《إلى فردوس وآدم وقدس: أفتقدكم، كثيرا، في عزلتي》
■1■ مفاتيح العالم
كانت أيّامُ الحَظْرِ اللّيليِّ الأولى، وما تلاها من حَجْرٍ صحيٍّ عامّ يمتدّ على كامل اليوم، اختبارا قاسيا حقّا.. كانت تدريبا شرسا على عزلة اجباريّة قاهرة. لكنّ البيتوتيّين، أمثالي، اجتازوا محنةَ الاختبارِ الشّاقّ باقتدارِ مسجونٍ حُكم عليه بالمؤبّد؛ فأَفرغَ الزّمنَ من معناه، ليخلدَ إلى سكينة الأبديّة.. هكذا تبدّى الأمرُ لي، في فاتحة الحجْر..
وقد كنتُ كائنا بيتوتيّا، في معنى الاحتجابِ، حَفْرًا في تِبْرِ الذّاتِ عمّا به أكون أنا دون سواي.. أ لَمْ تكن الذّاتُ غارَ الشّاعرِ وملاذَه الأعمق، يكتشف فيها ما حجبته يد العادة، ويرى ما لا يُرى إلاّ استشرافا لا يخلو من لهب مقدّس أو نبوّة شعريّة محتملة ومحمَّلة بأوزار الزّمن القادم..؟! فللمسقبل أوزاره، أيضا، وأسئلته القلقة.. ولا يكون ذلك، إلاّ بعزلة بيتوتيّة آهلة بالتّرحال، بعيدا، في مهبّ التّأمّل والتّأويل [تأويل العالم وما جاوره..].
وكنت أحيانا ألهو بالعزلةِ ذاتِها؛ فأصنع منها عصيرا أسودَ، هو اللّيلُ برعب خفافيشه تتطاير في الصّمت.. وأشربه، من بَعْدُ، منتشِيًا، كسكِّيرٍ عابثٍ بالأعراف..! كان اللّيل خمرتي الأرقى، أيّامَ الحجر.. أنام نهارا.. وأستيقظ مساءً، لأستقبلَهُ بأصابعَ عاشقةٍ.. لقد كان، حقّا، رفيقي الأثير.. نسهر، معا، حتّى الشّروق.. حينها، تنتهي عهدتي؛ فأُسَلِّم الشّمسَ مفاتيحَ العالمِ، لأنامَ ذاهلا، فوق وسادة محشوّة بالإبر والكوابيس..!
■2■ خيانة العزلة..
في أيّام الحجر، وقد طالت، مللتُ العزلةَ.. وعافت رُوحي رِيحَها.. عزلة قاومتها بالنّومِ نهارًا، والكتابةِ ليلاً.. الكتابةُ نومٌ آخرُ، أيضا.. نوم مشبع بأحلام اليقظة؛ حيث أقضّي السّاعاتِ الطّوال أحملق في سقف الخيال؛ وأقنص طير الاستعارة بالكلمات؛ وأطارد أنثاي القصيدة..
امتدّت أنفاس العزلة أيّاما عصيبة، فكرهتها.. وفكّرت، مرارا، في خيانتها.. كنت أتلصّص على الشّارع من نافذة الغرفة.. وأهاتف، أحيانا، أصدقائي، مستوضحا عن أحوالهم، وأحوال العالم في الخارج.. الخارج صار أشدّ ابتعادا عنّي، وعن عالمي الدّاخليّ الجَوَّانيِّ.. وباتت حياتي أكثر تقوقعا، من ذي قبل.. بل تحوّلتْ إلى قوقعة متحجّرة في صخرة الحاضر، وقد مَرَّدَهَا ماءُ الزّمنِ الكورونيّ.. لقد افتقدتُ إلى قدر من التّوازن الضّروريّ في كلّ شيء.. لكنّي حرصتُ على الانضباط لقانون العزلة الصّارم؛ فكنت لا أخرج إلاّ لماما..
واحتجت، في طورٍ من العزلةِ متقدّمٍ، إلى ممارسة ضرب من الرّياضة الجسديّة.. فقد ارتبكت ساعتي البيولوجيّة أيّما ارتباك، وهجرني النّوم.. فكنت أقضّي أكثرَ من يومين متتالين صاحيًا، دون إغفاءة واحدة، مع ما يخلّفه ذلك كلّه، من إرهاق نفسيّ وجسديّ، ولا سيّما في مستوى العينين [الحاسّة الّتي أخسرها شيئا فشيئا، بسبب مرض قديم، رغم الجراحة الّتي أجريتها في صيف السّنة المنصرمة]. ولم يكن لي من خيار سوى العَوْدِ إلى الرّكض، رياضتي الأثيرة، في السّنوات السّوداء، حتّى يستعيدَ جسدي المنهكُ توازنَهُ وروحي صفاءَها. فكنت أخرج مرّتين في الأسبوع، صباحا، للرّكض في الطّريق الحزاميّة لمدينة "منزل جميل" المحاذية للثُّكنة، حيث الهواءُ النّقيُّ، وحيث حقولُ الزّيتونِ تحفظ عن ظهر قلب سيرة الأجداد.. كلّما عدوتُ، أكثرَ، تخلّصت من أحزاني المزمنة.. وبعد "الدّشّ"، أكون قد رميت العالم بأسره، في سلّة المهملات..!
■3■ رفقاء الشّاي.. شعراء القات..
كنتُ، فيما سبق، أجالس رفقاء الشّاي، كلَّ مساءٍ، في موعد شبه قارّ.. نشرب الأخضر المنعنع. ونحكي عن الشّعر والحياة والسّياسة والعاهرات.. ونقهقه حدّ الشّهقة، أحيانا.. وربّما، لأجل ذلك، احتفيت في شعري بالشّاي الأخضر، حقيقةً ومجازًا.. والواقع، أنّ علاقتي بهذا المشروب السّحريّ تمتدّ عميقا في الذّاكرة إلى سنوات الطّفولة، حيث الشّايُ الأحمرُ الخاثرُ والمعتّقُ، تحديدا، هو المشروب الأشهى لدى النّاس في "غار الملح" مسقط رأسي.. "غار الملح" الممتدّة في أحشاء البحر، كطعنة خنجر أو كطفل مشاغب يُخرج لسانه للعالم، ويضحكُ هازئا بكلّ شيء.. ولطالما رأيت في الشّاي، مع تقدّم الزّمن، قرينَ الطّفولةِ، وقد نأت.. ووجدت فيه معادلا جماليّا للخمرة ونشوتها.. ولربّما، استشعرت فيه، كذلك، شبها لا يُرى من عشبة القَاتِ؛ وقد حدّثني عنها أصدقاء الشّعر من اليمنيّين، إبان زيارتي لمدينة جازان السّعوديّة المتاخمة للحدود اليمنيّة، سنة 2014، لتسلّم جائزةٍ في الشّعر فزت بها [جائزة محمّد بن عليّ السّنوسيّ للشّعر العربيّ].
والقات مباح في اليمن، ومحظور في المملكة.. وأذكر أنّ الشّاعر اليمنيّ "عبد الله عبيد" أكّد لي أنّ "البردونيَّ" شاعرَ اليمنِ الكبيرَ نظم أغلب قصائده، جذلانَ بنشوة تحدثها عشبةُ القاتِ الفذّةُ في نفس متعاطيها.. ولكنّه لفت انتباهي إلى أنّ تعاطي القات بحاجة إلى "التّخزين"؛ فكأنّ أثره في النّفس بطيء جدّا.. فقلت له: [...] وخُلق الإنسانُ عجولا..!
■4■ حبيبة الشّاعر
في البدء، منذ طفولتي، كانت العزلةُ حبيبتي المدلّلةَ، وجزءا من إيقاعِ حياتي اليوميِّ، حيث أخلو إلى نفسي؛ وأغرق في بئرها العميقة غرقا إراديّا لذيذا.. وشيئا، فشيئا، بدأتُ أستنبتُ ذلك الأصلَ المغمورَ؛ وأَعْتَرِشُ على بَيْدَاءِ المرحلةِ، كما تَعترشُ العشبةُ على حديد السّياج، فيخضرّ ويورق.. أخذتُ أرى في هذه الصّحراءِ وجهَها المُشْرِقَ؛ فأتفاءل.. وأختار لها من الأسماءِ أحلاها: المَفازَة..!
ولا شكّ، أنّ الكتابةَ ابنةُ العزلةِ الخالصة، إذ لا بدّ من عزلة مّا، حتّى في أحشاء الزّحام، كي تأتيَ القصيدةُ بكامل أشواقها.. وتلك مسألة متعلّقة بأحوالِ الشّاعرِ الجوانيّةِ، وطقوسِه المصاحبةِ للحظة الكتابة، وحاجته المِلْحَاحِ إلى صمتٍ كونيٍّ شاملٍ، للإصغاء إلى صوتِ القصيدةِ الخافتِ، وهي تجيءُ على خَفَرٍ كالنّساء في الميثولوجيا القديمة.. فلا شعرَ دون عزلة تشحذ حواسّ الشّاعر الرّائي، وتحوّلها إلى إسفنجة تمتصّ الأجراس السّريّة للأشياء من حوله.. أليس الشّاعر، في أغلب ثقافاتِ العالم قديمِها وحديثِها، يكتب المجهول المتحجّبَ، ويستشرف الزّمن الآتي..؟ فلا مناصَ من عزلة مّا للشّاعر المُلهم، إذن.. ولا بدَّ من غارٍ غائِرٍ ونَاءٍ لنَبِيٍّ خاتم..!
■5■ العزلة بشَعرِها المُتَعَثْكِلِ حدّ المتاهة
الحَجْر هبة ربانيّة.. أعرف ذلك.. لكنّي أنزع إلى أنوثةٍ في الحدث خفيّةٍ؛ فأسمّيه عزلةً؛ وأرى فيه امرأةً.. هذا تأويل حكايتي مع الحجْرِ وأيّامِه، وقد توالت تباعا.. وهذا كلّ ما في الأمر.. وربّما، أكثر...!
أ لَمْ يقترن المُقام بالمرأة، فيما شاع من أدب وفلسفة..؟ أ لم يكنِ السَّكَنُ، في شعر أبي الطّيب المتنبّي، إحالةً دائمةً على الأنثى يسكن إليها وفيها، وبِخَاصَّةٍ في بيته الشّهير:
بِمَ التَّعَلّلُ لاَ أَهْلٌ وَلاَ وَطَنُ ☆ وَلاَ نَدِيمٌ وَلاَ كَأْسٌ وَلاَ سَكَنُ
وأخيرا، أليست اللّذة، وهي مؤنّثة في اللّغة، قرينة الانعزال بالمرأة والتّوحد فيها بذاتٍ لا شريكَ لها، تُدْرَكُ بالوجدان لا العيان، هي ذات المعشوق المستحيلة..؟
فكان، من ثمّةَ، لزاما أن أتخيّل العزلة أنثى بفائق فتنتها ولهيبها.. تجلس أمامي هادئةً؛ وتَعْقِصُ ضفائرَ أفكاري. وترتّب فوضاها، وقد عظمت.. عندما أنظم الشّعر، [وإنْ كان تفعيليّا مُدَوَّرًا يلتبس فيه أمرُ الوزنِ بصديقه النّثر]، فهي، دون سواها، من يضبطُ إيقاعَ القصيدةِ؛ فلا تتناثرُ أسماؤُها كحبّات اللّوز البنيّة فوق سجّاد اللّغة..
كنت أنفخ فيها من روح الشّهوة، حتّى تستقيم إزائي من حُلْمٍ ولحم.. وقد تَجَلَّتْ لي، فيما تجلّتْ، امرأةً طالعةً من عولم الشّعر الجاهليّ، بشَعرِها الكَثِّ "كَقِنْوِ النَّخْلَةِ الْمُتَعَثْكِلِ"، وخَصرها الضّيق كثَقب الإبرة، وبياضها الكرستاليّ الشّفيف؛ فأكاد لا أرى فيها شيئا، وكأنّها امرأة لا مرئيّة..!
هكذا عشت أيّامي في الحجر الصّحيّ.. ترافقني العزلةُ، هذا الكائنُ البلّوريُّ، في كلِّ خفقةِ قلب، ورفّةِ جفن، وخطوةٍ أذرعها داخلَ فضاءِ البيت الرّحب.. فالعزلة إحساس خفيّ، وهَجْسٌ طالع من طين يتنفّس.. فأَصغِ إلى العزلة الآهلة، فيكَ، جيّدا، إذن.. أَنصتْ إلى عوالمِكَ الجَوَّانِيَّةِ النّاطقة..
■6■ تقريظ العزلة..
تروّض العزلةُ غرورَنَا القاسي.. وبأصابعِها الأنثويّةِ النّاعمةِ، تشذِّبُ الأشعثَ من غطرستِنا. وتعلّمنا ما لَمْ نعلَمْ: هشاشَتنا وهوانَنا..
وكما يفعلُ الطّائرُ بالمعدنِ الأصمِّ، عندما يبني عشّا من قشّ في فُوَّهَةِ مدفعٍ مهملٍ داخلَ الطّبيعةِ؛ فيُطَرِّي الصُّلبَ فيها، ويرطّب عنادَها المسنونَ.. تفعل العزلةُ البليغةُ، فينا، هذا.. وأخطر..!
تعيدنا العزلة إلى إنسانيّتنا المهجورة. وتردّنا، ردّا جميلا، إلى أطوارنا الأولى.. تُؤَنْسِنُنَا، وقد توحشّنا في غابِ الحضارة المرعبة.. تحقننا بالضّوء، بعدما سرى في أجسادنا دمُ العولمةِ الذّئبيُّ.. وتُجْلي عنّا صدأ الأوهام الزّائفة.. تقشّر العزلةُ المنزليّةُ فُشَارَ جبروتِنا الكاذب، وقد عظم من حولنا كالفلّين حتّى كاد يخنقنا..
العزلةُ، أيّتها الأناملُ الأنثويّةُ الفاتنةُ، دَلِّكِي أجسادَنا الصُّلبةَ، عضوًا عضوًا.. وافعلي فينا، ما يفعله العاشق بالمعشوق، وقد ائتلفا.. وحيثما تشتهي أصابعُكِ الملائكيّةُ، خذينا.. نُفَرْدِسُ إقامتَنا العابرةَ على هذا التّراب.. ونستعيد جوهرَنا المنسيَّ: محضَ طينٍ منذورٍ للسّقوط وللانكسار.. أليس قدر الإنسان أن يتشقّقَ كآنيةِ الفخّار وأن ينهار، وإنْ طال الزّمان..؟!
العزلةُ سرّةُ العالمِ المثقوبةُ؛ ولذلك، لا غرابةَ، أن يفيضَ السّرُّ منها، نهرًا ضوئيًّا جاريًا إلى منتهى الغموض.. لا أقصدُ شيئا.. لكنّي، أحاول الالتفاف على فكرة ماكرة.. أحاول أن أطلقَ ثعبانَ الشّهوةِ في أدغال القصيدة.. والنّثرُ، في حضرةِ أنثى غاويةٍ كالعزلة، يحرّضني على ذلك..!
■7■ العزلة وطفولة العالم
لقد انتقل الإنسان، في هذه الأيّام، من بيت العالم المفتوح إلى عالم البيت المغلق.. بَيْدَ أنّه مطالب، في كلّ ذلك، بأن يوسّعَ قدرَ المستطاع، من فضائه الخاصّ الحميم. أي أن يعودَ بشجرة الحياة، وقد تشعّبت أغصانُها، إلى أصلِها الأوّلِ بذرةً في حجم حبّة ملح أو أصغر.. فالعزلة تدريب شاقّ ولذيذ، في الآن، على العودة إلى البدايات، حيث بكارةُ العالمِ، حيث العالمُ مجرّد نقطة متناهية في لوح الوجود [تقتاتُ من كبدي الرّغبةُ في تمثُّلِ العالمِ، وهو محضُ فكرةٍ تَتَخَلَّقُ في ذهنِ بارئِه..!]
إنّ هذا التّكثيف، في تقديري، حدث شعريّ لا غبار عليه؛ لأجل ذلك، أجزم بأنّ شاعرا مّا استفاق في كلّ إنسان محجور زمنَ "الكورونا"، وأنّ طفولة مّا أطلّت عليه من غابر العصور مثقلةً بكنوزها المدهشة. ففي العزلة، تنهض ذكريات الطّفولة الباهرة. وتتعالق في شكل صُوَرٍ وأجراس، لسنا نرى العالم إلاّ من شقوقها، نحن المَوْشُومِينَ بطفولة لا نبرأ منها أبدا..
لم تعدِ الحياةُ إلى البيوت المهجورة فحسب، إذن؛ وإنّما آبَتْ إلى أنفسنا أيضا؛ فانعطفنا عليها نُطَبِّبُ جراحاتها المؤلمة. وانتبهنا إلى ذواتنا المقفرة من المعنى، في عصر موسوم بالسّرعة كساعة رمليّة منذورة للنّقصان..!
■ المكّي الهمّامي
(تونس- منزل جميل/ 31- 25 مارس 2020)
(نُشر هذا النّصّ في العدد الخامس من مجلّة "شعر" التّونسيّة، ربيع 2020)
■1■ مفاتيح العالم
كانت أيّامُ الحَظْرِ اللّيليِّ الأولى، وما تلاها من حَجْرٍ صحيٍّ عامّ يمتدّ على كامل اليوم، اختبارا قاسيا حقّا.. كانت تدريبا شرسا على عزلة اجباريّة قاهرة. لكنّ البيتوتيّين، أمثالي، اجتازوا محنةَ الاختبارِ الشّاقّ باقتدارِ مسجونٍ حُكم عليه بالمؤبّد؛ فأَفرغَ الزّمنَ من معناه، ليخلدَ إلى سكينة الأبديّة.. هكذا تبدّى الأمرُ لي، في فاتحة الحجْر..
وقد كنتُ كائنا بيتوتيّا، في معنى الاحتجابِ، حَفْرًا في تِبْرِ الذّاتِ عمّا به أكون أنا دون سواي.. أ لَمْ تكن الذّاتُ غارَ الشّاعرِ وملاذَه الأعمق، يكتشف فيها ما حجبته يد العادة، ويرى ما لا يُرى إلاّ استشرافا لا يخلو من لهب مقدّس أو نبوّة شعريّة محتملة ومحمَّلة بأوزار الزّمن القادم..؟! فللمسقبل أوزاره، أيضا، وأسئلته القلقة.. ولا يكون ذلك، إلاّ بعزلة بيتوتيّة آهلة بالتّرحال، بعيدا، في مهبّ التّأمّل والتّأويل [تأويل العالم وما جاوره..].
وكنت أحيانا ألهو بالعزلةِ ذاتِها؛ فأصنع منها عصيرا أسودَ، هو اللّيلُ برعب خفافيشه تتطاير في الصّمت.. وأشربه، من بَعْدُ، منتشِيًا، كسكِّيرٍ عابثٍ بالأعراف..! كان اللّيل خمرتي الأرقى، أيّامَ الحجر.. أنام نهارا.. وأستيقظ مساءً، لأستقبلَهُ بأصابعَ عاشقةٍ.. لقد كان، حقّا، رفيقي الأثير.. نسهر، معا، حتّى الشّروق.. حينها، تنتهي عهدتي؛ فأُسَلِّم الشّمسَ مفاتيحَ العالمِ، لأنامَ ذاهلا، فوق وسادة محشوّة بالإبر والكوابيس..!
■2■ خيانة العزلة..
في أيّام الحجر، وقد طالت، مللتُ العزلةَ.. وعافت رُوحي رِيحَها.. عزلة قاومتها بالنّومِ نهارًا، والكتابةِ ليلاً.. الكتابةُ نومٌ آخرُ، أيضا.. نوم مشبع بأحلام اليقظة؛ حيث أقضّي السّاعاتِ الطّوال أحملق في سقف الخيال؛ وأقنص طير الاستعارة بالكلمات؛ وأطارد أنثاي القصيدة..
امتدّت أنفاس العزلة أيّاما عصيبة، فكرهتها.. وفكّرت، مرارا، في خيانتها.. كنت أتلصّص على الشّارع من نافذة الغرفة.. وأهاتف، أحيانا، أصدقائي، مستوضحا عن أحوالهم، وأحوال العالم في الخارج.. الخارج صار أشدّ ابتعادا عنّي، وعن عالمي الدّاخليّ الجَوَّانيِّ.. وباتت حياتي أكثر تقوقعا، من ذي قبل.. بل تحوّلتْ إلى قوقعة متحجّرة في صخرة الحاضر، وقد مَرَّدَهَا ماءُ الزّمنِ الكورونيّ.. لقد افتقدتُ إلى قدر من التّوازن الضّروريّ في كلّ شيء.. لكنّي حرصتُ على الانضباط لقانون العزلة الصّارم؛ فكنت لا أخرج إلاّ لماما..
واحتجت، في طورٍ من العزلةِ متقدّمٍ، إلى ممارسة ضرب من الرّياضة الجسديّة.. فقد ارتبكت ساعتي البيولوجيّة أيّما ارتباك، وهجرني النّوم.. فكنت أقضّي أكثرَ من يومين متتالين صاحيًا، دون إغفاءة واحدة، مع ما يخلّفه ذلك كلّه، من إرهاق نفسيّ وجسديّ، ولا سيّما في مستوى العينين [الحاسّة الّتي أخسرها شيئا فشيئا، بسبب مرض قديم، رغم الجراحة الّتي أجريتها في صيف السّنة المنصرمة]. ولم يكن لي من خيار سوى العَوْدِ إلى الرّكض، رياضتي الأثيرة، في السّنوات السّوداء، حتّى يستعيدَ جسدي المنهكُ توازنَهُ وروحي صفاءَها. فكنت أخرج مرّتين في الأسبوع، صباحا، للرّكض في الطّريق الحزاميّة لمدينة "منزل جميل" المحاذية للثُّكنة، حيث الهواءُ النّقيُّ، وحيث حقولُ الزّيتونِ تحفظ عن ظهر قلب سيرة الأجداد.. كلّما عدوتُ، أكثرَ، تخلّصت من أحزاني المزمنة.. وبعد "الدّشّ"، أكون قد رميت العالم بأسره، في سلّة المهملات..!
■3■ رفقاء الشّاي.. شعراء القات..
كنتُ، فيما سبق، أجالس رفقاء الشّاي، كلَّ مساءٍ، في موعد شبه قارّ.. نشرب الأخضر المنعنع. ونحكي عن الشّعر والحياة والسّياسة والعاهرات.. ونقهقه حدّ الشّهقة، أحيانا.. وربّما، لأجل ذلك، احتفيت في شعري بالشّاي الأخضر، حقيقةً ومجازًا.. والواقع، أنّ علاقتي بهذا المشروب السّحريّ تمتدّ عميقا في الذّاكرة إلى سنوات الطّفولة، حيث الشّايُ الأحمرُ الخاثرُ والمعتّقُ، تحديدا، هو المشروب الأشهى لدى النّاس في "غار الملح" مسقط رأسي.. "غار الملح" الممتدّة في أحشاء البحر، كطعنة خنجر أو كطفل مشاغب يُخرج لسانه للعالم، ويضحكُ هازئا بكلّ شيء.. ولطالما رأيت في الشّاي، مع تقدّم الزّمن، قرينَ الطّفولةِ، وقد نأت.. ووجدت فيه معادلا جماليّا للخمرة ونشوتها.. ولربّما، استشعرت فيه، كذلك، شبها لا يُرى من عشبة القَاتِ؛ وقد حدّثني عنها أصدقاء الشّعر من اليمنيّين، إبان زيارتي لمدينة جازان السّعوديّة المتاخمة للحدود اليمنيّة، سنة 2014، لتسلّم جائزةٍ في الشّعر فزت بها [جائزة محمّد بن عليّ السّنوسيّ للشّعر العربيّ].
والقات مباح في اليمن، ومحظور في المملكة.. وأذكر أنّ الشّاعر اليمنيّ "عبد الله عبيد" أكّد لي أنّ "البردونيَّ" شاعرَ اليمنِ الكبيرَ نظم أغلب قصائده، جذلانَ بنشوة تحدثها عشبةُ القاتِ الفذّةُ في نفس متعاطيها.. ولكنّه لفت انتباهي إلى أنّ تعاطي القات بحاجة إلى "التّخزين"؛ فكأنّ أثره في النّفس بطيء جدّا.. فقلت له: [...] وخُلق الإنسانُ عجولا..!
■4■ حبيبة الشّاعر
في البدء، منذ طفولتي، كانت العزلةُ حبيبتي المدلّلةَ، وجزءا من إيقاعِ حياتي اليوميِّ، حيث أخلو إلى نفسي؛ وأغرق في بئرها العميقة غرقا إراديّا لذيذا.. وشيئا، فشيئا، بدأتُ أستنبتُ ذلك الأصلَ المغمورَ؛ وأَعْتَرِشُ على بَيْدَاءِ المرحلةِ، كما تَعترشُ العشبةُ على حديد السّياج، فيخضرّ ويورق.. أخذتُ أرى في هذه الصّحراءِ وجهَها المُشْرِقَ؛ فأتفاءل.. وأختار لها من الأسماءِ أحلاها: المَفازَة..!
ولا شكّ، أنّ الكتابةَ ابنةُ العزلةِ الخالصة، إذ لا بدّ من عزلة مّا، حتّى في أحشاء الزّحام، كي تأتيَ القصيدةُ بكامل أشواقها.. وتلك مسألة متعلّقة بأحوالِ الشّاعرِ الجوانيّةِ، وطقوسِه المصاحبةِ للحظة الكتابة، وحاجته المِلْحَاحِ إلى صمتٍ كونيٍّ شاملٍ، للإصغاء إلى صوتِ القصيدةِ الخافتِ، وهي تجيءُ على خَفَرٍ كالنّساء في الميثولوجيا القديمة.. فلا شعرَ دون عزلة تشحذ حواسّ الشّاعر الرّائي، وتحوّلها إلى إسفنجة تمتصّ الأجراس السّريّة للأشياء من حوله.. أليس الشّاعر، في أغلب ثقافاتِ العالم قديمِها وحديثِها، يكتب المجهول المتحجّبَ، ويستشرف الزّمن الآتي..؟ فلا مناصَ من عزلة مّا للشّاعر المُلهم، إذن.. ولا بدَّ من غارٍ غائِرٍ ونَاءٍ لنَبِيٍّ خاتم..!
■5■ العزلة بشَعرِها المُتَعَثْكِلِ حدّ المتاهة
الحَجْر هبة ربانيّة.. أعرف ذلك.. لكنّي أنزع إلى أنوثةٍ في الحدث خفيّةٍ؛ فأسمّيه عزلةً؛ وأرى فيه امرأةً.. هذا تأويل حكايتي مع الحجْرِ وأيّامِه، وقد توالت تباعا.. وهذا كلّ ما في الأمر.. وربّما، أكثر...!
أ لَمْ يقترن المُقام بالمرأة، فيما شاع من أدب وفلسفة..؟ أ لم يكنِ السَّكَنُ، في شعر أبي الطّيب المتنبّي، إحالةً دائمةً على الأنثى يسكن إليها وفيها، وبِخَاصَّةٍ في بيته الشّهير:
بِمَ التَّعَلّلُ لاَ أَهْلٌ وَلاَ وَطَنُ ☆ وَلاَ نَدِيمٌ وَلاَ كَأْسٌ وَلاَ سَكَنُ
وأخيرا، أليست اللّذة، وهي مؤنّثة في اللّغة، قرينة الانعزال بالمرأة والتّوحد فيها بذاتٍ لا شريكَ لها، تُدْرَكُ بالوجدان لا العيان، هي ذات المعشوق المستحيلة..؟
فكان، من ثمّةَ، لزاما أن أتخيّل العزلة أنثى بفائق فتنتها ولهيبها.. تجلس أمامي هادئةً؛ وتَعْقِصُ ضفائرَ أفكاري. وترتّب فوضاها، وقد عظمت.. عندما أنظم الشّعر، [وإنْ كان تفعيليّا مُدَوَّرًا يلتبس فيه أمرُ الوزنِ بصديقه النّثر]، فهي، دون سواها، من يضبطُ إيقاعَ القصيدةِ؛ فلا تتناثرُ أسماؤُها كحبّات اللّوز البنيّة فوق سجّاد اللّغة..
كنت أنفخ فيها من روح الشّهوة، حتّى تستقيم إزائي من حُلْمٍ ولحم.. وقد تَجَلَّتْ لي، فيما تجلّتْ، امرأةً طالعةً من عولم الشّعر الجاهليّ، بشَعرِها الكَثِّ "كَقِنْوِ النَّخْلَةِ الْمُتَعَثْكِلِ"، وخَصرها الضّيق كثَقب الإبرة، وبياضها الكرستاليّ الشّفيف؛ فأكاد لا أرى فيها شيئا، وكأنّها امرأة لا مرئيّة..!
هكذا عشت أيّامي في الحجر الصّحيّ.. ترافقني العزلةُ، هذا الكائنُ البلّوريُّ، في كلِّ خفقةِ قلب، ورفّةِ جفن، وخطوةٍ أذرعها داخلَ فضاءِ البيت الرّحب.. فالعزلة إحساس خفيّ، وهَجْسٌ طالع من طين يتنفّس.. فأَصغِ إلى العزلة الآهلة، فيكَ، جيّدا، إذن.. أَنصتْ إلى عوالمِكَ الجَوَّانِيَّةِ النّاطقة..
■6■ تقريظ العزلة..
تروّض العزلةُ غرورَنَا القاسي.. وبأصابعِها الأنثويّةِ النّاعمةِ، تشذِّبُ الأشعثَ من غطرستِنا. وتعلّمنا ما لَمْ نعلَمْ: هشاشَتنا وهوانَنا..
وكما يفعلُ الطّائرُ بالمعدنِ الأصمِّ، عندما يبني عشّا من قشّ في فُوَّهَةِ مدفعٍ مهملٍ داخلَ الطّبيعةِ؛ فيُطَرِّي الصُّلبَ فيها، ويرطّب عنادَها المسنونَ.. تفعل العزلةُ البليغةُ، فينا، هذا.. وأخطر..!
تعيدنا العزلة إلى إنسانيّتنا المهجورة. وتردّنا، ردّا جميلا، إلى أطوارنا الأولى.. تُؤَنْسِنُنَا، وقد توحشّنا في غابِ الحضارة المرعبة.. تحقننا بالضّوء، بعدما سرى في أجسادنا دمُ العولمةِ الذّئبيُّ.. وتُجْلي عنّا صدأ الأوهام الزّائفة.. تقشّر العزلةُ المنزليّةُ فُشَارَ جبروتِنا الكاذب، وقد عظم من حولنا كالفلّين حتّى كاد يخنقنا..
العزلةُ، أيّتها الأناملُ الأنثويّةُ الفاتنةُ، دَلِّكِي أجسادَنا الصُّلبةَ، عضوًا عضوًا.. وافعلي فينا، ما يفعله العاشق بالمعشوق، وقد ائتلفا.. وحيثما تشتهي أصابعُكِ الملائكيّةُ، خذينا.. نُفَرْدِسُ إقامتَنا العابرةَ على هذا التّراب.. ونستعيد جوهرَنا المنسيَّ: محضَ طينٍ منذورٍ للسّقوط وللانكسار.. أليس قدر الإنسان أن يتشقّقَ كآنيةِ الفخّار وأن ينهار، وإنْ طال الزّمان..؟!
العزلةُ سرّةُ العالمِ المثقوبةُ؛ ولذلك، لا غرابةَ، أن يفيضَ السّرُّ منها، نهرًا ضوئيًّا جاريًا إلى منتهى الغموض.. لا أقصدُ شيئا.. لكنّي، أحاول الالتفاف على فكرة ماكرة.. أحاول أن أطلقَ ثعبانَ الشّهوةِ في أدغال القصيدة.. والنّثرُ، في حضرةِ أنثى غاويةٍ كالعزلة، يحرّضني على ذلك..!
■7■ العزلة وطفولة العالم
لقد انتقل الإنسان، في هذه الأيّام، من بيت العالم المفتوح إلى عالم البيت المغلق.. بَيْدَ أنّه مطالب، في كلّ ذلك، بأن يوسّعَ قدرَ المستطاع، من فضائه الخاصّ الحميم. أي أن يعودَ بشجرة الحياة، وقد تشعّبت أغصانُها، إلى أصلِها الأوّلِ بذرةً في حجم حبّة ملح أو أصغر.. فالعزلة تدريب شاقّ ولذيذ، في الآن، على العودة إلى البدايات، حيث بكارةُ العالمِ، حيث العالمُ مجرّد نقطة متناهية في لوح الوجود [تقتاتُ من كبدي الرّغبةُ في تمثُّلِ العالمِ، وهو محضُ فكرةٍ تَتَخَلَّقُ في ذهنِ بارئِه..!]
إنّ هذا التّكثيف، في تقديري، حدث شعريّ لا غبار عليه؛ لأجل ذلك، أجزم بأنّ شاعرا مّا استفاق في كلّ إنسان محجور زمنَ "الكورونا"، وأنّ طفولة مّا أطلّت عليه من غابر العصور مثقلةً بكنوزها المدهشة. ففي العزلة، تنهض ذكريات الطّفولة الباهرة. وتتعالق في شكل صُوَرٍ وأجراس، لسنا نرى العالم إلاّ من شقوقها، نحن المَوْشُومِينَ بطفولة لا نبرأ منها أبدا..
لم تعدِ الحياةُ إلى البيوت المهجورة فحسب، إذن؛ وإنّما آبَتْ إلى أنفسنا أيضا؛ فانعطفنا عليها نُطَبِّبُ جراحاتها المؤلمة. وانتبهنا إلى ذواتنا المقفرة من المعنى، في عصر موسوم بالسّرعة كساعة رمليّة منذورة للنّقصان..!
■ المكّي الهمّامي
(تونس- منزل جميل/ 31- 25 مارس 2020)
(نُشر هذا النّصّ في العدد الخامس من مجلّة "شعر" التّونسيّة، ربيع 2020)