وجيهة عبد الرحمن - الإفريز*.. قصة قصيرة

بين ربوة الحلم وربوة القدر
ينبسط إفريز من الوهم...
في حرم المدينة المباغتة للصَّحراء الممتدة على امتداد البصر، المدينة التي سكنت القفر فاستعادت للصَّحراء هيبة الخلاء ووحدتها المفرطة في الكآبة، الريح التي هبت من اللاتجاه، سقطت غبشاً، فأسدلت ستارة من الغشاوة على عيون تتوق إلى الإبصار أكثر من توقها إلى الغوص في الأشياء، هناك حيث كل شيء يبدو أقرب ما يكون إلى الحقيقة ـ حقيقةِ العراء المسكون بالفتنة حين تفاجئه الشَّمس ويلفظها هو حينما ينام.
دخل المدينة من أضيق أبوابها المواربة على فسيح جناتها، حاملاً في يده صرَّة ملأى بما لا تدرون، سار بخطى معاكسة لما كان النَّاس يسيرون.
جاء يتبع قدره المجهول في مدينة كالسَّراب، نامت على تخوم الظلّ لغيمة.. ما تراءى منها سوى اللهاث بحثاً عن موطن لوابلها الحبيس في كبدها.
قدرهُ أن ينتعل الخريف، ويتدثر الموج المباغت لشاطئ الرمل الأليف، فتحنو عليه الأشواك، فلا تتسكع على هامته الملقاة على طريق اللاعودة.
كم ستكون وحيداً بوجهك الأمرد، سيسطو عليك الحنين، في الليلة ذاتها التي ستواصل فيها مسيرك إلى عالم الجان، بيدك قرن الفيل تبعد به وباليد الأخرى الفارغة إلا من أصابعك الطَّويلة أشواكُ الصبَّار التي أدمت قدرك.
هل، حقاً، ستدخل تلك المدينة وقد فرغت أيديك من عناوين تذهب إليها؟ لم تشأ رحيلاً كذالك!
ولكنَّك رسمتَ في تلك الليلة على الرَّمل، قبل المضيّ، خطَّ سيرك الذي سيأخذك إلى مدينة سكنتِ اليباب، حيث كل شيء يبدو باهتاً غادره اللون. هل سحرتك المساحات البنية من خلاء يستكين للوساوس من إرث الأسلاف؟.
لا تقل أنَّك حلمت بأنَّ تكون هنا، ومن ثمّ اتبعت حلمك المثقل بأوهامك، بأنك ستغدو رسول الغرائب الفريدة.
كان عناؤك في سيرك أنّك كنت وحيداً، تبتلعك الدروب الوعرة وتلفظك المتاهات.
ولكنك، الآن، في حرم مملكتهم، التقيت بها أول ما وطأت قدمك قفار المدينة، باغتتك سمرتها الدَّاكنة وتموجات الشَّعر المأخوذ بأسباب الرِّيح التي هبَّت من الشَّمال. إنها ريح انتظار غريب يدهم وحدتها، كانت حينذاك تخرج رؤوس الكمأ المخزون بقدرة الشَّمس في باطن الخلاء بمديتها الصدئة، لتكون وجبة الغداء مكسوة بالحديد وعصارة روحها.
تطوَّع لسانه ليمزق ستارة الخلاء المسدلة على أنين روحيهما، سألها عن مدينة الأشقياء الذين سجدوا لسلطان الظُّلمة ولم يبرحوا واحة أجسادهم.
أشارت بإصبعها إلى الطريق حيث لاحت له المدينة من بعيد. شيءٌ ما تملَّكَكَ وأنت تمتصُّ رحيق إصبعها
بعينيك اللوزيتين، ابتعدت عنها بضع خطوات ثم عدت لتسألها عما تفعله بوحدتها في هذا القفر المستغيث، لم تشأ تركها هائمة على وجهها تنشد أغانيها المفضلة وقد انحنت بكليتها على مخبأ نبتتها المرتعشة التي استباحت باطن الوحشة.
ربما كان عليك، في البدء، التوقف للحظات لتستجمع قواك وأنت تواجه هول قدرك الذي وضعك على مشارف هذا المكان.
الصَّحراء وجه فارغ من الملامح حيناً، وحيناً آخر هي وجهٌ ينضح بالحقيقة التي ستؤول إليها مسيرتك.
تسمَّرت قدماها في مكانهما وقد أثار دهشتها تطفلك. أنت العابر، كغيرك، حرمَ المملكة النائمة.. هناك حيث لا أثر لاستمرارهم، تسمع صوتك المنبعث من صحراء روحك، تنشد خاتمة قدرك.
قادك فضولك إلى مجاهيل مدينة كالظَّلام لا تعرف عنها سوى مكانها.
لم ترد على تساؤلك، ظلَّ الصَّمتُ هائماً بينكما، ولما استحالت شفتاها الغليظتان إلى قطعتي حطب أصمّ لملمتَ أذيال صرَّتك وأطلقت ساقيك للعراء, تتسارع خطواتك مع نبضات قلبك الذي تعلَّق بمديتها بينما تقتلع الكمآت من جذورها.
كنت كالحية التي أضاعت خرزتها، تسير بضع خطوات ثم تتوقف لتنظر إليها، تتأملها وقد تركتها خلفك تنشد ما تبقّى لها من أغنيات إذ لفظتك روحها فلم تعرك حلماً. ابتعدت عنها وابتلعها قلبك وابتلعك السراب.
تدخل المدينة، تسير في شوارعها المكسوَّة بغبار زوبعة أثارت ليلة أمس حفيظة أهلها بأنهم ـ لاشك ـ مندثرون تحت الغبار الذي سيعلو هاماتهم.
كل شيء يبدو طبيعياً، اعتيادياً. مملكة صغيرة كغيرها من المدن المتهالكة على أحوالها، ألقت بها يد السماء بساكنيها من سابع طبقاته، كلكم هنا وحيدون يفصلكم عن الزمن المرئي مسافات من الحلم، بدوت
مثلهم، لم يعيروك التفاتة وكأنَّك حين باغتتهم وضعت على رأسك قلنسوة هرمز فاختفت ملامحك، تجاهلوك، فلم تبدُ غريباً بالنسبة إليهم.
ما تزال تقيس نبض طرقاتها وقلبك معلَّق بمدية قدرك خارج أسوار المكان.
أيّة عرافة أرسلتك إلى مكان كهذا، أم كان قدرك حلماً راودك بينما تسلل النَّوم إلى أجفانك ذات ليلة عاصفة، فوضعك على حافة القرار بأن تصنع لك قدراً بينما الكل في الجوار لايعيرك انتباهاً، أنت الذي بذل ما بذل من سواد لياليه ونهاراته في نحت السَّاعات صبراً على ما آلت إليه أحواله، بعد أن استولت العقبان السوداء على جسارة روحه.
اعتقدت جازماً بأنّك ما إن تغادر من لم يروك ـ وكنت غائباً عنهم بروحك إلى مملكة الهوام ـ حتى تظهر للعيان، ستحمل إليهم ما لم يكونوا يحتملونه هنا، ويلبسونك حينها جبَّةَ الوالي. لم تدرك أنّ الصَّحراء كغيرها من الملفات تبتلع الأحلام برمالها،
وتطوي صفحة أجساد عاشت بطول حياتها معرضها، وفي قادم الأيام ستذيِّل صورتك شريطة سوداء للمفقودين ويطوى ملفُّ حياتك فيذهب إلى درج أحد المكاتب التي ستتكتَّم عليك.
ما زلت تدفع أقدامك أمامك بحثاً عما لا تعرفه في مدينتهم وهم عنك غافلون، ولأنَّك تجوَّلت كثيراً بينهم وغادرتك فكرتك وبهتَ لون حلمك ما إن رأيتهم أشباه أشباح سكنت اليباب، تومئ شذرات فكرة في رأسك، قلبك الذي تركته عندها، ترغب في العودة إلى الوراء، تخرج من هذه المتاهة، إلى فتاة الكمأ، لكنَّك أصبحت الآن بعيداً عنها، ثمَّة قرار يجب اتخاذه، ثمَّة معركة حامية الوطيس بين قلبك وحلمك الذي جئت تنشده، قلبك فارس مغوار لا يهاب مواجهة الأحلام، يطعن بسيفه أحشاء الحلم الذي دفعك إلى المضي باتجاه عالم الأرواح، حيث لا مكان لك فيه، إذ إنَّهم لم يمنحوك أدنى درجات القبول بينهم، ربما ستكون ممتناً لهم فيما بعد.
أنت لا تنتمي إليهم وكان عليك إدراك ذلك منذ أن تجاهلتك فتاتك الوحيدة في الخلاء وتجاهلتك أشباح المكان.
تعود أدراجك لعلَّك تحظى بالقليل الذي أنشدته من رحلتك عبر قدرك.
تتعرج الطرقات أمامك وتطول المسافة، تهرول، تثقل الصرَّة كاهلك فترمي بها إلى الطَّريق، تتجاوز الكثيرين ممن لم يروك، أخيراً تصل إلى البوابة التي دخلت منها حياتهم، اقتحمت كآبتهم البادية على محياهم، تخرج إلى حيث الخلاء الذي انتشر على صفحته الخرنوب ، تخلع عنك خفّيك، فقد باتت قدمك أكبر من ذي قبل، تعدو سريعاً، حافياً، تدهس كل ما يعترضك، غير مبالٍ بشوك انغرز في باطن قدميك، ابتعدت عن أسوار المدينة متَّجها نحو فتاتك، تلتف السَّماء حول عنقك، تختنق، فتضيع لا تدري أين أنت، تائهاً بدوت الآن.
اختفت الفتاة ونبذتك المدينة، تجثو على ركبتيك وتنغرز راحتاك في الرمل، بقيت وحيداً مرَّة أخرى ولكن هذه المرّة خانك القدر فخسرت الحلم.

* * *

*الإفريز: موضع منخفض بين ربوتين.

وجيهة عبد الرحمن / سوريا / ألمانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...