كان مساء 20 يوليو 1975م والسيارة العسكرية تجتاز بنا آخر بوابة للدخول لسجن كوبر أنا وصديقي جبارة- الآن الدكتور جبارة إختصاصي النساء والولادة – بعد الإجراءات الروتينية من (إستلام) المعتقلين وبعد أن تسلم كل منا (نمرته)، و(النمرة) بلغة السجن عبارة عن (برش) وبطانيتين (ميري)، تم إقتيادنا إلى قسم المديرية والذي وجدنا فيه خمسة أشخاص. كان الخمسة على طرفي نقيض، ثلاثة منهم يحسبون على اليسار وإثنان من الإتجاه الإسلامي. الثلاثة الأوائل كانوا من ضباط إنقلاب المرحوم هاشم العطا في يوليو 71 وهم النقيب صلاح بشير والنقيب عبد العظيم سرور وثالثهم الرقيب عثمان الكوده، أما الإثنان من الإتجاه الإسلامي فقد كانا المرحوم/ أحمد عثمان مكي وكان وقتها رئيس إتحاد طلاب جامعة الخرطوم والأخ فتحي خليل سكرتير الإتحاد آنذاك. بعد مرور سويعات ضمتنا نحن السبعة جلسة تسامر إمتدت إلى قرب الفجر، ومما يدهش المرء أن جدران السجن تنجح دائماً في تقارب الخصماء السياسيين أكثر من هواء الحرية، فخارج الجدران تجد التنابذ والخصام الذي قد يصل إلى سفك الدماء وداخل السجن تجد التوادد والتعاطف والمشاطرة الوجدانية.
إمتدت جلسات التسامر بيننا وبين هذه المجموعة، وعلى الأخص ضباط يوليو 71. كنا نفرد كل ليلة لواحد من العسكريين الثلاثة ليحكي لنا تجربة الإنقلاب من منظوره الشخصي ومن مشاركته الفعلية فيه، وكانت أغرب القصص قصة الأخ الرقيب أول عثمان. كان عثمان هو (حكمدار) الحرس المكلف بحراسة المرحوم عبد الخالق محجوب يوم أن إعتقله النميري بمصنع الذخيرة بالشجرة قبل إنقلاب هاشم العطا، وكان هو نفس الشخص الذي نفذ وأشرف على هروب عبد الخالق من المعتقل وهرب معه.
عثمان رجل ودود، دمث الأخلاق رفيع الثقافة بدأنا نستمع له عن قصة الهروب الأخير في جلسة إنتهت قرب بواكير الفجر. أحاول هنا أن أنقل بعضاً مما رواه.. جزء من الذاكرة والتفاصيل دونتها في حينها. يقول عثمان: (أُدخل إلينا عبد الخالق في مصنع الذخيرة بالشجرة كمعتقل سياسي بعد إعادته من منفاه بالقاهرة. كانت التعليمات متناقضة.. أن نشدد عليه الحراسة ولا نختلط به وأن نحترمه في نفس الوقت. تم تعييني (حكمداراً) للحرس المكلف به ولا أدري إن كانت صدفة أم أمراً مرتباً فقد كنت عضواً في خلية شيوعية عاملة بالجيش وهو أمر يحاط بسرية مطلقة. خصوصاً في تلك الأيام التي بدأت فيها بوادر الشقاق بين مايو والحزب الشيوعي. لم اكشف هويتي للرفيق عبد الخالق الذي تم إقتياده إلى غرفة أمامها (فرندة) أخليت له كمعتقل. كان يقضي جل أيامه في القراءة منذ الصباح وحتى آخر الليل خارج الغرفة. وذات يوم وصلتني تعليمات من الحزب بأن هناك خطة أُعدت لتهريب السكرتير العام للحزب من المعتقل وطُلب مني إبلاغه بالخطة وإستطلاع رأيه فيها. كانت الخطة السهل الممتنع إذ تقتضي بأن أقوم بفتح باب صغير- كان دوماً مغلقاً ومفاتيحه معي يطل من ناحية الغرب على النيل الأبيض ويجب أن أهرب أنا وعبد الخالق عبر هذا الباب وأن نسير بمحاذاة النيل شمالاً لمسافة تتجاوز الكيلو متر. هناك سوف نجد عربة فلوكسواجن بها شخصان تضئ أنوارها بطريقة معلومة حتى نتعرف عليها. إنتهزت سانحة ودخلت على عبد الخالق بعد الظهر وكشفت له هويتي الحزبية، ولدهشتي لم يستغرب أو يرتاب. شرحت له الخطة التي وصلتني من الحزب فوافق عليها دون تردد ولكن بدرت منه ملاحظة ذكية إذ طلب مني إرجاء العملية حتى يتم تعويد الحرس على عاداته اليومية الجديدة فقد أقلع عن القراءة إلى آخر الليل. ومن يوم حديثي معه أصبح يدخل إلى غرفته في الثامنة مساء ويطفئ النور ويغلق الباب. كان القصد عمل (إسترخاء) للحرس على هذه العادة الجديدة وكان هذا قمة الحصافة والدهاء.
جاء يوم التنفيذ وكان محدداً له العاشرة مساء وحرصت أن تكون (ورديتي) كحكمدار للحرس هي وردية المساء. في الثامنة مساء أغلق عبد الخالق كتبه ودخل إلى حجرته وأطفأ النور وأغلق الباب. جمعت الحرس وكان وجهي إلى باب غرفة عبد الخالق بينما ظهور الحرس إلى الغرفة وأصدرت لهم أمراً يعني باللغة العسكرية ان يجلس كل أفراد الحراسة إلى الأرض ويفككون سلاحهم قطعة قطعة ثم يعيدون تجميعه من جديد. تركتهم يواصلون هذه المهمة وذهبت من خلف ظهرهم إلى غرفة عبد الخالق وطرقت عليه طرقة مشفرة بيننا فإذا به قد تأهب للرحيل. قصدنا إلى السور المطل على النيل بعد ان أغلقنا باب الغرفة، ومن لباسي العسكري أخرجت المفتاح وفتحت الباب ولم أنس أن أستبدل ملابسي العسكرية بملابس مدنية وأن أترك سلاحي. خرجنا نحن الإثنان وسرنا شمالاً إلى أن أدركنا العربة بإشاراتها المتفق عليها والتي إنطلقت بنا دون أي حديث بين الراكبين فيها. أنزلوني في المحطة الوسطى الخرطوم حيث إستلمتني مجموعة أخرى من الرفاق ومضت العربة تتهادى بعبد الخالق في ليل الخرطوم الصاخب أيامها. كانت تلك آخر لحظة أبصره فيها حياً ولكني رأيته كمعتقل أسير- عبر التلفزيون- قبل إعدامه).
هكذا إنتهت الرواية الدرامية للأخ عثمان وإن غابت عنها خواتيمها.. كيف هرب عثمان؟ كيف قبض عليه؟ وماذا قال له نميري الذي حرص على إستجوابه شخصياً بعد إرسال طائرة عسكرية لإحضاره من حدود السودان الغربية؟ كيف حكم عليه بالسجن المؤبد ومن حاكمه؟ لا تتسع المساحة لكل هذا. أخي عثمان.. أرجو أن تغفر لي أن أنقل عنك دون إذنك.. ولكن لماذا لا تكتب؟ ولماذا لا يكتب كل من شارك في صنع الاحداث؟.. أو أسهم.. أو حتى إدعى؟
إمتدت جلسات التسامر بيننا وبين هذه المجموعة، وعلى الأخص ضباط يوليو 71. كنا نفرد كل ليلة لواحد من العسكريين الثلاثة ليحكي لنا تجربة الإنقلاب من منظوره الشخصي ومن مشاركته الفعلية فيه، وكانت أغرب القصص قصة الأخ الرقيب أول عثمان. كان عثمان هو (حكمدار) الحرس المكلف بحراسة المرحوم عبد الخالق محجوب يوم أن إعتقله النميري بمصنع الذخيرة بالشجرة قبل إنقلاب هاشم العطا، وكان هو نفس الشخص الذي نفذ وأشرف على هروب عبد الخالق من المعتقل وهرب معه.
عثمان رجل ودود، دمث الأخلاق رفيع الثقافة بدأنا نستمع له عن قصة الهروب الأخير في جلسة إنتهت قرب بواكير الفجر. أحاول هنا أن أنقل بعضاً مما رواه.. جزء من الذاكرة والتفاصيل دونتها في حينها. يقول عثمان: (أُدخل إلينا عبد الخالق في مصنع الذخيرة بالشجرة كمعتقل سياسي بعد إعادته من منفاه بالقاهرة. كانت التعليمات متناقضة.. أن نشدد عليه الحراسة ولا نختلط به وأن نحترمه في نفس الوقت. تم تعييني (حكمداراً) للحرس المكلف به ولا أدري إن كانت صدفة أم أمراً مرتباً فقد كنت عضواً في خلية شيوعية عاملة بالجيش وهو أمر يحاط بسرية مطلقة. خصوصاً في تلك الأيام التي بدأت فيها بوادر الشقاق بين مايو والحزب الشيوعي. لم اكشف هويتي للرفيق عبد الخالق الذي تم إقتياده إلى غرفة أمامها (فرندة) أخليت له كمعتقل. كان يقضي جل أيامه في القراءة منذ الصباح وحتى آخر الليل خارج الغرفة. وذات يوم وصلتني تعليمات من الحزب بأن هناك خطة أُعدت لتهريب السكرتير العام للحزب من المعتقل وطُلب مني إبلاغه بالخطة وإستطلاع رأيه فيها. كانت الخطة السهل الممتنع إذ تقتضي بأن أقوم بفتح باب صغير- كان دوماً مغلقاً ومفاتيحه معي يطل من ناحية الغرب على النيل الأبيض ويجب أن أهرب أنا وعبد الخالق عبر هذا الباب وأن نسير بمحاذاة النيل شمالاً لمسافة تتجاوز الكيلو متر. هناك سوف نجد عربة فلوكسواجن بها شخصان تضئ أنوارها بطريقة معلومة حتى نتعرف عليها. إنتهزت سانحة ودخلت على عبد الخالق بعد الظهر وكشفت له هويتي الحزبية، ولدهشتي لم يستغرب أو يرتاب. شرحت له الخطة التي وصلتني من الحزب فوافق عليها دون تردد ولكن بدرت منه ملاحظة ذكية إذ طلب مني إرجاء العملية حتى يتم تعويد الحرس على عاداته اليومية الجديدة فقد أقلع عن القراءة إلى آخر الليل. ومن يوم حديثي معه أصبح يدخل إلى غرفته في الثامنة مساء ويطفئ النور ويغلق الباب. كان القصد عمل (إسترخاء) للحرس على هذه العادة الجديدة وكان هذا قمة الحصافة والدهاء.
جاء يوم التنفيذ وكان محدداً له العاشرة مساء وحرصت أن تكون (ورديتي) كحكمدار للحرس هي وردية المساء. في الثامنة مساء أغلق عبد الخالق كتبه ودخل إلى حجرته وأطفأ النور وأغلق الباب. جمعت الحرس وكان وجهي إلى باب غرفة عبد الخالق بينما ظهور الحرس إلى الغرفة وأصدرت لهم أمراً يعني باللغة العسكرية ان يجلس كل أفراد الحراسة إلى الأرض ويفككون سلاحهم قطعة قطعة ثم يعيدون تجميعه من جديد. تركتهم يواصلون هذه المهمة وذهبت من خلف ظهرهم إلى غرفة عبد الخالق وطرقت عليه طرقة مشفرة بيننا فإذا به قد تأهب للرحيل. قصدنا إلى السور المطل على النيل بعد ان أغلقنا باب الغرفة، ومن لباسي العسكري أخرجت المفتاح وفتحت الباب ولم أنس أن أستبدل ملابسي العسكرية بملابس مدنية وأن أترك سلاحي. خرجنا نحن الإثنان وسرنا شمالاً إلى أن أدركنا العربة بإشاراتها المتفق عليها والتي إنطلقت بنا دون أي حديث بين الراكبين فيها. أنزلوني في المحطة الوسطى الخرطوم حيث إستلمتني مجموعة أخرى من الرفاق ومضت العربة تتهادى بعبد الخالق في ليل الخرطوم الصاخب أيامها. كانت تلك آخر لحظة أبصره فيها حياً ولكني رأيته كمعتقل أسير- عبر التلفزيون- قبل إعدامه).
هكذا إنتهت الرواية الدرامية للأخ عثمان وإن غابت عنها خواتيمها.. كيف هرب عثمان؟ كيف قبض عليه؟ وماذا قال له نميري الذي حرص على إستجوابه شخصياً بعد إرسال طائرة عسكرية لإحضاره من حدود السودان الغربية؟ كيف حكم عليه بالسجن المؤبد ومن حاكمه؟ لا تتسع المساحة لكل هذا. أخي عثمان.. أرجو أن تغفر لي أن أنقل عنك دون إذنك.. ولكن لماذا لا تكتب؟ ولماذا لا يكتب كل من شارك في صنع الاحداث؟.. أو أسهم.. أو حتى إدعى؟