فى أغسطس 1954 صدرت مجموعة "أرخص ليالى" للكاتب الشاب يوسف ادريس عن سلسلة الكتاب الذهبى، وبعدها بشهور قليلة، وبالتحديد فى ديسمبر من العام نفسه، صدرت مجموعة "العشاق الخمسة" للأديب الشاب يوسف الشارونى، عن السلسة ذاتها أيضا، سلسلة "الكتاب الذهبى"، وكانت هذه السلسلة تصدر عن نادى القصة، برعاية مجلة روز اليوسف، نادى القصة الذى كانت تديره أقوى كتيبة أدبية فى مصر، منهم نجيب محفوظ ود طه حسين، ويوسف السباعى، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور، وغيرهم، ومجلة روز اليوسف، كانت أهم المجلات السياسية فى ذلك الوقت، وعلى رأسها النجم اللامع إحسان عبد القدوس، أى أن السلسلة كانت محمية أدبية ذات شأن كبير، وبهذين الإصدارين للكاتبين الطليعيين: يوسف ادريس ويوسف الشارونى، تحددت معالم معسكرين سرديين قويين فى ميدان القصة القصيرة فى مصر، وربما فى العالم العربى كذلك.
بعد ذلك العام الحاسم 1954، والذى طبع نفسه على ظواهر كثيرة فى كافة المجالات، منها السياسى بشكل أساسى، وذلك بعد زوال أو تأميم الأزمة الطاحنة التى أسميت إعلاميا "أزمة مارس 1954"، وأصبح لليسار مقاعد مستحقة وشبه ثابتة ووثيرة فى بيت السلطة، وبالتالى لم يكن لليمين القديم أى نفوذ فى ذلك المجال، كما أن ظهور رواية "الأرض" للشاعر والقاص عبد الرحمن الشرقاوى، وأشعار صلاح جاهين، وكتابات أحمد بهاء الدين الصحفية العميقة، وكتابات محمود أمين العالم ورفاقه فى مجال النقد، ومقالات صلاح حافظ النارية، ومسرحيات نعمان عاشور وألفريد فرج الواقعية، انحازت أعداد كبيرة من المثقفين والكتّاب والمبدعين إلى ذلك التيار الجارف، والأقرب لروح المرحلة.
ورغم طغيان ذلك التيار الذى أطلق عليه النقاد والباحثون تيار "الواقعية الجديدة"، وكان الشرقاوى ويوسف ادريس على رأس هذا التيار باختلافات ما تتعلق بالتقنيات، ولكنها تتفق فى الجوهر والتوجه، انبثقت كتابات أدبية أخرى على هامش ذلك التيار، ولكنها كانت كتابات قوية ومؤثرة ولها حضور فنى عميق، ولكنها لم تستطع أن تنافس على المستوى العام، وكان يمثّل هذا التيار الفاعل بشكل عميق الكاتب يوسف الشارونى، وعلى هامش هذين التيارين كانت هناك أسماء كثيرة جدا تبدع فى فن القصة القصيرة بامتياز، تبدع وتنشر فى حالة تشبه الصمت، وبالتالى عانت من التجاهل والإهمال الواضحين، ولم يكتب لها الذيوع المطلوب لكى يقرأها آخرون، ولأن النقاد كانوا مشغولين بالظواهر الأعلى صوتا، وكان من بين تلك الأصوات الخافتة أسماء مثل بدر نشأت، ووحيد النقاش، وأبو المعاطى أبو النجا، وسليمان فياض، وصبرى موسى، وادوار الخراط، وعبدالله الطوخى وغيرهم.
وكان عقد الخمسينات كله منشغلا على المستوى الأدبى، بفن القصة القصيرة، وبالطبع كانت المجلات الأدبية المتخصصة، تنشر قصصا كثيرة، مثل مجلات "الرسالة الجديدة، الأدب، الشهر، قصتى، قصص للجميع، نداء القصة، وغير ذلك من مجلات"، فضلا عن أن الصحف والمجلات الأخرى مثل صحف الجمهورية والمساء وآخر ساعة والمصور والتحرير وحواء والإذاعة، لا يخلو عدد من تلك المجلات من قصة أو قصتين، كذلك كانت هناك متابعات نقدية دائمة لهذا الفن، هذا عدا المجموعات القصصية التى كانت تصدر تباعا، وتزايد صدورها بشكل كبير فى نهاية العقد الخمسينى.
الهامش والمتن:
لذا عندما لاح فى الأفق بعض كتّاب شباب جدد، لم يجدوا مكانا يرحب بهم، أو ينشر لهم، أو يستضيفهم فى أى جماعة أو صحيفة أو مجلة أو دار نشر، وظلّت أصواتهم تدوّى فى زحام شديد الوطأة، واستئثار بكل المكاسب التى آلت للسابقين فقط، ولم يكن لهذا الجيل الذى جاء بعد توزيع الأنصبة والمكاسب والاتجاهات والمقاعد الوثيرة والبرامج الإذاعية والأعمدة الصحفية، وإذا كانت هذه المكاسب استعصت على الكتاب الجدد بشكل عام، فمابالنا بهؤلاء الكتّاب الشباب الذين أتوا من الأقاليم، وجاءوا بكل أحلامهم إلى المدينة العامرة، والتى تسمى القاهرة، والتى تنطوى على كل شئ فى الدنيا، بالطبع لم يجدوا سوى التجاهل والصدود، رغم أن بعض الصحف مثل جريدة المساء على وجه الخصوص، تحدثت فى هذا الشأن، ولكن تلك التحقيقات والكتابات لم تجد آذانا تسمع، ولا عيونا ترى، ولا قلوبا تشعر بهؤلاء النازحين من بلادهم إلى بلاد المجد والسؤدد.
مدرسة عيش وملح:
لكل ذلك كانت مجموعة القصص "عيش وملح"، والتى تكاتف ستة من هؤلاء الكتّاب المطرودين من جنّة القاهرة، ليصدروا مجموعة مشتركة، ويقدم كل واحد منهم كاتبا آخر، واستعانوا بكاتب كان دائما ينتصر للكتاب الجدد، والكتابة الجديدة، ويحنو بشكل أبوى وفنى طوال مسرته العطرة، هذا الكاتب، والذى يعتبر الأب الفعلى لرعايته للجيل الذى أطلق عليه فيما بعد "جيل الستينات"، وكان قائد هذه المجموعة "عيش وملح" هو الشاب محمد جاد، ذلك الكاتب الذى لم يتجاوز عمره ستة وعشرين عاما، يصفه فاروق منيب فى مقال كتبه عنه فى جريدة المساء بتاريخ 16 يوليو 1962 قائلا : "..محمد جاد أديب شاب نزح من إحدى بلاد محافظة المنوفية، بركة السبع، ولكنه لم ينقطع عن بلده أبدا، فهو موصول الصلة بها دوما، وكلما كشّرت له المدينة هرب إلى بلدته ليعيش فى كنفها راضيا بالقليل، مؤمنا بالدور الذى يؤديه هناك، هو شاب أسمر قصير، ملامحه غليظة، وفى صوته جفاف الفلاحين، ولكن قلبه الخافق، يشع بالطيبة والحنان وحب الناس، يمتلئ بكنوز بلده الزاخر، الثقة والأمل والصبر على الشدائد.. وصوته الجاف الغليظ يشعر الانسان بصدقه وحيائه حين يتحدث عن الريف وآماله ومستقبله ، أما القصص التى يكتبها محمد جاد فهى أيضا تحمل بين جوانحها هذه الروح المطحونة بالحزن، القلقة بالضياع والتمرد والسخرية المريرة المكشوفة، وهو يستخدم فى بعض الأحيان ألفاظا كالحجارة .. كالظلط، ولكنه يجدها معبرة عن نفسه المضطربة الشقية.."، هذه فقرة من مقال طويل كتبه فاروق منيب عن محمد جاد، بصدد رسالة من جاد يتحدث فيها عن بلده بركة السبع، ويطالب وزارة الثقافة بالاهتمام بهذا البلد الذى يضج بالمواهب، تلك المواهب المتنوعة فى الشعر والقصة والمسر والغناء.
ورغم أن الأدباء الستة المشتركين فى الكتاب كانوا ساخطين على كافة الكتّاب الكبار والراسخين، إلا أنهم ذهبوا للأب الروحى يحيي حقى، والذى رحّب بهم، ووافق أن يكتب لهم مقدمة تنطوى على قدر كبير من الاحتفاء والتشجيع والشجاعة، وأقصد "الشجاعة" التى تدفع يحيي حقى لكى يكتب تلك المقدمة الطيبة، لشباب مجهولين تماما، ومنهم من لم ينشر على وجه الإطلاق، ومنهم من نشر قصة أو قصتين، إنها مقدمة لا تخضع لأى حسابات، فلا أصحاب القصص كانوا نجوما ليضيفوا إلى المقدم أى بريق، ولم يكونوا بالطبع أصحاب أى مكانة أو مكان فى جريدة أو مجلة، بل هم "كادحون يكتبون عن كادحين" كما وصفهم حقى فى مقدمته، وربما تكون تلك الأسباب التى رصدناها، والتى دفعت يحيي حقى للكتابة عنهم ولهم، هى نفسها التى جعلت آخرين يعزفون عن الاحتفاء بهؤلاء الكتاب.
والكتاب يشارك فيه كل من "السيد خميس شاهين "سيد خميس"، عباس محمد عباس، محمد جاد، الدسوقى فهمى، محمد حافظ رجب، عز الدين نجيب، ومن الواضح أن محمد جاد هو الذى كان المتمحمس الأعلى، إذ أن الكلمة التى كتبها عن زميله الدسوقى فهمى، هى التى تم تداولها كثيرا فى الصحف والمجلات آنذاك، واعتبرها كثيرون وعلى رأسهم الناقد فؤاد دوارة الذى كتب دراسة طويلة عن المجموعة، ونشرها على حلقتين فى جريدة المساء، كأنها البيان الأول فى الجيل القادم، ثم أعاد نشرها فى كتابه "فى القصة القصيرة" الذى صدر فيما بعد عام 1966، ونشر ضمن دراسته تقديم جاد لزميله الدسوقى فهمى، والتى كانت كلمة حادة وحاسمة، ولم تكن معبرة فقط عن محمد جاد، أو عن زملائه المشاركين معه فى المجموعة، بل كانت معبرة عن كافة أبناء الجيل الذين لم يجدوا مكانا ولا مكانة فى ذلك الزمان الصعب.
محمد جاد صاحب صيحة "نحن جيل بلا أساتذة":
وفى الكلمة المقتضبة التى كتبها آثر ألا يتكلم عن زميله الدسوقى، لأنه رأى أن قصصه هى أفضل من يقدمه، رغم أنه سرد بعض صفات له تكاد تكون صفات كاريكاتورية، وهذا الوصف لا يدل على الدسوقى، بقدر ما تدل على محمد جاد نفسه، الذى يرى الناس بتلك الطريقة الكاريكاتورية أو المختصرة، إذ يقول عنه "..إنه طالب، أسمر اللون من بلده، لا يكره الشاى، ويحب العرقسوس، ولا مانع عنده من أن يتزوج عندما يكبر.."، وهكذا يسترسل فى ذلك الوصف المقتضب، وعندما يتحدث عن جماعتهم المشاركة فى المجموعة يقول: (..فقد حدث أن لنا حياة وتجارب، ولما كنا قد عرفنا كيف نمسك القلم، ولما كانت لدينا أشياء نريد أن نقولها، ونؤمن بما نودّ أن نقوله، ونثق فى أنفسنا، ونسمع بعد ذلك بما يسمونه التواضع..فقد كتبنا ومزقنا.. ومرّت سنوات حدث أن راجعنا أنفسنا خلالها لنتأكد من حقيقة ما بها.. ولما لم يكن لنا غير الحياة التى عشناها والتى يعيشها معنا الملايين، ولما لم تكن الحياة وهما بعد.. فقد قلم فى رأسنا أن ما نصنعه ليس وهما بحال...وأفقنا عن أكوام الورق، وزجاجات الحبر.. والدم الذى نزفناه، والليالى التى فاتت مثقلة بأحلامنا وبأمل من نعبّر عنهم.. وقيل لنا: أطرقوا الأبواب، وفعلنا، ولكن لم يسمعوا..! لحظتها ظننا أنه ربما تكون قد أخذتهم _تعسيلة_ أو ربما كان وابورهم والعا.. وقلنا فلنسترح ونعاود الطرق.. ولكننا لم نسترح، وإنما وجدناها فرصة لمزيد من العمل.. وفكرنا فى أن نيأس فلم نملك حتى ذلك أيضا..وعدنا ندق الأبواب بأيدينا وأرجلنا .. وكانوا قد أعطوا وابورهم نفسا ، ولم نحتمل وشّه!! فوضعنا الذوق جانبا، ودخلنا الجامع بالأحذية، ودنسنا بلاط صاحبة الجلالة بأقدامنا الريفية ..
وابتسموا لنا فى طيبة وربتوا علينا .. قلنا فى أنفسنا: هؤلاء هم الأساتذة حقا.. فلنتعلم .. إلا أن واحدا منهم قال: "اذكروا دائما أن من الناس من أفنى عمره يطلب ودى، فما قبلت، وأرى أنكم تدخلون قلبى بسهولة ، ولا أستبعد أن تصبحوا أصدقائى .. وهى غاية فى حد ذاتها ، فلتكافحوا من أجلها ودعوا القصص جانبا، فما أصبح الفن والأدب مما يلهو به العيال بعد.."، وما كان من هذا الكاتب وحده الذى يرى الفن فى بلادنا احتكارا شخصيا لم يخلق بعد الذى سيصل إلى كهنوته سواه.. وإنما هم كثيرون... ولكوننا أحداثا بعد.. لم نفهم تلك الحكم التى ألقوها على أسماعنا، وبالتالى لم نؤمن بها.. ومن إحساسنا بأننا قد أصبحنا فى وسط هؤلاء نغمة جديدة متميزة ، ولونا خاصا..).
اقتبست هذه الكلمة من بيان محمد جاد الذى قدّم به زميلا، لكى أؤكد على أن الصرخة التى نسبت إلى محمد حافظ رجب "نحن جيل بلا أساتذة"، كان مطلقها الأول محمد جاد، وهو الذى أسّس لفكرة الاستقلال، وهو الذى فضح ذلك التجاهل الذى أبداه هؤلاء الأساتذة لذلك الجيل القادم والصاعد، ولظروف ما شاع أن محمد حافظ رجب هو الذى أطلق ذلك الشعار، ولكن ابراهيم أصلان أيضا ينفى أن المقولة لحافظ رجب، ولكنه ينسبها إلى سيد خميس، إذ يقوا ابراهيم أصلان فى كتابه "خلوة الغلبان": (..وهو _يقصد حافظ رجب_من نسبت له تلك الصيحة الشهيرة "نحن جيل بلا أساتذة"، والتى اتخذت علامة على جيل كامل من الكتاب، بينما كان قائلها الحقيقى هو الناقد سيد خميس، وهو الفقير المشاكس الذى تقدم الصفوف أعزل إلا من إيمانه بما يكتب.."، وفى هذا السياق يقول أصلان : "..وكان الموهوب جدا محمد جاد يعيش فى شقة أرضية بنفس الحىّ _يقصد العجوزة_ حيث التقيت لأول مرة بالشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم ويحيي الطاهر عبدالله والصديق الكاتب سيد خميس الذى كانت له مهام تثقيفية فى إطار الجماعة كلها..".
أثار بيان محمد جاد كثيرا من اللغط والمناقشات الحادة، وصيغ من هذا البيان أو التقديم أو الصرخة ما تم التعارف عليه "نحن جيل بلا أساتذة"، وضمن هذه المناقشات ما كتبه فؤاد دوارة فى دراسته المطولة، والتى نشرت على عددين فى جريدة المساء، وكان ذلك فى 18، و25 مايو 1961، وجاء عنوان الفقرة التى ناقش فيها بيان محمد جاد "جيل بلا أساتذة" إذ قال : "..ولا شك أن الكاتب محق فى كفره بأولئك الأساتذة الزائفين، ولكن ألا نبعد عن الإنصاف كثيرا حينما تدفعنا حرارة الشباب إلى التعميم على هذا النحو، وقذف كل الأساتذة بالحجارة ومن بينهم كثيرون تعلمنا منهم وأورثونا حب الكلمة والرغبة الملحة فى التعبير بها والمعاناة من أجل أن نصنع منها أشكالا جميلة تعبر عن أزمتنا وآمالنا.. هل هؤلاء الكتاب الستة يمثلون حقا جيلا بلا أساتذة كما توحى هذه الكلمة المنفعلة..؟ ، الإجابة واضحة لا تحتاج إلى جدل كثير، فهم مهما تميزوا بلون خاص، ومهما كفروا بجيل الأساتذة المتعالين، لا شك فى أنهم قد تأثروا على الرغم من ذلك بكثير من أساتذة الكلمة هنا وفى الخارج، بل لعلهم تأثروا دون أن يدركوا بنفس ذلك الأستاذ المغرور الذى أشار إليه محمد جاد فى كلمته..".
ودون الاسترسال فى مناقشة فؤاد دوارة المثمرة لمحمد جاد، نستطيع بسهولة أن نقرر أن كلمة محمد جاد حول ما تعرضوا له من عنت فى محاولات النشر أو لفت الانتباه، أثارت اللغط والمناقشات، وأن مناقشة فؤاد دوارة لها وله، واختيار العنوان اللافت "جيل بلا أساتذة"، جعل القضية موضع نظر، ومحل جدل دائم، وكان محمد حافظ رجب ينشر قصصه المثيرة فى كثير من الصحف والمجلات، وشاعت حكاية أنه كان بائعا للب على محطة الرمل، ولذا كان موضعا لانشغال النقاد وجدلهم، للدرجة التى أصبح عنوانا ورمزا للجيل القادم، وكان رجب يعبّر دوما عن أنه ورفاقه يعانون من عدم رعاية الجيل السابق، فاختلط الأمر على الجميع فنسبوا له صيحة أو صرحة "نحن جيل بلا أساتذة".
يحيي حقى الراعى الأعظم:
فى دراسة فؤاد دوّارة للمجموعة التى أصدرها الكتّاب الشباب، واختلف فيها مع صيحة محمد جاد فى كفره المطلق والحاسم بجيل الأساتذة، ونفيهم تماما، وذكر فى متن حديثه أن دليلا واضحا وشاخصا أمامنا فى تعاون بعض نماذج من الجيل السابق، وخصّ بالذكر رفيع المقام الكاتب يحيي حقى، وبالطبع فإن ليحيي حقى الكثير من الأفضال فى رعاية الأجيال اللاحقة له والسابقة عليه فى الوقت نفسه، فهو قام بتقديم مجموعة كبيرة من الكتّاب الجدد، منهم محمد سالم فى مجموعته القصصية "أستاذ فى الحارة"، ومجموعة "تعلمت الحب" القصصية لنوال السعداوى، ومسرحية "شرف المهنة" لمحمد جلال كشك، ومجموعة قصصية للشاعرة ملك عبد العزيز، كما أنه قدّم إبداعات لكتّاب سابقين ورواد من زمن آخر مثل محمود طاهر لاشين، ومحمود طاهر حقى وغيرهم، ومن ثم لم يتلكأ أو يتلعثم أو يتعالى أو يستنكر، عندما ذهب إليه هؤلاء الشباب يطلبون منه أن يكتب لكتابهم المشترك مقدمة تكون بمثابة جواز المرور الذى يعطيهم شرعية الوجود فى تلك الحياة الأدبية، وقد كان، وافق يحيي حقى وكتب المقدمة، وصدرت المجموعة عام 1960، وكانت فاتحة ونموذجا للتحدى، والقاعدة التى أطلقت أول صيحة فى جيل الستينات.
استهل يحيي حقى المقدمة بقوله : "هذه المجموعة ما أحبها إلىّ، إنها تنطق بمعان حلوة جمّة، عطر الربيع، وندى الزهر، وهبة النسيم تنشط له النفس، يبدد خمولها ويجدد الأحلام، لم تستأثر بها أنانية فرج، يظل يصحبنا_ ارتفع أو هبط_ من أولها لآخرها، إنما هى عمل جماعى متساند، تعاون عليه ستة من الأدباء فى زهرة العمر، منحها كل منهم خير ماعنده وإن قلّ، إن كانت صداقة الشباب_ما أشهى طعمها_ قد ألفّت بين قلوبهم.."، وراح يحيي حقى يطرى على روح التعاون والتكاتف التى تتحلى بها هذه المجموعة العفية من الشباب، والتى أخلص كل واحد منهم للآخر، لأنه استشف أن المقدمات القصيرة التى كتبها كل واحد للآخر، فيها قدر من الإخلاص والحماس والمقاومة، تلك المقاومة التى تكمن خلف كل إنجاز بشرى، وبالتأكيد فالفن يحتاج إلى قدر كبير من الإخلاص والتفانى والصبر، حتى يستطيع هؤلاء الأدباء أن يتجاوزوا كافة العوائق التى تقابلهم فى الطريق.
وبعد هذه المقدمة التى وضع فيها يحيي حقى طاقته العاطفية، راح يصف مجموعة الشباب، ويرصد القسمات التى تجعلهم متشابهين، فالسن متقارب، والبئة تكاد تكون واحدة، ونوع الثقافة ومستواها المتقارب عند الجميع، ومن ثم لا غرابة _من وجهة نظر حقى_ أن يحاول كل منهم أن يستقل كل منهم بأسلوب يخصه، ولذلك فهو يرى بأنهم استطاعوا أن يتميزوا فى إبداعاتهم، رغم تشابه البيئة والجذور والثقافة.
ويرى أنهم يملكون حسّا بصريا جديدا على فن القصة القصيرة، كذلك هناك جدّة فى الأسلوب والشكل والموضوع، وابتعدت أساليبهم عن الزخارف والاستطرادات الزائدة ونزعة الوعظ والإرشاد والخطب المنبرية، والتى لا يكاد يخلو منها إنتاج كاتب مبتدئ متحمس، ويستطرد حقى : "..ومن حيث الشكل تجد عندهم فهما حسنا للرباط الذى تتجمع حوله أجزاء القصة، إن تغيّرت النغمات بتغيّر أماكنها، فإنما يجمعها لحن عام واحد لا يخفى على الأذن وجوده وإيقاعه، وعندهم توازن جميل بين الرد والوصف والحوار، وانكشاف المعانى يتم بتدرج لا تنغرز الأقدام فتتريث طويلا فى أرض زلقة ولا تقب فتطوى ما كان ينبغى من كلام يتم به الفهم وتتبين العلة، أما عن الموضوع فإنهم لا يكتفون بالتزام الصدق وانبعاث التعبير عن التجربة لا عن خيال، بل سترى من هذه القصص أسميها قصص الكادحين عن الكادحين..".
ولا يتوقف حقى عن اكتشاف ورصد معالم تسم هذه المجموعة، التى استطاعت أن تقفز هذه الخطوة الجادة فى ثبات، هذه المعالم والسمات تصلح لتكون بداية تيار، بل نواة مدرسة أسماها يحيي حقى "مدرسة عيش وملح"، حسب قصة أحدهم وهو الكاتب عباس محمد عباس، ورغم أن المقدمة الفائقة الشجاعة والحماس استفاضت فى رصد هؤلاء الشباب، إلا أنها لم تقف عند كل كاتب وإبداعه، وآثر يحيي حقى أن يضع خيطا فاصلا بين قصص هذه المجموعة، وقصص من سبقوهم فى الكتابة، وربما هذا الزعم أو الرأى لا يأتى إلا من كاتب وفنان فى جرأة ولباقة ونعومة وأبوية يحيي حقى، الذى ظل راعيا لهذا الجيل طوال عقد الستينات بأكمله، فأفسح لكتّاب هذا الجيل مجلة "المجلة" التى كان يترأس تحريرها، ونشر قصصا لكافة أبناء هذا الجيل، بل إنه أعدّ عددا كاملا وتاريخيا فى أغسطس عام 1966 لأبناء هذا الجيل، ونشر قصصا لهؤلاء الشباب، وخصّص لكل قصة شاب من هؤلاء، كاتبا كبيرا يكتب عنها ما يراه فى قصة الكاتب الشاب، وكان من هؤلاء نجيب محفوظ، الذى عقّب على قصة "أصيلا" لجميل عطية ابراهيم، ود شكرى عياد الذى عقّب على قصة "بحيرة المساء" لابراهيم أصلان، ويوسف الشارونى الذى عقّب على قصة "ثلاث شجيرات تمر برتقالا" ليحيي الطاهر عبدالله، بيبنما عقّب هو نفسه على قصة "الكرة ورأس الرجل" لمحمد حافظ رجب، رغم اختلافه مع المنطلق الذى اتخذته القصة كمنهج لها، ووصفها بأنها قصة سيريالية، وكان العدد دسما ومفعما بالحماس الذى جعل الأمل يدبّ بقوة فى روح جيل الستينات، وهذا يدفعنا للقول بأن يحيي حقى هو الراعى الأعظم لجيل الستينات.
قصص محمد جاد:
ورغم أن يحيي حقى لم يتوقف عند كل كاتب وكتابته، إلا أنه كثّف فأجاد وأوضح وأثبت أن ثمة تيارا جديدا يتخلق، ولخّص السمات المشتركة فأفاد، وترك بصمته الفائقة الوضوح فى روح هؤلاء الكتّاب، وكانت لكل كاتب من المشاركين قصتان، وقصتا محمد جاد كانتا "أبو رفاعى، وأم السعد"، ونستطيع أن نقول بالفعل أنه كاتب كادح يكتب عن كادحين مثلما وصف يحيي حقى غالبية الكتّاب، فأبو رفاعى بطل القصة الأولى لم يكن له حظ الانتظام فى عمل، وقد التقى ببطل القصة فى الأتوبيس الذى يقلع من بلدته لكى يأتى إلى القاهرة، وفى الطريق كان "أبو رفاعى" الأرزقى قد استخدم أذن الراوى لكى يحكى له قصة حياة كاملة، ويلقى عليه بضعة حكايات صغيرة، الأهمية هنا لا تكمن فى معنى الحكايات، رغم مغزاها العميق، ولا تأتى الأهمية من طرافة أو مأساوية الحكايات، رغم أنها تنطوى على ذلك بضراوة، لكن الأهمية تكمن فى الأسلوب والبناء الذى نلمح فيه ذلك البعد الإدريسى، حيث أن البطل يظلّ يحكى ويحكى ويترك سامعه فى النهاية وهو فى حالة اندهاش، ولكن الفارق الأساسى بين جاد وادريس، أن محمد جاد أراد أن ينقل لنا الريف ولهجته وثأثأة ناسه حرفيا، ودون إملال، ودون تلك الواقعية الفوتوغرافية الفجة، وربما هذا هو الذى جعل فؤاد دوارة يعتبر أن تلك الواقعية واضحة وصريحة وهى أضعف حلقة فى القصة، وأرى أن هذا الرأى كان قاسيا، حيث اعتبر فؤاد دوّارة أن البيان الذى كتبه محمد جاد أهم من قصصه، ولكنه رأى أيضا أن ذلك الكاتب الشاب كان مندفعا فى قصته، كما كان مندفعا فى بيانه، وأسدى له نصيحة، وهى أن الفن يختلف عن الكتابة النثرية، ويبدو أن فؤاد دوارة _رغم تعاطفه_ لم يخرج عن أجندة الجيل السابق، ذلك الجيل الذى كان يعمل وفق "مازوة" تدرك أبعاد القصة من قبل كتابتها، ولكن هذا الجيل بكل كتّابه تقريبا، ينطلقون من وقائع ومفردات مختلفة عن الجيل السابق، ويريدون أن يعبروا عن أنفسهم بطرائقهم الخاصة.
فى القصة الثانية، كانت أم السعد "الطفلة" التى تلعب مع رفيقاتها ورفاقها الأطفال، تكبر رويدا رويدا، وكانت الأم تخشى عليها ذلك اللعب، وكانت الأم تخاف أن يطول المقام بابنتها فى بيتهم، وهكذا يفلت الزواج من ابنتها، ولذلك فقد دفعت الوالد لكى يزوّج ابنته الطفلة، والتى لم تتجاوز عامها الثالث عشر، ورحلت "أم السعد" التى لم ولا تدرك معنى ذلك الزواج، ولكنها راحت تتعود على تلك الحياة الجديدة، فزوجها كان يعمل طبّاخا فى أحد الأديرة البعيدة، ذلك الدير المنقع تماما عن حياة الناس، وكأن الراوى أراد أن يعطى بعدا رمزيا فاجعا للقطيعة التى حدثت للطفلة فجأة ودون سابق إنذار، وكما لاحظنا فى القصة السابقة أن الكاتب لا يريد أن يهتف أو يعظ أو ينبّه كما كان يفعل كتّاب آخرون، ولكنه كان يجرّب ذلك الأسلوب الجديد فى الكتابة، وهو انسجام القيم الريفية البالية ومقاومتها فى الوقت ذاته، مع الحوار الذى كان يجريه فى القصة، وأزعم أن الكاتب نجح وترك قدرا من المتعة والأسى فى الوقت ذاته، وأظن أن هذا هو المطلوب فى الفن، وإن كنت لا أزعم أن الفن فى عمومه، لا بد أن يخضع لمطالب القارئ أو المتلقى أو الفكرة السياسية، وهذا مافعله محمد جاد فى قصتيه البديعتين، وهذا ماجعل ابراهيم أصلان لم يكتف بأن يقول محمد جاد الموهوب، ولكنه أضاف "جدا" إلى وصفه بالموهوب، لكى يؤكد على تلك الموهبة التى لم تستكمل كل طرحها، إذ أن محمد جاد انشغل بموضوعات أخرى عديدة، كان يعرفها كل أبناء جيله، ونشير فقط إلى رعايته شبه الكاملة لأبناء بلدته بركة السبع، ومحاولة توفير كافة صنوف الحماية التى توفّر لهم كل سبل التعبير، وله فى ذلك شوط بعيد، وكذلك هو أحد المكتشفين الأوائل للشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، ونستطيع أن نقول أن الانطلاقة الأولى والعظيمة لأغانى الشيخ إمام كانت من بركة السبع، وقد كتب عن ذلك كثيرون، كما كتب محمد جاد نفسه مقالا سريعا ولكنه كان مكثفا عن ذلك الاكتشاف المذهل فى مجلة القاهرة أغسطس 1995، ولذلك يحتاج محمد جاد إلى إعادة اعتبار له، حيث أنه من الكتّاب والمثقفين الذين وجدوا أنفسهم فى رعاية الآخرين، أكثر مما كان يرعى موهبته هو ونفسه.
شعبان يوسف / مصر
بعد ذلك العام الحاسم 1954، والذى طبع نفسه على ظواهر كثيرة فى كافة المجالات، منها السياسى بشكل أساسى، وذلك بعد زوال أو تأميم الأزمة الطاحنة التى أسميت إعلاميا "أزمة مارس 1954"، وأصبح لليسار مقاعد مستحقة وشبه ثابتة ووثيرة فى بيت السلطة، وبالتالى لم يكن لليمين القديم أى نفوذ فى ذلك المجال، كما أن ظهور رواية "الأرض" للشاعر والقاص عبد الرحمن الشرقاوى، وأشعار صلاح جاهين، وكتابات أحمد بهاء الدين الصحفية العميقة، وكتابات محمود أمين العالم ورفاقه فى مجال النقد، ومقالات صلاح حافظ النارية، ومسرحيات نعمان عاشور وألفريد فرج الواقعية، انحازت أعداد كبيرة من المثقفين والكتّاب والمبدعين إلى ذلك التيار الجارف، والأقرب لروح المرحلة.
ورغم طغيان ذلك التيار الذى أطلق عليه النقاد والباحثون تيار "الواقعية الجديدة"، وكان الشرقاوى ويوسف ادريس على رأس هذا التيار باختلافات ما تتعلق بالتقنيات، ولكنها تتفق فى الجوهر والتوجه، انبثقت كتابات أدبية أخرى على هامش ذلك التيار، ولكنها كانت كتابات قوية ومؤثرة ولها حضور فنى عميق، ولكنها لم تستطع أن تنافس على المستوى العام، وكان يمثّل هذا التيار الفاعل بشكل عميق الكاتب يوسف الشارونى، وعلى هامش هذين التيارين كانت هناك أسماء كثيرة جدا تبدع فى فن القصة القصيرة بامتياز، تبدع وتنشر فى حالة تشبه الصمت، وبالتالى عانت من التجاهل والإهمال الواضحين، ولم يكتب لها الذيوع المطلوب لكى يقرأها آخرون، ولأن النقاد كانوا مشغولين بالظواهر الأعلى صوتا، وكان من بين تلك الأصوات الخافتة أسماء مثل بدر نشأت، ووحيد النقاش، وأبو المعاطى أبو النجا، وسليمان فياض، وصبرى موسى، وادوار الخراط، وعبدالله الطوخى وغيرهم.
وكان عقد الخمسينات كله منشغلا على المستوى الأدبى، بفن القصة القصيرة، وبالطبع كانت المجلات الأدبية المتخصصة، تنشر قصصا كثيرة، مثل مجلات "الرسالة الجديدة، الأدب، الشهر، قصتى، قصص للجميع، نداء القصة، وغير ذلك من مجلات"، فضلا عن أن الصحف والمجلات الأخرى مثل صحف الجمهورية والمساء وآخر ساعة والمصور والتحرير وحواء والإذاعة، لا يخلو عدد من تلك المجلات من قصة أو قصتين، كذلك كانت هناك متابعات نقدية دائمة لهذا الفن، هذا عدا المجموعات القصصية التى كانت تصدر تباعا، وتزايد صدورها بشكل كبير فى نهاية العقد الخمسينى.
الهامش والمتن:
لذا عندما لاح فى الأفق بعض كتّاب شباب جدد، لم يجدوا مكانا يرحب بهم، أو ينشر لهم، أو يستضيفهم فى أى جماعة أو صحيفة أو مجلة أو دار نشر، وظلّت أصواتهم تدوّى فى زحام شديد الوطأة، واستئثار بكل المكاسب التى آلت للسابقين فقط، ولم يكن لهذا الجيل الذى جاء بعد توزيع الأنصبة والمكاسب والاتجاهات والمقاعد الوثيرة والبرامج الإذاعية والأعمدة الصحفية، وإذا كانت هذه المكاسب استعصت على الكتاب الجدد بشكل عام، فمابالنا بهؤلاء الكتّاب الشباب الذين أتوا من الأقاليم، وجاءوا بكل أحلامهم إلى المدينة العامرة، والتى تسمى القاهرة، والتى تنطوى على كل شئ فى الدنيا، بالطبع لم يجدوا سوى التجاهل والصدود، رغم أن بعض الصحف مثل جريدة المساء على وجه الخصوص، تحدثت فى هذا الشأن، ولكن تلك التحقيقات والكتابات لم تجد آذانا تسمع، ولا عيونا ترى، ولا قلوبا تشعر بهؤلاء النازحين من بلادهم إلى بلاد المجد والسؤدد.
مدرسة عيش وملح:
لكل ذلك كانت مجموعة القصص "عيش وملح"، والتى تكاتف ستة من هؤلاء الكتّاب المطرودين من جنّة القاهرة، ليصدروا مجموعة مشتركة، ويقدم كل واحد منهم كاتبا آخر، واستعانوا بكاتب كان دائما ينتصر للكتاب الجدد، والكتابة الجديدة، ويحنو بشكل أبوى وفنى طوال مسرته العطرة، هذا الكاتب، والذى يعتبر الأب الفعلى لرعايته للجيل الذى أطلق عليه فيما بعد "جيل الستينات"، وكان قائد هذه المجموعة "عيش وملح" هو الشاب محمد جاد، ذلك الكاتب الذى لم يتجاوز عمره ستة وعشرين عاما، يصفه فاروق منيب فى مقال كتبه عنه فى جريدة المساء بتاريخ 16 يوليو 1962 قائلا : "..محمد جاد أديب شاب نزح من إحدى بلاد محافظة المنوفية، بركة السبع، ولكنه لم ينقطع عن بلده أبدا، فهو موصول الصلة بها دوما، وكلما كشّرت له المدينة هرب إلى بلدته ليعيش فى كنفها راضيا بالقليل، مؤمنا بالدور الذى يؤديه هناك، هو شاب أسمر قصير، ملامحه غليظة، وفى صوته جفاف الفلاحين، ولكن قلبه الخافق، يشع بالطيبة والحنان وحب الناس، يمتلئ بكنوز بلده الزاخر، الثقة والأمل والصبر على الشدائد.. وصوته الجاف الغليظ يشعر الانسان بصدقه وحيائه حين يتحدث عن الريف وآماله ومستقبله ، أما القصص التى يكتبها محمد جاد فهى أيضا تحمل بين جوانحها هذه الروح المطحونة بالحزن، القلقة بالضياع والتمرد والسخرية المريرة المكشوفة، وهو يستخدم فى بعض الأحيان ألفاظا كالحجارة .. كالظلط، ولكنه يجدها معبرة عن نفسه المضطربة الشقية.."، هذه فقرة من مقال طويل كتبه فاروق منيب عن محمد جاد، بصدد رسالة من جاد يتحدث فيها عن بلده بركة السبع، ويطالب وزارة الثقافة بالاهتمام بهذا البلد الذى يضج بالمواهب، تلك المواهب المتنوعة فى الشعر والقصة والمسر والغناء.
ورغم أن الأدباء الستة المشتركين فى الكتاب كانوا ساخطين على كافة الكتّاب الكبار والراسخين، إلا أنهم ذهبوا للأب الروحى يحيي حقى، والذى رحّب بهم، ووافق أن يكتب لهم مقدمة تنطوى على قدر كبير من الاحتفاء والتشجيع والشجاعة، وأقصد "الشجاعة" التى تدفع يحيي حقى لكى يكتب تلك المقدمة الطيبة، لشباب مجهولين تماما، ومنهم من لم ينشر على وجه الإطلاق، ومنهم من نشر قصة أو قصتين، إنها مقدمة لا تخضع لأى حسابات، فلا أصحاب القصص كانوا نجوما ليضيفوا إلى المقدم أى بريق، ولم يكونوا بالطبع أصحاب أى مكانة أو مكان فى جريدة أو مجلة، بل هم "كادحون يكتبون عن كادحين" كما وصفهم حقى فى مقدمته، وربما تكون تلك الأسباب التى رصدناها، والتى دفعت يحيي حقى للكتابة عنهم ولهم، هى نفسها التى جعلت آخرين يعزفون عن الاحتفاء بهؤلاء الكتاب.
والكتاب يشارك فيه كل من "السيد خميس شاهين "سيد خميس"، عباس محمد عباس، محمد جاد، الدسوقى فهمى، محمد حافظ رجب، عز الدين نجيب، ومن الواضح أن محمد جاد هو الذى كان المتمحمس الأعلى، إذ أن الكلمة التى كتبها عن زميله الدسوقى فهمى، هى التى تم تداولها كثيرا فى الصحف والمجلات آنذاك، واعتبرها كثيرون وعلى رأسهم الناقد فؤاد دوارة الذى كتب دراسة طويلة عن المجموعة، ونشرها على حلقتين فى جريدة المساء، كأنها البيان الأول فى الجيل القادم، ثم أعاد نشرها فى كتابه "فى القصة القصيرة" الذى صدر فيما بعد عام 1966، ونشر ضمن دراسته تقديم جاد لزميله الدسوقى فهمى، والتى كانت كلمة حادة وحاسمة، ولم تكن معبرة فقط عن محمد جاد، أو عن زملائه المشاركين معه فى المجموعة، بل كانت معبرة عن كافة أبناء الجيل الذين لم يجدوا مكانا ولا مكانة فى ذلك الزمان الصعب.
محمد جاد صاحب صيحة "نحن جيل بلا أساتذة":
وفى الكلمة المقتضبة التى كتبها آثر ألا يتكلم عن زميله الدسوقى، لأنه رأى أن قصصه هى أفضل من يقدمه، رغم أنه سرد بعض صفات له تكاد تكون صفات كاريكاتورية، وهذا الوصف لا يدل على الدسوقى، بقدر ما تدل على محمد جاد نفسه، الذى يرى الناس بتلك الطريقة الكاريكاتورية أو المختصرة، إذ يقول عنه "..إنه طالب، أسمر اللون من بلده، لا يكره الشاى، ويحب العرقسوس، ولا مانع عنده من أن يتزوج عندما يكبر.."، وهكذا يسترسل فى ذلك الوصف المقتضب، وعندما يتحدث عن جماعتهم المشاركة فى المجموعة يقول: (..فقد حدث أن لنا حياة وتجارب، ولما كنا قد عرفنا كيف نمسك القلم، ولما كانت لدينا أشياء نريد أن نقولها، ونؤمن بما نودّ أن نقوله، ونثق فى أنفسنا، ونسمع بعد ذلك بما يسمونه التواضع..فقد كتبنا ومزقنا.. ومرّت سنوات حدث أن راجعنا أنفسنا خلالها لنتأكد من حقيقة ما بها.. ولما لم يكن لنا غير الحياة التى عشناها والتى يعيشها معنا الملايين، ولما لم تكن الحياة وهما بعد.. فقد قلم فى رأسنا أن ما نصنعه ليس وهما بحال...وأفقنا عن أكوام الورق، وزجاجات الحبر.. والدم الذى نزفناه، والليالى التى فاتت مثقلة بأحلامنا وبأمل من نعبّر عنهم.. وقيل لنا: أطرقوا الأبواب، وفعلنا، ولكن لم يسمعوا..! لحظتها ظننا أنه ربما تكون قد أخذتهم _تعسيلة_ أو ربما كان وابورهم والعا.. وقلنا فلنسترح ونعاود الطرق.. ولكننا لم نسترح، وإنما وجدناها فرصة لمزيد من العمل.. وفكرنا فى أن نيأس فلم نملك حتى ذلك أيضا..وعدنا ندق الأبواب بأيدينا وأرجلنا .. وكانوا قد أعطوا وابورهم نفسا ، ولم نحتمل وشّه!! فوضعنا الذوق جانبا، ودخلنا الجامع بالأحذية، ودنسنا بلاط صاحبة الجلالة بأقدامنا الريفية ..
وابتسموا لنا فى طيبة وربتوا علينا .. قلنا فى أنفسنا: هؤلاء هم الأساتذة حقا.. فلنتعلم .. إلا أن واحدا منهم قال: "اذكروا دائما أن من الناس من أفنى عمره يطلب ودى، فما قبلت، وأرى أنكم تدخلون قلبى بسهولة ، ولا أستبعد أن تصبحوا أصدقائى .. وهى غاية فى حد ذاتها ، فلتكافحوا من أجلها ودعوا القصص جانبا، فما أصبح الفن والأدب مما يلهو به العيال بعد.."، وما كان من هذا الكاتب وحده الذى يرى الفن فى بلادنا احتكارا شخصيا لم يخلق بعد الذى سيصل إلى كهنوته سواه.. وإنما هم كثيرون... ولكوننا أحداثا بعد.. لم نفهم تلك الحكم التى ألقوها على أسماعنا، وبالتالى لم نؤمن بها.. ومن إحساسنا بأننا قد أصبحنا فى وسط هؤلاء نغمة جديدة متميزة ، ولونا خاصا..).
اقتبست هذه الكلمة من بيان محمد جاد الذى قدّم به زميلا، لكى أؤكد على أن الصرخة التى نسبت إلى محمد حافظ رجب "نحن جيل بلا أساتذة"، كان مطلقها الأول محمد جاد، وهو الذى أسّس لفكرة الاستقلال، وهو الذى فضح ذلك التجاهل الذى أبداه هؤلاء الأساتذة لذلك الجيل القادم والصاعد، ولظروف ما شاع أن محمد حافظ رجب هو الذى أطلق ذلك الشعار، ولكن ابراهيم أصلان أيضا ينفى أن المقولة لحافظ رجب، ولكنه ينسبها إلى سيد خميس، إذ يقوا ابراهيم أصلان فى كتابه "خلوة الغلبان": (..وهو _يقصد حافظ رجب_من نسبت له تلك الصيحة الشهيرة "نحن جيل بلا أساتذة"، والتى اتخذت علامة على جيل كامل من الكتاب، بينما كان قائلها الحقيقى هو الناقد سيد خميس، وهو الفقير المشاكس الذى تقدم الصفوف أعزل إلا من إيمانه بما يكتب.."، وفى هذا السياق يقول أصلان : "..وكان الموهوب جدا محمد جاد يعيش فى شقة أرضية بنفس الحىّ _يقصد العجوزة_ حيث التقيت لأول مرة بالشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم ويحيي الطاهر عبدالله والصديق الكاتب سيد خميس الذى كانت له مهام تثقيفية فى إطار الجماعة كلها..".
أثار بيان محمد جاد كثيرا من اللغط والمناقشات الحادة، وصيغ من هذا البيان أو التقديم أو الصرخة ما تم التعارف عليه "نحن جيل بلا أساتذة"، وضمن هذه المناقشات ما كتبه فؤاد دوارة فى دراسته المطولة، والتى نشرت على عددين فى جريدة المساء، وكان ذلك فى 18، و25 مايو 1961، وجاء عنوان الفقرة التى ناقش فيها بيان محمد جاد "جيل بلا أساتذة" إذ قال : "..ولا شك أن الكاتب محق فى كفره بأولئك الأساتذة الزائفين، ولكن ألا نبعد عن الإنصاف كثيرا حينما تدفعنا حرارة الشباب إلى التعميم على هذا النحو، وقذف كل الأساتذة بالحجارة ومن بينهم كثيرون تعلمنا منهم وأورثونا حب الكلمة والرغبة الملحة فى التعبير بها والمعاناة من أجل أن نصنع منها أشكالا جميلة تعبر عن أزمتنا وآمالنا.. هل هؤلاء الكتاب الستة يمثلون حقا جيلا بلا أساتذة كما توحى هذه الكلمة المنفعلة..؟ ، الإجابة واضحة لا تحتاج إلى جدل كثير، فهم مهما تميزوا بلون خاص، ومهما كفروا بجيل الأساتذة المتعالين، لا شك فى أنهم قد تأثروا على الرغم من ذلك بكثير من أساتذة الكلمة هنا وفى الخارج، بل لعلهم تأثروا دون أن يدركوا بنفس ذلك الأستاذ المغرور الذى أشار إليه محمد جاد فى كلمته..".
ودون الاسترسال فى مناقشة فؤاد دوارة المثمرة لمحمد جاد، نستطيع بسهولة أن نقرر أن كلمة محمد جاد حول ما تعرضوا له من عنت فى محاولات النشر أو لفت الانتباه، أثارت اللغط والمناقشات، وأن مناقشة فؤاد دوارة لها وله، واختيار العنوان اللافت "جيل بلا أساتذة"، جعل القضية موضع نظر، ومحل جدل دائم، وكان محمد حافظ رجب ينشر قصصه المثيرة فى كثير من الصحف والمجلات، وشاعت حكاية أنه كان بائعا للب على محطة الرمل، ولذا كان موضعا لانشغال النقاد وجدلهم، للدرجة التى أصبح عنوانا ورمزا للجيل القادم، وكان رجب يعبّر دوما عن أنه ورفاقه يعانون من عدم رعاية الجيل السابق، فاختلط الأمر على الجميع فنسبوا له صيحة أو صرحة "نحن جيل بلا أساتذة".
يحيي حقى الراعى الأعظم:
فى دراسة فؤاد دوّارة للمجموعة التى أصدرها الكتّاب الشباب، واختلف فيها مع صيحة محمد جاد فى كفره المطلق والحاسم بجيل الأساتذة، ونفيهم تماما، وذكر فى متن حديثه أن دليلا واضحا وشاخصا أمامنا فى تعاون بعض نماذج من الجيل السابق، وخصّ بالذكر رفيع المقام الكاتب يحيي حقى، وبالطبع فإن ليحيي حقى الكثير من الأفضال فى رعاية الأجيال اللاحقة له والسابقة عليه فى الوقت نفسه، فهو قام بتقديم مجموعة كبيرة من الكتّاب الجدد، منهم محمد سالم فى مجموعته القصصية "أستاذ فى الحارة"، ومجموعة "تعلمت الحب" القصصية لنوال السعداوى، ومسرحية "شرف المهنة" لمحمد جلال كشك، ومجموعة قصصية للشاعرة ملك عبد العزيز، كما أنه قدّم إبداعات لكتّاب سابقين ورواد من زمن آخر مثل محمود طاهر لاشين، ومحمود طاهر حقى وغيرهم، ومن ثم لم يتلكأ أو يتلعثم أو يتعالى أو يستنكر، عندما ذهب إليه هؤلاء الشباب يطلبون منه أن يكتب لكتابهم المشترك مقدمة تكون بمثابة جواز المرور الذى يعطيهم شرعية الوجود فى تلك الحياة الأدبية، وقد كان، وافق يحيي حقى وكتب المقدمة، وصدرت المجموعة عام 1960، وكانت فاتحة ونموذجا للتحدى، والقاعدة التى أطلقت أول صيحة فى جيل الستينات.
استهل يحيي حقى المقدمة بقوله : "هذه المجموعة ما أحبها إلىّ، إنها تنطق بمعان حلوة جمّة، عطر الربيع، وندى الزهر، وهبة النسيم تنشط له النفس، يبدد خمولها ويجدد الأحلام، لم تستأثر بها أنانية فرج، يظل يصحبنا_ ارتفع أو هبط_ من أولها لآخرها، إنما هى عمل جماعى متساند، تعاون عليه ستة من الأدباء فى زهرة العمر، منحها كل منهم خير ماعنده وإن قلّ، إن كانت صداقة الشباب_ما أشهى طعمها_ قد ألفّت بين قلوبهم.."، وراح يحيي حقى يطرى على روح التعاون والتكاتف التى تتحلى بها هذه المجموعة العفية من الشباب، والتى أخلص كل واحد منهم للآخر، لأنه استشف أن المقدمات القصيرة التى كتبها كل واحد للآخر، فيها قدر من الإخلاص والحماس والمقاومة، تلك المقاومة التى تكمن خلف كل إنجاز بشرى، وبالتأكيد فالفن يحتاج إلى قدر كبير من الإخلاص والتفانى والصبر، حتى يستطيع هؤلاء الأدباء أن يتجاوزوا كافة العوائق التى تقابلهم فى الطريق.
وبعد هذه المقدمة التى وضع فيها يحيي حقى طاقته العاطفية، راح يصف مجموعة الشباب، ويرصد القسمات التى تجعلهم متشابهين، فالسن متقارب، والبئة تكاد تكون واحدة، ونوع الثقافة ومستواها المتقارب عند الجميع، ومن ثم لا غرابة _من وجهة نظر حقى_ أن يحاول كل منهم أن يستقل كل منهم بأسلوب يخصه، ولذلك فهو يرى بأنهم استطاعوا أن يتميزوا فى إبداعاتهم، رغم تشابه البيئة والجذور والثقافة.
ويرى أنهم يملكون حسّا بصريا جديدا على فن القصة القصيرة، كذلك هناك جدّة فى الأسلوب والشكل والموضوع، وابتعدت أساليبهم عن الزخارف والاستطرادات الزائدة ونزعة الوعظ والإرشاد والخطب المنبرية، والتى لا يكاد يخلو منها إنتاج كاتب مبتدئ متحمس، ويستطرد حقى : "..ومن حيث الشكل تجد عندهم فهما حسنا للرباط الذى تتجمع حوله أجزاء القصة، إن تغيّرت النغمات بتغيّر أماكنها، فإنما يجمعها لحن عام واحد لا يخفى على الأذن وجوده وإيقاعه، وعندهم توازن جميل بين الرد والوصف والحوار، وانكشاف المعانى يتم بتدرج لا تنغرز الأقدام فتتريث طويلا فى أرض زلقة ولا تقب فتطوى ما كان ينبغى من كلام يتم به الفهم وتتبين العلة، أما عن الموضوع فإنهم لا يكتفون بالتزام الصدق وانبعاث التعبير عن التجربة لا عن خيال، بل سترى من هذه القصص أسميها قصص الكادحين عن الكادحين..".
ولا يتوقف حقى عن اكتشاف ورصد معالم تسم هذه المجموعة، التى استطاعت أن تقفز هذه الخطوة الجادة فى ثبات، هذه المعالم والسمات تصلح لتكون بداية تيار، بل نواة مدرسة أسماها يحيي حقى "مدرسة عيش وملح"، حسب قصة أحدهم وهو الكاتب عباس محمد عباس، ورغم أن المقدمة الفائقة الشجاعة والحماس استفاضت فى رصد هؤلاء الشباب، إلا أنها لم تقف عند كل كاتب وإبداعه، وآثر يحيي حقى أن يضع خيطا فاصلا بين قصص هذه المجموعة، وقصص من سبقوهم فى الكتابة، وربما هذا الزعم أو الرأى لا يأتى إلا من كاتب وفنان فى جرأة ولباقة ونعومة وأبوية يحيي حقى، الذى ظل راعيا لهذا الجيل طوال عقد الستينات بأكمله، فأفسح لكتّاب هذا الجيل مجلة "المجلة" التى كان يترأس تحريرها، ونشر قصصا لكافة أبناء هذا الجيل، بل إنه أعدّ عددا كاملا وتاريخيا فى أغسطس عام 1966 لأبناء هذا الجيل، ونشر قصصا لهؤلاء الشباب، وخصّص لكل قصة شاب من هؤلاء، كاتبا كبيرا يكتب عنها ما يراه فى قصة الكاتب الشاب، وكان من هؤلاء نجيب محفوظ، الذى عقّب على قصة "أصيلا" لجميل عطية ابراهيم، ود شكرى عياد الذى عقّب على قصة "بحيرة المساء" لابراهيم أصلان، ويوسف الشارونى الذى عقّب على قصة "ثلاث شجيرات تمر برتقالا" ليحيي الطاهر عبدالله، بيبنما عقّب هو نفسه على قصة "الكرة ورأس الرجل" لمحمد حافظ رجب، رغم اختلافه مع المنطلق الذى اتخذته القصة كمنهج لها، ووصفها بأنها قصة سيريالية، وكان العدد دسما ومفعما بالحماس الذى جعل الأمل يدبّ بقوة فى روح جيل الستينات، وهذا يدفعنا للقول بأن يحيي حقى هو الراعى الأعظم لجيل الستينات.
قصص محمد جاد:
ورغم أن يحيي حقى لم يتوقف عند كل كاتب وكتابته، إلا أنه كثّف فأجاد وأوضح وأثبت أن ثمة تيارا جديدا يتخلق، ولخّص السمات المشتركة فأفاد، وترك بصمته الفائقة الوضوح فى روح هؤلاء الكتّاب، وكانت لكل كاتب من المشاركين قصتان، وقصتا محمد جاد كانتا "أبو رفاعى، وأم السعد"، ونستطيع أن نقول بالفعل أنه كاتب كادح يكتب عن كادحين مثلما وصف يحيي حقى غالبية الكتّاب، فأبو رفاعى بطل القصة الأولى لم يكن له حظ الانتظام فى عمل، وقد التقى ببطل القصة فى الأتوبيس الذى يقلع من بلدته لكى يأتى إلى القاهرة، وفى الطريق كان "أبو رفاعى" الأرزقى قد استخدم أذن الراوى لكى يحكى له قصة حياة كاملة، ويلقى عليه بضعة حكايات صغيرة، الأهمية هنا لا تكمن فى معنى الحكايات، رغم مغزاها العميق، ولا تأتى الأهمية من طرافة أو مأساوية الحكايات، رغم أنها تنطوى على ذلك بضراوة، لكن الأهمية تكمن فى الأسلوب والبناء الذى نلمح فيه ذلك البعد الإدريسى، حيث أن البطل يظلّ يحكى ويحكى ويترك سامعه فى النهاية وهو فى حالة اندهاش، ولكن الفارق الأساسى بين جاد وادريس، أن محمد جاد أراد أن ينقل لنا الريف ولهجته وثأثأة ناسه حرفيا، ودون إملال، ودون تلك الواقعية الفوتوغرافية الفجة، وربما هذا هو الذى جعل فؤاد دوارة يعتبر أن تلك الواقعية واضحة وصريحة وهى أضعف حلقة فى القصة، وأرى أن هذا الرأى كان قاسيا، حيث اعتبر فؤاد دوّارة أن البيان الذى كتبه محمد جاد أهم من قصصه، ولكنه رأى أيضا أن ذلك الكاتب الشاب كان مندفعا فى قصته، كما كان مندفعا فى بيانه، وأسدى له نصيحة، وهى أن الفن يختلف عن الكتابة النثرية، ويبدو أن فؤاد دوارة _رغم تعاطفه_ لم يخرج عن أجندة الجيل السابق، ذلك الجيل الذى كان يعمل وفق "مازوة" تدرك أبعاد القصة من قبل كتابتها، ولكن هذا الجيل بكل كتّابه تقريبا، ينطلقون من وقائع ومفردات مختلفة عن الجيل السابق، ويريدون أن يعبروا عن أنفسهم بطرائقهم الخاصة.
فى القصة الثانية، كانت أم السعد "الطفلة" التى تلعب مع رفيقاتها ورفاقها الأطفال، تكبر رويدا رويدا، وكانت الأم تخشى عليها ذلك اللعب، وكانت الأم تخاف أن يطول المقام بابنتها فى بيتهم، وهكذا يفلت الزواج من ابنتها، ولذلك فقد دفعت الوالد لكى يزوّج ابنته الطفلة، والتى لم تتجاوز عامها الثالث عشر، ورحلت "أم السعد" التى لم ولا تدرك معنى ذلك الزواج، ولكنها راحت تتعود على تلك الحياة الجديدة، فزوجها كان يعمل طبّاخا فى أحد الأديرة البعيدة، ذلك الدير المنقع تماما عن حياة الناس، وكأن الراوى أراد أن يعطى بعدا رمزيا فاجعا للقطيعة التى حدثت للطفلة فجأة ودون سابق إنذار، وكما لاحظنا فى القصة السابقة أن الكاتب لا يريد أن يهتف أو يعظ أو ينبّه كما كان يفعل كتّاب آخرون، ولكنه كان يجرّب ذلك الأسلوب الجديد فى الكتابة، وهو انسجام القيم الريفية البالية ومقاومتها فى الوقت ذاته، مع الحوار الذى كان يجريه فى القصة، وأزعم أن الكاتب نجح وترك قدرا من المتعة والأسى فى الوقت ذاته، وأظن أن هذا هو المطلوب فى الفن، وإن كنت لا أزعم أن الفن فى عمومه، لا بد أن يخضع لمطالب القارئ أو المتلقى أو الفكرة السياسية، وهذا مافعله محمد جاد فى قصتيه البديعتين، وهذا ماجعل ابراهيم أصلان لم يكتف بأن يقول محمد جاد الموهوب، ولكنه أضاف "جدا" إلى وصفه بالموهوب، لكى يؤكد على تلك الموهبة التى لم تستكمل كل طرحها، إذ أن محمد جاد انشغل بموضوعات أخرى عديدة، كان يعرفها كل أبناء جيله، ونشير فقط إلى رعايته شبه الكاملة لأبناء بلدته بركة السبع، ومحاولة توفير كافة صنوف الحماية التى توفّر لهم كل سبل التعبير، وله فى ذلك شوط بعيد، وكذلك هو أحد المكتشفين الأوائل للشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، ونستطيع أن نقول أن الانطلاقة الأولى والعظيمة لأغانى الشيخ إمام كانت من بركة السبع، وقد كتب عن ذلك كثيرون، كما كتب محمد جاد نفسه مقالا سريعا ولكنه كان مكثفا عن ذلك الاكتشاف المذهل فى مجلة القاهرة أغسطس 1995، ولذلك يحتاج محمد جاد إلى إعادة اعتبار له، حيث أنه من الكتّاب والمثقفين الذين وجدوا أنفسهم فى رعاية الآخرين، أكثر مما كان يرعى موهبته هو ونفسه.
شعبان يوسف / مصر