محمود سعيد - الجوريّة السّوداء

قبل عشرين سنة رأيت لاوّل مرّة جوريّة سوداء، كانت تلك إحدى اللحظات الهامّة والمعدودة في حياتي، والتي مازالتّ أتذكرها. جوريّة سوداء؟ إنّها لمصادفة قلبت موازين الجمال، كيف يكون الّلون الأسود جميلاً اوّلاً؟ وعلى مثل ذلك الجمال الباهر ثانياً؟ إنّها لحظة محوّ موروثات وقيم غاية في القدم، آنذاك اقتحمت مبررات التّعددية والاختلاف حياتي وفكري واعتقادي.
كنت في البصرة ساعئذ، وكان أحد الأصدقاء اشترى شجيرة الورد الأسود من مشتل أحد المتخصّصين بالبحث عن كل ما هو غريب وتطويره في عالم الورود، سافر إلى الشّمال قاطعاً مسافة تزيد على ألفين ومئتي كيلو متر ذهاباً وإياباً، كي يجلب إلى مشتله أصيصاً لها، حتى إذا ورّدت كثرها بالتّقليم وعرضها للبيع.
تفتحت الجوريّة لتوّها، كتلة من السّواد المتفحّم يعلوه طفح خفيف من زبد مخمليّ، غضّ، منتناهي الهشاشة والرّقة كجفن رضيع. بتلاتها ملمومة على نفسها في غيرة وحنوّ لتبدو أشبه بثدي مراهقة حيية، ولولا تمرّد بضعة أوراق صممت على الابتعاد لتترك قلب الجوريّة ينبض بذلك الجمال الّذي فتنني وفتن غيري لظننت أنّ الوردة لن تتفتّح أبد الدّهر.
حينما دقّقت النّظر لحظت شعاعين خفيفين أبيضين لا يزيد سمك أحدهما على الشّعرة وطول الواحد على ملمتر واحد، يقبع أحدها في أعلى البتلة ويستقر الآخر في أسفلها، لولاهما لما أمكن فرز بتلة عن أختها البتة.
هتفت من دون شعور: الله..ما هذا الجمال؟
انحنيت لأشم الجوريّة، فضحك صاحبي، أمسك بكتفي: لكنّك تدخّن!
قال ذلك وحرّك يده الأخرى ليحمي الوردة، ربما ظنّ وأنا غارق في موجة الإعجاب التي غمرتني سأغامر بقطع الجوهرة، اعترضت: ما علاقة التّدخين؟
شعّت عيناه الصّفراوان وهما تحدّقان فيّ، ضحك: الورديّ وحده في الجوريّ ذو رائحة ولذا أسموه: الورد، بقية ألوان الجوري، منظر فقط لا رائحة لها إلا هذه.
حديقته صغيرة لا تتجاوز مئة متر مربع، وهي على صغرها مقسّمة دوائر ومربّعات ومثلثات كي تبدو لوحة متناسقة الألوان، وعلى عكس حدائق الدّور الأخرى لم يترك فيها أي بقعة “للثيل” الأخضر الّذي اعتاد النّاس الجلوس عليه، فمن يريد التّمتع بالمنظر عليه أن يقف خارج الحديقة لكي يرى لوحة أشبه ببساط فارسي معجز في تناسق ألوانه وأشكاله..احتججت: مرّة تنفي الرّائحة ومرّة تثبتها، ما هذا التّناقض؟
اقترب مني حتى أنني شممت رائحة توابل ‘‘الصّبور’’
الحادة، ثم انحنى فانحنيت: شُفْ..إن فيها رائحة خفيفة جداً جداً، أنت كمدخّن لا يمكن أن تشمّها، شُم الوردة الآن.
انحنى، شَمِّ الوردة فشممت، اعتدل فاعتدلت: أميّزت الرّائحة؟
– لا..
التّفت إلى ابني، كان عمره بضع سنوات، وكان يحرّك طائرة صغيرة اشتريتها له اليوم بعد الدّوام فسحرته لأنّها تفتح أبوابها وتحرك أجنحتها عند أيّ حركة. وكان يحركها بيديه صعوداً ونزولاً، بينما كانت تصِّوت مختلف الأصوات في لسانه وتعبيراته، وهو يمتطيها في أحلام يقظته. اقترب منا وهو غارق في خيالاته التي لم نستطع سلّه منها إلا بعد عدة تنبيهات. أمره صديقي: شمّ هذه الوردة، لا تقترب من البراعم إنّها كالإبر، شمّها فقط، نعم هكذا بعمق.
أطاع الطّفل، سافها بحيث أحسست بالهواء يصفر داخل منخريه الصّغيرين، ثم اعتدل، سأله صاحبي: هل وجدت فيها رائحة؟
لمعت عينا الطّفل ببراءة: نعم.
– ماذا تشبه؟
ابتسم، حرك رأسه بحيرة وهو ينزل يديه عجزاً، فقد قدرة التّعبير المناسب في فوضى الكلمات: رائحة.
وإذ أحسّ أنّنا نضطهده بأسئلتنا انفلت من بين أيدينا راكضاً لا يلوي على شيء، عند ذلك التّفت إلي صاحبي: رائحة خفيفة جداً جداً، خيط ضعيف ضائع بين أريج الورد وفوح العنبر، كما لو كان بقايا عطر امرأة في غرفة زينتها التي غادرتها منذ أسبوع، لن تدرك الحقيقة ما لم تترك التّدخين، وقتئذٍ يتسنى لك النّفاذ إلى عالم الزّهور.
* * *

– 2-
قبل أكثر من سنة وأنا في الغربة وجدت في صندوق بريدي رسالة قادمة من سيريلانكا، كانت الكلمات دقيقة ناعمة أنيقة جداً، خفق قلبي، إنها لامرأة، الخطّ واضح بالإنكليزية: صندوق بريد رقم 2427 وكان رقم الأربعة مكتوباً كالألف، خط مستقيم في أعلاه مثلث، وبدل الاسم حرفان: M.A مطابقان لاسمي واسم جدي، ظننتها لي، فتحتها حالاً، قبل أن أخرج الرّسالة من الظّرف وجدت في الزّاوية اليسرى صورة الجوريّة السّوداء حيّة مجسمة على الغلاف، تسمّرت، هتفت من دون شعور: الله!
كيف استطاع هذا المصوّر العبقري أن يقتحم ذكرياتي غائصاً في أعماقها عشرين سنة ليصوّر المستحيل؟
كانت المرّة الثّانية التي أرى فيها الجوريّة السّوداء في متعة لم تفقدها خيبة اكتشاف أن الرّسالة لم تكن لي قيمتها، كانت الرّسالة مكتوبة بإحدى لغات شبه القارة الهنديّة والتي تتكوّن من دوائر متصلة، ودوائر منفصلة، وأخرى منغلقة أو مفتوحة أو من أنصاف دوائر، عند ذلك علمت أن ما بدا من تشابه في العنوان محض صدفة لا غير.
كنت أرى بعض الجرائد في المكتبات تصل يوميّاً من الهند وما حولها من بلدان، ولكثرة تداخل وتشابك وتشابه تلك الدّوائر يكاد المرء أن يظنها زخارف لا غير. تذكّرت سؤال أحد الفرنسيّين قبل ربع قرن عندما رآني أقرأ كتاباً عربيّاً في قطار إحدى دول المغرب العربي: كيف تستطيعون فكّ هذه الطّلاسم؟
ويبدو أنّه أدرك خطأه، أردف: ظننتها رموز زخرفة لا أكثر.
ابتسمت، أجبته: أليست حروف كلّ اللغات نوعاً من رموز زخرفة؟
خفق قلبي من جديد لرؤية خطّ المرأة، تعاطفت مع خطابها المجهول، أعدت الصّاق المظروف وكتبت عليه: يرجى إرجاع الرّسالة إلى المرسل للاشتباه برقم صندوق البريد.
بعد يومين وجدت الرّسالة مرّة أخرى في صندوقي، غضبت، كدت أضرب الصّندوق الحديد بقبضتي. كتبت ورقة الصّقتها على المظروف، شرحت فيها ما يتوجب عمله وبأسلوب جاف، وأرسلتها مرّة أخرى، لكنّها بعد يومين عادت من جديد. عندئذ محوت بقلمي رقم صندوق البريد وأنا أمر عليه جيئة وذهاباً بحيث لا يمكن أن يقرأ أبداً، وانتظرت يومين وعندما لم يرجع حمدت الله. بيد أنّ الرّسائل من سيريلانكا أخذت تترى، وبنفس الخط الأنثويّ الرّقيق الدّقيق الّذي يجعل قلبي المريض يضطرب، أخذت أُرجعُها مرّة أخرى بعد تسويد العنوان، واستمر هذا المسلسل المؤلم قراب سنة، حتى حلّ تموز قبل أسبوعين. وجدت آخر رسالة من سيريلانكا، أقول آخر رسالة لأنّي اكتشفت سبب تدفّق الرّسائل إليّ. حللت طلسم الكاتب ورمزه، وقعت على حقيقة الأمر، يبدو أنّهم يكتبون رقم واحد بما يشبه رقم أربعة بالإنكليزية، خط مستقيم برأسه مثلث صغير، يشتبه علينا، نظنّه رقم أربعة، فغمرتني فرحة لا توصف، إذاً وبعد سنة سأتمكّن من إسداء خدمة إلى السّيدة الملتاعة، أن أرجع رسائلها إلى الصّندوق الصّحيح، سأفعل هكذا كل مرّة فأريحها وأستريح، هكذا وجدت الصّندوق المطلوب، بدأت أرجع كل رسالة شاردة إلى صاحبها الشّرعي.

* * *3* * *
قبل سنتين كنت أصعد الدّرج فأحسست بكلاليب تحاوّل أنتزاع أضلاعي، أصبح الهواء أثقل من أن أستطيع استنشاقه، دخلت شقّتي السّردينيّة. أخذت استراحة إجباريّة انتهت باكتشافي أنّني مصاب بالذّبحة الصّدرية وانسداد الشّرايين، وتوجب عليً مفارقة التّدخين، فيا للمأساة!
كنت كمارك توين أجد مفارقة التّدخين وتركه أمراً سهلاً، لأنّي مثله، تركته ببساطة أكثر من ألف مرّة وفي كلّ مرّة كنت أرجع إليه بشوق أشدّ ونهم أكبر.
كنت أنظر للأمر نظرة أخلاقيّة، فمن المؤسف أن تهجر صديقاً عاشرك أكثر من ثلث قرن، صاحبك في السّراء والضّراء، في الحرية والسّجن، والأفراح والأتراح، كنت وما أزال أرى طعم “الجكاير” أطيب من أيّ شيء آخر، هذا إضافة إلى صحبتها الطّويلة لي ومن ليس له اوّل ليس له تالٍ.
لكنّ إصرار الطّبيب: ترك الجكاير أو الموت، اخترْ.
وهكذا تركت وعدت، ثم تركت وعدت، ثم.
لكنّي عندما كنت أعود أعود على استحياء وليس بنهم كما في أيام الصّحة، العودة تعني جكارة أو اثنتين في اليوم.
وعندما وجدت المظروف القادم من سريلانكا، ذا الجوريّة السّوداء، كانت رئتاي قد أصبحتا شبه نظيفتين من القطران، واستعاد أنفي بعض قدرته على الشّم، إذ أنني من دون شعور قربت الوردة من انفي واستفت بعمق كما فعل ابني قبل عشرين سنة عندها أحسست بذلك الخيط الضّئيل الضّائع بين أريج الورد وفوح العنبر الّذي تحدث عنه صاحبي قبل عشرين سنة.

* * *4* * *
قبل يومين، وفي ظهيرة تموزية جبارة تصهر حرارتها الوجود والأرض والدّماغ والأفكار لجأت وأنا عائد من الشّارقة إلى سيارة تنتظر راكبين اثنين كي تنطلق إلى عجمان، كانت بتكييفها البارد ملجأً من جهنم التي تنازع شواظها عينيّ، وباستهتار يمارس متعة ساذجة على من ليس بمقدورهم قضاء حاجاتهم إلا بالمشي على القدمين، فوجئت داخل السّيارة بجوريّة سوداء في المقعد الخلفي، أقصى اليسار، سرلانكيّة أصيلة، إهاب فحميّ شديد الحلكة، بلون الأبنوس الثّمين.
جلست قربها، نظرت إليها اوّل الأمر على استحياء فلم تنتبه إليّ، كأنّ العالم الخارجي لم يكن موجوداً، أو كأنّه تافه إلى الحد الّذي لا يثير الانتباه. كانت تقرأ رسالة من أربع صفحات مكتوبة بأحرف دائرية، ناقصة وكاملة متصلة ومنفصلة وعلى فخذها الأيمن استقر المظروف بطوابعه التي تحكي قصة الشّاي السّيلانيّ، أراضيه، سهله، تلاله، عذراواته الفاتنات بسواريهن المبرقشة يقطفن أوراقه، ليقطف بدوره شبابهن ومستقبلهن للشّركات المتعدّدة الجنسيّات التي تحتكره وتُملق ذويه..
كانت نحيفة، أصابعها طويلة، تقرأ وتبتسم فتفتر شفتاها عن أسنان بيض ناصعات يخجل من لمعانها اللؤلؤ، تقاطيعها جميلة دقيقة متناسقة، أما أنفُها فكان مثاليّاً قصيراً مستقيماً منحوتاً بتناسق فريد. كانت دمية متفرّدة ذات عينين واسعتين يشعّ بياضهما صافياً ساحراً هادئاً كضوء القمر، تفتح عينيها برهة ثم تتوقّف، تبتسم، تغمض عينيها من جديد كأنّها تحلم أو تستدعي الذّكريات، ومن ثم تأخذ نفساً عميقاً، تزفر بارتياح، تغمض عينيها، ثم تعاود القراءة، وعندما تبتسم تبرق عيناها، ينزل شعاع سنيٌ منها إلى أسنانها، فكأنه وميض يضيء جمالها الأسود مكوناً هالة تحيط الوجه.
بياضان في الأعلى وفي الأسفل تماماً كما في بتلات الجوريّة السّوداء التي انبعثت تعيش هنا إلى جانبي حيّة جميلة أنيقة، أجمل ما فيها سوادها المخمليّ السّاحر.
هنا لا أستطيع أن أستعين بابني كي يستاف الرّائحة، يجب أن أستعين بحواسي، أغمضت عيني واستفت بعمق قدر ما أستطيع فإذا الّذي ينبعث منها ذلك الشّيء الّذي وصفه صاحبي قبل عشرين سنة، أريج الورد المشدود إلى خيط ضئيل يتألّق بفوح العنبر.

* * *5* * *
قبل سنة ونصف اضطررت لزيارة معمل ملابس جاهزة، كان واحداً من المئات المنبثة بين الشّارقة وعجمان، وكانت هناك سقيفة من الألمنيوم شديدة الضّخامة، مغلقة من جميع الجهات كأنها خزان ماء، وكانت للإدارة غرفة في واجهة السّقيفة مليئة ببكرات الخيوط، ولفائف الأقمشة، والصّناديق، وقناني المياه المعدنية، وأدوات احتياطية لمكائن خياطة، وقصاصات أقمشة، مختلف الأحجام والألوان، لم يكن هناك شيء منظم حتى المنضدة الخشبية البسيطة والكرسي الّذي يقبع وراءها، والّذي يفترض أن يكونا جزءاً من مكتب إدارة المصنع كانا مملؤين بنفس الرّكام المتتافر إضافة إلى أوراق ونتيجة مرسوم عليها غابة ملتفة الأغصان على ممرّ لا ينتهي، وعشرات الأنواع من مكاكيك مختلفة الأحجام مرميّة كيفما اتّفق. بدا المدير الهنديّ الّذي جئنا لمقابلته لا يستطيع أن يترك المراقبة، فتوجب علينا دخول المعمل. قادنا شاب هنديّ نحيف تلمع عنياه الصّغيرتان عبر ممر ضيق وقصير إلى داخل المعمل. صفعنا بشكل حادّ صوت مشوشّ هادر، متأتٍ من عشرات المكائن التي تعمل معاً وفي وقت واحد، أنين وارتجاف وزقزقة وصرير وسط جوٍّ رطب مدبق متكون من أنفاس مئات العاملات في هذا القدر الكبير من الألمنيوم ممتزجاً برائحة زيوت تشحيم مواد الخياطة الكيمياوية التي تضاف إلى الأقمشة الرّخيصة، خليط يثير تمرد الأحشاء، ويفعم الكون بضجيج يصمّ الآذان.
ثمانية صفوف، كل صفّ يتكوّن مما لا يقلّ عن بضعة عشر مكنة خياطة كهربيّة، وراء كل واحدة منها جوريّة سوداء لا تتجاوز أسنهن الخامسة والعشرين، امتصّت الآلة حيويتها وبريق عينيها، ونضوج جسدها فأحالتّها إلى هيكل عظميّ لا يتلقى إلا ما يقي الأود لكي يستمرّ في العمل.
كان من المستحيل أن نتمكن من تبادل أيّ كلمة في هذا الضّجيج الهادر، ويبدو أن الموعد كان معدّاً سلفاً ليوافق استراحة الإفطار إذ زُلزلت السّقيفة تحت وطأة صفير حاد مؤلم وفجائيّ. توقفت المكائن عن العمل، ونهضت الفتيات راكضات في لهفة وحيوية ‘‘تلمع أعينهن’’ إلى سلّة فيها عشرات الرّسائل، تزاحمن ضاحكات واجمات باسمات مكبوتات مزغردات، علا ضجيج البعض اشتعلت ضحكات البعض ماتت ابتسامات البعض، خلت السّلة خلال ثوان، فتراجع قسم، بينما أصر القسم الآخر على الاقتراب من السّلة الخيزران، لا بل أنّ إحداهن ظلت تحدق بالسّلة الفارغة برهة وهي تكاد تذوب حزناً.
لا يمكن أن ينسى الإنسان ملامح المدير الهندي، ربعة متين في الخامسة الأربعين، كلّ ذلك عاديّ لكن غير العادي رسمه بالصّبغ الأسود على رأسه الأصلع خطوطاً ظنّها تخدع النّاظر غير المتفحّص بوجود شعر مفقود قال وباعتزاز: معظم العاملات جامعيات وليس فيهن أميّة واحدة.
كان صادقاً. كن غاية في التّهذيب، وكان ذلك بيناً للعيان يوم الخميس عصراً حيث تتجمّع مئات الفتيات معظمهن من سيريلانكا في منطقة لا تتجاوز كيلومتر مركزها مساحة مربعة محدودة ضلعها نحو ثلاثين متراً تطل على سوبر ماركت ضخم، ودار سينما وبضعة عشر مطعماً صغيراً وكافيتيريا، فبالإضافة إليهن كان هناك فليبينيات وهنديّات، السّيرلانكيات وحدهن يسرن زرافات من دون مصاحبة أيّ رجل، أما غيرهن فكن أكثر تحرراً وإنفاقاً، يدخلن المطاعم ودار السّينما، وقسم منهن ينزلن مع أصدقائهن أو معارفهن الذّكور إلى المراقص والبارات في دبيّ، أما هنّ فكن يزدحمن لكن بهدوء وأدب في السّوبر ماركت أو يطرزن الأرصفة بأجسادهن النّحيفة، وملابسهن المتواضعة التي تكاد تتشابه لبساطتها وقلة ألوانها واحتشامها: قميص أبيض، وتنورة سوداء أو رماديّة، أو فستان طويل أبيض أو ورديّ، أما الحذاء فمشبّك وطيئ الكعب كحذاء الرّجل، لم أرَ فيهن من تلبس ‘‘الجينـز’’، أو السّروال، أو مما يشِّفّ أو يصف، وبالرّغم من أنّ معظمهن إن لم يكن كلّهن جميعاً خياطات ماهرات على الآلة إلا أن قسماً منهن كن يرتدين ملابس مخيطة باليد، فاقتحمت عليّ نافضة غبار الزّمن الخيّاطات المتجولات قبل نصف قرن في الأسواق قرب دكاكين البزازين، في سوق العتمةي وقيصرية السّبع أبواب وباب الطّوب في الموصل.
لم يهتممن بمظهرهن أبداً، معظمهن يضفرن شعورهن جديلة وحيدة ضخمة تمتد حتى منتصف الظّهر، لكنّهن كن يدققن بما يشترين من حاجات معظمها بلاستيكية رخيصة، أو أدوات مطبخ كالقدور غير القابلة للالتّصاق، وملاعق وسكاكين لا يعتريها الصّدأ، وقشارات، وأجهزة منـزليّة متنوعة ضروريّة لا علاقة لها بالتّرف أو الرّفاهية وبما يتناسب مع رواتبهن الرّمزية لا تزيد على مئة دولار، يقتطع مكتب التّشغيل الّذي جلبهن قسماً منه. كنّ يوفّرن كلّ فلس يحصلن عليه، حتى أنّ إحداهن إثر انتهاء عقدها بعد ثلاث سنين لم تستطع تحقيق أحد أحلامها الصّغيرة وهو شرب قنينة مرطبات لوحدها، إذا كانت دائماً تشترك بها مع صديقة لها، وكانت الأخرى تعيل سبعة عشر فرداً من عائلتها، آنذاك علمت أن العمل والكدح هما سر رائحة الورد وفوح العنبر.

* * *6* * *
قبل أربع سنوات دخلت في مشغل صغير في شارع النّهر على دجلة، كان صاحبه يشغل اثنتي عشرة فتاة لا تتجاوز أسنُهن أيضاً الخامسة والعشرين، قال لي صاحبه أن ثمان منهن تركن الجامعة وأن الباقيات كلهن خريجات الثّانوية، وعندما عادلنا رواتبهن وجدن أن أعلاهن راتباً تحصل على نحو عشر دولارات شهرياً، ثم أخذت الأمور تزداد سوءاً والعملة العراقيّة تفقد قوتها يوميّاً في ظلّ الحصار، بحيث لم يعد الرّاتب يكفي حليب طفل واحد، وازداد الغلاء جبروتاً وهمجيّة. امتص نضارة الفتيات ومرحهن وصباهن، أخرجهن عنوة من المدارس والبيوت إلى الورش والأسواق والمعامل والمكاتب، كان ينساب كالوقود السّائل على الأرض ليحرق العواطف والآمال والحبّ، يتقدّم باستمرار وثبات لا يعرف التّباطؤ أو النّكوص لكنّه إلى حدّ الآن لم يستطع دفعهن إلى خارج الحدود كأخواتهن الهنديّات والسّريلانكيات والفليبينيّات لتزيد الغربة من وطأة عذابهن، أسينجح في ذلك؟
أسيجمعهن يوماً ما تحت مسقفات واسعة تسحق كلّ عاطفة وشباب وحيوية في ظروف قاهرة لا ترحم بحيث يصبح تجمعهن اليومي أما سلة البريد حلماً؟
1996



الصّبور: سمك يتوالدّ بالأهوار وشط العرب.


محمود سعيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...