محمد نجيب توفيق حسن مطر - مدينتي

مدينة صغيرة هدأت عندما احتضنها النيل بين جوانجه، حن إليها الهواء وسكن عندها النهر فتعلمت السكون، معظم سكانها من الفلاحين وعمال المحالج البسطاء، تنتشر فيها المدارس والمصالح الحكومية، وتتبعها عدة قرى، لها تاريخ في الوطنية يعد مضربًا للأمثال، تُحيطها المزارع والحقول من كل حدب وصوب، تختلط فيها أصوات العصافير وصياح الديكة بنهيق الحمار ورغاء الجمل ونداءات الباعة، يتعامل فيها الجميع بالحسنى، وترى الحياة فيها وكأنها تباطأت أو توقفت حركتها، حتى حديثهم تراه بطيئا مثل كل شيء عندهم، ينعمون بهدوء وطول بال يحسدون عليه، لا مشكلة عندهم، ما لم يتم إنجازه اليوم فلينجز في الغد، يومهم طويل كليلهم، وهم غير متعجلين لإنجاز أي شيء في وقته، وعندما تعاتبهم على ذلك تكون كلمتهم الشهيرة (هي الدنيا طارت.. يا مستعجل عطلك الله)، يتحلقون حول الطبلية في العشاء حيث تكون وجبتهم الرئيسية حينما يعود الجميع ويتجمعون ويأكلون ما يوضع أمامهم دون اعتراض، يحمدون الله على ما رزقهم وينامون قريري العين، يتحملون المصاعب والمصائب وما أكثرها بصبر وجلد، تجدهم أخوة في المواقف الصعبة، يمكنهم أن يختلفوا على أي شيء مهما كان تافها، وتثور الدنيا على شيء لا يستحق، لكنهم سريعي العودة إلى طبيعتهم السمحة بعد الخلاف. في فصل الشتاء تتحول المدينة الصغيرة إلى بركة من المياة والطين الذي يصلح لعمل مسابقات للتزلج على الوحل، يقوم الأسفلت الموجود تحت طبقات من الطين بحجز المياه ليصبح التراب رطبا ولزجا لمدة طويلة، لكن الناس قد تعلموا من نعومة أظفارهم كيف يتعاملون مع هذا الطين الناعم، فتراهم يسيرون في طابور طويل وكأنهم يرقصون البالية بمهارة تحسدهم عليها معاهد موسكو، حين تقود الصدفة أحد الغرباء ويكون الوقت ليلا في شارع قام فيه الأطفال بتحطيم مصابيح الشوارع، يكون هذا الوحل مصيدة لأولئك الذين لم يجيدوا فن التزحلق على الطين أو رقصة البالية الطينية. جاء الطبيبُ البيطريُّ على عجلٍ بعد أن استدعاهُ أحدُ الفلاحين الفقراء في الواحدة صباحًا في ليلة شتاء قارصةٍ مظلمةٍ، ودخل على الفور إلى الحظيرة، فوجد الفلاحَ يقف والغمُّ الشديد يكسو محيَّاه، يسأله أن يُنقذ البقرة رأسماله الأساسي، كشف الطبيب على البقرة وسأله عن المدة التي أصبحت فيها على هذه الحال، فأخبره الفلاح أنها على تلك الحال منذ يومين، فأخبره أن درجة حرارتها عالية نسبيًّا، ثم اقترب من الفلاح وجذبه بعيدًا إلى ركن الغرفة، وكأنه يخاف أن تسمعه البقرة، وقال له: إذا ظلت هكذا حتى الصباح نذبحها ونبيع لحمها قبل أن تموت ويضيع كل شيء، طفرت دمعة من عين الفلاح، وقال: أترى ذلك يا دكتور؟ فرد عليه البيطري: من الأفضل الاستفادة بشيء منها بدل خسارة كل شيء. نظر الفلاح إلى السماء قائلا: ماذا أقول وأنت تعلم كل شيء، ونظر إلى الأرض وكأن شيئًا فظيعًا يوشك أن يقع عليه. كان الخروف قريبًا من الركن، وسمع كلامهما، فاغتم لأمر صديقته العزيزة الذي يحبها وتؤنس وحشته، ويعرف أنها تتمارض من أجل عدم العمل، ولما انصرفا اقترب من البقرة وقال لها: انهضي وإلا سيذبحونك إن لم تقومي قبل الصباح، فسألته كيف عرف ذلك، فأخبرها بأنه سمعهما يتهامسان بذلك، شكرته البقرة، قامت لتوها، أكلت كل ما أمامها من طعام، وشربت حتى ارتوت، دخل الفلاح في الصباح فوجد البقرة واقفة يبدو عليها الصحة، وقد أنهت كل طعامها وارتوت، فهلل وصاح من الفرح: يا فرج الله سأوفي بنذري.. سأذبح الخروف وأفرقه على الفقراء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...