تطوان هذا الصباح هادئ كصباحات بيروت، المكان يحتضن زواره، و شمس الصباح ترافقني في أزقة المدينة التي تفوح منها رائحة التاريخ.
انحدرت من الفندق الذي آوي إليه، على يميني جبل متوسط العلو، ضباب على قمته كتاج ألماس على رأس أميرة، منازل مرتبة على طوله، فصل الشتاء المطير كساه أخضرا فتحول إلى لوحة فنية يعجز أمامها عباقرة الفنون التشكيلية.
تمشيت قليلا غير قاصد مكانا بعينه، كل أزقة تطوان تدعوك للحب، تشعر كأنها تداعب جسدك كاملا و أنت بين أحضانها، زقاقا بعد زقاق و حارة بعد حارة يروق مزاجي و يعتدل دماغي، طقوس هذا الصباح تستدعي جني الكتابة الذي يسكن بين أضلعي، أرغب في كتابة خواطري على الجدران و أبواب المنازل، هنا الحب مباح و الأحاسيس تنعتق من عقال التفاهة و الابتذال، هنا الحب واجب، موسيقى المدينة، أزقتها و ساحاتها، أوجه الجالسات في المقاهي تدعوك للحب، كيمياء المكان تصنع منك شخصا آخر.
أستقل سيارة أجرة صغيرة شاطئ مارتيل يناديك للاقتراب، المشي على كورنيشه يمارس الغواية على قدماي، لا أريد أن أتوقف، أشعر أني سليب أهيم على وجهي، خطواتي على مهل متتالية، و أنا أمشي و أمشي و أمشي… أنزاح عن كل ما يشغل بالي، أرى فتاة لم تكمل عقدها الأول، تلاعب أمها و تبتسم للمارين، أنا مار أمامها مثل قطار الحياة، لا أمعن النظر في الوجوه فحسب، بل أسبر أغوارها، أنفذ للأعماق، أبحث عن شيء ما، شيء مفقود منذ سنين طويلة. تنشط الذاكرة، تنبعث الذكريات من رمادها، أحثها على الاستيقاظ، أستجدي عطفها علي أجد بين صفحاتها شيء من المعنى. في هكذا أماكن أجدني أعود للوراء، لا أهتم بما هو قادم، لا تستهويني فكرة المستقبل. أنا أعشق اللحظة، أحب أن أؤرخ لها، أن أقبض عليها قبل أن تنفلت من يداي، لا تهمني المشاهد في شيء، لا أركز في أثمنة المنتوجات و لا في الفتياة الموريسكيات اللواتي تجلسن قربي أو تتقاطعن معي في الطريق، بنات تطوان جميلات جدا لكن الجمال الحقيقي هو أن تحتفي بمسلسل حياتك، أن تتهكم على قلق القادم المجهول باستحضار الماضي الذي كنته وقت كنت كذا و كذا !!استوقفني مشهد تلك البنت الجميلة البريئة، دغدغ مشاعري، حرك في دواخلي مشاعر الطفولة، أمعنت فيها النظر على غير عادتي، سبحان الله !! سبحان من يخلق من الشبه الأربعين !! الخالق الناطق!! فجأة وجدتني أعود أدراجي إلى سرداب الذكريات لأزيد من تسعة و عشرين سنة!! رقم مرعب حقيقة، أنفض الغبار عنها، أبتعثها، أحيي عظامها و هي رميم، تترقرق الدمعة في عيني حين أتذكر كم فقدت، و كم من الجمال تساقط مني في رحلتي العبثية هاته !!تذكرت محبوبة الطفولة، مهما جاهدت النفس فلن أستطيع استحضارها كما كانت. حتى لو تربعت على عرش البلاغة لن أتمكن من توصيف مشاعري لحظتها!! باب بيتنا القزديري يعرفها، و أزقة الدوار تعرفها، كل الأشياء تحكي عنها؛ وجه أبيض ناصع و كأنه ماسة تحت ماء، شعر ناعم أسود منسدل قليلا على الكتفين، جسد صغير ممشوق و متناغم، و ابتسامة طفولية بريئة لا تغادر ثغرها الأحمر الشهي !!كانت واحدة من بنات الجيران، درسنا سويا عند الأستاذة سمية، كنت أنتظر الصباح بفارغ الصبر حتى أتوجه نحو بيتهم لمصاحبتها نحو المدرسة، الطريق طويل من دوار بوغابات باتجاه مدرسة أمين لكن طوله لم يكن كافيا لأطفئ عطش الشوق للقاءها، كانت مشاعري نحوها بريئة مثلما هي مشاعرها. نمضي في الصباح الباكر، أمسك بيدها، راحتها ناعمة مثل نعومة خديها، أمعن النظر في أشياءها، عيناها، شفتاها، ساقيها … يسرني كثيرا أن تعانقني، ذراعها على كتفي، نضحك نمرح نقول كل التفاهات، تحكي عن والديها و إخوتها و أحلامها … كانت ثرثارة لكن ثرثرتها لم تكن تزعجني، جميلتي تتكلم كيفما تريد و أنا أذن صاغية !!كانت فتاتي الصغيرة ترتدي تنورات قصيرة تجعلها في عيني أجمل فتياة المدرسة، حينما تركض أمامي و نحن وسط السوق الأسبوعي أجدها أشبه بنسمة هواء عليل، هي سمائي التي وجدتها على الأرض، كنت سعيدا لأن هاته الجميلة تسكن دوارنا القزديري، تأوي هي الأخرى إلى براكة بباب مكسور، هي أيضا تسمع صوت المطر ليلا حينما يداعب أسقفنا المهترئة، كانت مثلي تماما تعشق وقع القطرات على البراريك، هي أيضا تسمعه موسيقى تبعث النشوة في الجسد و الروح.لم تكن حبيبتي كبقية البنات، كانت ودودة و طيبة، كان فيها شيء ما مختلفا، عيناها تحكيان قصة عشق ابتدأت في الطفولة فاغتالتها ظروف العيش و قساوة الواقع، هذا المجتمع الكادح لا يؤمن بحب الاطفال، إنه وضع يحترف الاحباط !!لن أنسى ليلة كنا سويا ببراكتنا ننجز واجباتنا المنزلية، كنا نحاول كتابة الحروف التي أمرتنا أستاذتنا سمية بكتابتها، لم تكن تهمني كثيرا تلك الحروف بقدر ما كانت تهمني هي. كان الفصل شتاءا ، المطر يهطل بشدة، لا يريد التوقف، الأسقف تترنم معه و أنا مزهو بجلوسها قربي، كنا متلاصقين تقريبا، ملمسها ناعم كخرير ماء. أنا لم أكن طفلا كما هو حال باقي الأطفال، كنت أراها زوجتي و خليلتي التي لن تفارقني، لعبتي المفضلة معها كانت لعبة (عروسة و عريس)، كان الامر بالنسبة للكبار مجرد لعب بينما كنت أراه انا واقعا، غافلتها لحظة ثم وضعت يدي على عنقها، كان أبيضا يشبه السماء حين تحتفي بالصفاء، ناعم أحسسته، اكتفيت بلمسه بشكل خفيف كي لا يثير الأمر انتباهها. بعد ذلك تجرأت قليلا و وضعت يدي على خصرها، آه كم كان مثيرا و جذابا، كان رطبا و كانت هي تبتسم غير مكترثة بما أفعل. المطر يكاد يقتلع براكتنا من مكانها، و نحن متعانقين نقلد ما كان يعلق في ذاكرتنا من أفعال الكبار الذين كنا نختلس النظرات إليهم !! تعانقنا يدفعنا الحماس الذي يبثه فينا المطر و سمفونيته الخالدة التي يعزفها على أسقفنا البائسة، تعانقنا و تركنا الكراريس مفتوحة، حرف لام مشوه ينتظر إكمال كتابته، حرف ياء يراقب بعينيه ماذا كنا نفعل، نسينا توصيات الاستاذ سمية و انهمكنا في اللعبة بكل شغف !!إنه حب البؤساء، حب جميل و طفولي، كانت حبيبتي فتاة تفتح أمامك شهية الحياة، تجعل من الأشياء جمالا، تضحك و تمرح طيلة الوقت، لم تكن لديها عقد، كانت فتاة خالية من العقد و المشاكل، كنت أعزها كثيرا أريد أن تكون دائما جنبي. هي زهرة أوركيدا تنثر علي رحيقها، كان الحب و كنا نحن هناك بين أزقة الدوار نحتفي بحبنا، نباهي به نجوم السماء.
إليك يا فتاة طفولتي، إلى الخضرة و الامتلاء، إلى وهج الشمس، و حياء القمر، إلى النجوم حيث تغمزني، أقول فليكن الحب شريعتنا حيث ما كنا و حيثما حللنا و ارتحلنا !!ذ.
- كتبت بمدينة سبتة، الثلاثاء 21 يناير 2020
انحدرت من الفندق الذي آوي إليه، على يميني جبل متوسط العلو، ضباب على قمته كتاج ألماس على رأس أميرة، منازل مرتبة على طوله، فصل الشتاء المطير كساه أخضرا فتحول إلى لوحة فنية يعجز أمامها عباقرة الفنون التشكيلية.
تمشيت قليلا غير قاصد مكانا بعينه، كل أزقة تطوان تدعوك للحب، تشعر كأنها تداعب جسدك كاملا و أنت بين أحضانها، زقاقا بعد زقاق و حارة بعد حارة يروق مزاجي و يعتدل دماغي، طقوس هذا الصباح تستدعي جني الكتابة الذي يسكن بين أضلعي، أرغب في كتابة خواطري على الجدران و أبواب المنازل، هنا الحب مباح و الأحاسيس تنعتق من عقال التفاهة و الابتذال، هنا الحب واجب، موسيقى المدينة، أزقتها و ساحاتها، أوجه الجالسات في المقاهي تدعوك للحب، كيمياء المكان تصنع منك شخصا آخر.
أستقل سيارة أجرة صغيرة شاطئ مارتيل يناديك للاقتراب، المشي على كورنيشه يمارس الغواية على قدماي، لا أريد أن أتوقف، أشعر أني سليب أهيم على وجهي، خطواتي على مهل متتالية، و أنا أمشي و أمشي و أمشي… أنزاح عن كل ما يشغل بالي، أرى فتاة لم تكمل عقدها الأول، تلاعب أمها و تبتسم للمارين، أنا مار أمامها مثل قطار الحياة، لا أمعن النظر في الوجوه فحسب، بل أسبر أغوارها، أنفذ للأعماق، أبحث عن شيء ما، شيء مفقود منذ سنين طويلة. تنشط الذاكرة، تنبعث الذكريات من رمادها، أحثها على الاستيقاظ، أستجدي عطفها علي أجد بين صفحاتها شيء من المعنى. في هكذا أماكن أجدني أعود للوراء، لا أهتم بما هو قادم، لا تستهويني فكرة المستقبل. أنا أعشق اللحظة، أحب أن أؤرخ لها، أن أقبض عليها قبل أن تنفلت من يداي، لا تهمني المشاهد في شيء، لا أركز في أثمنة المنتوجات و لا في الفتياة الموريسكيات اللواتي تجلسن قربي أو تتقاطعن معي في الطريق، بنات تطوان جميلات جدا لكن الجمال الحقيقي هو أن تحتفي بمسلسل حياتك، أن تتهكم على قلق القادم المجهول باستحضار الماضي الذي كنته وقت كنت كذا و كذا !!استوقفني مشهد تلك البنت الجميلة البريئة، دغدغ مشاعري، حرك في دواخلي مشاعر الطفولة، أمعنت فيها النظر على غير عادتي، سبحان الله !! سبحان من يخلق من الشبه الأربعين !! الخالق الناطق!! فجأة وجدتني أعود أدراجي إلى سرداب الذكريات لأزيد من تسعة و عشرين سنة!! رقم مرعب حقيقة، أنفض الغبار عنها، أبتعثها، أحيي عظامها و هي رميم، تترقرق الدمعة في عيني حين أتذكر كم فقدت، و كم من الجمال تساقط مني في رحلتي العبثية هاته !!تذكرت محبوبة الطفولة، مهما جاهدت النفس فلن أستطيع استحضارها كما كانت. حتى لو تربعت على عرش البلاغة لن أتمكن من توصيف مشاعري لحظتها!! باب بيتنا القزديري يعرفها، و أزقة الدوار تعرفها، كل الأشياء تحكي عنها؛ وجه أبيض ناصع و كأنه ماسة تحت ماء، شعر ناعم أسود منسدل قليلا على الكتفين، جسد صغير ممشوق و متناغم، و ابتسامة طفولية بريئة لا تغادر ثغرها الأحمر الشهي !!كانت واحدة من بنات الجيران، درسنا سويا عند الأستاذة سمية، كنت أنتظر الصباح بفارغ الصبر حتى أتوجه نحو بيتهم لمصاحبتها نحو المدرسة، الطريق طويل من دوار بوغابات باتجاه مدرسة أمين لكن طوله لم يكن كافيا لأطفئ عطش الشوق للقاءها، كانت مشاعري نحوها بريئة مثلما هي مشاعرها. نمضي في الصباح الباكر، أمسك بيدها، راحتها ناعمة مثل نعومة خديها، أمعن النظر في أشياءها، عيناها، شفتاها، ساقيها … يسرني كثيرا أن تعانقني، ذراعها على كتفي، نضحك نمرح نقول كل التفاهات، تحكي عن والديها و إخوتها و أحلامها … كانت ثرثارة لكن ثرثرتها لم تكن تزعجني، جميلتي تتكلم كيفما تريد و أنا أذن صاغية !!كانت فتاتي الصغيرة ترتدي تنورات قصيرة تجعلها في عيني أجمل فتياة المدرسة، حينما تركض أمامي و نحن وسط السوق الأسبوعي أجدها أشبه بنسمة هواء عليل، هي سمائي التي وجدتها على الأرض، كنت سعيدا لأن هاته الجميلة تسكن دوارنا القزديري، تأوي هي الأخرى إلى براكة بباب مكسور، هي أيضا تسمع صوت المطر ليلا حينما يداعب أسقفنا المهترئة، كانت مثلي تماما تعشق وقع القطرات على البراريك، هي أيضا تسمعه موسيقى تبعث النشوة في الجسد و الروح.لم تكن حبيبتي كبقية البنات، كانت ودودة و طيبة، كان فيها شيء ما مختلفا، عيناها تحكيان قصة عشق ابتدأت في الطفولة فاغتالتها ظروف العيش و قساوة الواقع، هذا المجتمع الكادح لا يؤمن بحب الاطفال، إنه وضع يحترف الاحباط !!لن أنسى ليلة كنا سويا ببراكتنا ننجز واجباتنا المنزلية، كنا نحاول كتابة الحروف التي أمرتنا أستاذتنا سمية بكتابتها، لم تكن تهمني كثيرا تلك الحروف بقدر ما كانت تهمني هي. كان الفصل شتاءا ، المطر يهطل بشدة، لا يريد التوقف، الأسقف تترنم معه و أنا مزهو بجلوسها قربي، كنا متلاصقين تقريبا، ملمسها ناعم كخرير ماء. أنا لم أكن طفلا كما هو حال باقي الأطفال، كنت أراها زوجتي و خليلتي التي لن تفارقني، لعبتي المفضلة معها كانت لعبة (عروسة و عريس)، كان الامر بالنسبة للكبار مجرد لعب بينما كنت أراه انا واقعا، غافلتها لحظة ثم وضعت يدي على عنقها، كان أبيضا يشبه السماء حين تحتفي بالصفاء، ناعم أحسسته، اكتفيت بلمسه بشكل خفيف كي لا يثير الأمر انتباهها. بعد ذلك تجرأت قليلا و وضعت يدي على خصرها، آه كم كان مثيرا و جذابا، كان رطبا و كانت هي تبتسم غير مكترثة بما أفعل. المطر يكاد يقتلع براكتنا من مكانها، و نحن متعانقين نقلد ما كان يعلق في ذاكرتنا من أفعال الكبار الذين كنا نختلس النظرات إليهم !! تعانقنا يدفعنا الحماس الذي يبثه فينا المطر و سمفونيته الخالدة التي يعزفها على أسقفنا البائسة، تعانقنا و تركنا الكراريس مفتوحة، حرف لام مشوه ينتظر إكمال كتابته، حرف ياء يراقب بعينيه ماذا كنا نفعل، نسينا توصيات الاستاذ سمية و انهمكنا في اللعبة بكل شغف !!إنه حب البؤساء، حب جميل و طفولي، كانت حبيبتي فتاة تفتح أمامك شهية الحياة، تجعل من الأشياء جمالا، تضحك و تمرح طيلة الوقت، لم تكن لديها عقد، كانت فتاة خالية من العقد و المشاكل، كنت أعزها كثيرا أريد أن تكون دائما جنبي. هي زهرة أوركيدا تنثر علي رحيقها، كان الحب و كنا نحن هناك بين أزقة الدوار نحتفي بحبنا، نباهي به نجوم السماء.
إليك يا فتاة طفولتي، إلى الخضرة و الامتلاء، إلى وهج الشمس، و حياء القمر، إلى النجوم حيث تغمزني، أقول فليكن الحب شريعتنا حيث ما كنا و حيثما حللنا و ارتحلنا !!ذ.
- كتبت بمدينة سبتة، الثلاثاء 21 يناير 2020