من نافلة القول الاٍشارة اٍلى أن تقييد وتدوين الشعر العامى يعنى انتقاله من الشفاهة اٍلى القراءة, ودخول الشعر العامى اٍلى فضاء القراءة يدحض المقولات التى ترى بأن الشعر العامى يُكتب للبسطاء والأميين دون المثقفين, وقد عرف الشعر العامى التقييد والتدوين منذ بدايات نشأته, ولكن للأسف ضاعت كل دواوين الزجل الأندلسى للزجالين السابقين على زجال الأندلس أبو بكر بن قزمان القرطبقى “475 ـ 555 هجرية”, واٍلى جانب التقييد والتدوين عرف الشعر العامى فى تراثنا التنظير النقدى, وقد تضمنت مقدمة ديوان ابن قزمان أول تنظير نقدى معروف لفن الزجل حيث قال ابن قزمان عن الاٍعراب ولغة الزجل : ( والاٍعراب, وهو أقبح ما يكون فى الزجل, وأثقل من اٍقبال الأجل, كقول أحدهم قد عفا عنه ” قد تَكٍّسَّرَ جِناحُكَ وتَبرّدَ مِزاحُكَ” فاٍن هذا المسكين قد كسر فى هذا القول جناحه, وتبرد فى مزاحه, وكقولِ لآخر “فى اليومِ مرتينِ, لذا الوزارتينِ, قُضىَ لى حاجتينِ )1, وأشار قزمان فى هذه المقدمة لاثنين من كبار زجّالى القرن الخامس الهجرى هما “يخلف بن راشد” و”أخطل بن نماره” حيث قال : ( ولم أر أسلس طبعا, ولا أخصب ربعا, ممن حجوا اٍليه سبعا, أحق بالرئاسة فى ذلك والاٍمارة, من الشيخ أخطل بن نُمارة, وأنه نهج الطريق, وطرق فأحسن التطريق, ويتخلص من التغزّل اٍلى المديح, بغرض سهل وكلام مليح )2, وقد علّق المرحوم الدكتور عبد العزيز الأهوانى على ما قاله ابن قزمان عن سلفه أخطل بن نمارة بأن ( الزجل عند ابن نماره كان يسلك سبيل الموشحة والقصيدة العربية فيبدأ بالمقدمة الغزلية ويتخلّص منها اٍلى المديح, وهى ظاهرة ظلت عند ابن قزمان وغيره من الزجالين, وهى اٍن دلت على شئ غير محاكاة القديم, فهو أن الزجل كالقصيد عاش فى القرن فى القرن الخامس فى كنف الممدوح, وأن الزجل كان وسيلة للتكسب عند زجالى القرن الخامس)3, وفى هذه المقدمة استشهد ابن قزمان ببيت من الشعر للشاعر العربى أبى الطيب المتنبى حيث رأى ابن قزمان أن قوله واٍبداعه فى فن الزجل ينطبق عليه معنى هذا البيت للمتنبى ( وقولى فيه كما قال أبو الطيب المتنبى :
لا خيلَ عندكَ تُهديها ولا مالَ فليُسْعِد النطقُ اٍن لم يسعد الحالُ )4
فمن لا يمتلك مالا يجود به ليتذكره الناس عليه أن يكون حلو الكلام ليتذكره الناس بذلك ويمتدحونه, واستشهاد ابن قزمان بهذا البيت للمتنبى, بالاٍضافة اٍلى ما أشرت اٍليه من حديثه عن لغة الزجل وحديثه عن “أخطل بن نماره” يوضح لنا أن ابن قزمان كان يوجه ديوانه الذى بدأه بتلك المقدمة اٍلى قارئ مثقف, وأتفق تماما مع رأى الدكتور عبد العزيز الأهوانى فى أن الزجل كان يسلك سبيل الموشحة والقصيدة العمودية فى الانتقال من الغزل اٍلى المديح, وأن الزجال مثل الشاعر كان يعيش فى كنف الممدوح, ويدل ذلك على أن الزجل لم يكن فى مرتبة أدنى لدى الممدوحين الذين يجزلون العطاء لشعراء الفصحى والوشاحين والزجالين .
ومنذ القرن السادس الهجرى ظهر فى الأدب العربى مصطلح “الفنون الأدبية السبع” وكان يُطلق على كل فنون النظم الشعرى الفصيح والعامى, وكانت الفنون السبع تنقسم اٍلى فنون تكتب بالفصحى فقط وهى الزجل والموشح, وأخرى يمكن أن تكتب بالفصحى أو بالعامية وهى الدوبيت والمواليا / الموال, وثلاثة فنون تكتب بالعامية فقط وهى الزجل والقوما والكان وكان, ولم يُخَصَّص فنا من هذه الفنون الشعرية لطبقة اجتماعية دون أخرى, بل كان كل الشعر فصحى وعامية مُوَجَّها لكل الناس .
ولم ترد مقولة أن الشعر العامى يُكتب للبسطاء فقط دون المثقفين فى كتابات كبار نقّاد, ومنظرى فنون الشعر العامى فى العصر المملوكى مثل صفى الدين الحلى فى كتابه “العاطل الحالى والمرخص الغالى”, وعبد الوهاب بن يوسف البنوانى فى كتابه “رفع الشك والمين فى تحرير الفنين”, وابن حجة الحموى فى كتابه “بلوغ الأمل فى فن الزجل”, وكذلك فى العصر العثمانى لم يَقُل أحمد عقيدة الدرويش البرلسى فى كتابه “العقيدة الدوريشية فى تحرير السبع فنون الأدبية”, أو محمد بن مرزوق الدجوى فى كتابه “بلوغ الأمل فى بعض أحمال الزجل ” أن الشعر العامى موجه للبسطاء دون المثقفين, وكان النقاد المتخصصون فى دراسة فنون الشعر العامى فى العصر المملوكى والعصر العثمانى يقومون بالتأصيل لأشكال النظم الشعرى بالعامية , ويتتبعون جذور كل شكل منها والبلد التى نشأ فيها واختلاف كل شكل من أشكال النظم بالعامية عن الشكل الآخر من حيث البناء الفنى, ومنهم من كان يقوم بتناول نصوص شعراء عصره بالتحليل والنقد مثل صفى الدين الحلى, ونسج على منواله فى ذلك ابن حجة الحموى ونقل الكثير من آرائه .
ولو أن الشعر العامى كان مُوَجَّها للبسطاء دون المثقفين ما كان كبار مؤرخى العصور الوسطى أمثال ابن اٍياس فى موسوعة “بدائع الزهور فى وقائع الدهور”, وابن تغرى بردى فى موسوعة “النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة” أوردوا فى مؤلفاتهم نصوصا من الشعر العامى مثلما أوردوا نصوصا من الشعر الفصيح كشواهد على الوقائع التاريخية, ومن الأمثة الدالة على ذلك استشهاد أمثلة ابن اٍياس فى موسوعته “بدائع الزهور فى وقائع الدهور” بنص زجلى للشاعر والزجال خلف الغبارى, وكان بخصوص واقعة عودة الظاهر برقوق لحكم مصر وتنكيله, وقد قال خلف الغبارى فى بداية هذا النص الزجلى :
أشرقتْ شمس دولة المسلمين وِزها نجمها الزاهر
وصبح نور العدل نورو ظهر واختفى ليل الظلم بالظاهر
مصر صارت روضه بهذا الملك زاهِيَه طِيبْ عبيرها منشوق
وبالأحمر تفاحِها فى البياض قد تخضّب لسلطنة برقوق
ويقول خلف الغبارى فى أحد مقاطع نصه الزجلى محددا تاريخ الواقعة فى شهر مضان سنة 874 هجرية :
أرخوا ما جرى سنة أربعة وثمانين وسبعماية عام
أنعم الله بعد الغلا بالرخا اٍن لله على العباد اٍنعام
وفى تاسع عشر الصيام انتصب ملك العصر الظاهر الأحكام
وفى عُشْرو الأخير سمعنا الخبر بِيهْ يا قلبى فى العاشر
فما أبركْ صباحْ هذا التاسعْ اتْباشِرْ وما أسعدْ مسا هذا العاشر )5
كما كان مؤلفو السير والتراجم يشيدون بشعراء العامية الكبار وبمنجزهم الشعرى ومن أمثلة ذلك قول ابن شاكر الكنبى فى “فوات الوفيات” عن الشاعر اٍبراهيم المعمار : ( أنه عامى مطبوع وتقع له التوريات المليحة المتمكنة ولا سيما فى الأزجال والبلاليق )6, هكذا لم ترد مقولة “أن الشعر العامى موجه للبسطاء بشكل أساسى دون المثقفين” فى كتابات نقاد الأدب العامى والمؤرخين, ومؤلفو السير والتراجم فى العصور الوسطى .
اٍن مقولة ارتباط شعر العامية بالبسطاء واعتباره بالأساس فنا مُوَجهّا لهم ومعبرا عنهم وأن شعر الفصحى للمثقفين مقولة تم تداولها, وانتشارها بشكل كبير منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلادى, وما زال صداها يتردد عند بعض الأدباء والمثقفين, اٍذ أنه مع الاحتلال الأوروبى للدول العربية ظهرت حركة تنوير ذات توجه ثقافى يدعوا اٍلى التمسك باللغة العربية الفصحى واٍحياء تراثها الشعرى والأدبى فى مواجهة ثقافة المحتل الأوروبى, قادها مثقفون ومفكرون من مصر والشام وكانت مدرسة الاٍحياء والبعث التى كان على رأسها محمود سامى البارودى وأحمد شوقى ومعروف الرصافى هى الجناح الشعرى لتلك الحركة الثقافية, التى رأت فى أدب وشعر العصر العصرين الأموى والعباسى فردوسا فقده الشعر العربى, وأن شعراء الاٍحياء والبعث أعادوا الشعر اٍلى ذلك الفردوس المفقود
ولأن حركة التنوير المشار اٍليها آنذاك كانت ترى أن اللغة العربية العربية هى الوعاء الحامل للثقافة والهوية العربية ـ وهذه حقيقة طبعا ـ اهتمت بشعر الفصحى وبتراثه وأهملت الشعر العامى وتراثه وفضلت عليه الشعر الفصيح, وبالطبع ليس هناك مقارنة أو تفضيل بين فن شعرى يكتب بالفصحى وفن شعرى آخر يُكتب بالعامية ولكن رواد حركة التنوير آنذاك كانت هذه هى وجهة نظرهم, وبذلك تكون مسألة تفضيل الشعر الفصيح على الشعر العامى مسألة تتعلق باللغة وليس بالشعر وفنياته ورؤاه, فكان الشعر الفصيح موجها للصفوة والمثقفين بالأساس والشعر العامى موجها للطبقات الأقل علما وثقافة, حيث قال مصطفى صادق فى كتابه “تاريخ آداب العرب” : أن الشعر العامى قد نشأ ( بعد ظهور الغناء وانتشاره, لأن طبقات كثيرة من العامة ـ ومن حكمهم ممن لا أدب لهم ـ لا يطربون للغناء فى الشعر الفصيح, وخاصة عامة أهل الشام, ولعلهم أصل الشعر العامى فى العربية لأن الفصيح استبحر فى بلادهم, ومع ذلك فهم أسقم الناس ألسنة, فكان لا بد لعامتهم من هذا الشعر)7.
ورغم هذه النظرة للشعر العامى ظهر فى أواخر القرن التاسع عشر زجالا كبيرا هو عبد الله النديم شاعر وخطيب الثورة العرابية الذى لاقت أزجاله استحسانا وقبولا بين كل طبقات الشعب, وكذلك ظهر فى النصف الأول من القرن العشرين زجال كبير هو محمود بيرم التونسى الذى التحم بقضايا المجتمع ومحاربة فساد الملك والاحتلال وذاع صيت أزجاله وانتشرت فى المجلات والصحف ليقرأها البسطاء والنخبة على حد سواء .
ومنذ فترة الخمسينات والستينات اتخذت مقولة أن الشعر العامى يُكتب أساسا للبسطاء وجهة نظر أخرى لا تتعلق بمسألة اللغة العربية الفصحى وتفضيلها على العامية, وكانت وجهة النظر تلك ذات صبغة أيدلوجية فكرية حيث الناقد عادل الأسطة فى معرض حديثه عن الشعر العامى الذى كتبه الشاعر العراقى مُظفّر النواب ( مظفر شاعر ليس للسريالية المعقدة فى أشعاره حضور, وأنه شاعر يلتزم بخصائص الواقعية الاشتراكية : شعبية الأدب )8.
واٍلى جانب صبغ مقولة أن شعر العامية موجه بالأساس للبسطاء بصبغة لغوية بحتة وتارة أخرى بصبغة أيدلوجية, فهناك وجهات نظر لدى بعض المثقفين والأدباء العرب المعاصرين تربط بين ارتفاع نسبة الأميَّة فى البلاد العربية ومقولة أن الشر العامى فن موجه للبسطاء دون المثقفين ومن أمثلة ذلك القول بأن ( اللغة العامية أقدر على التعبير عن روح الشعب والبسطاء, ولا سيما أن نسبة الأمية فى بلدان عربية كثيرة مرتفعة )9
اٍن الآراء ووجهات النظر التى تصبغ مقولة أن الشعر العامى فن شعرى موجه للبسطاء لم تكن فى يوم ما حاكمة لحركة الشعر العامى الحديث والمعاصر أو موجهة لمسار تطوره, لأنها وجهات نظر ترى الشعر العامى من منظور لا يخص الشعر باعتباره رؤيا وتشكيل جمالى عبر اللغة أيّا كان نوعها, وقد يتطور الأمر لدى بعض الأدباء وينتقل من تقييم الخطاب الشعرى العامى اٍلى تقييم شعراء العامية أنفسهم ومقارنتهم بشعراء العامية فمثلا يقال أن ( كتابة الشعر العامى للشاعر الفصيح أسهل من كتابة الشعر الفصيح للشاعر العامى )10, ويقال أن ( التدرج من كتابة الشعر العامى أو المحكى للفصيح هو الأمر الطبيعى الذى يدل على توافر الموهبة الطبيعية التى انطلقت فى الصغر وكانت آداتها هى اللهجة الشعبية لعدم تمكن الصغير من الحديث بالفصحى ثم مع التعليم والدراسة توافرت لديه الآداة الأخرى, هذا الأمر لا أعده طبيعى بل قد أصِلْ اٍلى اعتباره شرطا فى تكوّن الشاعر )11, وهذه المقولات لا تمت للشعر بأى صلّة, ولو أن الأمر كذلك لما كان هناك شعراء عامية من الأساس على اعتبار أن الشاعر يكتب بالعامية وهو صغير السن وعندما ينضج يكتب بالفصحى ؟!! وبما أن شعر العامية سهل لهذه الدرجة فليكتب شعراء الفصحى شعرا فصيحا وعاميا فى آن واحد ؟!!!, طالما أن الموضوع بهذه البساطة, وما كان هناك داعى لوجود شاعر عامية بحجم فؤاد حداد أو صلاح جاهين مثلا, وكان شعراء الفصحى آنذاك كتبوا شعرا عاميا فى أوقات استراحتهم !!!, اٍن موضوع سهولة العامية عن الفصحى لا يتعلق بلغة الشعر بل يتعلق بالنحو والصرف وأشياء أخرى لا تخصّ لغة الشعر التى تختلف كليا عن اللغة العادية سواءا كانت فصحى أو عامية, اٍن مسألة اللغة التى يكتب بها الشاعر هى خيار جمالى وأن عامية الشعر تختلف عن العامية المتداولة, فلغة الشعر بالأساس تكتسب مشروعيتها من الانحراف عن معيار اللغة العادية المباشرة, وعندما ينجح الشاعر فى اٍحداث ذلك الانحراف وبناء نص شعرى قائم على التخييل والصورة الشعرية والاٍيماء والاٍيحاء تتحول العامية من لغة توصيلية اٍلى لغة شعرية, تتوجه لقارئ أو متلقى يتفاعل معها ويفك شفراتها الجمالية والدلالية, وقد أشرت سابقا اٍلى أن الشعر العامى فى تراثنا قد عرف التقييد والتدوين والانتقال من الشفاهة اٍلى القراءة منذ وقت مبكر, ولم يرتكن اٍلى تلك المقولة الخاصة بأنه شعر موجهه للبسطاء دون المثقفين, فلم تكن هذه المقولة فى حسبان نقاد ومنظرو الشعر العامى فى تراثنا من الأساس .
ولم يرتكن عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية فى نهايات القرن التاسع عشر وبيرم التونسى فى النصف الأول من القرن العشرين اٍلى مقولة أن الشعر العامى أدنى من نظيره الفصيح, ووصلت أزجالهما اٍلى كافة طبقات المجتمع, وكذلك لم يرتكن فؤاد حداد وصلاح جاهين اٍلى وجهة النظر الأيدلوجية التى تصبغ تلك المقولة وانطلقا فى فضاءات التجريب وظهر لون شعرى عامى جديد وهو الشعر العامى الحر أو قصيدة العامية, التى كان فؤاد حداد أول من كتبها وانتقل بها صلاح جاهين اٍلى فضاءات شعرية جديدة تجعله منه رائد ومشاركا لفؤاد حداد فى تحقيق مشروعية قصيدة / الشعر العامى الحر, واستمرت قصيدة العامية فى طرح أصوات ورؤى جديدة منذ الخمسينات والستينات حتى يومنا هذا, وقد نشأت قصيدة العامية اللبنانية والعراقية فى وقت قريب من نشأتها فى مصر, وتشهد الدول العربية فى مصر والشام والخليج والمغرب العربى فى وقتنا الحاضر ازدهارا للشعر العامى الحاضر بقوة فى المحافل الأدبية والثقافية .
الهوامش والاٍحالات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ ديوان ابن قزمان ـ نسخة مخطوطة ـ محفوظة بدار الكتب المصرية رقم حفظ 1513 أدب ـ ورقة رقم2
2 ـ المصدر السابق ونفس الورقة
3ـ الزجل فى الأندلس ـ عبد العزيز الأهوانى ـ مكتبة الداسات الشعبية ـ هيئة قصور الثقافة ـ 2002م ص 98
4ـ مقدمة ديوان ابن قزمان ـ ورقة رقم 3
5ـ ابن اٍياس ـ بدائع الزهور ج1 القسم الثانى ـ تحقيق محمد مصطفى ـ ص 320
6ـ فوات الوفيات ابن شاكر الكنبى ـ ط بولاق 1916م ج1ص39
7ـ تاريخ آداب العرب ـ مصطفى صادق الرافعى ـ الجزء الثانى ـ مكتبة الاٍيمان 1940م ص 141
8ـ أدباء عرب رافضون ـ عادل الأسطة ـ دار أسوار ـ عكا 2003م ص 17 4 ـ
9ـ جريدة الخليج الاٍماراتية 20 ـ 9 ـ 2016م ـ الشاعر ولغته أسئلة وأطروحات ـ الشاعر والروائى أنور الخطيب
10ـ المجلة العربية ـ 16 ـ 12 ـ 2009م ـ كتابة القصيدة شعبية المحكى ونخبوية الفصيح ـ الشاعر حسين المطروشى
11ـ ـ المجلة العربية ـ 16 ـ 12 ـ 2009م ـ كتابة القصيدة شعبية المحكى ونخبوية الفصيح والكلام للشاعر حزام العتيبى
*شاعر وناقد مصرى
لا خيلَ عندكَ تُهديها ولا مالَ فليُسْعِد النطقُ اٍن لم يسعد الحالُ )4
فمن لا يمتلك مالا يجود به ليتذكره الناس عليه أن يكون حلو الكلام ليتذكره الناس بذلك ويمتدحونه, واستشهاد ابن قزمان بهذا البيت للمتنبى, بالاٍضافة اٍلى ما أشرت اٍليه من حديثه عن لغة الزجل وحديثه عن “أخطل بن نماره” يوضح لنا أن ابن قزمان كان يوجه ديوانه الذى بدأه بتلك المقدمة اٍلى قارئ مثقف, وأتفق تماما مع رأى الدكتور عبد العزيز الأهوانى فى أن الزجل كان يسلك سبيل الموشحة والقصيدة العمودية فى الانتقال من الغزل اٍلى المديح, وأن الزجال مثل الشاعر كان يعيش فى كنف الممدوح, ويدل ذلك على أن الزجل لم يكن فى مرتبة أدنى لدى الممدوحين الذين يجزلون العطاء لشعراء الفصحى والوشاحين والزجالين .
ومنذ القرن السادس الهجرى ظهر فى الأدب العربى مصطلح “الفنون الأدبية السبع” وكان يُطلق على كل فنون النظم الشعرى الفصيح والعامى, وكانت الفنون السبع تنقسم اٍلى فنون تكتب بالفصحى فقط وهى الزجل والموشح, وأخرى يمكن أن تكتب بالفصحى أو بالعامية وهى الدوبيت والمواليا / الموال, وثلاثة فنون تكتب بالعامية فقط وهى الزجل والقوما والكان وكان, ولم يُخَصَّص فنا من هذه الفنون الشعرية لطبقة اجتماعية دون أخرى, بل كان كل الشعر فصحى وعامية مُوَجَّها لكل الناس .
ولم ترد مقولة أن الشعر العامى يُكتب للبسطاء فقط دون المثقفين فى كتابات كبار نقّاد, ومنظرى فنون الشعر العامى فى العصر المملوكى مثل صفى الدين الحلى فى كتابه “العاطل الحالى والمرخص الغالى”, وعبد الوهاب بن يوسف البنوانى فى كتابه “رفع الشك والمين فى تحرير الفنين”, وابن حجة الحموى فى كتابه “بلوغ الأمل فى فن الزجل”, وكذلك فى العصر العثمانى لم يَقُل أحمد عقيدة الدرويش البرلسى فى كتابه “العقيدة الدوريشية فى تحرير السبع فنون الأدبية”, أو محمد بن مرزوق الدجوى فى كتابه “بلوغ الأمل فى بعض أحمال الزجل ” أن الشعر العامى موجه للبسطاء دون المثقفين, وكان النقاد المتخصصون فى دراسة فنون الشعر العامى فى العصر المملوكى والعصر العثمانى يقومون بالتأصيل لأشكال النظم الشعرى بالعامية , ويتتبعون جذور كل شكل منها والبلد التى نشأ فيها واختلاف كل شكل من أشكال النظم بالعامية عن الشكل الآخر من حيث البناء الفنى, ومنهم من كان يقوم بتناول نصوص شعراء عصره بالتحليل والنقد مثل صفى الدين الحلى, ونسج على منواله فى ذلك ابن حجة الحموى ونقل الكثير من آرائه .
ولو أن الشعر العامى كان مُوَجَّها للبسطاء دون المثقفين ما كان كبار مؤرخى العصور الوسطى أمثال ابن اٍياس فى موسوعة “بدائع الزهور فى وقائع الدهور”, وابن تغرى بردى فى موسوعة “النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة” أوردوا فى مؤلفاتهم نصوصا من الشعر العامى مثلما أوردوا نصوصا من الشعر الفصيح كشواهد على الوقائع التاريخية, ومن الأمثة الدالة على ذلك استشهاد أمثلة ابن اٍياس فى موسوعته “بدائع الزهور فى وقائع الدهور” بنص زجلى للشاعر والزجال خلف الغبارى, وكان بخصوص واقعة عودة الظاهر برقوق لحكم مصر وتنكيله, وقد قال خلف الغبارى فى بداية هذا النص الزجلى :
أشرقتْ شمس دولة المسلمين وِزها نجمها الزاهر
وصبح نور العدل نورو ظهر واختفى ليل الظلم بالظاهر
مصر صارت روضه بهذا الملك زاهِيَه طِيبْ عبيرها منشوق
وبالأحمر تفاحِها فى البياض قد تخضّب لسلطنة برقوق
ويقول خلف الغبارى فى أحد مقاطع نصه الزجلى محددا تاريخ الواقعة فى شهر مضان سنة 874 هجرية :
أرخوا ما جرى سنة أربعة وثمانين وسبعماية عام
أنعم الله بعد الغلا بالرخا اٍن لله على العباد اٍنعام
وفى تاسع عشر الصيام انتصب ملك العصر الظاهر الأحكام
وفى عُشْرو الأخير سمعنا الخبر بِيهْ يا قلبى فى العاشر
فما أبركْ صباحْ هذا التاسعْ اتْباشِرْ وما أسعدْ مسا هذا العاشر )5
كما كان مؤلفو السير والتراجم يشيدون بشعراء العامية الكبار وبمنجزهم الشعرى ومن أمثلة ذلك قول ابن شاكر الكنبى فى “فوات الوفيات” عن الشاعر اٍبراهيم المعمار : ( أنه عامى مطبوع وتقع له التوريات المليحة المتمكنة ولا سيما فى الأزجال والبلاليق )6, هكذا لم ترد مقولة “أن الشعر العامى موجه للبسطاء بشكل أساسى دون المثقفين” فى كتابات نقاد الأدب العامى والمؤرخين, ومؤلفو السير والتراجم فى العصور الوسطى .
اٍن مقولة ارتباط شعر العامية بالبسطاء واعتباره بالأساس فنا مُوَجهّا لهم ومعبرا عنهم وأن شعر الفصحى للمثقفين مقولة تم تداولها, وانتشارها بشكل كبير منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلادى, وما زال صداها يتردد عند بعض الأدباء والمثقفين, اٍذ أنه مع الاحتلال الأوروبى للدول العربية ظهرت حركة تنوير ذات توجه ثقافى يدعوا اٍلى التمسك باللغة العربية الفصحى واٍحياء تراثها الشعرى والأدبى فى مواجهة ثقافة المحتل الأوروبى, قادها مثقفون ومفكرون من مصر والشام وكانت مدرسة الاٍحياء والبعث التى كان على رأسها محمود سامى البارودى وأحمد شوقى ومعروف الرصافى هى الجناح الشعرى لتلك الحركة الثقافية, التى رأت فى أدب وشعر العصر العصرين الأموى والعباسى فردوسا فقده الشعر العربى, وأن شعراء الاٍحياء والبعث أعادوا الشعر اٍلى ذلك الفردوس المفقود
ولأن حركة التنوير المشار اٍليها آنذاك كانت ترى أن اللغة العربية العربية هى الوعاء الحامل للثقافة والهوية العربية ـ وهذه حقيقة طبعا ـ اهتمت بشعر الفصحى وبتراثه وأهملت الشعر العامى وتراثه وفضلت عليه الشعر الفصيح, وبالطبع ليس هناك مقارنة أو تفضيل بين فن شعرى يكتب بالفصحى وفن شعرى آخر يُكتب بالعامية ولكن رواد حركة التنوير آنذاك كانت هذه هى وجهة نظرهم, وبذلك تكون مسألة تفضيل الشعر الفصيح على الشعر العامى مسألة تتعلق باللغة وليس بالشعر وفنياته ورؤاه, فكان الشعر الفصيح موجها للصفوة والمثقفين بالأساس والشعر العامى موجها للطبقات الأقل علما وثقافة, حيث قال مصطفى صادق فى كتابه “تاريخ آداب العرب” : أن الشعر العامى قد نشأ ( بعد ظهور الغناء وانتشاره, لأن طبقات كثيرة من العامة ـ ومن حكمهم ممن لا أدب لهم ـ لا يطربون للغناء فى الشعر الفصيح, وخاصة عامة أهل الشام, ولعلهم أصل الشعر العامى فى العربية لأن الفصيح استبحر فى بلادهم, ومع ذلك فهم أسقم الناس ألسنة, فكان لا بد لعامتهم من هذا الشعر)7.
ورغم هذه النظرة للشعر العامى ظهر فى أواخر القرن التاسع عشر زجالا كبيرا هو عبد الله النديم شاعر وخطيب الثورة العرابية الذى لاقت أزجاله استحسانا وقبولا بين كل طبقات الشعب, وكذلك ظهر فى النصف الأول من القرن العشرين زجال كبير هو محمود بيرم التونسى الذى التحم بقضايا المجتمع ومحاربة فساد الملك والاحتلال وذاع صيت أزجاله وانتشرت فى المجلات والصحف ليقرأها البسطاء والنخبة على حد سواء .
ومنذ فترة الخمسينات والستينات اتخذت مقولة أن الشعر العامى يُكتب أساسا للبسطاء وجهة نظر أخرى لا تتعلق بمسألة اللغة العربية الفصحى وتفضيلها على العامية, وكانت وجهة النظر تلك ذات صبغة أيدلوجية فكرية حيث الناقد عادل الأسطة فى معرض حديثه عن الشعر العامى الذى كتبه الشاعر العراقى مُظفّر النواب ( مظفر شاعر ليس للسريالية المعقدة فى أشعاره حضور, وأنه شاعر يلتزم بخصائص الواقعية الاشتراكية : شعبية الأدب )8.
واٍلى جانب صبغ مقولة أن شعر العامية موجه بالأساس للبسطاء بصبغة لغوية بحتة وتارة أخرى بصبغة أيدلوجية, فهناك وجهات نظر لدى بعض المثقفين والأدباء العرب المعاصرين تربط بين ارتفاع نسبة الأميَّة فى البلاد العربية ومقولة أن الشر العامى فن موجه للبسطاء دون المثقفين ومن أمثلة ذلك القول بأن ( اللغة العامية أقدر على التعبير عن روح الشعب والبسطاء, ولا سيما أن نسبة الأمية فى بلدان عربية كثيرة مرتفعة )9
اٍن الآراء ووجهات النظر التى تصبغ مقولة أن الشعر العامى فن شعرى موجه للبسطاء لم تكن فى يوم ما حاكمة لحركة الشعر العامى الحديث والمعاصر أو موجهة لمسار تطوره, لأنها وجهات نظر ترى الشعر العامى من منظور لا يخص الشعر باعتباره رؤيا وتشكيل جمالى عبر اللغة أيّا كان نوعها, وقد يتطور الأمر لدى بعض الأدباء وينتقل من تقييم الخطاب الشعرى العامى اٍلى تقييم شعراء العامية أنفسهم ومقارنتهم بشعراء العامية فمثلا يقال أن ( كتابة الشعر العامى للشاعر الفصيح أسهل من كتابة الشعر الفصيح للشاعر العامى )10, ويقال أن ( التدرج من كتابة الشعر العامى أو المحكى للفصيح هو الأمر الطبيعى الذى يدل على توافر الموهبة الطبيعية التى انطلقت فى الصغر وكانت آداتها هى اللهجة الشعبية لعدم تمكن الصغير من الحديث بالفصحى ثم مع التعليم والدراسة توافرت لديه الآداة الأخرى, هذا الأمر لا أعده طبيعى بل قد أصِلْ اٍلى اعتباره شرطا فى تكوّن الشاعر )11, وهذه المقولات لا تمت للشعر بأى صلّة, ولو أن الأمر كذلك لما كان هناك شعراء عامية من الأساس على اعتبار أن الشاعر يكتب بالعامية وهو صغير السن وعندما ينضج يكتب بالفصحى ؟!! وبما أن شعر العامية سهل لهذه الدرجة فليكتب شعراء الفصحى شعرا فصيحا وعاميا فى آن واحد ؟!!!, طالما أن الموضوع بهذه البساطة, وما كان هناك داعى لوجود شاعر عامية بحجم فؤاد حداد أو صلاح جاهين مثلا, وكان شعراء الفصحى آنذاك كتبوا شعرا عاميا فى أوقات استراحتهم !!!, اٍن موضوع سهولة العامية عن الفصحى لا يتعلق بلغة الشعر بل يتعلق بالنحو والصرف وأشياء أخرى لا تخصّ لغة الشعر التى تختلف كليا عن اللغة العادية سواءا كانت فصحى أو عامية, اٍن مسألة اللغة التى يكتب بها الشاعر هى خيار جمالى وأن عامية الشعر تختلف عن العامية المتداولة, فلغة الشعر بالأساس تكتسب مشروعيتها من الانحراف عن معيار اللغة العادية المباشرة, وعندما ينجح الشاعر فى اٍحداث ذلك الانحراف وبناء نص شعرى قائم على التخييل والصورة الشعرية والاٍيماء والاٍيحاء تتحول العامية من لغة توصيلية اٍلى لغة شعرية, تتوجه لقارئ أو متلقى يتفاعل معها ويفك شفراتها الجمالية والدلالية, وقد أشرت سابقا اٍلى أن الشعر العامى فى تراثنا قد عرف التقييد والتدوين والانتقال من الشفاهة اٍلى القراءة منذ وقت مبكر, ولم يرتكن اٍلى تلك المقولة الخاصة بأنه شعر موجهه للبسطاء دون المثقفين, فلم تكن هذه المقولة فى حسبان نقاد ومنظرو الشعر العامى فى تراثنا من الأساس .
ولم يرتكن عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية فى نهايات القرن التاسع عشر وبيرم التونسى فى النصف الأول من القرن العشرين اٍلى مقولة أن الشعر العامى أدنى من نظيره الفصيح, ووصلت أزجالهما اٍلى كافة طبقات المجتمع, وكذلك لم يرتكن فؤاد حداد وصلاح جاهين اٍلى وجهة النظر الأيدلوجية التى تصبغ تلك المقولة وانطلقا فى فضاءات التجريب وظهر لون شعرى عامى جديد وهو الشعر العامى الحر أو قصيدة العامية, التى كان فؤاد حداد أول من كتبها وانتقل بها صلاح جاهين اٍلى فضاءات شعرية جديدة تجعله منه رائد ومشاركا لفؤاد حداد فى تحقيق مشروعية قصيدة / الشعر العامى الحر, واستمرت قصيدة العامية فى طرح أصوات ورؤى جديدة منذ الخمسينات والستينات حتى يومنا هذا, وقد نشأت قصيدة العامية اللبنانية والعراقية فى وقت قريب من نشأتها فى مصر, وتشهد الدول العربية فى مصر والشام والخليج والمغرب العربى فى وقتنا الحاضر ازدهارا للشعر العامى الحاضر بقوة فى المحافل الأدبية والثقافية .
الهوامش والاٍحالات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ ديوان ابن قزمان ـ نسخة مخطوطة ـ محفوظة بدار الكتب المصرية رقم حفظ 1513 أدب ـ ورقة رقم2
2 ـ المصدر السابق ونفس الورقة
3ـ الزجل فى الأندلس ـ عبد العزيز الأهوانى ـ مكتبة الداسات الشعبية ـ هيئة قصور الثقافة ـ 2002م ص 98
4ـ مقدمة ديوان ابن قزمان ـ ورقة رقم 3
5ـ ابن اٍياس ـ بدائع الزهور ج1 القسم الثانى ـ تحقيق محمد مصطفى ـ ص 320
6ـ فوات الوفيات ابن شاكر الكنبى ـ ط بولاق 1916م ج1ص39
7ـ تاريخ آداب العرب ـ مصطفى صادق الرافعى ـ الجزء الثانى ـ مكتبة الاٍيمان 1940م ص 141
8ـ أدباء عرب رافضون ـ عادل الأسطة ـ دار أسوار ـ عكا 2003م ص 17 4 ـ
9ـ جريدة الخليج الاٍماراتية 20 ـ 9 ـ 2016م ـ الشاعر ولغته أسئلة وأطروحات ـ الشاعر والروائى أنور الخطيب
10ـ المجلة العربية ـ 16 ـ 12 ـ 2009م ـ كتابة القصيدة شعبية المحكى ونخبوية الفصيح ـ الشاعر حسين المطروشى
11ـ ـ المجلة العربية ـ 16 ـ 12 ـ 2009م ـ كتابة القصيدة شعبية المحكى ونخبوية الفصيح والكلام للشاعر حزام العتيبى
*شاعر وناقد مصرى