1- المقدمة "الثقافية"
يمكن أن يكون "الجنس sex"، بما صاحبه من دوافع وخيالات وممارسات ونتائج وتحقّق، يمكن أن يكون كل ذلك مدخلًا لقراءة العقل العربي ومنجزه الثقافي والحضاري من الجاهلية إلى اليوم. أعتقد أن مثل هذه الدراسة كفيلة بكشف الكثير من جوانب التفكير العربي وخفاياه، وبإمكانها أن تعيد التفكير في الكثير من "المسلمات" التي نتناقلها بالتواتر، فإذا تأملناها من "المنظور الجنسي" سيتكشف لنا جوهرٌ آخر، وعلى سبيل المثال، موضوع النسب الذي تغنى به التراث، باعتباره أحد علامات العرب ومزاياهم، قديمًا، فهو موضوع يتعرض للطعن إذا استحضرنا الممارسات الجنسية منذ الجاهلية، وهي ممارسات تواتر الحديث عنها، مما يجعل الشك فيها ضعيفًا.
تحكي كتب التراث عن "العلاقات الجنسية" [المشروعة] بحكم الأعراف الجاهلية، ومنها "البغاء"، وهي الممارسة بمقابل، ولم تر العرب فيه بأسًا، لكن البأس والرفض أن تمارسه المرأة لطلب اللذة، وهو الزنا، لذلك أقروا "الرايات الحمراء"، وترفعت عنه ذوات الفضل المادي فشاع المثل (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها)، ونكاحُ الاستبضاع، وهو لطلب تحين النسل، فيدفع الرجل بامرأته لرجل يتوسم فيه صفة ما تعجبه، يجامعها وقت الحمل، ثم يأخذها، واعتقد العرب لتمرير هذا الفعل أن مجامعة الرجل لزوجته بعد حملها (بهذه الطريقة) يثبت صحة نسب الولد إليه، لأنه تغذى على مائه. ونكاحُ الرهط، وهو نكاح جماعي، ونكاحُ المخادنة، وهو أن تعرف المرأة عشيقًا على زوجها، لا يمتلك الزوج حق الاعتراض عليه أو منعها منه، لمنزلته وقومه وغناه، والعرب كانت تقر هذا الزواج ما دام مستترًا، ونكاح البدل وفيه يتبادل رجلان زوجتيهما، ونكاح المضامدة، وعرفه الفراء بأن تصادق المرأة اثنين أو ثلاثة في القحط لتأكل عند هذا وهذا لتشبع، وكان الرجل إذا دخل في شدة القحط وخاف على أهله الهلاك أودع امرأته وبناته عند رجل يطعمهن وله حق جماعهن إن شاء. ونكاح السر، ويشبه الزواج العرفي حاليًا. ونكاح الضيزن وهو وراثة زوجات الأب والأخ والابن بعد الوفاة. ونكاح الزنا. وكل هذه الأنواع ورد فيها قرآن بالتحريم ماعدا الضماد، ويمكن مراجعتها في كتب التراث بتفصيل.
....
..
2- الشاعر: أبو حكيمة
وفي هذا الجو المتحرر ظهر شاعر يبحث عن موطئ قدم بين الشعراء، ومن سوء حظه أنه ظهر في زمن أبي تمام والبحتري، وكان الاثنان يسيطران على سوق المثقفين، وكان التواجد في زمنهما يحتاج إلى معجزة كي يلمع اسم الشاعر المعاصر لهما، وتأملْ قول ابن رشيق في كتابه الذائع (العمدة) عنهما إذ يقول إنهما "أخملا في زمنهما خمسمائة شاعر كلهم مجيد".
يظهر أبو حكيمة ويعلم أنه خامل إن لم يحسن التفكير، فلن تعينه جودته الشعرية في وجود زعيم المحدثين وزعيم القدامى: ابي تمام والبحتري، ولن ينفتح له باب القبول من خلال موضوعات المجون السائدة في زمنه، وقد اكتسحها أبو نواس وقرناؤه، وسارت بأقوالهم الركبان، وأصبحت المباذل حديثًا معتادًا، وسيطرت أسماء مثل: مرداس بن خذام وحماد عجرد وحماد الراوية ووالبة بن الحباب وأبو نواس وأبو نعامة الدقيقي وأبو العنبس الصميري ويوسف لقوة وعمار ذو كبار، وغيرهم الكثير، سيطرت هذه الأسماء وأخبارها وكلامها وشعرها على المجالس.
اختط أبو حكيمة لنفسه مجالًا لم يسبقه إليه أحد ولم ينافسه فيه منافس. تجري العادة على الفخر بالقوة الجنسية وصلابة الآلة وقوة الأداء.. إلخ، وربما نجد بيتًا لشخص أو بيتين يشكو ضعف محصوله وفتور آلته، لكن الغالب أن "الفحولة" كانت -وما زالت- مجال فخر وتباه.
يظهر أبو حكيمة ضد الخيال الجمعي والرغبة الدفينة ليكون صوت المستضعفين (جنسيًّا) والمقهورين، ويتحدث طول حياته عن ضعف متاعه وضآلة آلته وخيبة مغامراته، ومن المؤكد أن نفس السامع تستجيب مع صاحب الضعف وتتعاطف أكثر من المتفاخر والمتباهي بما لا يمكن إثباته ولا يقوم عليه دليل للسامع.
تفرغ أبو حكيمة لهذا الشأن فذاع صيته وأصبحت له شهرة لا تقل عن شهرة أبي تمام والبحتري ومطلوبًا في المجالس، فيقف مباهيًا فيما يرد عنه في (الدر الفريد) قائلًا: "والله أنه لا شريك لي في هذا الفن، وإني قد تفردت به من دون الخلق"، ومن خلال رثاء المتاع ذاعت سوق أبي حكيمة ذيوعًا جعل القدامى يبررون هذه الوقاحة الجنسية، لأنها على عكس الشائع، إذ تجري العادة كما يقول علم النفس التحليلي على أنه من الطبيعي والضروري للصحة النفسية أن يقوم الشخص باستبدال المشاعر بمضادها، فيتباهى الضعيف ويكثر من المباهاة بما لديه من ملكات، وكلما حل به الضعف زادت ادعاءاته بقواه الاستثنائية، .......
جزء من مقال مدخل ثقافي لشاعر منحرف ( د. أبو اليزيد الشرقاوي) المنشور في العدد 24 ديسمبر 2020م
يمكن أن يكون "الجنس sex"، بما صاحبه من دوافع وخيالات وممارسات ونتائج وتحقّق، يمكن أن يكون كل ذلك مدخلًا لقراءة العقل العربي ومنجزه الثقافي والحضاري من الجاهلية إلى اليوم. أعتقد أن مثل هذه الدراسة كفيلة بكشف الكثير من جوانب التفكير العربي وخفاياه، وبإمكانها أن تعيد التفكير في الكثير من "المسلمات" التي نتناقلها بالتواتر، فإذا تأملناها من "المنظور الجنسي" سيتكشف لنا جوهرٌ آخر، وعلى سبيل المثال، موضوع النسب الذي تغنى به التراث، باعتباره أحد علامات العرب ومزاياهم، قديمًا، فهو موضوع يتعرض للطعن إذا استحضرنا الممارسات الجنسية منذ الجاهلية، وهي ممارسات تواتر الحديث عنها، مما يجعل الشك فيها ضعيفًا.
تحكي كتب التراث عن "العلاقات الجنسية" [المشروعة] بحكم الأعراف الجاهلية، ومنها "البغاء"، وهي الممارسة بمقابل، ولم تر العرب فيه بأسًا، لكن البأس والرفض أن تمارسه المرأة لطلب اللذة، وهو الزنا، لذلك أقروا "الرايات الحمراء"، وترفعت عنه ذوات الفضل المادي فشاع المثل (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها)، ونكاحُ الاستبضاع، وهو لطلب تحين النسل، فيدفع الرجل بامرأته لرجل يتوسم فيه صفة ما تعجبه، يجامعها وقت الحمل، ثم يأخذها، واعتقد العرب لتمرير هذا الفعل أن مجامعة الرجل لزوجته بعد حملها (بهذه الطريقة) يثبت صحة نسب الولد إليه، لأنه تغذى على مائه. ونكاحُ الرهط، وهو نكاح جماعي، ونكاحُ المخادنة، وهو أن تعرف المرأة عشيقًا على زوجها، لا يمتلك الزوج حق الاعتراض عليه أو منعها منه، لمنزلته وقومه وغناه، والعرب كانت تقر هذا الزواج ما دام مستترًا، ونكاح البدل وفيه يتبادل رجلان زوجتيهما، ونكاح المضامدة، وعرفه الفراء بأن تصادق المرأة اثنين أو ثلاثة في القحط لتأكل عند هذا وهذا لتشبع، وكان الرجل إذا دخل في شدة القحط وخاف على أهله الهلاك أودع امرأته وبناته عند رجل يطعمهن وله حق جماعهن إن شاء. ونكاح السر، ويشبه الزواج العرفي حاليًا. ونكاح الضيزن وهو وراثة زوجات الأب والأخ والابن بعد الوفاة. ونكاح الزنا. وكل هذه الأنواع ورد فيها قرآن بالتحريم ماعدا الضماد، ويمكن مراجعتها في كتب التراث بتفصيل.
....
..
2- الشاعر: أبو حكيمة
وفي هذا الجو المتحرر ظهر شاعر يبحث عن موطئ قدم بين الشعراء، ومن سوء حظه أنه ظهر في زمن أبي تمام والبحتري، وكان الاثنان يسيطران على سوق المثقفين، وكان التواجد في زمنهما يحتاج إلى معجزة كي يلمع اسم الشاعر المعاصر لهما، وتأملْ قول ابن رشيق في كتابه الذائع (العمدة) عنهما إذ يقول إنهما "أخملا في زمنهما خمسمائة شاعر كلهم مجيد".
يظهر أبو حكيمة ويعلم أنه خامل إن لم يحسن التفكير، فلن تعينه جودته الشعرية في وجود زعيم المحدثين وزعيم القدامى: ابي تمام والبحتري، ولن ينفتح له باب القبول من خلال موضوعات المجون السائدة في زمنه، وقد اكتسحها أبو نواس وقرناؤه، وسارت بأقوالهم الركبان، وأصبحت المباذل حديثًا معتادًا، وسيطرت أسماء مثل: مرداس بن خذام وحماد عجرد وحماد الراوية ووالبة بن الحباب وأبو نواس وأبو نعامة الدقيقي وأبو العنبس الصميري ويوسف لقوة وعمار ذو كبار، وغيرهم الكثير، سيطرت هذه الأسماء وأخبارها وكلامها وشعرها على المجالس.
اختط أبو حكيمة لنفسه مجالًا لم يسبقه إليه أحد ولم ينافسه فيه منافس. تجري العادة على الفخر بالقوة الجنسية وصلابة الآلة وقوة الأداء.. إلخ، وربما نجد بيتًا لشخص أو بيتين يشكو ضعف محصوله وفتور آلته، لكن الغالب أن "الفحولة" كانت -وما زالت- مجال فخر وتباه.
يظهر أبو حكيمة ضد الخيال الجمعي والرغبة الدفينة ليكون صوت المستضعفين (جنسيًّا) والمقهورين، ويتحدث طول حياته عن ضعف متاعه وضآلة آلته وخيبة مغامراته، ومن المؤكد أن نفس السامع تستجيب مع صاحب الضعف وتتعاطف أكثر من المتفاخر والمتباهي بما لا يمكن إثباته ولا يقوم عليه دليل للسامع.
تفرغ أبو حكيمة لهذا الشأن فذاع صيته وأصبحت له شهرة لا تقل عن شهرة أبي تمام والبحتري ومطلوبًا في المجالس، فيقف مباهيًا فيما يرد عنه في (الدر الفريد) قائلًا: "والله أنه لا شريك لي في هذا الفن، وإني قد تفردت به من دون الخلق"، ومن خلال رثاء المتاع ذاعت سوق أبي حكيمة ذيوعًا جعل القدامى يبررون هذه الوقاحة الجنسية، لأنها على عكس الشائع، إذ تجري العادة كما يقول علم النفس التحليلي على أنه من الطبيعي والضروري للصحة النفسية أن يقوم الشخص باستبدال المشاعر بمضادها، فيتباهى الضعيف ويكثر من المباهاة بما لديه من ملكات، وكلما حل به الضعف زادت ادعاءاته بقواه الاستثنائية، .......
جزء من مقال مدخل ثقافي لشاعر منحرف ( د. أبو اليزيد الشرقاوي) المنشور في العدد 24 ديسمبر 2020م