قبل مئة ألف عام، عندما كان الإنسان الأولاّني لا يعرف ما جرى لأسلافه البشر سوى أنهم ماتوا ودفنوا وخلّفوا بشراً آخرين.. عندما كان لا يعرف من الكلام إلا ذاك الذي يخترعه الصيادون بضجيجهم، والأطفال بنداءاتهم المتكونة من التقاء الشفتين… في ذلك الزمان الذي كان البشر يتحركون فيه بالفطرة، كما تتجذر الجذور وتهيم الهوام وتتعنقد عناقيد العنب، فيتعلقون بأسباب الحياة كما يفعل الغصن الصغير الذي يمد ذؤابته إلى غصن آخر أكبر منه ليتشبث به وينجو ويشق طريقه إلى الحياة.
عندما لم يكن لضجيج السيارات أو التلفازات أو لأصوات الأذان وجود على الارض.. ولم يكن سوى الصمت يصفر في ناووس الفضاء، يقطعه أحياناً هزيم الرعد أو هسيس الريح أو شهيق الأشجار وزفيرها عند التنفس فوق الأرض الخلاء التي لا تحدها الصين من الشرق أو الآسكا من الغرب، ولكن تعبرها من الجهات الأربع غابات قاسية الثمار وتحدق بها تضاريس جرد خالية من شواهد القبور. يتبدد هذا الصمت المديد أحياناً بعاصفة من رفيف أجنحة الطيور المتزايدة قرب بركة مياه زرقاء أو بزعيق البط المتنقل بين البركة وما يحيط بها من الأكواخ الطينية….. وإذا جاء الربيع حملت تلك الطيور العيدان بين مناقيرها لتبني أعشاشها بين الأجمات وهي تغني وتضحك وتلهو بالقرب من الأكواخ حيث تتطاير الحشرات أيضاً.. ومثلما يحدث دائماً وقت الربيع.. داعب الهواء العاطر الطيب وجوه الكائنات، فطاشت رؤوسهم في دولاب الهواء الذي تدور فيه رؤوس الجميع… كذلك دار رأسا الرجلين اللذين كانا يمتازان بالطول قياساً إلى باقي الرجال ويشتهران بالوسامة والجاذبية.. أحدهما محارب والآخر فنان.. وقد وقفا يتصايحان أمام كوخ المرأة ويرددان كلاماً صاخباً غطى على صوت الهواء… سمعتهما المرأة فخافت وخرجت وهزت رأسها ويديها بالغضب وتفوهت بكلمات قليلة متكونة من حاصل التقاء الشفتين قالت:
-ماماتور.. باباتور.
وبتلك اللغة أمرتهما بالانصراف لئلا يوقظا أهلها بذلك الصراخ .
كان باب الكوخ عبارة عن جذع شجرة عملاقة أورقت حافاتها عن أغصان وأوراق جميلة تحمل بعض الزهور البيض الصغيرة التي تفجرت وقت الربيع وجعلت المرأة تنظر اليها بإعجاب وهي تجمع الحطب وتضرم النار فيه.. إنه فجر يوم جديد، والمرأة تخبز عجينها المختمر في تنورها الطيني فتتضوع من النار رائحة الخبز الساخن الشهية، التي إذا فاحت وانتشر عطرها في الهواء، جذبت القاصي والداني بل نادت الجائع والشبعان.
جاء الجائع والشبعان، أحدهما حاملاً عصاة توتية صنعها من رسغ شجرة توت عملاقة والثاني يرتدي بدلة خضراء ضفرها من أوراق شجرة التوت أيضاً، حاجبا عينيه الغليظان يغطيان أنفا ضخماً وفكاً عريضاً خالياً تقريباً من الذقن.. وهي الأوصاف نفسها التي يحملها الرجل المحارب، مع فارق بسيط هو أن الثاني كانت عيناه بارزتين أكثر من الأول.. وثمة جروح كثيرة تغطي أنفه ووجهه ورأسه، بالإضافة الى سن مكسور يبرز قليلاً إلى أمام عندما يهمهم بكلمات قليلة تعبر دائماً عن الغضب والعداء. الرجل الفنان كان أكثر هدوءاً وهو يتودد إلى المرأة حاملاً بين يديه لوحاً من الطين محفوراً عليه حيوانان متداخلان في صورة حصان صغير داخل صورة فرس.. الاثنان يتحركان داخل قطيع ويتكرران في صورة حصان صغير داخل صورة فرس….
تحرك قلب المرأة من شدة التوله بالجمال الذي تراه في أصابع الفنان المضفورة بالأغصان الخضر. وعندما رفع اليها الحجر المنقوش لتنظر إليه انبهرت ، إذ رأت الحصان والفرس محفورين بخطوط متداخلة… يتحركان داخل قطيع من الخيول ويتكرران في صورة حصان صغير داخل صورة فرس….. تحرك قلبها أكثر وهي تنظر للفنان نظرة زال عنها الغضب والرعب والتعب من جمْع الحطب قبل قليل، وحل فيها نقيض تلك الانفعالات المؤلمة التي تشعر بها وقت البرد أو جمع الحطب. شعرت وهي تنظر إلى لوح الحجر بالرضا والارتياح، وتحرك وجهها هو الآخر بتعبير غامض أضاء روحها بالسعادة… وعينيها بحياء مخلوط بالسرور فأصبحت روحها خطوطاً تتكرر وتتداخل مع روح الفنان… وكانت قبل ذلك، في غطاء من الفراغ والبلاهة. أحس المحارب أن الفنان قد استولى على قلب المرأة، فغضب وهجم بلا تردد على الحجر المنحوت ليكسره، ولكنه تعثّر وسقط إلى البركة وكاد أن يختنق بالماء الداخل إلى فمه لولا أنْ أنقذه الفنان وأخرجه إلى اليابسة.
في المساء أعادت المرأة لأهلها ما حدث للرجلين في الصباح فضحك الجميع على الرجل الساقط في البركة وشعروا بسرور بالغ قبل أن يخفيهم النوم…
ومنذ ذلك اليوم أصبح تكرار مشهد سبق أن لعبه الأخرون وأخفقوا فيه، كطفل يقلد أباه أو خادم يقلد سيده أو امرأة تقلد رجلها، هي مادة للضحك وقضاء الوقت الطيب.
عندما لم يكن لضجيج السيارات أو التلفازات أو لأصوات الأذان وجود على الارض.. ولم يكن سوى الصمت يصفر في ناووس الفضاء، يقطعه أحياناً هزيم الرعد أو هسيس الريح أو شهيق الأشجار وزفيرها عند التنفس فوق الأرض الخلاء التي لا تحدها الصين من الشرق أو الآسكا من الغرب، ولكن تعبرها من الجهات الأربع غابات قاسية الثمار وتحدق بها تضاريس جرد خالية من شواهد القبور. يتبدد هذا الصمت المديد أحياناً بعاصفة من رفيف أجنحة الطيور المتزايدة قرب بركة مياه زرقاء أو بزعيق البط المتنقل بين البركة وما يحيط بها من الأكواخ الطينية….. وإذا جاء الربيع حملت تلك الطيور العيدان بين مناقيرها لتبني أعشاشها بين الأجمات وهي تغني وتضحك وتلهو بالقرب من الأكواخ حيث تتطاير الحشرات أيضاً.. ومثلما يحدث دائماً وقت الربيع.. داعب الهواء العاطر الطيب وجوه الكائنات، فطاشت رؤوسهم في دولاب الهواء الذي تدور فيه رؤوس الجميع… كذلك دار رأسا الرجلين اللذين كانا يمتازان بالطول قياساً إلى باقي الرجال ويشتهران بالوسامة والجاذبية.. أحدهما محارب والآخر فنان.. وقد وقفا يتصايحان أمام كوخ المرأة ويرددان كلاماً صاخباً غطى على صوت الهواء… سمعتهما المرأة فخافت وخرجت وهزت رأسها ويديها بالغضب وتفوهت بكلمات قليلة متكونة من حاصل التقاء الشفتين قالت:
-ماماتور.. باباتور.
وبتلك اللغة أمرتهما بالانصراف لئلا يوقظا أهلها بذلك الصراخ .
كان باب الكوخ عبارة عن جذع شجرة عملاقة أورقت حافاتها عن أغصان وأوراق جميلة تحمل بعض الزهور البيض الصغيرة التي تفجرت وقت الربيع وجعلت المرأة تنظر اليها بإعجاب وهي تجمع الحطب وتضرم النار فيه.. إنه فجر يوم جديد، والمرأة تخبز عجينها المختمر في تنورها الطيني فتتضوع من النار رائحة الخبز الساخن الشهية، التي إذا فاحت وانتشر عطرها في الهواء، جذبت القاصي والداني بل نادت الجائع والشبعان.
جاء الجائع والشبعان، أحدهما حاملاً عصاة توتية صنعها من رسغ شجرة توت عملاقة والثاني يرتدي بدلة خضراء ضفرها من أوراق شجرة التوت أيضاً، حاجبا عينيه الغليظان يغطيان أنفا ضخماً وفكاً عريضاً خالياً تقريباً من الذقن.. وهي الأوصاف نفسها التي يحملها الرجل المحارب، مع فارق بسيط هو أن الثاني كانت عيناه بارزتين أكثر من الأول.. وثمة جروح كثيرة تغطي أنفه ووجهه ورأسه، بالإضافة الى سن مكسور يبرز قليلاً إلى أمام عندما يهمهم بكلمات قليلة تعبر دائماً عن الغضب والعداء. الرجل الفنان كان أكثر هدوءاً وهو يتودد إلى المرأة حاملاً بين يديه لوحاً من الطين محفوراً عليه حيوانان متداخلان في صورة حصان صغير داخل صورة فرس.. الاثنان يتحركان داخل قطيع ويتكرران في صورة حصان صغير داخل صورة فرس….
تحرك قلب المرأة من شدة التوله بالجمال الذي تراه في أصابع الفنان المضفورة بالأغصان الخضر. وعندما رفع اليها الحجر المنقوش لتنظر إليه انبهرت ، إذ رأت الحصان والفرس محفورين بخطوط متداخلة… يتحركان داخل قطيع من الخيول ويتكرران في صورة حصان صغير داخل صورة فرس….. تحرك قلبها أكثر وهي تنظر للفنان نظرة زال عنها الغضب والرعب والتعب من جمْع الحطب قبل قليل، وحل فيها نقيض تلك الانفعالات المؤلمة التي تشعر بها وقت البرد أو جمع الحطب. شعرت وهي تنظر إلى لوح الحجر بالرضا والارتياح، وتحرك وجهها هو الآخر بتعبير غامض أضاء روحها بالسعادة… وعينيها بحياء مخلوط بالسرور فأصبحت روحها خطوطاً تتكرر وتتداخل مع روح الفنان… وكانت قبل ذلك، في غطاء من الفراغ والبلاهة. أحس المحارب أن الفنان قد استولى على قلب المرأة، فغضب وهجم بلا تردد على الحجر المنحوت ليكسره، ولكنه تعثّر وسقط إلى البركة وكاد أن يختنق بالماء الداخل إلى فمه لولا أنْ أنقذه الفنان وأخرجه إلى اليابسة.
في المساء أعادت المرأة لأهلها ما حدث للرجلين في الصباح فضحك الجميع على الرجل الساقط في البركة وشعروا بسرور بالغ قبل أن يخفيهم النوم…
ومنذ ذلك اليوم أصبح تكرار مشهد سبق أن لعبه الأخرون وأخفقوا فيه، كطفل يقلد أباه أو خادم يقلد سيده أو امرأة تقلد رجلها، هي مادة للضحك وقضاء الوقت الطيب.