الرواية يسير بوتيرة سريعة. وطال أمد الانتظار وبين اليأس وقليل من الأمل، اقتنعت دار جزائرية اسمها “الخليل” بالنص وبصاحبه واكتمل النشر، وكان الترقب.
بعد نسخة جزائرية نُشرت في أواخر 2011، اهتم الناشر المصري بمضمون العمل وأطلت النسخة القاهرية في 2014، من خلال دار إبداع للنشر. لاقت الرواية ترحاباً في معرض القاهرة ثم معرض الجزائر، وحجزت الرواية مكاناً لها ضمن العديد من جوائز الجزائر، وهكذا تلاشى اليأس الذي صاحبني مع انتظار نشر الرواية، وأغرتني “غانية السرد” مرّة أخرى كي أجلس بين الكتب واستحضار التجربة علّني أستطيع كتابة نص آخر. وهكذا كان ونشرت روايتي الثانية “أحلام شهريار” 2013. استعذب ذلك الروائي المضمر الكتابة السردية، وبدأ يتلاشى تعب الساعات وتواصل النص السردي في ملاحقتي وتعدّدت الثيمات بتعدد العناوين:
غُبار المدينة (جائزة أطلس للرواية العربية، مصر 2015).
خيام المنفى (جائزة الطاهر وطار للرواية 2018).
قلبُ أسمر (جائرة راشد بن حمد الشرقي للرواية 2019).
كافي ريش “مقهى ريش”.
محمد فتيلينه – الجزائر
غانيـــــةُ الــــــسّرد (الرواية الأولى) – مجلة سماورد
محمد فتيلينه – الجزائر: تختلف دوافع الكتابة الأدبية من كاتب إلى آخر، باختلاف الظروف المحيطة به وتعدّد المؤثرات الإنسانية والاجتماعية والنفسية التي تُشكل جزءا من ذائقته، لذا من البديهي أن يختلف النص الروائي وشكله من مبدع إلى آخر. كما أنه لا يختلف اثنان في أن راهن السرد في العالم العربي، أصبح...