يظل المتتبع للحيزات غير العادية في طبوغرافيا الكتابةوارتسام الحلم، واقفا في حيرة أمام وضع يتأرجح فيه.
المبدع بين إعطاء أهمية كبرى "للإطار"، وبين إعطاء ذات الأهمية للإ بداع، مروراً بتوسلات "هوميروس" لربات الشعر أن يهبنه نعمة الإلهام، وتأملات أفلاطون الجمالية المرتبطة بإيحاء ات ميتافيزيقية، والمرور لاحقاً على المدرسة النفسية التي تعتبر الإبداع مرتبطاً باللاوعي اوباعتباره نوعاً من الإنتاج الجمعي دون أن ننسى أيضاًتصنيفات المدرسة السوسيولوجية ونظرتها إلى المبدع.
الخلاصة أن الإبداع يوجد حيثما يوجد الإنسان، منذ أولى تجاربه البدائية في التصوير، والنحت، وأناشيد المطر وتضرعات وثنية أو إلهية...
لكن من هو المبدع؟
لنحاولْ أن نصف المبدع بهذه البساطة الفجة: كائن عاقل، انفعالي، خالق، يعيش في وسط اجتماعي، لايجد فيه الضروريات، أو انعدامها فحسب؛ بل يتخذ ذلك الوسط أساساً لنمو قدراته الخاصة، وميوله المتـقدمة.
أشك أن يكون هذا الوصف صالحاً لتعريف المبدع؛ وإن كان أي وسط اجتماعي مفترض،قد تميزه بيئة مشحونة بمضامين ثقافية، وتاريخية؛ ولو أنه في هذه البيئة يتم تبادل الأثر والتأثير، بدينامكية متفاعلة يفرضها الصراع الاجتماعي، ضمن إطار نوعي يختاره المبدع نفسه، عن طواعية، كي يميزه عن بقية المبدعين ولو مؤقتاً، أثناء رصد التحولا ت في مجالات شتى من بينها مجاله الخاص ذاته.
هذا التعريف يروم نظريةتحاول تحديد المبدع وحصره.بهذه الطريقة الفجة، المتمنطقة بعقلانيةقاصرة، تسعى إلى أن تبني حجتها كالتالي:
لولا كون المبدع عاقلاً ذا حساسية، ولا وعي، ما كان له أن يكتسب تلك الصفة، ولا ذلك الحس، الذي يرسم طريقه عبر طبوغرافيا غير مألوفة... ثم بعد ذلك يأتي الإلهام متوقعاً، أو مباغتاً، تاماً، أومبعثراً في لحظات خاطفة.
إنها مجرد محاولة تقريبية تترك وراءها عدداً من أسئلة أخرى.
منذ هوميروس إلى الآن، يبدو أن تجاهل تلك اللحظات الخاطفة قد يؤدي إلى الا رتباك، وحصر الأمر في الحدس وحده.ذلك أن اللحظات الخاطفة هي التي يصعب رصدها والتقاطها، وإعادة شحن ومضاتها، في حزمات -إن جاز هذا التعبير- ثم تفجيرها عند الحاجة، حاجة اللاوعي. وهذا التجميع اللاواعي هو من ميكانيزمات الإبداع. إعادة الشحن للومضات، يحول دون انحرفها في طريقها إلى وجدان الفنان المبدع، خلال تأرجح عملية التوهج...
أما تلك الأفكار التي تحيلنا إلى "السماء فوقنا والأرض تحتنا"؛ فهي جانبية، ضالّة، ومضللة لأنها تدعونابمنطقها الصوري الفج، إلىخضوع ميكانيكي، تضيق عنه أفكارنا الخلاّقة،المتحررة من القيود، خارج الزمان والمكان. إنها لاتمت للإبداع بصلة،إذ هي تحوم حواليه، دون ان تتجرأ على اقتحامه.
هذا التورط الميتافيزيقي للمبدع هو الذي دعا الفلاسفة إلى أ ن يظنوا أن الكاتب، أو الشاعر، او الفنا ن، يمتلك شخصية مختلة في توازنها، وهو الذي جعل شاعراً مثل "بودلير"، يكسر البلاغة اويحاول إعادة تكسيرها، ومن بين العديد من الأمثلةالملخصة لنظرته وموقفه من التشبيه الشامل الذي تنبني عليه الاستعارة، أنه اتجه إلى استعارة اخرى قلقة، ومتوترة تكسر الأسس البلاغية التقليدية وتعتمد على فلسفة ميتافيزيقية : نجد ذلك في تشبيهاته واستعاراته التي تنعدم فيها اوجه الشبه بين {الصوت} المسموع، {والعطر} المشموم،{واللون} المرئي. وهذا الموقف الميتافيزقي يتجلى في أن وراء المحسوسات، جوهر ة الجواهر؛ وهو مانجده في قصيدة تجاوبات أو تطاقات: حيث يتم تحويل الطبيعة إلى معبد:
الطبيعة معبد يرتل فيه دهاقنته
أحياناً غوامض الكلمات،
يمر فيه الإنسان عبر آجام من الرموز
تراقبه بنظرات مألوفة
تتجاوب العطور والألوان والأصوات،
فيه، كالأصداء الممتدة من بعيد تمتزج
في وحدة مظلمة وعميقة
واسعة كالدجى، فسيحة كا متداد النور.
* انظر مقدمتنا في ترجمة "سأم باريس" في جريدة "الصحراء المغربية" المعنون: بحثاً عن مفاتيح غرفةبودلير المزدوجة.عدد :19-1-2004 وعدد:20-1- 2004
ومن ثم، تقوم مثل هذه الأطروحة على مقدمات ونتائج مرعبة: عندما يسعى المبدع إلى اكتساب نوع من الاتزان بينه وبين الآخرين، أي الخروج من البوتقة التي انغمس فيها منذ نعومة أظفاره، إلى أن شب مبدعاً يبحث عن نوع من التكامل النفسي والاجتماعي، مع ما يعترضه من نجاح، وإخفاق، في ممارّ الكتابة الإبداعية.فهو إذن، يسعى على كل حال،أن يخرج من قوقعته، وينغمس في بوتقة الـ" نحن" بدل الـ"أنا ا"، حيث تظهر باكورة تجربته متبلورة ضمن إطار نوعي،كاتباً كان،أو شاعراً، أوفناناً تشكيلياً أوموسيقياً...إلخ
كل ذلك، قد يحدث بعد أن يستفيق المبدع من انغماسه المطلق في خلواته، وتوتراته، واختلال توازنه.
وكأن المبدع البئيس أمام عملية جاهزة بكل الميكانيزمات المفترضة.
نظرية، تلو نظرية، كل واحدة تفسر الإبداع، وكل واحدة منها تلغي الأخرى، من ميتافيزيقية ومادية...
ولا نعجب بعد ذلك إذا ارتفعت أصوات بعض المبدعين الكبار الذين نالوا شهرة ما، باتهام إبداعاتهم بضرب من الجنون، أونرى الحبيب الدائم ربي يقوم بمحاولة طرح مبدإ الانتحار، لينتهي الى أن المبدعين لاينتحرون وحدهم.
... ودائماً، كالعادة، يرتبط الانتحار بالجنون، أو بالإ بداع، كأنها جميعاً عناصر متجانسة.
ولكنْ، هناك أيضا انتحار فلسفي عبثي...فما علاقة كل من الجنون، والانتحار بالإبداع؟
هل نلغي كل النظريات التي حاولت تفسير الإبداع، بالبدء من الأول: هوميروس، سقراط،- الذي جرع كأسه في ألم -، فأ فلاطون، وارسطو، إلى يونغ والمدرسة السوسيولجية ،بغض النظر، عن الانتحار اعند المسلمين في القرون الوسطى[ الجوهري الذي ألقى بنفسه من عــل]؟
في إمكاننا تحليل كل تلك النظريات واحدة تلو أخرى ومقارنتها، ولكن لايمكن إلغاؤها، أوتجاهلها، بل تجاوزها بالإتيان بعملية تخارج للإ بداع.
أين نحن من كل تلك النظريات ؟
يقول "موريس بلانشو" : "من الضروري دائما ًتذكير الروائي أنه ليس هو الذي يكتب عمله الأ دبي، لكن هذا العمل هو الذي يشد ذاته من خلاله، وانه مهما شاء الروائي أن يكون نير البصيرة، فهو موكل بتجربة تتجاوزه، إن لم تهده". ومن هنا تأتي فرادة المبدع، عندما يجسد فكرة جديدة أوينفذ إلهاماً مبتكرا ًلم يخطر علي بال أحد سواه.
المبدع بين إعطاء أهمية كبرى "للإطار"، وبين إعطاء ذات الأهمية للإ بداع، مروراً بتوسلات "هوميروس" لربات الشعر أن يهبنه نعمة الإلهام، وتأملات أفلاطون الجمالية المرتبطة بإيحاء ات ميتافيزيقية، والمرور لاحقاً على المدرسة النفسية التي تعتبر الإبداع مرتبطاً باللاوعي اوباعتباره نوعاً من الإنتاج الجمعي دون أن ننسى أيضاًتصنيفات المدرسة السوسيولوجية ونظرتها إلى المبدع.
الخلاصة أن الإبداع يوجد حيثما يوجد الإنسان، منذ أولى تجاربه البدائية في التصوير، والنحت، وأناشيد المطر وتضرعات وثنية أو إلهية...
لكن من هو المبدع؟
لنحاولْ أن نصف المبدع بهذه البساطة الفجة: كائن عاقل، انفعالي، خالق، يعيش في وسط اجتماعي، لايجد فيه الضروريات، أو انعدامها فحسب؛ بل يتخذ ذلك الوسط أساساً لنمو قدراته الخاصة، وميوله المتـقدمة.
أشك أن يكون هذا الوصف صالحاً لتعريف المبدع؛ وإن كان أي وسط اجتماعي مفترض،قد تميزه بيئة مشحونة بمضامين ثقافية، وتاريخية؛ ولو أنه في هذه البيئة يتم تبادل الأثر والتأثير، بدينامكية متفاعلة يفرضها الصراع الاجتماعي، ضمن إطار نوعي يختاره المبدع نفسه، عن طواعية، كي يميزه عن بقية المبدعين ولو مؤقتاً، أثناء رصد التحولا ت في مجالات شتى من بينها مجاله الخاص ذاته.
هذا التعريف يروم نظريةتحاول تحديد المبدع وحصره.بهذه الطريقة الفجة، المتمنطقة بعقلانيةقاصرة، تسعى إلى أن تبني حجتها كالتالي:
لولا كون المبدع عاقلاً ذا حساسية، ولا وعي، ما كان له أن يكتسب تلك الصفة، ولا ذلك الحس، الذي يرسم طريقه عبر طبوغرافيا غير مألوفة... ثم بعد ذلك يأتي الإلهام متوقعاً، أو مباغتاً، تاماً، أومبعثراً في لحظات خاطفة.
إنها مجرد محاولة تقريبية تترك وراءها عدداً من أسئلة أخرى.
منذ هوميروس إلى الآن، يبدو أن تجاهل تلك اللحظات الخاطفة قد يؤدي إلى الا رتباك، وحصر الأمر في الحدس وحده.ذلك أن اللحظات الخاطفة هي التي يصعب رصدها والتقاطها، وإعادة شحن ومضاتها، في حزمات -إن جاز هذا التعبير- ثم تفجيرها عند الحاجة، حاجة اللاوعي. وهذا التجميع اللاواعي هو من ميكانيزمات الإبداع. إعادة الشحن للومضات، يحول دون انحرفها في طريقها إلى وجدان الفنان المبدع، خلال تأرجح عملية التوهج...
أما تلك الأفكار التي تحيلنا إلى "السماء فوقنا والأرض تحتنا"؛ فهي جانبية، ضالّة، ومضللة لأنها تدعونابمنطقها الصوري الفج، إلىخضوع ميكانيكي، تضيق عنه أفكارنا الخلاّقة،المتحررة من القيود، خارج الزمان والمكان. إنها لاتمت للإبداع بصلة،إذ هي تحوم حواليه، دون ان تتجرأ على اقتحامه.
هذا التورط الميتافيزيقي للمبدع هو الذي دعا الفلاسفة إلى أ ن يظنوا أن الكاتب، أو الشاعر، او الفنا ن، يمتلك شخصية مختلة في توازنها، وهو الذي جعل شاعراً مثل "بودلير"، يكسر البلاغة اويحاول إعادة تكسيرها، ومن بين العديد من الأمثلةالملخصة لنظرته وموقفه من التشبيه الشامل الذي تنبني عليه الاستعارة، أنه اتجه إلى استعارة اخرى قلقة، ومتوترة تكسر الأسس البلاغية التقليدية وتعتمد على فلسفة ميتافيزيقية : نجد ذلك في تشبيهاته واستعاراته التي تنعدم فيها اوجه الشبه بين {الصوت} المسموع، {والعطر} المشموم،{واللون} المرئي. وهذا الموقف الميتافيزقي يتجلى في أن وراء المحسوسات، جوهر ة الجواهر؛ وهو مانجده في قصيدة تجاوبات أو تطاقات: حيث يتم تحويل الطبيعة إلى معبد:
الطبيعة معبد يرتل فيه دهاقنته
أحياناً غوامض الكلمات،
يمر فيه الإنسان عبر آجام من الرموز
تراقبه بنظرات مألوفة
تتجاوب العطور والألوان والأصوات،
فيه، كالأصداء الممتدة من بعيد تمتزج
في وحدة مظلمة وعميقة
واسعة كالدجى، فسيحة كا متداد النور.
* انظر مقدمتنا في ترجمة "سأم باريس" في جريدة "الصحراء المغربية" المعنون: بحثاً عن مفاتيح غرفةبودلير المزدوجة.عدد :19-1-2004 وعدد:20-1- 2004
ومن ثم، تقوم مثل هذه الأطروحة على مقدمات ونتائج مرعبة: عندما يسعى المبدع إلى اكتساب نوع من الاتزان بينه وبين الآخرين، أي الخروج من البوتقة التي انغمس فيها منذ نعومة أظفاره، إلى أن شب مبدعاً يبحث عن نوع من التكامل النفسي والاجتماعي، مع ما يعترضه من نجاح، وإخفاق، في ممارّ الكتابة الإبداعية.فهو إذن، يسعى على كل حال،أن يخرج من قوقعته، وينغمس في بوتقة الـ" نحن" بدل الـ"أنا ا"، حيث تظهر باكورة تجربته متبلورة ضمن إطار نوعي،كاتباً كان،أو شاعراً، أوفناناً تشكيلياً أوموسيقياً...إلخ
كل ذلك، قد يحدث بعد أن يستفيق المبدع من انغماسه المطلق في خلواته، وتوتراته، واختلال توازنه.
وكأن المبدع البئيس أمام عملية جاهزة بكل الميكانيزمات المفترضة.
نظرية، تلو نظرية، كل واحدة تفسر الإبداع، وكل واحدة منها تلغي الأخرى، من ميتافيزيقية ومادية...
ولا نعجب بعد ذلك إذا ارتفعت أصوات بعض المبدعين الكبار الذين نالوا شهرة ما، باتهام إبداعاتهم بضرب من الجنون، أونرى الحبيب الدائم ربي يقوم بمحاولة طرح مبدإ الانتحار، لينتهي الى أن المبدعين لاينتحرون وحدهم.
... ودائماً، كالعادة، يرتبط الانتحار بالجنون، أو بالإ بداع، كأنها جميعاً عناصر متجانسة.
ولكنْ، هناك أيضا انتحار فلسفي عبثي...فما علاقة كل من الجنون، والانتحار بالإبداع؟
هل نلغي كل النظريات التي حاولت تفسير الإبداع، بالبدء من الأول: هوميروس، سقراط،- الذي جرع كأسه في ألم -، فأ فلاطون، وارسطو، إلى يونغ والمدرسة السوسيولجية ،بغض النظر، عن الانتحار اعند المسلمين في القرون الوسطى[ الجوهري الذي ألقى بنفسه من عــل]؟
في إمكاننا تحليل كل تلك النظريات واحدة تلو أخرى ومقارنتها، ولكن لايمكن إلغاؤها، أوتجاهلها، بل تجاوزها بالإتيان بعملية تخارج للإ بداع.
أين نحن من كل تلك النظريات ؟
يقول "موريس بلانشو" : "من الضروري دائما ًتذكير الروائي أنه ليس هو الذي يكتب عمله الأ دبي، لكن هذا العمل هو الذي يشد ذاته من خلاله، وانه مهما شاء الروائي أن يكون نير البصيرة، فهو موكل بتجربة تتجاوزه، إن لم تهده". ومن هنا تأتي فرادة المبدع، عندما يجسد فكرة جديدة أوينفذ إلهاماً مبتكرا ًلم يخطر علي بال أحد سواه.