بدأ الجدار يبرز الآن من الأرض، وهو سيمضي بك صعودا ليفصل بين ما مضى عما سيمضي. لكنه سور بدون بوابة، أو انها كامنة في مكان ما بعيد. الوصول إليها سوف لن يتطلب منك سنوات من عمرك فحسب، بل ويتوجب ان تصل إليها و انت الإنسان الذي لن يكون الشخص نفسه الذي كان من قبل.
المهلة مازالت الآن مفتوحة. يمكنك بقفزة صغيرة أن تضع نفسك خارج كل الحكايات، إلا أنك لن تجد أبدا البوابة التي انبعثت منها مشرعة.
صوت :الخيبري "وهو في جلسته وسط فناء البيت تنتزعك من شرودك مؤججا سجالا حادا مع "عدلي" - ذلك البيضاوي الذي ستسخر أسرته إمكانيتها من أجل انتشاله من آسا - الخيبري يقول صارخا: جالسوا الضباط و انصتوا إليهم وهم يتحدثون عن خسائرهم البشرية. إنهم يفعلون ذلك وكان الأمر لا يتعلق بكائنات كانت لها أحلام. وأن لها في الخلف من ينتظر عودتها. بل هم يتحدثون عن قطع. نعم قطع و كان الأمر يعني فقدان ملعقة أو صحن أو كأس.لكن الادهى هو كيف ينظرون لخسائر خصومهم. فاي عالم هذا الذي يصبح فيه صنع المآسي هو ما يدخل الفرح للقلوب؟
الفاتحي يقاطع الخيبري عما يكون حال بين ذلك المقاتل وقتل" الضراوي". ذلك التصرف الذي يجده مغلفا بالإبهام.
الخيبري يرد. السؤال الاهم في هذا الامر هو ما الذي كان سيجنيه من قتل الضراوي؟ ألم يكن تركه حيا هوالاجدى مادام سيحكي ما حكاه؟ وقبل هذا، لماذا سئلت تلك العجوز عن الأطفال؟ . إنهم يفكرون في حرب طويلة ، و يحتاجون إلى من يحمل الألوية في حال تقادمهم. وهم بذلك الشكل سيضمنون استمرار طرحهم، و في الوقت نفسه ارتباط الاهالي بهم.
وحده الشاوني وضع نفسه خارج كل ما كان يروج كإنسان انشطر نصفين يوما ما، و بات غير قادر على أن يشكل صوتا أو ينغمس في قضية ما لم يصبح مكتملا باستعادة نصف كيانه الذي تاه عنه. عزل نفسه عن كل شئ. وحدد وجهة وحيدة و راح يقصف و يلطف عبر رسائل كان لا يبدو أن لها نهاية.
في لحظات استراحته حين كان يرفع رأسه عن الاوراق، كان يلقي نظرة على الركن الآخر من الغرفة ليتأكد من انك هناك ،ثم يحكي.كيف انه حين رآها أول مرة، أدرك أنها دون سواها هي الانثى الوحيدة في هذا المعمور. كل اللواتي مررن به لم يحدثن به أي تأثير. لكن محرد أن يلوح طيفها حتى ولو في المنام كان يتغير فيه كل شئ. من نبض فؤاده إلى أوعيته التي تتسع كي تسهل ذلك التدفق السريع لدمائه. و كيف أن حتى الامكنة تتلون بألوان سحرها.
تنتبه وانت تتابع حكيه إلى ذلك البون الهائل بين أجواء غرف تلك الدار. فالانشغال هنا هو بلون الحرقة و الاحساس بالفقد. و هو هناك في الغرفة المجاورة ملون بوثيرة الحياة التي تجري كل فصولها في الخارج.. و يعلم الله وحده كيف هو في أذهان تلك الكتلة الصامتة التي بدا عليها أنها تحتاج لزمن طويل كي تستوعب ما يعاش و ما يحكى
بغد سلام جاف مع القمري ، تسلمت وثائق تلاميذ قسمك. و من النظرة الأولى بدا ألا واحد من التلاميذ له تاريخ ازدياد مضبوط. مجرد سنوات بلا شهور و لا أيام. و بدت لك غرابة بعض الأسماء التي لم تستطع ان تفرق فيها الإسم العائلي عن الشخصي. لكن الأهم كان هو حين أدخلت التلاميذ إلى القسم. كان كل شئ جديدا بالنسبة لك،و بالنسبة لهم. فأنت كنت معلم جديد في أول يوم عمل له في مساره المهني. و في بيئة جديدة. و هم كان جددا على المدرسة و جدد في التعامل مع شخص من خارج بيئتهم. لكن المشجع انهم كانوا متحمسين، و عيونهم معبرة عن تطلع و انتظارات. و البعض منهم كان يعي أنه يعيش لحظة تاريخية بانتمائه للمدرسة.
قدمت نفسك للمتعلمين، و بدات عملية التعرف عليهم و على احوالهم واحدا واحدا. كان ما أثار انتباهك هو طفلة هي الاكثر طولا و نضجا مقارنة بباقي المتعلمين. ويشع من عينيها ذكاء و فطنة. كانت "حميدة". لم تولد في آسا. كانت تعيش في مكان ما في ربوع الصحراء رفقة عائلتها وعشيرتها. و لم يكن يومذاك جدار أمني، و عوضا عنه كانت هناك قيالق ضخمة متحركة تحمل أسماء معارك تاريخية كالزلاقة و الارك و غيرها . و عندما حوصرت الزلاقة في وادي درعة، تغيرت الاستراتيجية العسكرية لتستقر على بناء جدار ثابت. و اقتضى الأمر ترحيل السكان من المساحات التي سيتم التخلي عنها و نقلهم إلى خلف الجدار. وبذلك وصلت حميدة إلى آسا. كانت تفوق التلاميذ بسنة او سنتين. ويمكن أن تكون ضحية لقرار القبطان حين قرر ترحيل ذلك المعلم بالقوة.
حميدة كانت راضية عن الكيفية التي تم التعامل معها بها. لذلك تقلصت المسافة الفاصلة بينكما لحد أنها تجرأت و جلست على حافة المكتب و صارت تحكي ليلوح لك ذهن مكدود صدم باكرا حين وجدت نفسها تعيش في عالم كان ابعد عما تكون عليه عليه عوالم الطفولة. تستعيد صورا من مواسم كان يلتقي فيها القادمون من هناك مع القاديم من هنا. من لم يكن في وسعه تقديم شئ، كان يؤخذ إلى تندوف. و الذين كانوا يستطيعون تقديم الدعم و الأموال، كانوا يتركون. عالم من عواصف كان يمكن أن تعصف في أي وقت، لتصبح الحياة مجرد اجتهاد ووضع التوقعات لتحديد مصدر العواصف المقبلة.
أشياء كثيرة حكتها بلكنة كنت تجد صعوبة في فهمها. لكنك كنت تستعيض عن ذلك بتأمل الصدى الذي تخلفه الوقائع على الوجوه. وجوه أكبر من الطفولة و أصغر من الحرب.
لم يكن وجه حميدة هو وحده المثير. و انتابك اليقين أنك لا تتعرف على وجوه، و إنما على الصدى الصامت الذي تخلفه الوقائع حين تتحول الهزات من حركاتها المدوية إلى زحف صامت داخل حياة الأحياء.
وجه"الناجم" هوما أفضى به لك بهذا. إذ لم تر طول العمر الذي عشته وجها نحتت القسوة تعبيرا يجسدها بتلك البراعة و الدقة كذلك الذي رسمته على وجهه. وجه كأنه تحول إلى صورة لطفل وهو ينظر إلى كارثة مهولة. طوال سنة بأكملها لم تفلح في أن تنتزع منه ولو ابتسامة.
كان الناجم نحيلا جدا لحد أن نبض قلبه كان يبدو كأقصى حركة يمكن ان يقوم بها جسده. تسأله فيجيب في منتهى الاختصار. سألته عن أبيه. أجاب: في الجبهة.
قلت: أي جبهة؟
اكتفى بان أشار شرقا.
- رأيته من قبل؟
هز ٍاسه بإيماءة مشيرا بالنفي.
توقفت عن السؤال. هو لا يعرف عن أبيه سوى مكان تواجده في هذا العالم. لم يعرف له وجها. لم يحظ منه بابتسامة و لا بتمريرة يمسح بها شعر رأسه. و لا ضمه لصدره لتتناهى إليه حرارة أنفاسه.و لا أحس وهو يزحف مع أقرانه في دروب الحياة أن عينا ترقبه بإعجاب و تمده بالحوافز التي تقوي عزمه و تشجعه على رفع ايقاعه. لم يعش أي شئ من هذا. بل عاش على ما كان بالإمكان ان يكون وهو ينظر إلى أقرانه وهم ينعمون بالحماية و ما يعنيه وجود أب في الحياة. فكيف يمكن أن يبتسم؟ و لأي سبب؟
المشهد نفسه تكرر مع "الحسين". لكن محيطه منعه من ان يهوي إلى القعر الذي وصله الناجم. و اوقفت استطلاعك.
أنت قبل حين كنت تفكر في قفزة تجعلك خارج السور و خارج جدار الحكايات لتمضي إلى أرض الله الواسعة. لكن أينفع التقوقع في الجغرافية الضيقة؟ هل ستكون بذلك قد تخلصت من كل هذه الصور التي راعتك هنا. و انك ستسطيع بناء انسجام حتى و انت تعي أنك داخل حياة يناضل البعض فيها من أجل بلوغ مرتبة الكمال، في حين يكابد الآخرون فقط لكي يبقوا على قيد الحياة؟
الجحيم ليس بالضرورة هو أن يكون جسدك هو ما يحترق. بل يكفي أن توضع وسط كائنات و اطفال ترمدت حياتهم وهم في أعمار زهور كانت براعمها على مشارف التفتح.
وقفت تنظر إلى عيون الاطفال. ادركت أنك ستكون جسرهم الاول وهم يطلون من خلاله على هذا العالم البعيد عبر ما ستفضي لهم به. إذ ستقربهم من العالم أوتقرب العالم إليهم. لكن أي عالم والعالم عوالم؟ هل ستكون محايدا و مجرد ساعي بريد لا رأي لك فيما ستحمله إليهم، أم ستفض الرسائل لتضيف إليها أو تحذف متمردا على الدور الذي أنيط بك في عملية جردتك من كل ما تحمله و صنفتك على أنك مجرد وسيلة؟
طبعك المتمرد هو الذي قادك إلى هنا. و هذا هو الجحيم الذي بشرك به مدير المركز. و انت لم تعرف في اللغة لمفردة الجحيم جمعا . و معنى ذلك أنه ليس هناك جحيم آخر يمكن أن يبعثوا بك إليه. لأنك الآن في الحد الأقصى و الأقسى للنقمة. و لن تعود إليهم مهما حصل بثوب التائب.
ما كان خاف عنك أنك امام اطفال. هم بالتأكيد ليسوا في حاجة إلى خطب. و لذا ارتأيت أن قمة الإنجاز الذي يمكن ان تساعدهم فيه على تحقيقها، هي أن تعينهم على هدم رمزية سلطتك و ان تجعلهم يستغنون عن وساطتك في علاقتهم بالمعرفة. و إذا استطعت أن تنجز هذا، فسيحق لك أن تصرخ بأعلى صوتك بكونك نجحت في فتح ثغرة في جدار الجحيم.
المهلة مازالت الآن مفتوحة. يمكنك بقفزة صغيرة أن تضع نفسك خارج كل الحكايات، إلا أنك لن تجد أبدا البوابة التي انبعثت منها مشرعة.
صوت :الخيبري "وهو في جلسته وسط فناء البيت تنتزعك من شرودك مؤججا سجالا حادا مع "عدلي" - ذلك البيضاوي الذي ستسخر أسرته إمكانيتها من أجل انتشاله من آسا - الخيبري يقول صارخا: جالسوا الضباط و انصتوا إليهم وهم يتحدثون عن خسائرهم البشرية. إنهم يفعلون ذلك وكان الأمر لا يتعلق بكائنات كانت لها أحلام. وأن لها في الخلف من ينتظر عودتها. بل هم يتحدثون عن قطع. نعم قطع و كان الأمر يعني فقدان ملعقة أو صحن أو كأس.لكن الادهى هو كيف ينظرون لخسائر خصومهم. فاي عالم هذا الذي يصبح فيه صنع المآسي هو ما يدخل الفرح للقلوب؟
الفاتحي يقاطع الخيبري عما يكون حال بين ذلك المقاتل وقتل" الضراوي". ذلك التصرف الذي يجده مغلفا بالإبهام.
الخيبري يرد. السؤال الاهم في هذا الامر هو ما الذي كان سيجنيه من قتل الضراوي؟ ألم يكن تركه حيا هوالاجدى مادام سيحكي ما حكاه؟ وقبل هذا، لماذا سئلت تلك العجوز عن الأطفال؟ . إنهم يفكرون في حرب طويلة ، و يحتاجون إلى من يحمل الألوية في حال تقادمهم. وهم بذلك الشكل سيضمنون استمرار طرحهم، و في الوقت نفسه ارتباط الاهالي بهم.
وحده الشاوني وضع نفسه خارج كل ما كان يروج كإنسان انشطر نصفين يوما ما، و بات غير قادر على أن يشكل صوتا أو ينغمس في قضية ما لم يصبح مكتملا باستعادة نصف كيانه الذي تاه عنه. عزل نفسه عن كل شئ. وحدد وجهة وحيدة و راح يقصف و يلطف عبر رسائل كان لا يبدو أن لها نهاية.
في لحظات استراحته حين كان يرفع رأسه عن الاوراق، كان يلقي نظرة على الركن الآخر من الغرفة ليتأكد من انك هناك ،ثم يحكي.كيف انه حين رآها أول مرة، أدرك أنها دون سواها هي الانثى الوحيدة في هذا المعمور. كل اللواتي مررن به لم يحدثن به أي تأثير. لكن محرد أن يلوح طيفها حتى ولو في المنام كان يتغير فيه كل شئ. من نبض فؤاده إلى أوعيته التي تتسع كي تسهل ذلك التدفق السريع لدمائه. و كيف أن حتى الامكنة تتلون بألوان سحرها.
تنتبه وانت تتابع حكيه إلى ذلك البون الهائل بين أجواء غرف تلك الدار. فالانشغال هنا هو بلون الحرقة و الاحساس بالفقد. و هو هناك في الغرفة المجاورة ملون بوثيرة الحياة التي تجري كل فصولها في الخارج.. و يعلم الله وحده كيف هو في أذهان تلك الكتلة الصامتة التي بدا عليها أنها تحتاج لزمن طويل كي تستوعب ما يعاش و ما يحكى
بغد سلام جاف مع القمري ، تسلمت وثائق تلاميذ قسمك. و من النظرة الأولى بدا ألا واحد من التلاميذ له تاريخ ازدياد مضبوط. مجرد سنوات بلا شهور و لا أيام. و بدت لك غرابة بعض الأسماء التي لم تستطع ان تفرق فيها الإسم العائلي عن الشخصي. لكن الأهم كان هو حين أدخلت التلاميذ إلى القسم. كان كل شئ جديدا بالنسبة لك،و بالنسبة لهم. فأنت كنت معلم جديد في أول يوم عمل له في مساره المهني. و في بيئة جديدة. و هم كان جددا على المدرسة و جدد في التعامل مع شخص من خارج بيئتهم. لكن المشجع انهم كانوا متحمسين، و عيونهم معبرة عن تطلع و انتظارات. و البعض منهم كان يعي أنه يعيش لحظة تاريخية بانتمائه للمدرسة.
قدمت نفسك للمتعلمين، و بدات عملية التعرف عليهم و على احوالهم واحدا واحدا. كان ما أثار انتباهك هو طفلة هي الاكثر طولا و نضجا مقارنة بباقي المتعلمين. ويشع من عينيها ذكاء و فطنة. كانت "حميدة". لم تولد في آسا. كانت تعيش في مكان ما في ربوع الصحراء رفقة عائلتها وعشيرتها. و لم يكن يومذاك جدار أمني، و عوضا عنه كانت هناك قيالق ضخمة متحركة تحمل أسماء معارك تاريخية كالزلاقة و الارك و غيرها . و عندما حوصرت الزلاقة في وادي درعة، تغيرت الاستراتيجية العسكرية لتستقر على بناء جدار ثابت. و اقتضى الأمر ترحيل السكان من المساحات التي سيتم التخلي عنها و نقلهم إلى خلف الجدار. وبذلك وصلت حميدة إلى آسا. كانت تفوق التلاميذ بسنة او سنتين. ويمكن أن تكون ضحية لقرار القبطان حين قرر ترحيل ذلك المعلم بالقوة.
حميدة كانت راضية عن الكيفية التي تم التعامل معها بها. لذلك تقلصت المسافة الفاصلة بينكما لحد أنها تجرأت و جلست على حافة المكتب و صارت تحكي ليلوح لك ذهن مكدود صدم باكرا حين وجدت نفسها تعيش في عالم كان ابعد عما تكون عليه عليه عوالم الطفولة. تستعيد صورا من مواسم كان يلتقي فيها القادمون من هناك مع القاديم من هنا. من لم يكن في وسعه تقديم شئ، كان يؤخذ إلى تندوف. و الذين كانوا يستطيعون تقديم الدعم و الأموال، كانوا يتركون. عالم من عواصف كان يمكن أن تعصف في أي وقت، لتصبح الحياة مجرد اجتهاد ووضع التوقعات لتحديد مصدر العواصف المقبلة.
أشياء كثيرة حكتها بلكنة كنت تجد صعوبة في فهمها. لكنك كنت تستعيض عن ذلك بتأمل الصدى الذي تخلفه الوقائع على الوجوه. وجوه أكبر من الطفولة و أصغر من الحرب.
لم يكن وجه حميدة هو وحده المثير. و انتابك اليقين أنك لا تتعرف على وجوه، و إنما على الصدى الصامت الذي تخلفه الوقائع حين تتحول الهزات من حركاتها المدوية إلى زحف صامت داخل حياة الأحياء.
وجه"الناجم" هوما أفضى به لك بهذا. إذ لم تر طول العمر الذي عشته وجها نحتت القسوة تعبيرا يجسدها بتلك البراعة و الدقة كذلك الذي رسمته على وجهه. وجه كأنه تحول إلى صورة لطفل وهو ينظر إلى كارثة مهولة. طوال سنة بأكملها لم تفلح في أن تنتزع منه ولو ابتسامة.
كان الناجم نحيلا جدا لحد أن نبض قلبه كان يبدو كأقصى حركة يمكن ان يقوم بها جسده. تسأله فيجيب في منتهى الاختصار. سألته عن أبيه. أجاب: في الجبهة.
قلت: أي جبهة؟
اكتفى بان أشار شرقا.
- رأيته من قبل؟
هز ٍاسه بإيماءة مشيرا بالنفي.
توقفت عن السؤال. هو لا يعرف عن أبيه سوى مكان تواجده في هذا العالم. لم يعرف له وجها. لم يحظ منه بابتسامة و لا بتمريرة يمسح بها شعر رأسه. و لا ضمه لصدره لتتناهى إليه حرارة أنفاسه.و لا أحس وهو يزحف مع أقرانه في دروب الحياة أن عينا ترقبه بإعجاب و تمده بالحوافز التي تقوي عزمه و تشجعه على رفع ايقاعه. لم يعش أي شئ من هذا. بل عاش على ما كان بالإمكان ان يكون وهو ينظر إلى أقرانه وهم ينعمون بالحماية و ما يعنيه وجود أب في الحياة. فكيف يمكن أن يبتسم؟ و لأي سبب؟
المشهد نفسه تكرر مع "الحسين". لكن محيطه منعه من ان يهوي إلى القعر الذي وصله الناجم. و اوقفت استطلاعك.
أنت قبل حين كنت تفكر في قفزة تجعلك خارج السور و خارج جدار الحكايات لتمضي إلى أرض الله الواسعة. لكن أينفع التقوقع في الجغرافية الضيقة؟ هل ستكون بذلك قد تخلصت من كل هذه الصور التي راعتك هنا. و انك ستسطيع بناء انسجام حتى و انت تعي أنك داخل حياة يناضل البعض فيها من أجل بلوغ مرتبة الكمال، في حين يكابد الآخرون فقط لكي يبقوا على قيد الحياة؟
الجحيم ليس بالضرورة هو أن يكون جسدك هو ما يحترق. بل يكفي أن توضع وسط كائنات و اطفال ترمدت حياتهم وهم في أعمار زهور كانت براعمها على مشارف التفتح.
وقفت تنظر إلى عيون الاطفال. ادركت أنك ستكون جسرهم الاول وهم يطلون من خلاله على هذا العالم البعيد عبر ما ستفضي لهم به. إذ ستقربهم من العالم أوتقرب العالم إليهم. لكن أي عالم والعالم عوالم؟ هل ستكون محايدا و مجرد ساعي بريد لا رأي لك فيما ستحمله إليهم، أم ستفض الرسائل لتضيف إليها أو تحذف متمردا على الدور الذي أنيط بك في عملية جردتك من كل ما تحمله و صنفتك على أنك مجرد وسيلة؟
طبعك المتمرد هو الذي قادك إلى هنا. و هذا هو الجحيم الذي بشرك به مدير المركز. و انت لم تعرف في اللغة لمفردة الجحيم جمعا . و معنى ذلك أنه ليس هناك جحيم آخر يمكن أن يبعثوا بك إليه. لأنك الآن في الحد الأقصى و الأقسى للنقمة. و لن تعود إليهم مهما حصل بثوب التائب.
ما كان خاف عنك أنك امام اطفال. هم بالتأكيد ليسوا في حاجة إلى خطب. و لذا ارتأيت أن قمة الإنجاز الذي يمكن ان تساعدهم فيه على تحقيقها، هي أن تعينهم على هدم رمزية سلطتك و ان تجعلهم يستغنون عن وساطتك في علاقتهم بالمعرفة. و إذا استطعت أن تنجز هذا، فسيحق لك أن تصرخ بأعلى صوتك بكونك نجحت في فتح ثغرة في جدار الجحيم.