عبد الفتاح المطلبي - خيط من ضوء

بينما كانتِ السماءُ تتنقّلُ بينَ الزرقةِ والسوادِ والأرضُ تواصلُ إنشغالَها بدبيبِ الكائناتِ وكنّا نحنُ نواصلُ بمعرفتِنا الكاذبةِ مزيداً من الجهلِ إنسلّ خيطٌ من الضوء عميقا عبر ذلك المنفذ الوحيد المموه جيدا وكنّا أنا وصاحبي نظن أن العالم كما نراه قبل انسلال ذلك الخيط من الضوء لكننا وبسبب ذلك رحنا نمد عنقينا أطول مما سبق وكانَ من البديهي الظنُّ أنَّ لنا جلوداً مشعرةً بينما كانتِ الإحتمالاتُ تتراوحُ بين رؤية ذلك الشعرِ ريشاً أو يحصل أن تتعرف لوامسُنا على الصوفِ في ذلك الشعرِ متواطئين مع قرابتنا إلى ذوي الريش والصوف بقبولٍ صريحٍ أحيانا وتأويليٍّ في الغالب وأصواتنا التي تتراوحُ بين أقصى أسفلِ سلم الترددات وأعلاها نبرةً ففي أحيانٍ كثيرةٍ سُمع بيننا خوارٌ عالٍ بين فترةٍ وأخرى وفي أحيانٍ غيرها هسيسٌ ودمدمةٌ وقرطٌ بالكاد تميزه الأذنُ وبعضُ نسيسٍ وصفيرٍ واهنٍ مُنكرين أن تكون لنا مثل هذه الأصوات حتى لو تكررتْ وتكررَ إنصاتنا المُتقصّي لها لكننا كنا جميعا قد اعتدنا على القوقأةِ، القوقأةُ التي نُجيدها قراءةً وكتابةً وكلاما بدا كأن مخارجه قد استحوذ عليها حرفُ القاف اللعين، كثيرٌ منا حاولَ أن يُعَدّلَ من مخارجِ صوتِهِ لكنّ تلكَ المُحاولاتِ لم تُفضِ إلا إلى شذوذ عن السجية كما اعتدنا لم تُغادر نبرَها الممتلئ بالترداد الرتيب، سلسلةٌ من حديدٍ تعلقت بها آلاف الأقفال فلا يسمعُ منها إلا قلقلةٌ يختفي بين ازدحام قافاتها اللامُ حتى لا نكاد نسمعُ له صوتا إذ يكون القاف سيد الموقف، قق قا ق قيق قووووق هكذا ليس أكثر، صوتٌ لا يترك أثراً ولا يؤثّرُ في ما يليه وهكذا تراكم القولُ على القولِ كلما مضى الزمن حد ابتلاع اللام ليصبح قو..قو وقا..قا..وقي..قي.. قوقأةً لا غير؟...

المعضلةُ بدأت عندما انشغلنا بما لدينا وتوهمنا أن ذلك هو ما نريد نحنُ الذين ابتلعنا حرف اللام من اللسان وانحشرنا في الدائرة وأنكرنا تماما أن ينوجدَ غيرُها، تلك الأشياء الشائعةِ التافهة المألوفة حدّ القرف، بصيص غبش، عتمة، غذاء، شراب، ما يرشح من قذارة تحتنا وتلك الروائح التي أدمنّا تنفسها ذلك العالم الموجود حولنا والذي لا يستطيع نظرُنا المتخالف على جانبي رؤوسنا المنضغطةِ مثل قطعة نقد معدنية ان يرى غيرَه ولم نحسبْ يوما أننا عاجزون عن رؤيةِ ما هو أبعدَ مما نستطيع ومن العجيب أننا اعتقدنا دائما إن ما لا نراه غيرُ موجودٍ مع احتمال وجودِهِ وإن السببَ لا يتعلقُ به بل بنا وبقدرتنا البائسة والمحدودة على الرؤيةِ، لا أستطيع أن أكتم دهشتي من اللحظةِ التي خلالها أقول كل تلك الأشياء لرفيقي الذي تعودتُ لقاءَهُ كلما التقطنا أنفاسنا من سعينا المبتذل في هذه الحياة وانتبهنا إلى أننا نواصل التقاط ما يُلقى إلينا وكأننا في سباقٍ، مفترضاً أن اندهاشي شطحةٌ من الشطحاتِ التي تنتابُ أي مخلوقٍ في أي وقتٍ وعليه وجبَ أن تعرف عزيزي أن كل التصورات والشطحات لا تعني شيئا حين لا نلمسها في مسالك الحياة ومُعاناتها ومن الطبيعي أن نغادر تلك اللحظات ساعة نرجع إلى أحوالنا التي نحنُ عليها راضين بكل شيء مقتنعين بما أنتجنا من أصوات على إنها كلامٌ فاشٍ بيننا منذ أمد بعيد، نتخفى تحت عجزنا، نبذل على مدار الزمن جهودا حثيثة في إخفاء ما ينبت على أذرعنا من زغبٍ سيصيرُ ريشاً في ما بعد بينما مازال البعضُ منذ الأزل يصفّقُ أجنحَتَهُ باعتدادٍ مذكراً نفسَه أنهُ من الطيور لكنه لا يطير. بسبب عاداتِ الأكل السيئةِ لا غير..

درجنا على العيش كما يرادُ لنا، نمشي ونرى بعضنا نختلط لا نزعج أنفسنا بمراقبة الأحداث ولا نهمُّ بما يجب أن نحصلَ عليه فهناك من يتكفل ذلكَ بطريقةٍ غامضةٍ لا جدوى من تقصيها وحتى حين نفكر بالسماء التي لا نراها إلا لُماماً بسبب الجدران التي تفتقرُ إلى نوافذ، تلك السماءُ لا نعرف عنها إلا نأيها عنا وكل ما يندّ عنا بخصوص ذلك قوقأةٌ لا غير وبما إننا لا نستطيع كسر ما بدواخلنا فقد تعوّدنا على المعاش تحت بصيصِ ضوءٍ مصنوع ومن ثمّ النوم في العتمة لتسكنُ معها كل الحياة وتنقطع تلك الأصوات التي نصدرها المتراوحة بين قافٍ وقافٍ وحسيس الأجنحة التي نسيناها تماماً، المنصت في تلك الحال ربما يتناهى له صوتٌ واهنٌ يصدر من شركاء أضأل من أن نراهم ولكننا تسالمنا على تقبل الأمر، قال رفيقي: أترى الذي هناك فوقنا؟، تلك الأمكنة العالية!(وكان يشير برأسه المنتهي بما يشبه المنقار) كم حاولنا بلوغها ولكن وسائلنا قصرت عن أن تبلغ المكان، كل مخلوق يعشق عزلته في أمكنةٍ عاليةٍ ولكن هل يُطالُ ذلك؟ وكنا ردا على حقيقة عجزنا نتكهنُ ونؤوِلُ ولا زلنا كذلك ولم نتوصل إلى أي شيء وكان علينا أن نعي دائما أن الليل والنهار في هذا العالم وسيلتان لكبح جماح الرتابة والحِفاظ على الأمور كما هيَ، ننام إذا حلت الظلمة ونتيقظ إذا سالَ بصيصُ ضوءٍ من فوقنا بضغطةِ زر، لم يكن لنا شأنٌ بمن يملك ذلك الزر ويتحكم بالظلمة وبصيص الضوء ويتحكم بالتالي بنومنا ويقظتنا، ولهذا الحد رفع رفيقي ما يشبه الجناح إلى ما يشبه الفم ولكنه أقرب إلى المنقار ومسح ما التصق به من لعاب تراكم في زوايا شبه الفم لكثرة الكلام الذي قاله بقوقأةٍ مُتصلةٍ، فضحكت وقلت بالطريقةِ ذاتها:

- أنت تشبه داجن ياصديقي فرد علي:

- ماذا تعني بكلامك هذا؟، هل تحسست ما أنت عليه، هذا شبيه الريش الذي يكسو جلدك وفوق رأسك شبيه العرف!.

الغريب في الأمر هو إنتباهي إلى أننا متشابهان وإنه مُحِقٌ تماماً فهو يراني كما أراه لكنه ظل يظن باختلافه عني كما واصلت ظني باختلافي عنه ليسَ لشيء إلا للتنافسِ على ما يُلقى إلينا وبينما كنت أبحث عن حقيقتي التي تركتها تتلبسني قبل انخراطي في ما أنا فيه وقبله بقليل حلقت الشعر النابت في وجهي ومسحت على صفحتي وجهي بماء الكولونيا الرخيص ذي الرائحة التي تضاهي رائحة مسحوق الغسيل ولم أعتنِ كثيرا بملمس باقي أجزائي لحظة وجدتني هنا وأنا أتحاور معه ويُعجزني عن الرد على كلامه المتصل والمنطقي حول الحياة، الموت، الليل، النهار، لم تكن رؤيتي لما هو عليه، الريش والعرف على رأسه لتسمح لي في حينها أن أرى ريشي وعرفي الذي فوق رأسي مع أنني واصلت الإعتقاد بأن ما أنا فيه مجرد خروج عن المألوف ينتابنا أحياناً لكن سماعنا لجلبة متوسطة وأصوات خطو لأقدام ثقيلة وزمجرات محركات تهدر وهمهمةٌ ليس فيها حرف القاف اللعين وانطفاء الأضاءةِ بغتةً وحلول ليل حالك أدى بنا إلى الإنزياح نحو قلقٍ عظيم لننكمش ساكنين أنا وصاحبي الذي أحادثة بلغة بدت تحت تأثير هذه الظروف الجديدة قوقأةً متصلةً ومن ثمّ سكتنا وسكتَ الجميع، جميع من كان حولنا في وطننا الفسيح وامتدت أكفٌّ ثقيلةٌ لتقبضَ علينا عادةً من منابت الأجنحةِ، تلك التي نصفّق بها كلما احتجنا إلى تذكير أنفسنا إننا أحفاد أولئك الذين كانوا يوما ما يطيرون، بتنا بين الإبهام والأصابع الأربعة تودعنا في قفصٍ ضيّق لا يفتح إلا لنخرج إلى مصائرنا المتنوعة في تلك اللحظة الفريدة صدرت من صاحبي قوقأة عالية النبر مثلما يفعل ديكٌ مُستثار تبعتها قوقئات كثيرة انتبهتُ على إثرها من تهويمي، أجرّبتَ تهويمةَ داجنٍ؟، وها أنا أمسكُ بآخر قوقأةٍ تعبرُ حلقومي وكان الفجرُ قد أرسلَ خيوطه الأولى على نول الحياة ليحوك نهارا جديدا، تحسستُ ساعديَّ فكانت مثل جناحٍ مهلوس الريش توا[1].




[1] كأن السرد هنا ليس بسرد بل قصيدة نثر , السرد هنا لا يُخبر بل يخلق تفاصيل , ليبلور حدثا بل يفتح أفق التأويل , ويشف بالرمز , إنه نثر مضمخ بغنائية بعيدة كل البعد عن الرومانسية الساذجة .الرمز في قصص المطلبي غير مضبب , على العكس تماما فهو رمز واضح و قيمة وجوده تتأتى من كون الرمز هنا لتحصين القصة من المباشرة والتلقينية والهتاف السياسي –جمال مصطفى –ناقد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...