تناهى إلى سمعها خطوات ثقيلة، وأصوات خشنة. كانت بجوار التليفزيون، الذي لم تنتبه لما يعرضه منذ ساعات، يقضمها القلق قطعة تلو الأخرى؛ حتى ظنت أنها تلاشت، ترتدي طرْحتَها وتهبُّ واقفة، كلما تحركتْ خطوة نحو الباب؛ كانت يداها كأنها تتفادَى موجودات من أمامها، كأن هناك ما يعوقها أو يعرقلها، تقف خلفه بينما تتصاعد دقات قلبها، وترتجف أوصالها، تُلقي شفتاها – قبل أن تفتح – ما حفظتْه، ثم تكرره في مواجهتهم: “ليس في البيت، ولم أره منذ الصباح الباكر” ردَّدتْ ما قررتْ قوله منذ علمتْ أنهم يبحثون عن “لعبة”؛ ابنها الأصغر.
حين فتحتْ؛ وجدتْ الرجُل الذي شج ابنُها رأسه، واثنين من أمناء الشرطة، اللذَين اقتحما المكان، قال أحدهما: لدينا أمر بالقبض على (طارق مصطفى الشردي) الشهير بــ”لعبة”.
“لا أحد هنا” قالت.
كانت قد تعاركت مع ولدَيها الآخَرَين، وأصرت على أن يتركا البيت خوفا من أن يُلقَى القبض عليهما حين لا يجدون “لعبة”؛ المطلوب في قضايا تعدٍّ سابقة، وتعاطي مخدرات، أو ربما يرشدان عن مكان أخيهما كما هدداها، كانا قد فاض بهما الكيل هما والبنتان؛ المطلَّقة وأولادها الثلاثة، والأخرى التي في سبيلها للانفصال، ضاقوا بكل ما سبَّبه لهم من فضائح ومشكلات، لطالما تعجبتْ من أين يأتي أولادها الخمسة بكل تلك القسوة والجفاء، بكل هذا التخبط والضياع!؟
منذ ولدته تسأل نفسها، كل يوم، فيمَ أذنبت؟ ولماذا هو – دون إخوته – تحيط به كل تلك المصائب؟ شيء بداخلها يبحث له دوما عن عذر، لطالما شعَر أولادها أنها تبرر كوارثه، يتهمونها بتدليله حتى انفلتَ عياره!؟
منذ أن نادَوه في الحارة “لعبة”، وهو في السادسة من عمره؛ تكثف – ما بين رموشها والحياة – ضباب لا تعرف نوعه، لكن ما تعرفه أن الصور أمامها صارت تائهة. وعندما أخذتْه للطبيبة – التي تعمل لديها، حين أتم الثالثة عشر – سقطتْ قضبان حديدية بين عينيها والأيام، بينها وكل الأشياء، قالت – بعد أن ظلَّتْ تتحدث معه لأكثر من ساعة – إن لديه نزوعا نحو العنف، وأشارت إلى ملامحه: شكل حاجبيه، ونظرات عينيه المتوجستين، وفمه الساخر، صوته الخشن الذي يصوب شتائمه للجميع، طمأنتها دون أن تنظر في عينيها وقالت: إنه لم يزل صغيرا، حدَّثتْها عن البيئة المناسبة، وأنها هي التي تحدد المستقبل، نصحتها أن تُلحقه بمدرسة داخلية، وحبذا لو كانت عسكرية. صمتت الأم؛ فمنذ سنتين امتنع عن الدراسة، ثم من أين تأتي بالمصاريف، كما تلزَمها واسطة لإنفاذ نصيحتها. شعَرتْ أنها تبالغ، فلقد أشارت إلى تغيرات تحدث بكيمياء المخ لدى بعض الأفراد. هي على الأرجح تحسدها على أولادها الذكور الثلاثة؛ لأنها لم تنجب سوى بنتين، أي كيمياء هذه التي تتحدث عنها وهم يأكلون جميعا من نفس الطعام!!
قررت أن الحل في حجاب الشيخ أبي المعاطي؛ ستصحب ابنها الأسبوع القادم إلى القناطر الخيرية، بعد أن توفِّيَ نذور الولي.
كانت لا تطيق إخوتَه أو أباه – قبل موته – حين يصرخون في وجهه: أنه لن يفلح، وأن مصيره الطبيعي في سجن القلعة. هل يمكن أن يولد طفل شقيا هكذا دون إخوته!؟
منذ السادسة من عمره كان يسرق من نقودها وسجائرها، وحين تواجهه؛ يقول متحديا: افعلي ما بدا لك، لا أحد يستطيع أن يمنعني. حين بدأ يستولى على مصروف إخوته وزملائه؛ كانت كلما غفت؛ رأت أسياخا ملتهبة – كأسياخ الحاتي – تقترب نحو عينيها فتُذهب نورهما.
منذ أيام وجدتْ قطعة من الحشيش في جيب بنطاله، كان قد أقسم لها أنه لم يعد يتعاطى شيئا، قال إنه عرف صعوبة كيف تأتيهم بلقمة العيش منذ اشتغل بمغسلة السيارات، وأقسم أن ينقذ جسدها الضئيل من الخدمة في البيوت، بين الأتربة ووساخات البشر، حين تتوافر في يده الأموال.
فتشت دولابه وغرفته، مسحت المطبخ وتحت الأَسِرَّة، لم تجد شيئا، في الليل انتبهت لكرتونة ملفوفة جيدا بلاصق، يصعب فَضُّه، خبأها في الشرفة، ربما فقدت النطق لسويعة، وقتها شعرت أن نهايته قد اقتربت، وأنهم لن يتركوه، لو عرف أولادها أنه يخزِّن بضاعة في البيت الذي يأويهم جميعا؛ سيطردونه. لزمت الصمت إلى أن عاد؛ فأخذته ونزلت بعيدا، سألته عن الكرتونة، قال: لا شأن لكِ بما يخصني.
ادَّعتْ تخلُّصَها منها؛ فأوقعها أرضا، وانهال عليها ضربًا وركلاتٍ، صرخ في وجهها، واعترف أنه يتاجر في الصنف، وأنه لم يعد يعنيه سوى النقود، وأنه يكرهها ويكره إخوته. هددها أنه سيذهب إلى القسم؛ ليعترف ويسلِّم نفسه؛ ليستريح من الحياة معها ومعهم.
لملمت جسدها المتضائل ونهضت، حين عادت إلى البيت؛ لم تجد الكرتونة التي أخفتها، سمعته يتحدث في هاتفه عن سَفره؛ ليوزع ما بحوزته، كانت أصابعه تلِفُّ سيجارة محشوة، وهو يُقسِم لأحدهم أنه خلال سنتين فقط سيصبح أكبر تاجر وموزع في المنطقة.
حين نزل أمناء الشرطة؛ تكورت على فِراشها، اندهشت حين رأت أربعة جدران تهبط من سقف الحجرة؛ تغلق الوجود حولها تماما، إلا مسافة جسدها، حاولت أن تلتقط أنفاسها بصعوبة، تُمسك بهاتفها لتبحث عنه، تحاول أن تستدعي أولادها، لا شيء ولا أحد، هي الأسياخ الملتهبة، ومساحات من البياض الممتد..
sadazakera.wordpress.com
حين فتحتْ؛ وجدتْ الرجُل الذي شج ابنُها رأسه، واثنين من أمناء الشرطة، اللذَين اقتحما المكان، قال أحدهما: لدينا أمر بالقبض على (طارق مصطفى الشردي) الشهير بــ”لعبة”.
“لا أحد هنا” قالت.
كانت قد تعاركت مع ولدَيها الآخَرَين، وأصرت على أن يتركا البيت خوفا من أن يُلقَى القبض عليهما حين لا يجدون “لعبة”؛ المطلوب في قضايا تعدٍّ سابقة، وتعاطي مخدرات، أو ربما يرشدان عن مكان أخيهما كما هدداها، كانا قد فاض بهما الكيل هما والبنتان؛ المطلَّقة وأولادها الثلاثة، والأخرى التي في سبيلها للانفصال، ضاقوا بكل ما سبَّبه لهم من فضائح ومشكلات، لطالما تعجبتْ من أين يأتي أولادها الخمسة بكل تلك القسوة والجفاء، بكل هذا التخبط والضياع!؟
منذ ولدته تسأل نفسها، كل يوم، فيمَ أذنبت؟ ولماذا هو – دون إخوته – تحيط به كل تلك المصائب؟ شيء بداخلها يبحث له دوما عن عذر، لطالما شعَر أولادها أنها تبرر كوارثه، يتهمونها بتدليله حتى انفلتَ عياره!؟
منذ أن نادَوه في الحارة “لعبة”، وهو في السادسة من عمره؛ تكثف – ما بين رموشها والحياة – ضباب لا تعرف نوعه، لكن ما تعرفه أن الصور أمامها صارت تائهة. وعندما أخذتْه للطبيبة – التي تعمل لديها، حين أتم الثالثة عشر – سقطتْ قضبان حديدية بين عينيها والأيام، بينها وكل الأشياء، قالت – بعد أن ظلَّتْ تتحدث معه لأكثر من ساعة – إن لديه نزوعا نحو العنف، وأشارت إلى ملامحه: شكل حاجبيه، ونظرات عينيه المتوجستين، وفمه الساخر، صوته الخشن الذي يصوب شتائمه للجميع، طمأنتها دون أن تنظر في عينيها وقالت: إنه لم يزل صغيرا، حدَّثتْها عن البيئة المناسبة، وأنها هي التي تحدد المستقبل، نصحتها أن تُلحقه بمدرسة داخلية، وحبذا لو كانت عسكرية. صمتت الأم؛ فمنذ سنتين امتنع عن الدراسة، ثم من أين تأتي بالمصاريف، كما تلزَمها واسطة لإنفاذ نصيحتها. شعَرتْ أنها تبالغ، فلقد أشارت إلى تغيرات تحدث بكيمياء المخ لدى بعض الأفراد. هي على الأرجح تحسدها على أولادها الذكور الثلاثة؛ لأنها لم تنجب سوى بنتين، أي كيمياء هذه التي تتحدث عنها وهم يأكلون جميعا من نفس الطعام!!
قررت أن الحل في حجاب الشيخ أبي المعاطي؛ ستصحب ابنها الأسبوع القادم إلى القناطر الخيرية، بعد أن توفِّيَ نذور الولي.
كانت لا تطيق إخوتَه أو أباه – قبل موته – حين يصرخون في وجهه: أنه لن يفلح، وأن مصيره الطبيعي في سجن القلعة. هل يمكن أن يولد طفل شقيا هكذا دون إخوته!؟
منذ السادسة من عمره كان يسرق من نقودها وسجائرها، وحين تواجهه؛ يقول متحديا: افعلي ما بدا لك، لا أحد يستطيع أن يمنعني. حين بدأ يستولى على مصروف إخوته وزملائه؛ كانت كلما غفت؛ رأت أسياخا ملتهبة – كأسياخ الحاتي – تقترب نحو عينيها فتُذهب نورهما.
منذ أيام وجدتْ قطعة من الحشيش في جيب بنطاله، كان قد أقسم لها أنه لم يعد يتعاطى شيئا، قال إنه عرف صعوبة كيف تأتيهم بلقمة العيش منذ اشتغل بمغسلة السيارات، وأقسم أن ينقذ جسدها الضئيل من الخدمة في البيوت، بين الأتربة ووساخات البشر، حين تتوافر في يده الأموال.
فتشت دولابه وغرفته، مسحت المطبخ وتحت الأَسِرَّة، لم تجد شيئا، في الليل انتبهت لكرتونة ملفوفة جيدا بلاصق، يصعب فَضُّه، خبأها في الشرفة، ربما فقدت النطق لسويعة، وقتها شعرت أن نهايته قد اقتربت، وأنهم لن يتركوه، لو عرف أولادها أنه يخزِّن بضاعة في البيت الذي يأويهم جميعا؛ سيطردونه. لزمت الصمت إلى أن عاد؛ فأخذته ونزلت بعيدا، سألته عن الكرتونة، قال: لا شأن لكِ بما يخصني.
ادَّعتْ تخلُّصَها منها؛ فأوقعها أرضا، وانهال عليها ضربًا وركلاتٍ، صرخ في وجهها، واعترف أنه يتاجر في الصنف، وأنه لم يعد يعنيه سوى النقود، وأنه يكرهها ويكره إخوته. هددها أنه سيذهب إلى القسم؛ ليعترف ويسلِّم نفسه؛ ليستريح من الحياة معها ومعهم.
لملمت جسدها المتضائل ونهضت، حين عادت إلى البيت؛ لم تجد الكرتونة التي أخفتها، سمعته يتحدث في هاتفه عن سَفره؛ ليوزع ما بحوزته، كانت أصابعه تلِفُّ سيجارة محشوة، وهو يُقسِم لأحدهم أنه خلال سنتين فقط سيصبح أكبر تاجر وموزع في المنطقة.
حين نزل أمناء الشرطة؛ تكورت على فِراشها، اندهشت حين رأت أربعة جدران تهبط من سقف الحجرة؛ تغلق الوجود حولها تماما، إلا مسافة جسدها، حاولت أن تلتقط أنفاسها بصعوبة، تُمسك بهاتفها لتبحث عنه، تحاول أن تستدعي أولادها، لا شيء ولا أحد، هي الأسياخ الملتهبة، ومساحات من البياض الممتد..
الجدران التي تسقط بين يديها وثمرة اليوسفي :أماني فؤاد
تناهى إلى سمعها خطوات ثقيلة، وأصوات خشنة. كانت بجوار التليفزيون، الذي لم تنتبه لما يعرضه منذ ساعات، يقضمها القلق قطعة تلو الأخرى؛ حتى ظنت أنها تلاشت، ترتدي طرْحتَها وتهبُّ واقفة، كلما تحركتْ خطوة ن…