عبدالعزيز بركة ساكن - وحده يبقى الشاعر من الليل!..

أجل، أبيعك بقُبْلةٍ يا سيدتي، وورقةِ نحاسٍ صفراء، تلوحين لي من بعيد شاكرة أم غاضبة لا أفهم، يداك تعرفان السِرُّ، أصابعي تتفقدان حموضة الشجرة وتتوهمان ـ بين لحظة وأخرى_ أن ينفجر الكنز المسحور ينثر أقماراً كثيرة، وبرتقالات وزيتوناً وزيتاً!

لا يدهشني القطن الأسود، سوف تثارين وتَقبلين ثمن القُبلة ملحاً، والمجد الذي يبنيه الأطفال على الرمل الذهبي، بالتأكيد في شكل قصورٍ وقطاطٍ وذرةٍ شامية، مجد لا يقاس بمسبارِ اللحظةِ أو الّلذة أو حتى طنين الجسد!.
بقدر ما يوحي لي الحبر أحُبُّكِ، حُبّاً كثيراً، يكفي قشلاقاً حدودياً من الطمأنينة، وسِرُّ الليل، قد نتبادل نشوة الجسد ونحتفي بالروح ونهتف على بقايا الورق والأصباغ والأصدقاء بما يكفي من سخريةٍ، ولكِنّا أبداً لا نكتفي من الحنين الأسود الزاهي!.
لا يكفي الليل كُلُّه، ولا المرقد وسقسقة ماء الحياء الحار، تنامين على كفي طوال العمر وتحلمين مثلك مثل العصافير الصغيرة.
العمر كُلُّه، ثم الأقمار بين نهديكِ دون هدى، أو سكرى مثلي يبلّلها العرق النقي الحلو، فتموء الأصابع الرشيقة، تأتي أقمار لا تعرفها الأقمار إلّا بالندى.
ترضع الأطفال ـ وهم يكبرون ويزدادون سواداً، ويبقيني الحرس خارج أسوار المدينة موسماً بعد موسم، اتحمل ثقل الريح ونهيق الرعد وحوحة البرق المشاكس على أسوار المدينة ، وحدي أحُبُّكِ.
أسمع الآن طنين الصمت وأرى كما يرى الحالم ذراعيك تبرزان من بين السواد، تُلَوحان في الهواءِ وتقبضان لا شئ، أو الملائكة الذين يوجدون حيثما، يحصون لحظات الجسد الخفيفة، طازجة بآلاتهم الحاسبة، واحدة تلو الأخرى، هي ذاتها دهشة كُلُّ شيء يحدث للمرةِ الأولى.
هي ذاتها مأساة أن ينتهي..
هي..
ذاتها..
أن نعيش لنهدم ما بناه المتون!.
كم قُبلة تبقّت من هذا الليلِ،
كم لمسة ساقٍ وعنقٍ، وشوشة إبطٍ حنون!.
كم نخلةٍ تنتظر عند الباب مولد يسوع، يحترق جذعها شوقاً لرعشةٍ متوحشة تنطلق عبر خلايا الجسد كعنكبوتٍ مسحور؟!
أطرق أبوابِ المُدن التي تحاصرنا، أنادي جميع الحراس بأسمائهم وألقابهم وكنية حبيباتهم ونسائهم وأقول لهم:
- إني أعرف كيف يسمون أطفالهم، وإني أفهم سِرُّ بنادقهم التي لا تطلق النار أبداً، ولكنها تخيف وتقتل وتسرق الدم من الشرايين!.
حينها يفتحون البوابات، تستيقظ العصافير والوطاويط والعناكب المتوحشة فاستقبلها بأحضانٍ عطشة، تطل امرأة تبدو دائماً في الظلِّ، وشهيّة تحت ضوءِ الشمس وعفر الرمال.
آهـ.ٍ.. سبعون عاماً، وغداً يومٌ جديدٌ، له شمسٌ مكرورة، وذات الآذان وثغاء البقر، وله ظلُ ذات الشجرة البعيد!.
سوف يتمطى هذا الصباح بيني وبينكِ، رامياً بأجنحته الكثيرة في الفراغِ الأخضر والطين والحر و الراديو، وما تبقى لي من بخورٍ مسحور!.
لا شئ يبقيني مستيقظاً، غير ذاكرة الطين الحار، تزحف مثل جيوش النمل المشؤوم!
كم قُبْلة تبقّت من الليلِ، كي يصير ليلاً؟
كم نشيد وبوليس يذرع الطريق المظلمة غادياً ورائحاً في خوفٍ فطري؟
كم أنثى؟
كم لحظة عميقة تحسبها الملائكة دهراً ونيف؟
كم أغنية؟!
كم حبيبة حافية تخوض النهر ثم تجلس على ضفافٍ، لا إسم لها، تمشّطها حوريات القاع السحيق بزيتِ الماء، ويدلكنّها برملِ الشطآن الشهيُّ، تحت عرديبة ٱسميها عندما ـ نلتقي ـ نفح وردة الكَرَبْ المنسيّة.. وتحكي:
(على أنهارِ سيتيت..
حيث جلسنا..
وبكينا)
مثلك يا حبيبتي ينبع النهر من العاصفة وتخونه حدأتان، فتلقيان به إلى الأرضِ، حيث الجنة التي يصنعها، ويصبح موضوعاً لها!
ما تبقى من الليل قُبلتان، غمزةُ نجم، شرطيٌ نعسان، بقيةُ ماء في الكأسِ، وردة تذبل تدريجياً، شظايا عطر تبرقُ هنا وهناك،
ضفائرٌ مبعثرة على الفراشِ، وقلم، فارغ، وشاعرٌ ينام وحده على قهقهة المروحة العجوز!.
#بركة_ساكن
التفاعلات: فائد البكري
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...