يظن أهل السودان أن عربيتهم الدارجة هي من أفصح اللهجات العربية ويمضي أبعد من ذلك العالم الحجة الدكتور عبد الله الطيب صاحب كتاب "المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها" فيقول إن العربية الدارجة في السودان هي أفصح اللهجات العربية إطلاقا. الله أعلم.
والحق أن من قلة بخت عرب السودان أولا اسم دولتهم، وثانيا أن عروبتهم كما تجرى على ألسنتهم، أفصح أحيانا مما ينبئ به سمتهم وسحنتهم.
وقد وجدت في الشعر الجاهلي ثم في عامة الشعر العربي، خاصة عند المتنبي وأبي العلا، كلمات كثيرة تستعمل في لغتنا الدارجة، وبعضها لا يوجد إلا في السودان، وكنت أظنها محرفة أو دخيلة على اللغة العربية، فإذا بها كلمات فصيحة. المتنبي مثلا يستعمل كلمة (غلت) بمعنى (غلط) وأكثر أهل السودان يقولون (غلت) بالتاء، وفي لسان العرب أن ( غلت ) و (غلط) بمعنى واحد ويستعمل (توراب)، وأهل السودان يقولون (تيراب) للبذور التي تدفن في الأرض كالقمح والذرة وغيرها وفي المعجم ( توراب ) أو (تيراب) هي الأرض أو ما يدفن فيها.
هذا وقد ذكر الدكتور احسان عباس في كتابه "تاريخ النقد الأدبي عند العرب" في الفصل عن أراء النقاد القدماء في شعر المتنبي، وهو كتاب جم الفائدة، أن الصاحب بن عباد عاب على المتنبي استخدامه الكلمات الحوشية الغريبة مثل (توراب) غفر الله له أنه لم يزل يتتبع المأخذ على المتنبي، ولو أنه عاش في السودان، لوجد أن الكلمة شائعة تجرى على ألسنة عامة الناس. كذلك عاب عليه استعمال (جبرين) بالنون بدل (جبريل) باللام، وقال : وقلب هذه اللام إلى النون أبغض من وجه المنون. وعامـة أهـل الســودان، يقولــون (جـبرين ) و (اسماعين ) .
ذاك ، وقد قال المتنبي يصف الخيل:
العارفين بها كما عرفتهم
والراكبين جدودهم أماتها
ونحن نقول ( أمات ) ولا نقول ( أمهات ). وقد قال الشاعر السوداني :
يا طير إن مشيت سلم على الأمات
وقول ليهن وليدكن في الحياة ما مات
حتى التصغير الذي كان المتنبي مولعا به، وعابوه عليه، مأثور عندنا ، نقول ( وليد ) و ( زويل ) و (بنيه ) و ( مريه ) . ولقد كاد أبن القارح يصيبه الخبل من قول المتنبي:
أذم إلى هذا الزمان أهيله .
حتى صب أبو العلا ، رحمه الله ، الماء على نيران غضبه، فقال له :
" كان الرجل مولعا بالتصغير لا يقنع من ذلك بخلسة المغير ، ولا ملامة عليه، إنما هي عادة صارت كالطبع ، فما حسن بها، مألوف الربع .. "
وكان شاعر السودان الفحل ، محمد أحمد عوض الكريم أبو سن الملقب بالحردلو ( 1830 – 1916) أيضا مغرما بالتصغير ، في مثل قوله يصف أن وعل الظباء تركها في مكان وذهب يستكشف ، ثم عاد إليها:
جاهن منقلب وقتا عصير وشفاف
وكاسب ليله بيهن من صدف ما بخاف
ديل الطبعهن دايم الأبد عياف
وفي (نايط السروج) لقين بقيلن جاف
كل هذا كلام عربي فصيح إذا تأملته، وأنت ترى أنه صغر ( عصرا ) إلى عصير ، و ( بقل ) إلى بقيل . و ( نايط السروج ) اسم موضع ، والصدف ، بفتح الصاد والدال ، هو ما يصادفك مما تكره ، وخاصة بالليل . وأنظر كيف صور الشاعر ذكر الظباء ( التيس ) كأنه قائد عسكري مقدام لا يهاب المخاطر ، سرى بالقطيع ليلا ، حتى أوصله إلى حيث يريد ، فذلك قوله " كاسـب ليلـه بيهن". ونحن نستخدم "الكسب" بمعنى النصر الحربي أيضا ، كما قال الآخر يصف فتية محاربين:
ديل جابو الكسب بين ( كاجا ) و ( أم سريحه )
ويا ساتر من اليوم العقوبته فضيحه
أي أنهم عادوا منتصرين من تلك البلاد في الجنوب والغرب حيث شبت حروب بين أهلها وبين القبائل العربية في الزمان القديم.
والحردلو يصف الظباء بأنهن (عياف) والكلمة تحمل في جوفها معنى الحذر والكبرياء والعفة ، فما أجمل ذلك كأنه ذو الرمة ، وهو حقا أشبه الشعراء به.
وعندنا " الزول " بمثابة " الزلمه " عند أهل الشام ، و" الريال " عند أهل جزيرة العرب ، يجعلون الجيم ياء ، وهو فصيح، ونحن جيمنا قريبة من ذلك. وكلمة " زول " في المعجم ، من معانيها الشخص اللطيف المهذب . وقد وجدتها بهذا المعنى عند أبى العلا . وذكر لي الدكتور عبد الله عبد الدايم ، وهو عالم ثبـت ، أن " زول " هي أحسن مرادف للكلمة الإنجليزية Gentleman فهل كل أهل السودان " أزوال " ؟
والكلمة تستخدم للمرأة أيضا، وقد قال الحردلو يذكر انسانة جميلة ألهته عن حضور العيد مع أخيه عبد الله، وكان شاعرا أيضا :
الزول السمح فات الكبار والقدرو
كان شافوه ناس عبد الله كانوا يعذرو
السبب الحماني العيد هناك ما أحضرو
درديق الشبيكة النزلوه فوق صدرو
و " الشبيكة " حلى متشابكة تعلق على صدر الفتاة، وقد وجدتها بصفتها وباسمها هذا في متحف قطر الوطني الذي يديره العالم الشاعر الدكتور درويش الفأر في الدوحة الميمونة الطالع.
و "حمى" بمعنى "منع" أكثر جريا على الألسنة عندنا من "منع" ، وقد قال أبو العلا :
ترى العود منها باكيا فكأنه
فصيل حماه الشرب رب عيال
هذا في وصف مبلغ حنين الإبل إلى أوطانها، ويا سبحان الله، كيف أن أشقاءنا المصريين ، وهم منا على بعد ما تطير اليمامة ، لا يصفون الفتاة بأنهـا "سمحة " كما نفعل، بل يقولون " جميلة " كان الله قسم لهم الجمال وقسم لنا السماحة..
وفي ديار غرب السودان ، يقولون (ينطي) بمعنى (يعطي) وهي كذلك في المعجم ، ولم أجدها عند غيرهم. وقد قال أبو العلا رحمه الله:
لمن جيرة سيموا النوال فلم ينطوا
يظللهم ما ظل ينبته الخط
رجوت لهم أن يقربوا فتباعدوا
وألا يشطوا بالمزار فقد شطوا
أي والله، لقد شطوا يا أم عمرو، وهل بعدهم يطيب العيش.
الطيب صالح
والحق أن من قلة بخت عرب السودان أولا اسم دولتهم، وثانيا أن عروبتهم كما تجرى على ألسنتهم، أفصح أحيانا مما ينبئ به سمتهم وسحنتهم.
وقد وجدت في الشعر الجاهلي ثم في عامة الشعر العربي، خاصة عند المتنبي وأبي العلا، كلمات كثيرة تستعمل في لغتنا الدارجة، وبعضها لا يوجد إلا في السودان، وكنت أظنها محرفة أو دخيلة على اللغة العربية، فإذا بها كلمات فصيحة. المتنبي مثلا يستعمل كلمة (غلت) بمعنى (غلط) وأكثر أهل السودان يقولون (غلت) بالتاء، وفي لسان العرب أن ( غلت ) و (غلط) بمعنى واحد ويستعمل (توراب)، وأهل السودان يقولون (تيراب) للبذور التي تدفن في الأرض كالقمح والذرة وغيرها وفي المعجم ( توراب ) أو (تيراب) هي الأرض أو ما يدفن فيها.
هذا وقد ذكر الدكتور احسان عباس في كتابه "تاريخ النقد الأدبي عند العرب" في الفصل عن أراء النقاد القدماء في شعر المتنبي، وهو كتاب جم الفائدة، أن الصاحب بن عباد عاب على المتنبي استخدامه الكلمات الحوشية الغريبة مثل (توراب) غفر الله له أنه لم يزل يتتبع المأخذ على المتنبي، ولو أنه عاش في السودان، لوجد أن الكلمة شائعة تجرى على ألسنة عامة الناس. كذلك عاب عليه استعمال (جبرين) بالنون بدل (جبريل) باللام، وقال : وقلب هذه اللام إلى النون أبغض من وجه المنون. وعامـة أهـل الســودان، يقولــون (جـبرين ) و (اسماعين ) .
ذاك ، وقد قال المتنبي يصف الخيل:
العارفين بها كما عرفتهم
والراكبين جدودهم أماتها
ونحن نقول ( أمات ) ولا نقول ( أمهات ). وقد قال الشاعر السوداني :
يا طير إن مشيت سلم على الأمات
وقول ليهن وليدكن في الحياة ما مات
حتى التصغير الذي كان المتنبي مولعا به، وعابوه عليه، مأثور عندنا ، نقول ( وليد ) و ( زويل ) و (بنيه ) و ( مريه ) . ولقد كاد أبن القارح يصيبه الخبل من قول المتنبي:
أذم إلى هذا الزمان أهيله .
حتى صب أبو العلا ، رحمه الله ، الماء على نيران غضبه، فقال له :
" كان الرجل مولعا بالتصغير لا يقنع من ذلك بخلسة المغير ، ولا ملامة عليه، إنما هي عادة صارت كالطبع ، فما حسن بها، مألوف الربع .. "
وكان شاعر السودان الفحل ، محمد أحمد عوض الكريم أبو سن الملقب بالحردلو ( 1830 – 1916) أيضا مغرما بالتصغير ، في مثل قوله يصف أن وعل الظباء تركها في مكان وذهب يستكشف ، ثم عاد إليها:
جاهن منقلب وقتا عصير وشفاف
وكاسب ليله بيهن من صدف ما بخاف
ديل الطبعهن دايم الأبد عياف
وفي (نايط السروج) لقين بقيلن جاف
كل هذا كلام عربي فصيح إذا تأملته، وأنت ترى أنه صغر ( عصرا ) إلى عصير ، و ( بقل ) إلى بقيل . و ( نايط السروج ) اسم موضع ، والصدف ، بفتح الصاد والدال ، هو ما يصادفك مما تكره ، وخاصة بالليل . وأنظر كيف صور الشاعر ذكر الظباء ( التيس ) كأنه قائد عسكري مقدام لا يهاب المخاطر ، سرى بالقطيع ليلا ، حتى أوصله إلى حيث يريد ، فذلك قوله " كاسـب ليلـه بيهن". ونحن نستخدم "الكسب" بمعنى النصر الحربي أيضا ، كما قال الآخر يصف فتية محاربين:
ديل جابو الكسب بين ( كاجا ) و ( أم سريحه )
ويا ساتر من اليوم العقوبته فضيحه
أي أنهم عادوا منتصرين من تلك البلاد في الجنوب والغرب حيث شبت حروب بين أهلها وبين القبائل العربية في الزمان القديم.
والحردلو يصف الظباء بأنهن (عياف) والكلمة تحمل في جوفها معنى الحذر والكبرياء والعفة ، فما أجمل ذلك كأنه ذو الرمة ، وهو حقا أشبه الشعراء به.
وعندنا " الزول " بمثابة " الزلمه " عند أهل الشام ، و" الريال " عند أهل جزيرة العرب ، يجعلون الجيم ياء ، وهو فصيح، ونحن جيمنا قريبة من ذلك. وكلمة " زول " في المعجم ، من معانيها الشخص اللطيف المهذب . وقد وجدتها بهذا المعنى عند أبى العلا . وذكر لي الدكتور عبد الله عبد الدايم ، وهو عالم ثبـت ، أن " زول " هي أحسن مرادف للكلمة الإنجليزية Gentleman فهل كل أهل السودان " أزوال " ؟
والكلمة تستخدم للمرأة أيضا، وقد قال الحردلو يذكر انسانة جميلة ألهته عن حضور العيد مع أخيه عبد الله، وكان شاعرا أيضا :
الزول السمح فات الكبار والقدرو
كان شافوه ناس عبد الله كانوا يعذرو
السبب الحماني العيد هناك ما أحضرو
درديق الشبيكة النزلوه فوق صدرو
و " الشبيكة " حلى متشابكة تعلق على صدر الفتاة، وقد وجدتها بصفتها وباسمها هذا في متحف قطر الوطني الذي يديره العالم الشاعر الدكتور درويش الفأر في الدوحة الميمونة الطالع.
و "حمى" بمعنى "منع" أكثر جريا على الألسنة عندنا من "منع" ، وقد قال أبو العلا :
ترى العود منها باكيا فكأنه
فصيل حماه الشرب رب عيال
هذا في وصف مبلغ حنين الإبل إلى أوطانها، ويا سبحان الله، كيف أن أشقاءنا المصريين ، وهم منا على بعد ما تطير اليمامة ، لا يصفون الفتاة بأنهـا "سمحة " كما نفعل، بل يقولون " جميلة " كان الله قسم لهم الجمال وقسم لنا السماحة..
وفي ديار غرب السودان ، يقولون (ينطي) بمعنى (يعطي) وهي كذلك في المعجم ، ولم أجدها عند غيرهم. وقد قال أبو العلا رحمه الله:
لمن جيرة سيموا النوال فلم ينطوا
يظللهم ما ظل ينبته الخط
رجوت لهم أن يقربوا فتباعدوا
وألا يشطوا بالمزار فقد شطوا
أي والله، لقد شطوا يا أم عمرو، وهل بعدهم يطيب العيش.
الطيب صالح