عثمان تلاف - الصراع..

في عصر الجمعة يقوم " السباري " ومعاونيه بتجهيز النقعة ، جموع من الناس يتوافدون مبكرا - على غير العادة - يتهامسون: من سينتصر؟
أحدهم قال: المرء مع من أحب، وبت العمدة بتحب جيمس.
يرد آخر: كوكو زاتو بحب بت العمدة. أها ده يحلوه كيفن؟

يرتفع صوت الطبول ، وتزداد زغاريد الحسناوات ، ويتزايد أعداد الجماهير... والكل متحمس لما سيحمله " الصراع " من حظ.

عند العصر أصطف العمدة وأعيان القرية والضيوف في الصفوف الأمامية ، والساحة مكتظة بالمتفرجين ، بت العمدة وقفت محاطة بالحسناوات كبدر حوله الأنجم.
عند إقتراب موعد بدء الصراع ، ظهر رجل عاتي البدن ، قوي الجسد ، مفتل العضلات ، شواربه الكثه تكاد تطغى على ملامح وجهه. أستقبله الجمهور بالتصفيق الحار، والحسناوات أرتفع صوتهن بالغناء الشعبي. ضرب بيده الأرض وه فألهب الجماهير ورددوا اسم المصارع عاليا ... الأمريكي ... أمريكي .. أمريكي...
لحظات ثم دخل مصارع مربوع القامة ، يربط على يده اليمنى قطعة خضراء ، يستعرض رشاقته أمام الجمهور ، فترتفع أصوات مشجعيه: مرعب .... مرعب ...مرعب...
صافرة السباري - وهو حكم الصراع ومنظمه - تعلن عن بدء الجولة التي يجب ألا تتجاوز خمس دقائق.
لم يتحرك المتصارعان من مكانهما ظلا يحدقان في بعضهما بحدة ، يتطاير الشرر من الأعين ، في تلك اللحظة تظن أن الكون يدور حولهما في صمت وإجلال فالكل هنا مشغول بهما.
أخذا موقعهما من الحلبة المستديرة الذي هو مساحة صغيرة من الأرض خططه السباري بخط دائري صباح الجمعه، والناس تلتف حوله جاؤوا من كل صوب صغارا وكبارا تنظر إلى تلك المستديرة يحبسون أنفاسهم ويمارسون خدعة التنبؤ: من سيفوز.

عندما يكون اللقاء الأول بين أعظم متصارعين طال إنتظار لقاءهما سيكون طعمه خاص وحماسه مفرط.
فأما الأمريكي فهو ينحدر من سلالة مصارعين أفذاذ عرفوا بالقوة ، وكان الأمريكي مصارع القرية الأول ، فلما أحب بت العمدة كانت لإنتصاراته طعم آخر فقد كانت عربون محبة تزيد به بت العمدة محبتها له.

قبل سنتين تقريبا قدم من أمدرمان إلى القرية جيمس الملقب بالمرعب وتعلم الصراع وسرعان ما أضاء نجمه في سماء القرية ، وكان مربوع القامة وسيم الوجه وابتسامته تسبقه فنال قبولا عند أهالي القرية. والفاجعة أن بت العمدة أحبته حبما جما.
كانت بت العمدة سمراء البشرة، طويلة القامة، جميلة المحيا، في أنفها قرط جميل، نحت على جبينها حرف أشبه بحرف ال(t) في الإنجليزية. الشيء الملفت فيها كانت فتاة تنبض بالأنوثة. كانت محبوبة بإبتسامتها الفاترة ومجاملاتها المستحسنة بين جميع أطياف القرية.

وحدث ما لم يك في الحسبان ففي الأسبوع الماضي انتشر خبر حب بت العمدة لجيمس وأصبح حديث النوادي ومحل تندر الكبار وأحاديث الليل ، مما أغضب العمدة وجعله يفكر في حل لمعضلته حتى لا يتحدث الناس عن شرفه.
لما سمع الأمريكي بالخبر قال- بغضب- : " الكلب النجس ده" وأخبر بعزمه على قتل جيمس. فأقترح أحد أصدقائه الصراع كحل سلمي نزيه فعدل الأمريكي عن عزمه.

ألتقى بجيمس قبل يوم من الصراع في سوق الخميس فلم يتاملك نفسه فضربه حتى أدماه فتدخل الناس وفضوا النزاع وهم يقولون: بكره الصراع... الصراع بكره يا أمريكي.
قال عجوز للأمريكي: كان الصراع الفيصل والحل لمعظم نزاعات ومشاكل قريتنا يا بني. واسترسل العجوز ناظرا إلى الفراغ كأنه ينظر من كوة إلى الماضي السحيق: في نهاية الحصاد عام توفي حبوبة الناظر إدريس وكان الحصاد مثمرا، و اختلفوا فيمن سيؤم الناس بمسجد القرية ، توجه الناس إلى النقعة " حلبة الصراع " في ساحة القرية وتصارع الإمامان -والمنتصر من يستطيع رمي صاحبه على ظهره أو بطنه- توج المنتصر يومها إماما وسط قبول تام من الطرف الآخر ورضى من أهل القرية. فالصراع عندنا بني شيء مقدس ، حكمه نافذ ، ننظر إليه وكأنه يناصيب لا يأتي إلا بالحظ الجيد.
فلقد توارثنا هذه المصارعة من أسلافنا فأصبحت من أهم المظاهر الإجتماعية.

حماس الجماهير حول حلبة الصراع تضفي هيبة وقدسية ولا زال المتصارعين واقفين قال جيمس- مستفزا - ليس بالقوة وحده يفوز الإنسان.
فرد الأمريكي - بإمتعاض- ليس بالمشاعر وحدها يكسب الإنسان.
يوقن كل منهما بحتمية الصراع لكي نعيش، لكن الآن يتصارعان في شرف وصراع الشرف مقدس.

وألتحما بقوة أهتز له الحلبة، بدأت المناورات بينهما ؛ يحاول جيمس أن يسقط صاحبه بكل قوته ، يرفعه الأمريكي عاليا يحاول إسقاطه على الأرض بكل قوته ولكن صاحبه يتشبث بيده ليتجنب الإرتطام ثم يفترقان لتبدأ مناورات جديدة وهكذا جولة فجولة والجماهير تشتعل حماسة مع كل جولة حتى دخل الليل فأعلن السباري نهاية الصراع.

فخطب العمدة بخطبة دوبلوماسية أثنى فيها على البطلين وسط تصفيق كبير ، ثم ختم حديثه بدعوة الحضور إلى شهود مراسم تزويج أبنته الوحيدة من ابن أخيه الذي قدم قبل أيام من دبي.
ضجت الساحة واختلط الناس فيها وحصل فيها تدافع بين المشجعين.
ما أغرب الحياة، تكافح فيها من أجل حلمك عمرك كله حتى تغترب من تحقيقه فيحيل حياتك وكفاحك فيها عبثا تذروه رياح القدر المؤلمة.

في الصباح وجد -العريس المغترب- مقتولا ، وبت العمدة رؤيت ذاهبة بإتجاه البحر ، وجيمس المرعب والأمريكي بحسب شهادة عجوز إتجها إلى الصحراء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...