حدث هذا في تمّوز من سنة مجهولة، في منتصف تمّوز إن شئنا الدّقة الوصيفة والأمانة الواصفة، وتمّوز في تلك القرية المعدنيّة، غير تمّوز كل العالم، تمّوز تلك القرية الرّصاصيّة، مثل خزّاف تصير الكائنات طينا تحت رحمة فرنه، رابوزه، دوّاسة مسماره الدّائر، يده وخياله... تمّوز الشّقيّ هذا الّذي يومض فيه القمح بلون الذّهب، ربّما أقرب إلى لون هذه الجعة، وما أحكيه هنا لاعلاقة له بتأثير شرب ستّ منها... عفوا .. سبع ، لحظة .. ثمان .. هست ... معك حق، أجل نادرا ما يكون معك حق .. إنّها عشر تماما كعدد الفزّاعات الّتي نبغ في صنعها فلاّح الحكاية الغريبة الّتي لم أحكها بعد...
غرابة الحكاية ليست في زواج الفلاّح عشر مرّات ، مسلسلُ زواجٍ لم يتم دفعة واحدة طبعا كما قد يقوّس أيّ شخصٍ حاجبه لسماع الرّقم الرنّان ... لنقل أنّ شيئا غامضا ومفزعا في آن وراء الأمر ، إذ لم تسلم أيّ من زوجاته من أذى الغياب ، من أذى الحتف بالأحرى ، فعدا زوجته الأولى الّتي قضت نحبها أثناء مخاض ولادة قاسٍ أودى بها وجنينها فكلّ الزّوجات المتعاقبات بعدها تعرّضن لحوادث مميتة ، لعنةٌ ما تقف وراء ذلك ، والطّريف أن تقترح عليه كلّ زوجة إسم أخرى يقترن بها إن حدث وماتت قبله ، وهكذا أشارت إليه الأولى على الثّانية قبل المخاض ، الثّانية الّتي لم يدم على نعمة ارتباطها به أكثر من ستّ سنوات ، لفظتْ أنفاسها بسبب قرن ثور هائج غرزه في خصرها ، وقبل احتضارها أشارت له بالثّالثة ، هذه الّتي لم تتجاوز ثلاث سنوات معه وأجهزت على روحها المنيّة بسبب لدغة عقرب سوداء وكما السّابقات أشارت له بالرّابعة الّتي لم تعمّر أكثر من سنتين وأُزهق روحها بسبب سقوط فاجع من على صهوة حصان مرقّط أجفلته لسعة حشرة وضيعة ، وبدورها أشارت له بالخامسة ، ولم تبتهج أيّام هذه هي الأخرى أكثر من سنة وتوفيت غرقا في بئر ثم السّادسة والسّابعة والثّامنة والتّاسعة والعاشرة ولم يدم بريق ألفتهنّ معه إلا شهور معدودة ... وكلّ واحدة منهنّ لم تكن نهايتها أقلّ فظاعة من سابقتها وهكذا وسموه بالفلاّح الملعون وباتتْ تتطيّر منه نساء القرية وتتشاءم من ذكر إسمه العزباوات وذاعتْ رائحة مأساته في كلّ الجهات المتاخمة والقصيّة ... فظلّ لعقْدٍ من الزّمن بعد موت آخر زوجة ، سجين بيته وعزلته وصمته ، زاهدا في كلّ شيء ، لايبارح مكانه إلاّ لزيارة مقبرة زوجاته العشر على التلّة مساء كل يوم ، وهو ينفخ في نايٍ صنعه من قصب ، وأحدث فيه عشرة ثقوب ... ما ينيف على عقْد من الزّمن وهو لايتكلّم ولايكترث لحيواناته الّتي شرد بعضها وسُرق أغلبها ولا لبقيّة الممتلكات الّتي نُهبتْ أمام مرأى عينيه ، وكلّ من كان قريبا منه انفضّ عنه مخافةَ أنْ يُدركه خطبٌ أو يلحق به وذريّته وزرعه كارثة محيقة ...
وهو على هذه الحال ، إلى أن نبتتْ شجرةٌ غريبةٌ على التلّة ، كما لو لتحرس وتظلّل بأغصانها الوارفة قبور زوجاته العشرة ، زوجاتٌ أحبّهنّ كلّهنّ بكلّ ما أوتي من صدق وطيبوبة ونبل ، غير أن الموت الشّنيع اختار أن يكون غريما له ولأسباب غير مفهومة ، انتزعهنّ منه كما تنتزع الأضراس ، و كما لو يتعلّق الأمر بانتقام ما أو تصفية حساب ، تربّص به الموت وألحّ أن يسقط تلك الفراشات البريئات من على رؤوس أصابعه العشرة .
الشّجرة الغريبة الّتي ماهي بتينة ولا صفصافة ولا صنوبرة ولا أكالبتوس ولاعرعر ولا سرْوٍ ولا أرز ولا درادارولاولاولا ...إلخ كانت تأتيها نهارا عشر إناثِ بومٍ، وبالنّحيب يؤثّثن صمت التّلّة والضّاحية ، ولايقف صدى شحاجهنّ عند حدود الوادي بل يتفاقم في سماء القرية أيضا ... وليلا يتحوّلن إلى قناديل على غصون الشّجرة ذاتها ، وهو ما جعل بشر القرية يجزعون ويتحاشونها مع نزول ندف السّخام من ظلام اللّيل، ويُرعبون بها أطفالهم ليناموا قبل العشاء ، شجرة مسحورة أو تلّة مسكونة ، هكذا وسموها وتضاعفت بذلك صورة الفزع والرّهبة من الفلاّح الّذي عاودته الوسامة من جديد ، منذ أن نبتتْ الشّجرة العزلاء وصارت وارفة على حافّة أقدام نسائه العشر النّائمات في قبورهنّ المعشوشبة على التلّة ، عاوده ألق الحياة أكثر حين أثمرتْ تلك الغصون عشر إناثِ بوم ٍ، تماما كعدد زوجاته الجميلات ، وصار يطرب أيّما طربٍ لشحاجهنّ ، كما لو يطرب لغناء جميلاته على طول مفاصل النّهار ويأنس بضوء قناديلهنّ على طول مدارج اللّيل ، وفي الوقت الّذي ألمّ بموسم القرية وسهوبها الجفاف ، سلم زرعه هو وواديه والتلّة من آثار اليباب الكاسح ، وكأنّ المطر لم يخاصم حقله الّذي دأب على حرثه وزرعه منذ أشرقت في المشهد الشّجرة الوارفة وإناث بومها السّحريّات ، ولمّا صخدتْ شمس تمّوز وتناسلت في سماء القرية وضواحيها العصافير والجنادب على حدّ سواء ، شطرتْ فكرةٌ مورقة رأسه و قرّر أن يصنع عشر فزّاعات على مقاس نسائه الرّاحلات ، ولم يكتف بذلك وألبس كلّ واحدة فستان كلّ زوجة بعينها ، فهو لم ينس أن يحتفظ بلباسهنّ داخل صناديق خاصّة ، وفاء لذكراهنّ الطّيّبة ، والأكثر من هذا نقش ورسم عيونهنّ في رأس اللّوح وزرعهنّ تباعا بالتّسلسل الّذي اقترن بهنّ في الحقل ، على صدر التّلّة ، وهو ما جعل فزع أهل القرية يحتدّ إلى أقصاه لمرأى تلك الفزّاعات اللاّبسات أفخر الفساتين ، ذوات العيون الواسعات ، وليس العصافير والجنادب وحدها وهم لم يهضموا بعد كيف أن حقله وحده من دون حقول البلدة ، اخضوضر وشعشع وازمخرّ ، ثمّ ها هو قد صار بلون الذّهب ، بعد أن نضج وهو على مشارف حصاد مبهج ، أو على أهبة غلّة باذخة ، وهذا ما قضّ مضاجعهم ، فتغامزوا فيما بينهم لأيّام ، وقلّبوا في الأمر من كل جهاته ، واتّفقوا في جمعٍ حقودٍ على أنّ الفلاّح الوسيم ، ما هو إلا شؤم البلدة الوحيد، وهو السّبب الرّاجح بل الأكيد وراء كساد العيش وتعاقب مواسم الجفاف والأمر ليس بهذه السّهولة والبراءة ، فلابدّ أن يكون وهذا واضح عند الكبير والصغير ، عند الشّيخ والرضيع ، عن القاصي والدّاني ، ساحرا ، وقد سخّر لفساد هذه القرية عصابة من الشّياطين والجنّ ، وبناء على ذلك أجمعوا على إصدار فتوة بدعم من فقيه جاهل ، تقضي بإحراق زرعه وبيته وإبعاده من البلدة إلى الأبد ، وإن رفض يجلدونه على الشّجرة العزلاء في التلّة قريبا من زوجاته المضطجعات في قبورهنّ العشرة ، وبعدها يطيحون بالشّجرة المسحورة و يضرموا النّار فيها أيضا ، ثمّ ينقلوا جثّته و عظام نسوته للدّفن في أرض بعيدة ومجهولة ، وهكذا حسموا في تنفيذ الحكم الطّائش والجائر وجنّدوا لذلك كلّ شباب ورجال القرية وخرجوا في كوكبة غفيرة ، بظهيرة طاعنة في الجمر ، حيث رياح الشّركي جاثمة على منتصف تمّوز ، هذا الّذي يشبه خزّافا ، والكائنات مثل طين تحت رحمة يده وخياله ورابوزه ودوّاسة مسماره الدّائر وفرنه .....
عند قدم التلّة وقفت الجمهرة الغفيرة هادرة وصاخبة تتوعّد الفلاّح وزرعه وبيته ، على وشك أن تبدأ ثلّة منهم بما قرّروه ، وكان الفلاّح الوسيم لحظتها يغسل حصانه المرقّط عند البئر ، فالتفتت الجمهرة إلغفيرة إليه ، شارعة أفواهها ، غير مصدّقين عودة الحصان إلى صاحبه ، وحيواناته الّتي شردتْ عنه أوسرقت منه ، وخطا إليهم ووقف بينهم وبين الحقل محدّقا في عيونهم الشّزراء واحدا واحدا والهلع يلبسهم بالكامل ، وكأنّما الصّخب الهادر الّذي كانوا يتماوجون به من قليل ، كان مجرّد صدى قديم ، رحّب بهم بكلّ وداعة في أرضه وبيته وسألهم :
- مالخطب ؟
ران صمتٌ قصيرٌ ارتعشتْ فيه حناجر واقشعرّت ألسنة وهي تحاول أن تجمع عقيق كلمات منفلتة في خيط مفتول .. تمتم أحدهم وهو يخفي وجهه مثل نعامة في رمل الحشد وتجشّأ ثان ونطق ثالث وأردفه رابع وزكّاه خامس ثم عاود الجمهرة الغفيرة صخبها الهادر من جديد ، زعق شيخهم وأوكل للفقيه الجاهل تلاوة الفتوة وحين أنهى هذا تهجّي الحكم المعتوه .. ركض الحصانُ وهو يهرق لهاثه بين الفزّاعات نحو التّلّة وأعقبه صياح الدّيكة ونباح الكلب ...
رسم الفلاّح ابتسامة أشّد انبلاجا من ذي قبل وهمس في الجمع :
- كيف أبارح أرضي وبيتي ونسائي ، هنا مولدي وهنا قبري أيضا ...
تداعى لوقع جملته الجمع بالصّياح والصّفير واعتمرتهم الضّجة وانقضّوا عليه وربطوه بحبل وصعدوا به التّلّة وأوثقوه إلى الشّجرة الغريبة الّتي غابت إناث بومها عن المشهد ، على غير العادة ، بينما لهاث الحصان وصياح الدّيكة صاخب ما يزال ، وحين أمر شيخهم بشقّ قميصه عند صدره ليقتصّوا منه بالجلد ، وقبل ذلك ، أشار باحراق الزّرع والبيت أمام مرأى عينيه لعلّه يتراجع عن عناده ويقبل بقرار النّفي ، وحيث شرع أوّل المأمورين بإضرام الحريق في الزّرع ، اندلع صهيل حادّ ليس منهم ولا من الحصان اللاّهث قريبا منهم ، فوقفوا مشدوهين ومصعوقين ، التفتوا لمصدر الصهيل العارم ، الهائل ، الزّاعق وكادتْ عيونهم تتساقط من محاجرهم وهم يشاهدون الفزّاعات العشر راكضات باتّجاههم ، وأصواتهنّ الهادرة صهيلا يتوعّدن الجمع بشرّ قتلٍ وهنّ يحملن المعاول والمذرّات والرّفوش وفوقهنّ تحلّق إناثُ البوم شاحجات بنعيق حادّ ومخالبهنّ تومض ببرق مخيف .. عندئد هرول الجمع ، بكل الإتّجاهات ، هارعين فيما وراء الحدود والأفق ، تاركين منازلهم وقريتهم للرّيح والصّمت والخواء وكأنّ المكان مهجور من زمن غائر في الأزل ...
غرابة الحكاية ليست في زواج الفلاّح عشر مرّات ، مسلسلُ زواجٍ لم يتم دفعة واحدة طبعا كما قد يقوّس أيّ شخصٍ حاجبه لسماع الرّقم الرنّان ... لنقل أنّ شيئا غامضا ومفزعا في آن وراء الأمر ، إذ لم تسلم أيّ من زوجاته من أذى الغياب ، من أذى الحتف بالأحرى ، فعدا زوجته الأولى الّتي قضت نحبها أثناء مخاض ولادة قاسٍ أودى بها وجنينها فكلّ الزّوجات المتعاقبات بعدها تعرّضن لحوادث مميتة ، لعنةٌ ما تقف وراء ذلك ، والطّريف أن تقترح عليه كلّ زوجة إسم أخرى يقترن بها إن حدث وماتت قبله ، وهكذا أشارت إليه الأولى على الثّانية قبل المخاض ، الثّانية الّتي لم يدم على نعمة ارتباطها به أكثر من ستّ سنوات ، لفظتْ أنفاسها بسبب قرن ثور هائج غرزه في خصرها ، وقبل احتضارها أشارت له بالثّالثة ، هذه الّتي لم تتجاوز ثلاث سنوات معه وأجهزت على روحها المنيّة بسبب لدغة عقرب سوداء وكما السّابقات أشارت له بالرّابعة الّتي لم تعمّر أكثر من سنتين وأُزهق روحها بسبب سقوط فاجع من على صهوة حصان مرقّط أجفلته لسعة حشرة وضيعة ، وبدورها أشارت له بالخامسة ، ولم تبتهج أيّام هذه هي الأخرى أكثر من سنة وتوفيت غرقا في بئر ثم السّادسة والسّابعة والثّامنة والتّاسعة والعاشرة ولم يدم بريق ألفتهنّ معه إلا شهور معدودة ... وكلّ واحدة منهنّ لم تكن نهايتها أقلّ فظاعة من سابقتها وهكذا وسموه بالفلاّح الملعون وباتتْ تتطيّر منه نساء القرية وتتشاءم من ذكر إسمه العزباوات وذاعتْ رائحة مأساته في كلّ الجهات المتاخمة والقصيّة ... فظلّ لعقْدٍ من الزّمن بعد موت آخر زوجة ، سجين بيته وعزلته وصمته ، زاهدا في كلّ شيء ، لايبارح مكانه إلاّ لزيارة مقبرة زوجاته العشر على التلّة مساء كل يوم ، وهو ينفخ في نايٍ صنعه من قصب ، وأحدث فيه عشرة ثقوب ... ما ينيف على عقْد من الزّمن وهو لايتكلّم ولايكترث لحيواناته الّتي شرد بعضها وسُرق أغلبها ولا لبقيّة الممتلكات الّتي نُهبتْ أمام مرأى عينيه ، وكلّ من كان قريبا منه انفضّ عنه مخافةَ أنْ يُدركه خطبٌ أو يلحق به وذريّته وزرعه كارثة محيقة ...
وهو على هذه الحال ، إلى أن نبتتْ شجرةٌ غريبةٌ على التلّة ، كما لو لتحرس وتظلّل بأغصانها الوارفة قبور زوجاته العشرة ، زوجاتٌ أحبّهنّ كلّهنّ بكلّ ما أوتي من صدق وطيبوبة ونبل ، غير أن الموت الشّنيع اختار أن يكون غريما له ولأسباب غير مفهومة ، انتزعهنّ منه كما تنتزع الأضراس ، و كما لو يتعلّق الأمر بانتقام ما أو تصفية حساب ، تربّص به الموت وألحّ أن يسقط تلك الفراشات البريئات من على رؤوس أصابعه العشرة .
الشّجرة الغريبة الّتي ماهي بتينة ولا صفصافة ولا صنوبرة ولا أكالبتوس ولاعرعر ولا سرْوٍ ولا أرز ولا درادارولاولاولا ...إلخ كانت تأتيها نهارا عشر إناثِ بومٍ، وبالنّحيب يؤثّثن صمت التّلّة والضّاحية ، ولايقف صدى شحاجهنّ عند حدود الوادي بل يتفاقم في سماء القرية أيضا ... وليلا يتحوّلن إلى قناديل على غصون الشّجرة ذاتها ، وهو ما جعل بشر القرية يجزعون ويتحاشونها مع نزول ندف السّخام من ظلام اللّيل، ويُرعبون بها أطفالهم ليناموا قبل العشاء ، شجرة مسحورة أو تلّة مسكونة ، هكذا وسموها وتضاعفت بذلك صورة الفزع والرّهبة من الفلاّح الّذي عاودته الوسامة من جديد ، منذ أن نبتتْ الشّجرة العزلاء وصارت وارفة على حافّة أقدام نسائه العشر النّائمات في قبورهنّ المعشوشبة على التلّة ، عاوده ألق الحياة أكثر حين أثمرتْ تلك الغصون عشر إناثِ بوم ٍ، تماما كعدد زوجاته الجميلات ، وصار يطرب أيّما طربٍ لشحاجهنّ ، كما لو يطرب لغناء جميلاته على طول مفاصل النّهار ويأنس بضوء قناديلهنّ على طول مدارج اللّيل ، وفي الوقت الّذي ألمّ بموسم القرية وسهوبها الجفاف ، سلم زرعه هو وواديه والتلّة من آثار اليباب الكاسح ، وكأنّ المطر لم يخاصم حقله الّذي دأب على حرثه وزرعه منذ أشرقت في المشهد الشّجرة الوارفة وإناث بومها السّحريّات ، ولمّا صخدتْ شمس تمّوز وتناسلت في سماء القرية وضواحيها العصافير والجنادب على حدّ سواء ، شطرتْ فكرةٌ مورقة رأسه و قرّر أن يصنع عشر فزّاعات على مقاس نسائه الرّاحلات ، ولم يكتف بذلك وألبس كلّ واحدة فستان كلّ زوجة بعينها ، فهو لم ينس أن يحتفظ بلباسهنّ داخل صناديق خاصّة ، وفاء لذكراهنّ الطّيّبة ، والأكثر من هذا نقش ورسم عيونهنّ في رأس اللّوح وزرعهنّ تباعا بالتّسلسل الّذي اقترن بهنّ في الحقل ، على صدر التّلّة ، وهو ما جعل فزع أهل القرية يحتدّ إلى أقصاه لمرأى تلك الفزّاعات اللاّبسات أفخر الفساتين ، ذوات العيون الواسعات ، وليس العصافير والجنادب وحدها وهم لم يهضموا بعد كيف أن حقله وحده من دون حقول البلدة ، اخضوضر وشعشع وازمخرّ ، ثمّ ها هو قد صار بلون الذّهب ، بعد أن نضج وهو على مشارف حصاد مبهج ، أو على أهبة غلّة باذخة ، وهذا ما قضّ مضاجعهم ، فتغامزوا فيما بينهم لأيّام ، وقلّبوا في الأمر من كل جهاته ، واتّفقوا في جمعٍ حقودٍ على أنّ الفلاّح الوسيم ، ما هو إلا شؤم البلدة الوحيد، وهو السّبب الرّاجح بل الأكيد وراء كساد العيش وتعاقب مواسم الجفاف والأمر ليس بهذه السّهولة والبراءة ، فلابدّ أن يكون وهذا واضح عند الكبير والصغير ، عند الشّيخ والرضيع ، عن القاصي والدّاني ، ساحرا ، وقد سخّر لفساد هذه القرية عصابة من الشّياطين والجنّ ، وبناء على ذلك أجمعوا على إصدار فتوة بدعم من فقيه جاهل ، تقضي بإحراق زرعه وبيته وإبعاده من البلدة إلى الأبد ، وإن رفض يجلدونه على الشّجرة العزلاء في التلّة قريبا من زوجاته المضطجعات في قبورهنّ العشرة ، وبعدها يطيحون بالشّجرة المسحورة و يضرموا النّار فيها أيضا ، ثمّ ينقلوا جثّته و عظام نسوته للدّفن في أرض بعيدة ومجهولة ، وهكذا حسموا في تنفيذ الحكم الطّائش والجائر وجنّدوا لذلك كلّ شباب ورجال القرية وخرجوا في كوكبة غفيرة ، بظهيرة طاعنة في الجمر ، حيث رياح الشّركي جاثمة على منتصف تمّوز ، هذا الّذي يشبه خزّافا ، والكائنات مثل طين تحت رحمة يده وخياله ورابوزه ودوّاسة مسماره الدّائر وفرنه .....
عند قدم التلّة وقفت الجمهرة الغفيرة هادرة وصاخبة تتوعّد الفلاّح وزرعه وبيته ، على وشك أن تبدأ ثلّة منهم بما قرّروه ، وكان الفلاّح الوسيم لحظتها يغسل حصانه المرقّط عند البئر ، فالتفتت الجمهرة إلغفيرة إليه ، شارعة أفواهها ، غير مصدّقين عودة الحصان إلى صاحبه ، وحيواناته الّتي شردتْ عنه أوسرقت منه ، وخطا إليهم ووقف بينهم وبين الحقل محدّقا في عيونهم الشّزراء واحدا واحدا والهلع يلبسهم بالكامل ، وكأنّما الصّخب الهادر الّذي كانوا يتماوجون به من قليل ، كان مجرّد صدى قديم ، رحّب بهم بكلّ وداعة في أرضه وبيته وسألهم :
- مالخطب ؟
ران صمتٌ قصيرٌ ارتعشتْ فيه حناجر واقشعرّت ألسنة وهي تحاول أن تجمع عقيق كلمات منفلتة في خيط مفتول .. تمتم أحدهم وهو يخفي وجهه مثل نعامة في رمل الحشد وتجشّأ ثان ونطق ثالث وأردفه رابع وزكّاه خامس ثم عاود الجمهرة الغفيرة صخبها الهادر من جديد ، زعق شيخهم وأوكل للفقيه الجاهل تلاوة الفتوة وحين أنهى هذا تهجّي الحكم المعتوه .. ركض الحصانُ وهو يهرق لهاثه بين الفزّاعات نحو التّلّة وأعقبه صياح الدّيكة ونباح الكلب ...
رسم الفلاّح ابتسامة أشّد انبلاجا من ذي قبل وهمس في الجمع :
- كيف أبارح أرضي وبيتي ونسائي ، هنا مولدي وهنا قبري أيضا ...
تداعى لوقع جملته الجمع بالصّياح والصّفير واعتمرتهم الضّجة وانقضّوا عليه وربطوه بحبل وصعدوا به التّلّة وأوثقوه إلى الشّجرة الغريبة الّتي غابت إناث بومها عن المشهد ، على غير العادة ، بينما لهاث الحصان وصياح الدّيكة صاخب ما يزال ، وحين أمر شيخهم بشقّ قميصه عند صدره ليقتصّوا منه بالجلد ، وقبل ذلك ، أشار باحراق الزّرع والبيت أمام مرأى عينيه لعلّه يتراجع عن عناده ويقبل بقرار النّفي ، وحيث شرع أوّل المأمورين بإضرام الحريق في الزّرع ، اندلع صهيل حادّ ليس منهم ولا من الحصان اللاّهث قريبا منهم ، فوقفوا مشدوهين ومصعوقين ، التفتوا لمصدر الصهيل العارم ، الهائل ، الزّاعق وكادتْ عيونهم تتساقط من محاجرهم وهم يشاهدون الفزّاعات العشر راكضات باتّجاههم ، وأصواتهنّ الهادرة صهيلا يتوعّدن الجمع بشرّ قتلٍ وهنّ يحملن المعاول والمذرّات والرّفوش وفوقهنّ تحلّق إناثُ البوم شاحجات بنعيق حادّ ومخالبهنّ تومض ببرق مخيف .. عندئد هرول الجمع ، بكل الإتّجاهات ، هارعين فيما وراء الحدود والأفق ، تاركين منازلهم وقريتهم للرّيح والصّمت والخواء وكأنّ المكان مهجور من زمن غائر في الأزل ...