[SIZE=6]- رسالة من الدكتور علي إبراهيم [/SIZE]
إلى الصديق العزيز الكاتب الدؤوب جاسم المطير
أطلعت على موقعكم ( القصة العراقية ) فوجدته بداية رائعة ، تبشر بأفق مشرق في مجال هذا النوع الإبداعي ، وأعجبني توجهكم في احتضان الأصوات المتميزة حيث وضعتم شرطا واحداً للنشر يتعلق بنوعية العمل وصلاحيته الفنية، دون أن يكون المانع فكرياً أو سياسياً أو شخصياً كما درج عليه الحكام وأعداء الرأي المستقل وجلادو البشر والكلمة الحرة ، وخانقو الصوت الآخر . كما أن أبواب الصفحة كثيرة ومتنوعة ، وحسنا فعلت عندما أوليت أهمية خاصة للقصة المترجمة ففتحت نافذة يطل منها القارئ على ما يكتب في العالم ، وحبذا لو تفتح باباً لقصص الأطفال أو اليافعين وأنت أعرف مني أن هذا اللون من الكتابة له كتاب كبار ويقرأه الكبار والصغار على حد سواء . وأذكرك بالكاتب المبدع زكريا تامر على سبيل المثال لا الحصر. وأرى أن تكون هناك زاوية خاصة بالإصدارات الجديدة ،وتشمل القصة والرواية والنقد ، بدلاً من رواية جديدة ، ويمكن دمج الزوايا التالية : ( آراء ، قراءات نقدية كتابات ، تحليلات نقدية، المقالات ) في باب واحد وكذلك ( من المحرر وإلى المحرر) يمكن أن تضعهما تحت عنوان واحد وأقترح زاوية أخرى تتناول الجانب النظري في فن القص ، وأرى من الضروري أن تخصص صفحة تهتم بالمرأة القاصة العراقية . وبودي أن يحافظ الموقع على خصوصيته ، فهناك كثير من الصفحات الأدبية العامة ، وأن التخصص يزيد من التركيز ويمنحنا مزيداً من المتعة والإبداع والفائدة .
بورك جهدك الرائع هذا وسلمت يدك لتخط لنا مزيداً من المبادرات وأتمنى لهذا الموقع كل التقدم والازدهار، ليأخذ له مكانة متميزة بين المحطات الأخرى ...
تقبل مني كل الحب والمودة الصادقة
صديقك
د. علي إبراهيم
21/ 9/ 2002
***
[SIZE=6]- رسالة من جاسم المطير[/SIZE]
الى أخي العزيز الدكتور علي إبراهيم المحترم .
تحية طيبة وبعد:
تقف ثقافة المكان والزمان في ذروة التاريخ الروائي في العراق ، فمن هذه الثقافة يكون الأنطلاق في البحث عن مادة الوقائع والأحداث لعمل أدبي ما . وقد قرأتُ ببالغ الأهتمام كتابكم المعنون ( الزمان والمكان في روايات غائب طعمة فرمان ..) فوجدتُ من القراءة الأولى أن ثقافتكم الأكاديمية يمكنها أن تكون قادرة حقاً على كشف المنابع الشعبية ، ومن ضمنها المكان الروائي ،التي تسهم بهذا القدر أو ذاك في تكوين ليس فقط شخصية الكاتب أنما تكشف الطريقة والوسائل المساهمة في بلورة أفكاره .
فالمكان وتابعه الزمان المحيطين بإبداع الكاتب غائب فرمان أوجدا له ميزة خاصة في فترة أنتقالية مهمة في أثناء تبلور الكيان السياسي ـ الاجتماعي في العراق، وفي حياة وحركة الشعب العراقي ، كما أوجدا عنده نوعاً من الانتماء لوطنه ولقضاياه بعيداً عن الانتماء لحزب من الأحزاب السياسية ، في وقتٍ أقترب فيه من الأوضاع السياسية التي تفرزها مفردات الحياة الإنسانية حتى في ظل التوترات السياسية .
دعني أعترف في البداية أن دراسات من هذا النوع قليلة جداً في الأدب العراقي .
كما أنه ليس كل الدراسات الصادرة عن الموضوع نفسه ، سواء .
فبعضها تناول المكان في زاوية ضيقة توقفت عند محددات مقفلة ولم يتناول "المكان كله " بما يضمه من جموع الناس القاطنة فيه مزاولة نشاطاتها الاقتصادية والسياسية المختلفة ..
لقد كانت محاولتك في تناول حياة وأبداع كاتب جريء وعميق كغائب فرمان مثل مزنة من مطر في موسم جفاف الحياة الأدبية العراقية في الوقت الراهن . إن فن تناول السيرة الذاتية أو " السيرة الروائية " لأي كاتب منعكساً في التأثير المتبادل أو المتكامل بين أدبه وحياته ، هو رغم عظمته ، في الآداب العالمية ، إلاّ أنه لم ينمو ، بعد ، في الأدب العراقي . فالمحاولات في هذا الصدد معدودة وقليلة ، خاصة المحاولات الأكاديمية ،التي تركزت بالدرجة الأساسية على الشعراء العراقيين " . أما الدراسات عن القصة والرواية فهي قليلة جداً تناول بعضها المصادر المحدودة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي من قبل عدد من الباحثين العراقيين الذين اعتمدت دراستك على بعض معطياتهم ..
ينبغي ان يكون ثمة انتقاء. هذا ما قاله هربرت ريد .
على أساس فلسفة الانتقاء أرى أن ولوجك لأدب الروائي العراقي غائب فرمان كان صعباً حقاً وربما أستغرق منك سنوات عديدة كما أظن ، لكنه في الحقيقة كان ولوجاً على درجة عالية من الوعي ، بل كما يلج الكيمياوي إلى مختبره حاملاً معه أدوات التحاليل كاملة . لقد وفرتَ ليس فقط محاولة وزن كفاءته الروائية بل تحقق ، موضوعياً ، من خلال ذلك البحث في الينبوع الفياض لكل كتاباته ، أعني كشف الحياة اليومية في بقعة من " مكان " المجتمع العراقي ما أوصلك بالنتيجة إلى إغناء ساحة الإبداع والنقد الأدبيين في العراق مما يجعل كتابك إضاءة ستستفيد منها الدراسات اللاحقة في قضايا عديدة مطروحة في مجال الأدب الروائي .
تخصص القسم الأول من الكتاب في البحث عن الكاتب العراقي فرمان تحت عنوان " شيء عن غائب طعمة فرمان " . بدا من كلمة " شيْ " الواردة فيه أنك فضلت الأقتصاد في الكلام عند تحريرك هذا القسم بالأقتصار على " جانب " واحد من سيرة الكاتب . لكنني وجدتُك من ناحية أخرى أنك لم تعطِ نفسك فرصة الراحة ، إذ تعقبتَ أبرز جوانب حياة غائب فرمان متناولاً نشأته وعمله وثقافته ولغته ، وأهتماماته الأدبية الأولى ونواحي تطورها ، فقدمتَ نظرة واسعة ، في بضع صفحات ، كاشفاً تنويعات كثيرة عن حياة هذا الكاتب المتمرس بصفته روائياً ، مذكراً بأمثلة عديدة برهاناً لما قلته عنه .
كما تعقبتَ الكثير من أقوال باحثين آخرين تطرقوا ، من قبل ، إلى بعض جوانب حياة وأبداعات فرمان في مجال تطوير الرواية العراقية ، الذي أسهم بالدرجة الأولى في نقل روايته من الحيز العراقي الضيق إلى الأفق العربي الواسع .
بدا لي من أول وهلة أن المؤلف ( د.علي إبراهيم ) يملك خزيناً من " المعلومات " عن موضوعه بل هي " المعرفة " بعينها . كما بدا لي انه سيخوض تجربة الكشف عن واقعية القص في روايات غائب فرمان بمشروع إنشاء شبكة من التحليلات الرابطة بين ستينات أو خمسينات القرن العشرين حتى نهايته ، أي الفترة التي عاشها غائب كأديب مشخص . ربما يواجه ( مؤلف الكتاب ) في هذا المشروع معارك مع آخرين ـ عبر المقارنة بين غائب وغيره من روائيي العراق ـ أو ربما يجد نفسه معاوناً لآخرين سبقوه في تناول أدب غائب فرمان أو مكملاً لهم . لكنه هندس شبكته المعلوماتية وأدواته المعرفية عن سيرة الروائي بمعزل عن التبادل والتواصل مع آخرين إذ لا بد أن نتذكر أن كتابة الكتب تشبه خوض المعارك . فقد تحاشى أي شكل من أشكال المقارنة مع مجايليه أو مع من سبقوه.
جال الدكتور علي إبراهيم جولة مكثفة سريعة لمتابعة آثار ما كتب عن غائب فرمان داخل العراق وخارجه لأعادة إنتاج أفكار الذين سبقوه فيما كتبوا عنه . فقد تابع مصادر الكتب المنشورة عنه أو الكتب التي أحتل بعض صفحاتها أو المقابلات الصحفية أو المقالات المنشورة كي يستدعي ذاكرة الوصول إلى تقييم ينبوع الإبداع في روايات فرمان .
بيد أنني أريد هنا التوجه بسؤال حول دور اللغة الأجنبية ، قراءة وكتابة ، في التأثير على أدب غائب فرمان ، خاصة اللغة الروسية التي جعلته قريباً جداً من أدب الكتاب السوفيات الذي أمتاز بما سمي في حينه بالواقعية الاشتراكية . لا ننسى أن الواقعية الاشتراكية ذاتها بما ملكته من قدرة دفع الكتّاب نحو أعماق المجتمع قد جعلت أجيالاً عديدة وكتاباً عديدين في العالم العربي يجدون أنفسهم في هذا المرفأ.
فهل خلق هذا الواقع وعياً مؤثراً في أدب الكاتب العراقي الذي عاش ردحاً طويلاً من الزمن في روسيا تزوج منها امرأة أحبها أنجبت له ، كما انغمر في ترجمة أهم آثار الواقعية الاشتراكية .
هنا نحتاج إلى مقارنات ومقاربات في منابع الأدب الروائي لغائب فرمان خاصة وأنك أبتعدت عن تنسيبه إلى جيل معين من الأجيال الأدبية العراقية . أظن أنك محق في ذلك .
في الكشوف العديدة لدراسات الواقعية الاشتراكية نجد ان لكتاب هذه المدرسة ولنتاجهم الإبداعي في الشعر والنثر صفات وعلامات خاصة ، لبعضها ميزة مبتكرة عمقت الصلة بين الأدب والناس ، وبعضها تدنى إلى مستوى من الضعف الفني حوكم من النقاد على أنه نوع من التبعية للأيديولوجيا الحكومية والحزبية السائدة .
إذا عدنا لروايات النخلة والجيران وخمسة أصوات وآلام السيد معروف وغيرها ، ألا يجدّ الباحث الأدبي أن يضعها في قاعة المحاكم النقدية للتعرف على مقدار التأثير بينها وبين البيئة التي عاشها غائب فرمان في أعلى مراحل وعيه ، أعني بيئة الواقعية الاشتراكية ..؟
إن حواراً طال ويطول بشأن هذه المدرسة وبشأن أولئك الكتاب الروس وكتاباً عالميين آخرين وقعوا تحت تأثيرها. وقد أستمر النقاد الباحثون حتى الآن في محاولاتهم للكشف عن قوة وضعف هذا النوع من الادب . وليس هناك وسيلة أفضل من دراسة واقعية أدب غائب فرمان للولوج إلى داخله للتبصر في أسباب تحرره من قيود الأيديولوجيا في أدبه ، وانتمائه إلى واقعية عراقية خالصة تحكمت في ولادتها نوعية خاصة ومستقلة من الافكار .
لقد تخصص غائب فرمان، كما ظهر من فصول هذا الكتاب ، في السعي لبلوغ ومتابعة معاناة الفرد العراقي في أعماق المجتمع . بهذا المعنى كان غائب كاتباً ستراتيجياً يحمل ضميراً انتقادياً حراً ، عمل بشكل (بعيد) عن (مكان) مجتمعه لكنه استطاع (عن قرب ) محاورة افراده بكل طبقاتهم وأصناف مهنهم ومراتبهم الاجتماعية وعلى مختلف صفاتهم الأخلاقية ، فاجأ تبعاً لذلك جميع قرائه بما أستخلصه من عمق الرؤية الروائية الداخلية في المجتمع .
من تحليل رواياته نجد فيها تكثيفاً واضحاً لواقعية معاناة أبطاله في مجتمع متخلف يعاني بلا حدود من نتائج هذا التخلف . بنفس التحليل يمكن التوصل إلى نقاط التقاء كثيرة مع كتابات رموز الواقعية ، والواقعية الاشتراكية بالذات كالبساطة في استخدام اللغة بعيداً عن استخدامات تعقيداتها أو تراثياتها مسلطاً الأضواء على حركة ومعيشة وثقافة أبطال رواياته المتربعين في زوايا العتمة الاجتماعية . كانت جميع شخوصه عادية ومألوفة اجتماعيا كما هو نمط شخصيات الواقعية الاشتراكية ، مع فرق وحيد ان غائب فرمان تخلص من كل أشكال المبالغة التي وصمت آثار الواقعيين الأشتراكيين .
بهذا الصدد ينبغي تتبع النماذج المختلفة التي استدعاها في قصصه ورواياته ، بما في ذلك الشخصيات الكوميدية ، أو الشخصيات الساذجة التي مثار التهكمية وعددهم كان كبيراً في معظم أعماله أبتداءً من النخلة والجيران وهي ذات صفة واقعية تعكس واقع حال المجتمع وتاريخه .
عند تحليل ( المكان) في الفصل الثاني ، النخلة والجيران ، مثلاً كان الوصف مقتصراً على (شكل) المكان و(حدود ) المكان . أما عمقه غير المرئي فلم يحلل. فالعمق الأساسي هنا هو عمق طبقي بالدرجة الأولى . فالمكان البائس الموصوف من قبل الراوي كان يرمز للطبقة الفقيرة العاملة في مجتمع حديث العهد بالتصنيع الاستهلاكي آخذ في تجميع الناس القادمين من من خارجها فيتكدسون ، أفراداً وعوائل ، في بيت واحد أو في أزقة ضيقة تفرز علاقات اجتماعية معينة متدنية بأوصاف نفسية معينة تصل حد الرثاثة . أهم ما في تلك العلاقات والصفات هو التوتر والمشاكسة والانغمار في حياة عقيمة . وقد بدأتَ في تشخيص هذه الأمكنة التي قلتَ عنها (أنها بائسة كبؤس الشخصيات ) .
هذه الناحية تحتاج إلى التعمق فأن ( المكان ) في رواية النخلة والجيران ، كما في أغلب روايات فرمان يعكس مدلولات عميقة أولها أن الصراع الطبقي لم يكن واضحاً بعد في المجتمع العراقي . بل أن هذه الرواية بصفة خاصة قدمت الصراع الثانوي كناتج عن الجهل بالدرجة الأولى .. وأظن أن فرمان كان واعياً لهذا الاستنتاج مما يتطلب التعمق برؤية جديدة لتحليل ( الواقع الاجتماعي ) في بلد متخلف .
أما المكان في خمسة أصوات فهو إجمالاً مختلف عن ( المكان ) السابق . فإضافة لأماكن السكن البائسة غير أن استخدام ( المقهى ) له دلالات أخرى . فالمقهى ، كما أرادها فرمان ، هي ( مكان ) التجمع الذكوري في المجتمع ،وهي مكان جديد النوع لذوبان بعض علائم الفردية ، كما أنها مكان لتبادل الآراء وتحسس مشاكل فردية متبادلة يضاف اليها تحسس المشاكل العامة . باختصار فان المقهى في العادة هي مكان الحوار بين الآراء المختلفة. ألا ينبغي كشف هذا كله في البحث عن دور ( المكان) ورموزه .
في هذه الحالة تتوفر فرصة تحليلية أعمق لرؤية فرمان لمجتمعه وحركة الأحداث والشخصيات فيه .
لماذا خمسة أصوات ..؟ أليس في ذلك بداية لاستخدام رمز موحي . ما العلاقة أيضاً بين ( الصوت ) و ( المكان ) أي بين الرمز والمكان .
لا أريد تكرار هذه الجوانب في الإشارة إلى بقية روايات فرمان وأمكنتها ذات الدلالات المختلفة . بل أكتفي بالإشارة إلى قولك نفسه في الصفحة 46 حين قلت: (في حالة تجرد المكان عن مدلوله الرمزي يتحول إلى وصف فارغ لا معنى له ).
لاحظتُ أسلوبك عند كتابة مقدمة لكتابي المعنون " أنا عشيقة الوزير " فتكونت عندي نفس الملاحظة في دراستك عن فرمان أنك لا تستخدم روح النقد ووسيلته بل تقوم و تكتفي بـ(عرض) القصة أي استعراض تنقل كاتبها من مشهد إلى مشهد ومن حركة إلى حركة ومن حوار إلى آخر . هذا الأسلوب لا يساعد القارئ في شيء لأنه هو ذاته قد قرأ القصة .
هناك فرق جوهري بين ( العرض) و( النقد ) وهناك فرق بين (العرض) و ( البحث) . ففي حالتي النقد والبحث يستلزم القيام بعملية (تقصي) واسعة عن كل شيء ، عن المكان والزمان وجوهر استخدامهما ، كما يستلزم الغوص هنا وهناك في شكل القصة ومضمونها للتوصل إلى استنتاجات واكتشافات لغوية وتكنيكية ومضمونية اعتماداً على معايير أساسية في فن القص والروي .
أن (عرض) الرواية ليس مجرد ( تعضيد) أو (تشجيع ) من الناقد إلى المؤلف ، كما أن (النقد) ليس مجرد تقريع الناقد للمؤلف . فكل كتابة وكل كاتب يحتاجان للباحث والناقد كي يسهما معاً في كشف الموضوعة الفنية وتطوير آفاقها .
من دون هذا الأسلوب فأن أدبنا العراقي سوف يختنق .
أنا واثق جداً من إمكانياتك الأكاديمية التي أوضحها الجوهر الأساسي المعتمد في صياغات كتاب ( الزمان والمكان في روايات غائب طعمة فرمان ) لكن الأكاديمي يجب أن يحويلها من رياح هابة إلى نسيم معتدل قادر على المساهمة في عملية إزهار الرؤية النقدية والأدبية . بوسعك إذاً استخدام ثقافتك وذكاءك الواضحين في الكتاب في استخدام نقد لا " يخبرنا " فقط عن الموضوع الذي تتناوله هذه الرواية أو تلك بل يخبرنا عن الموقع الأدبي الرفيع الذي تحتله في الثقافة العراقية ، أو العكس تخبرنا عن الضعف الذي قد يؤدي إلى قطيعة الرواية عن جمهورها .
لا بد من الإشارة إلى أن مجرد (عرض) الرواية هو (مهنة) صحفية لبعض أختصاصيي الصفحات الثقافية ، بينما النقد المتقصي هو (علم ) مختص بجانب من جوانب الحياة الأدبية . وأنت مؤهل للثاني وليس للأول .
لقد كتب غائب فرمان روايات عديدة تكفي عند دراستها لأن تكون عملاً تجريبياً هاماً في رؤيا الرواية العراقية المعاصرة .
هذا التجريب هو الذي ينبغي ان يكون محل البحث .
أن الروائي ليس أنساناً اعتياديا ، خاصة من مستوى فرمان بل هو أنسان ينجز عمله في عالم متخيل يبتكره لا لنفسه ، لكنه لا يستطيع ان يرتبه في مستقبل الأدب ككل إلاّ بتدخل واضح وصريح من النقد والناقد ، وأنه لأمر حتمي ان يكون هذا التدخل متناقضاً مع الكاتب أو معارضاً له أو مؤيداً ، في كل الحالات يتطلب من الناقد أو الباحث كفاءة وتجربة توازي كفاءة وتجربة الطبيب الجراح المتوجه إلى صالة العمليات الذي يمنح لمريضه حياة أو تحسيناً لحياته بعد حين .
بقدر ما تحقق روايات غائب فرمان هوية أبطالها راصدة حركاتها وتطورها ، بقدر ما يحتاج بحثك عن مكانهم وزمانهم البحث عن الهويتين الاجتماعية والتاريخية المتفاعلتين داخل العمل الروائي نفسه . فمهمة الباحث بالأساس هي الإجابة على سؤال: هل أن الهويات جميعها في الرواية الواحدة متوافقة مع منظور الرواية . هل أن آلام السيد معروف مثلاً مؤتلفة مع تاريخية الواقع الاجتماعي وتفصيلاته . هل ان رموز ( المركب ) متوافقة مع (أبعاد) الموضوع . بماذا يمكن تصنيفها أدبياً : هل هي رواية تغيير ..؟ أم هي رواية تقرير ..؟
هذا السؤال يحتاج الدخول في خطوط عريضة للعلاقة العقلية والتخييل الفني في أعمال فرمان .
أشير هنا إشارة سريعة إلى ما قاله الناقد والروائي الفرنسي ميشيل بوتور " في وقتنا الحاضر لا وجود لشكل ادبي يتمتع بالقوة التي تتمتع بها الرواية .إذ أننا نستطيع أن نربطها بدقة تامة ، بالعقل أو العاطفة بحوادث حياتنا التي لا قيمة لها بما يتعلق بالأفكار والحدس والأحلام . لكنها مع ذلك هي وسيلة مدهشة في الصمود والاستمرار في العيش بأدراكٍ في عالم مخيف يهاجمنا من كل مكان .." . من هذا المنطلق يمكن تحويل العلاقة الفردية التي تبدو هامشية في النخلة والجيران مثلاً أو في غيرها إلى افق جماعي يوحي بمدى العلاقة بين الرواية والتاريخ .
لا أريد الإطالة بالتحدث عن الفصول الخاصة بالزمان في روايات فرمان فأنني أرى نفس الأسس في علاقتها بالتاريخ .
جدير بالملاحظة أنك توليت في هذه الفصول مسافة كافية لتمرير خطوط الضوء الكاشفة لعلاقة الزمن الروائي الفرماني بالتاريخ العراقي .
لقد كان الفصل الخاص المعنون (علاقة المكان باللغة عند غائب طعمة فرمان ) قائماً على الأسس التي أراها ضرورية في البحث الأكاديمي . هذا الفصل هو النموذج المطلوب في بحث كل الجوانب الأخرى وحبذا لو جرى توسيعه بالدخول إلى دلالات اللغة الفرمانية واسباب خلوها من اللغة القاموسية التي يدعو لها أصحاب الحداثة في هذا الوقت .
أتذكر بهذه المناسبة رواية (النفوس الميتة ) لنيقولاي جوجول . أنقسم النقاد بشأنها إلى ثلاثة أقسام :
· القسم الأول وصفها بانها رواية الأضحاك والتسلية . "كان جوجول أستخدم أسلوبه التهكمي الساخر ".
· القسم الثاني وجد فيها أعنف نقد وأعظم الهجاء للمجتمع الروسي .
· القسم الثالث من النقاد وجد فيها مساساً عنيفاً بالشخصية الروسية .
وقد كانت لغة الرواية المذكورة هي التي هزت النقاد وجذبتهم لمتابعة الرواية ودراستها . واللغة ذاتها هي التي خلقت له الكثير من المتاعب الأدبية وغيرها فاضطر فيما بعد إلى اصدار جزء ثان للرواية مدافعاً فيها عن فضائل الشخصية الروسية . لكن من دون جدوى فقد ظلت ( النفوس الميتة ) رواية لها أمتياز خاص في الادب الروسي .
كان تناول البناء الزماني في روايات فرمان قد أخذ بعض التفاصيل المهمة التي شرحت عدداً من المعاني التي فاتها تسليط الضوء عند البحث في المكان . هذه نقطة إشارة واضحة تسجل للدكتور علي إبراهيم إذ بنى ترابطاً بين المكان ، واللغة ، والزمان . وبذلك حرر نفسه وحرر كتابه من تبعة الحمولة الثقيلة التي ترهق البحث بالتفاصيل الصغيرة أحياناً ، فاعتماده على تحاليل معطيات السرد الاسترجاعي كحساب من حسابات الزمن الماضي ، بالاستفادة في ذات الوقت من السرد الاستشرافي كحساب من حسابات المستقبل ، منح من دون شك عمقاً أضافياً لبحثه خاصة وأنه أخذ من الخطاب الروائي وسيلة لتفكيك الزمن ، بالعكس مما فعله أثناء تفكيك المكان وسيلة لبناء الرؤية الاجتماعية .
أيها الصديق:
ختاماً أقول أن جهدك في الكتاب سيضعه في مصاف الدراسات الغنية المهمة في مكتبة الأدب العراقي . فقد تحركتَ في البحث بحركة مضبوطة في إعادة توليد روايات غائب فرمان بكشف المفارقة التاريخية في المجتمع العراقي بمراحل متعددة من تطوره بكيفية ملموسة وواضحة وغنية .
بكل فخر أقول: أن رؤياك في هذا الكتاب تدل على غزارة ثقافة أدبية متسعة ومتعددة بما تشكل طروحات تجعل من كتاب ( المكان والزمان في روايات غائب طعمة فرمان ) لبنة أساسية في نظرية الرواية العراقية . فقد وضع كتابك علامات هامة عن الدلالة العامة للرواية ومعناها ونهجها من الوجهة الفلسفية والتاريخية متمنياً لك الصبر الطويل لتقديم أعمال جديدة مكملة لتنظير الرواية العراقية .
أتمنى أن يتم طبع الكتاب بأقرب وقت لما يحمل من روح وطبيعة مؤثرتين في اللحظات الراهنة في الكتابة الروائية العراقية.
ــــــــــــ
أخوكم جاسم المطير
بصرةلاهاي في 6/10/001
ـــــــــــــــــــــ
ملاحظات :
تجد في متن مسودة الكتاب ملاحظات صغيرة أخرى أشرتها بالقلم الرصاص . الموقف النهائي منها يعود لك ولحريتك .
إلى الصديق العزيز الكاتب الدؤوب جاسم المطير
أطلعت على موقعكم ( القصة العراقية ) فوجدته بداية رائعة ، تبشر بأفق مشرق في مجال هذا النوع الإبداعي ، وأعجبني توجهكم في احتضان الأصوات المتميزة حيث وضعتم شرطا واحداً للنشر يتعلق بنوعية العمل وصلاحيته الفنية، دون أن يكون المانع فكرياً أو سياسياً أو شخصياً كما درج عليه الحكام وأعداء الرأي المستقل وجلادو البشر والكلمة الحرة ، وخانقو الصوت الآخر . كما أن أبواب الصفحة كثيرة ومتنوعة ، وحسنا فعلت عندما أوليت أهمية خاصة للقصة المترجمة ففتحت نافذة يطل منها القارئ على ما يكتب في العالم ، وحبذا لو تفتح باباً لقصص الأطفال أو اليافعين وأنت أعرف مني أن هذا اللون من الكتابة له كتاب كبار ويقرأه الكبار والصغار على حد سواء . وأذكرك بالكاتب المبدع زكريا تامر على سبيل المثال لا الحصر. وأرى أن تكون هناك زاوية خاصة بالإصدارات الجديدة ،وتشمل القصة والرواية والنقد ، بدلاً من رواية جديدة ، ويمكن دمج الزوايا التالية : ( آراء ، قراءات نقدية كتابات ، تحليلات نقدية، المقالات ) في باب واحد وكذلك ( من المحرر وإلى المحرر) يمكن أن تضعهما تحت عنوان واحد وأقترح زاوية أخرى تتناول الجانب النظري في فن القص ، وأرى من الضروري أن تخصص صفحة تهتم بالمرأة القاصة العراقية . وبودي أن يحافظ الموقع على خصوصيته ، فهناك كثير من الصفحات الأدبية العامة ، وأن التخصص يزيد من التركيز ويمنحنا مزيداً من المتعة والإبداع والفائدة .
بورك جهدك الرائع هذا وسلمت يدك لتخط لنا مزيداً من المبادرات وأتمنى لهذا الموقع كل التقدم والازدهار، ليأخذ له مكانة متميزة بين المحطات الأخرى ...
تقبل مني كل الحب والمودة الصادقة
صديقك
د. علي إبراهيم
21/ 9/ 2002
***
[SIZE=6]- رسالة من جاسم المطير[/SIZE]
الى أخي العزيز الدكتور علي إبراهيم المحترم .
تحية طيبة وبعد:
تقف ثقافة المكان والزمان في ذروة التاريخ الروائي في العراق ، فمن هذه الثقافة يكون الأنطلاق في البحث عن مادة الوقائع والأحداث لعمل أدبي ما . وقد قرأتُ ببالغ الأهتمام كتابكم المعنون ( الزمان والمكان في روايات غائب طعمة فرمان ..) فوجدتُ من القراءة الأولى أن ثقافتكم الأكاديمية يمكنها أن تكون قادرة حقاً على كشف المنابع الشعبية ، ومن ضمنها المكان الروائي ،التي تسهم بهذا القدر أو ذاك في تكوين ليس فقط شخصية الكاتب أنما تكشف الطريقة والوسائل المساهمة في بلورة أفكاره .
فالمكان وتابعه الزمان المحيطين بإبداع الكاتب غائب فرمان أوجدا له ميزة خاصة في فترة أنتقالية مهمة في أثناء تبلور الكيان السياسي ـ الاجتماعي في العراق، وفي حياة وحركة الشعب العراقي ، كما أوجدا عنده نوعاً من الانتماء لوطنه ولقضاياه بعيداً عن الانتماء لحزب من الأحزاب السياسية ، في وقتٍ أقترب فيه من الأوضاع السياسية التي تفرزها مفردات الحياة الإنسانية حتى في ظل التوترات السياسية .
دعني أعترف في البداية أن دراسات من هذا النوع قليلة جداً في الأدب العراقي .
كما أنه ليس كل الدراسات الصادرة عن الموضوع نفسه ، سواء .
فبعضها تناول المكان في زاوية ضيقة توقفت عند محددات مقفلة ولم يتناول "المكان كله " بما يضمه من جموع الناس القاطنة فيه مزاولة نشاطاتها الاقتصادية والسياسية المختلفة ..
لقد كانت محاولتك في تناول حياة وأبداع كاتب جريء وعميق كغائب فرمان مثل مزنة من مطر في موسم جفاف الحياة الأدبية العراقية في الوقت الراهن . إن فن تناول السيرة الذاتية أو " السيرة الروائية " لأي كاتب منعكساً في التأثير المتبادل أو المتكامل بين أدبه وحياته ، هو رغم عظمته ، في الآداب العالمية ، إلاّ أنه لم ينمو ، بعد ، في الأدب العراقي . فالمحاولات في هذا الصدد معدودة وقليلة ، خاصة المحاولات الأكاديمية ،التي تركزت بالدرجة الأساسية على الشعراء العراقيين " . أما الدراسات عن القصة والرواية فهي قليلة جداً تناول بعضها المصادر المحدودة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي من قبل عدد من الباحثين العراقيين الذين اعتمدت دراستك على بعض معطياتهم ..
ينبغي ان يكون ثمة انتقاء. هذا ما قاله هربرت ريد .
على أساس فلسفة الانتقاء أرى أن ولوجك لأدب الروائي العراقي غائب فرمان كان صعباً حقاً وربما أستغرق منك سنوات عديدة كما أظن ، لكنه في الحقيقة كان ولوجاً على درجة عالية من الوعي ، بل كما يلج الكيمياوي إلى مختبره حاملاً معه أدوات التحاليل كاملة . لقد وفرتَ ليس فقط محاولة وزن كفاءته الروائية بل تحقق ، موضوعياً ، من خلال ذلك البحث في الينبوع الفياض لكل كتاباته ، أعني كشف الحياة اليومية في بقعة من " مكان " المجتمع العراقي ما أوصلك بالنتيجة إلى إغناء ساحة الإبداع والنقد الأدبيين في العراق مما يجعل كتابك إضاءة ستستفيد منها الدراسات اللاحقة في قضايا عديدة مطروحة في مجال الأدب الروائي .
تخصص القسم الأول من الكتاب في البحث عن الكاتب العراقي فرمان تحت عنوان " شيء عن غائب طعمة فرمان " . بدا من كلمة " شيْ " الواردة فيه أنك فضلت الأقتصاد في الكلام عند تحريرك هذا القسم بالأقتصار على " جانب " واحد من سيرة الكاتب . لكنني وجدتُك من ناحية أخرى أنك لم تعطِ نفسك فرصة الراحة ، إذ تعقبتَ أبرز جوانب حياة غائب فرمان متناولاً نشأته وعمله وثقافته ولغته ، وأهتماماته الأدبية الأولى ونواحي تطورها ، فقدمتَ نظرة واسعة ، في بضع صفحات ، كاشفاً تنويعات كثيرة عن حياة هذا الكاتب المتمرس بصفته روائياً ، مذكراً بأمثلة عديدة برهاناً لما قلته عنه .
كما تعقبتَ الكثير من أقوال باحثين آخرين تطرقوا ، من قبل ، إلى بعض جوانب حياة وأبداعات فرمان في مجال تطوير الرواية العراقية ، الذي أسهم بالدرجة الأولى في نقل روايته من الحيز العراقي الضيق إلى الأفق العربي الواسع .
بدا لي من أول وهلة أن المؤلف ( د.علي إبراهيم ) يملك خزيناً من " المعلومات " عن موضوعه بل هي " المعرفة " بعينها . كما بدا لي انه سيخوض تجربة الكشف عن واقعية القص في روايات غائب فرمان بمشروع إنشاء شبكة من التحليلات الرابطة بين ستينات أو خمسينات القرن العشرين حتى نهايته ، أي الفترة التي عاشها غائب كأديب مشخص . ربما يواجه ( مؤلف الكتاب ) في هذا المشروع معارك مع آخرين ـ عبر المقارنة بين غائب وغيره من روائيي العراق ـ أو ربما يجد نفسه معاوناً لآخرين سبقوه في تناول أدب غائب فرمان أو مكملاً لهم . لكنه هندس شبكته المعلوماتية وأدواته المعرفية عن سيرة الروائي بمعزل عن التبادل والتواصل مع آخرين إذ لا بد أن نتذكر أن كتابة الكتب تشبه خوض المعارك . فقد تحاشى أي شكل من أشكال المقارنة مع مجايليه أو مع من سبقوه.
جال الدكتور علي إبراهيم جولة مكثفة سريعة لمتابعة آثار ما كتب عن غائب فرمان داخل العراق وخارجه لأعادة إنتاج أفكار الذين سبقوه فيما كتبوا عنه . فقد تابع مصادر الكتب المنشورة عنه أو الكتب التي أحتل بعض صفحاتها أو المقابلات الصحفية أو المقالات المنشورة كي يستدعي ذاكرة الوصول إلى تقييم ينبوع الإبداع في روايات فرمان .
بيد أنني أريد هنا التوجه بسؤال حول دور اللغة الأجنبية ، قراءة وكتابة ، في التأثير على أدب غائب فرمان ، خاصة اللغة الروسية التي جعلته قريباً جداً من أدب الكتاب السوفيات الذي أمتاز بما سمي في حينه بالواقعية الاشتراكية . لا ننسى أن الواقعية الاشتراكية ذاتها بما ملكته من قدرة دفع الكتّاب نحو أعماق المجتمع قد جعلت أجيالاً عديدة وكتاباً عديدين في العالم العربي يجدون أنفسهم في هذا المرفأ.
فهل خلق هذا الواقع وعياً مؤثراً في أدب الكاتب العراقي الذي عاش ردحاً طويلاً من الزمن في روسيا تزوج منها امرأة أحبها أنجبت له ، كما انغمر في ترجمة أهم آثار الواقعية الاشتراكية .
هنا نحتاج إلى مقارنات ومقاربات في منابع الأدب الروائي لغائب فرمان خاصة وأنك أبتعدت عن تنسيبه إلى جيل معين من الأجيال الأدبية العراقية . أظن أنك محق في ذلك .
في الكشوف العديدة لدراسات الواقعية الاشتراكية نجد ان لكتاب هذه المدرسة ولنتاجهم الإبداعي في الشعر والنثر صفات وعلامات خاصة ، لبعضها ميزة مبتكرة عمقت الصلة بين الأدب والناس ، وبعضها تدنى إلى مستوى من الضعف الفني حوكم من النقاد على أنه نوع من التبعية للأيديولوجيا الحكومية والحزبية السائدة .
إذا عدنا لروايات النخلة والجيران وخمسة أصوات وآلام السيد معروف وغيرها ، ألا يجدّ الباحث الأدبي أن يضعها في قاعة المحاكم النقدية للتعرف على مقدار التأثير بينها وبين البيئة التي عاشها غائب فرمان في أعلى مراحل وعيه ، أعني بيئة الواقعية الاشتراكية ..؟
إن حواراً طال ويطول بشأن هذه المدرسة وبشأن أولئك الكتاب الروس وكتاباً عالميين آخرين وقعوا تحت تأثيرها. وقد أستمر النقاد الباحثون حتى الآن في محاولاتهم للكشف عن قوة وضعف هذا النوع من الادب . وليس هناك وسيلة أفضل من دراسة واقعية أدب غائب فرمان للولوج إلى داخله للتبصر في أسباب تحرره من قيود الأيديولوجيا في أدبه ، وانتمائه إلى واقعية عراقية خالصة تحكمت في ولادتها نوعية خاصة ومستقلة من الافكار .
لقد تخصص غائب فرمان، كما ظهر من فصول هذا الكتاب ، في السعي لبلوغ ومتابعة معاناة الفرد العراقي في أعماق المجتمع . بهذا المعنى كان غائب كاتباً ستراتيجياً يحمل ضميراً انتقادياً حراً ، عمل بشكل (بعيد) عن (مكان) مجتمعه لكنه استطاع (عن قرب ) محاورة افراده بكل طبقاتهم وأصناف مهنهم ومراتبهم الاجتماعية وعلى مختلف صفاتهم الأخلاقية ، فاجأ تبعاً لذلك جميع قرائه بما أستخلصه من عمق الرؤية الروائية الداخلية في المجتمع .
من تحليل رواياته نجد فيها تكثيفاً واضحاً لواقعية معاناة أبطاله في مجتمع متخلف يعاني بلا حدود من نتائج هذا التخلف . بنفس التحليل يمكن التوصل إلى نقاط التقاء كثيرة مع كتابات رموز الواقعية ، والواقعية الاشتراكية بالذات كالبساطة في استخدام اللغة بعيداً عن استخدامات تعقيداتها أو تراثياتها مسلطاً الأضواء على حركة ومعيشة وثقافة أبطال رواياته المتربعين في زوايا العتمة الاجتماعية . كانت جميع شخوصه عادية ومألوفة اجتماعيا كما هو نمط شخصيات الواقعية الاشتراكية ، مع فرق وحيد ان غائب فرمان تخلص من كل أشكال المبالغة التي وصمت آثار الواقعيين الأشتراكيين .
بهذا الصدد ينبغي تتبع النماذج المختلفة التي استدعاها في قصصه ورواياته ، بما في ذلك الشخصيات الكوميدية ، أو الشخصيات الساذجة التي مثار التهكمية وعددهم كان كبيراً في معظم أعماله أبتداءً من النخلة والجيران وهي ذات صفة واقعية تعكس واقع حال المجتمع وتاريخه .
عند تحليل ( المكان) في الفصل الثاني ، النخلة والجيران ، مثلاً كان الوصف مقتصراً على (شكل) المكان و(حدود ) المكان . أما عمقه غير المرئي فلم يحلل. فالعمق الأساسي هنا هو عمق طبقي بالدرجة الأولى . فالمكان البائس الموصوف من قبل الراوي كان يرمز للطبقة الفقيرة العاملة في مجتمع حديث العهد بالتصنيع الاستهلاكي آخذ في تجميع الناس القادمين من من خارجها فيتكدسون ، أفراداً وعوائل ، في بيت واحد أو في أزقة ضيقة تفرز علاقات اجتماعية معينة متدنية بأوصاف نفسية معينة تصل حد الرثاثة . أهم ما في تلك العلاقات والصفات هو التوتر والمشاكسة والانغمار في حياة عقيمة . وقد بدأتَ في تشخيص هذه الأمكنة التي قلتَ عنها (أنها بائسة كبؤس الشخصيات ) .
هذه الناحية تحتاج إلى التعمق فأن ( المكان ) في رواية النخلة والجيران ، كما في أغلب روايات فرمان يعكس مدلولات عميقة أولها أن الصراع الطبقي لم يكن واضحاً بعد في المجتمع العراقي . بل أن هذه الرواية بصفة خاصة قدمت الصراع الثانوي كناتج عن الجهل بالدرجة الأولى .. وأظن أن فرمان كان واعياً لهذا الاستنتاج مما يتطلب التعمق برؤية جديدة لتحليل ( الواقع الاجتماعي ) في بلد متخلف .
أما المكان في خمسة أصوات فهو إجمالاً مختلف عن ( المكان ) السابق . فإضافة لأماكن السكن البائسة غير أن استخدام ( المقهى ) له دلالات أخرى . فالمقهى ، كما أرادها فرمان ، هي ( مكان ) التجمع الذكوري في المجتمع ،وهي مكان جديد النوع لذوبان بعض علائم الفردية ، كما أنها مكان لتبادل الآراء وتحسس مشاكل فردية متبادلة يضاف اليها تحسس المشاكل العامة . باختصار فان المقهى في العادة هي مكان الحوار بين الآراء المختلفة. ألا ينبغي كشف هذا كله في البحث عن دور ( المكان) ورموزه .
في هذه الحالة تتوفر فرصة تحليلية أعمق لرؤية فرمان لمجتمعه وحركة الأحداث والشخصيات فيه .
لماذا خمسة أصوات ..؟ أليس في ذلك بداية لاستخدام رمز موحي . ما العلاقة أيضاً بين ( الصوت ) و ( المكان ) أي بين الرمز والمكان .
لا أريد تكرار هذه الجوانب في الإشارة إلى بقية روايات فرمان وأمكنتها ذات الدلالات المختلفة . بل أكتفي بالإشارة إلى قولك نفسه في الصفحة 46 حين قلت: (في حالة تجرد المكان عن مدلوله الرمزي يتحول إلى وصف فارغ لا معنى له ).
لاحظتُ أسلوبك عند كتابة مقدمة لكتابي المعنون " أنا عشيقة الوزير " فتكونت عندي نفس الملاحظة في دراستك عن فرمان أنك لا تستخدم روح النقد ووسيلته بل تقوم و تكتفي بـ(عرض) القصة أي استعراض تنقل كاتبها من مشهد إلى مشهد ومن حركة إلى حركة ومن حوار إلى آخر . هذا الأسلوب لا يساعد القارئ في شيء لأنه هو ذاته قد قرأ القصة .
هناك فرق جوهري بين ( العرض) و( النقد ) وهناك فرق بين (العرض) و ( البحث) . ففي حالتي النقد والبحث يستلزم القيام بعملية (تقصي) واسعة عن كل شيء ، عن المكان والزمان وجوهر استخدامهما ، كما يستلزم الغوص هنا وهناك في شكل القصة ومضمونها للتوصل إلى استنتاجات واكتشافات لغوية وتكنيكية ومضمونية اعتماداً على معايير أساسية في فن القص والروي .
أن (عرض) الرواية ليس مجرد ( تعضيد) أو (تشجيع ) من الناقد إلى المؤلف ، كما أن (النقد) ليس مجرد تقريع الناقد للمؤلف . فكل كتابة وكل كاتب يحتاجان للباحث والناقد كي يسهما معاً في كشف الموضوعة الفنية وتطوير آفاقها .
من دون هذا الأسلوب فأن أدبنا العراقي سوف يختنق .
أنا واثق جداً من إمكانياتك الأكاديمية التي أوضحها الجوهر الأساسي المعتمد في صياغات كتاب ( الزمان والمكان في روايات غائب طعمة فرمان ) لكن الأكاديمي يجب أن يحويلها من رياح هابة إلى نسيم معتدل قادر على المساهمة في عملية إزهار الرؤية النقدية والأدبية . بوسعك إذاً استخدام ثقافتك وذكاءك الواضحين في الكتاب في استخدام نقد لا " يخبرنا " فقط عن الموضوع الذي تتناوله هذه الرواية أو تلك بل يخبرنا عن الموقع الأدبي الرفيع الذي تحتله في الثقافة العراقية ، أو العكس تخبرنا عن الضعف الذي قد يؤدي إلى قطيعة الرواية عن جمهورها .
لا بد من الإشارة إلى أن مجرد (عرض) الرواية هو (مهنة) صحفية لبعض أختصاصيي الصفحات الثقافية ، بينما النقد المتقصي هو (علم ) مختص بجانب من جوانب الحياة الأدبية . وأنت مؤهل للثاني وليس للأول .
لقد كتب غائب فرمان روايات عديدة تكفي عند دراستها لأن تكون عملاً تجريبياً هاماً في رؤيا الرواية العراقية المعاصرة .
هذا التجريب هو الذي ينبغي ان يكون محل البحث .
أن الروائي ليس أنساناً اعتياديا ، خاصة من مستوى فرمان بل هو أنسان ينجز عمله في عالم متخيل يبتكره لا لنفسه ، لكنه لا يستطيع ان يرتبه في مستقبل الأدب ككل إلاّ بتدخل واضح وصريح من النقد والناقد ، وأنه لأمر حتمي ان يكون هذا التدخل متناقضاً مع الكاتب أو معارضاً له أو مؤيداً ، في كل الحالات يتطلب من الناقد أو الباحث كفاءة وتجربة توازي كفاءة وتجربة الطبيب الجراح المتوجه إلى صالة العمليات الذي يمنح لمريضه حياة أو تحسيناً لحياته بعد حين .
بقدر ما تحقق روايات غائب فرمان هوية أبطالها راصدة حركاتها وتطورها ، بقدر ما يحتاج بحثك عن مكانهم وزمانهم البحث عن الهويتين الاجتماعية والتاريخية المتفاعلتين داخل العمل الروائي نفسه . فمهمة الباحث بالأساس هي الإجابة على سؤال: هل أن الهويات جميعها في الرواية الواحدة متوافقة مع منظور الرواية . هل أن آلام السيد معروف مثلاً مؤتلفة مع تاريخية الواقع الاجتماعي وتفصيلاته . هل ان رموز ( المركب ) متوافقة مع (أبعاد) الموضوع . بماذا يمكن تصنيفها أدبياً : هل هي رواية تغيير ..؟ أم هي رواية تقرير ..؟
هذا السؤال يحتاج الدخول في خطوط عريضة للعلاقة العقلية والتخييل الفني في أعمال فرمان .
أشير هنا إشارة سريعة إلى ما قاله الناقد والروائي الفرنسي ميشيل بوتور " في وقتنا الحاضر لا وجود لشكل ادبي يتمتع بالقوة التي تتمتع بها الرواية .إذ أننا نستطيع أن نربطها بدقة تامة ، بالعقل أو العاطفة بحوادث حياتنا التي لا قيمة لها بما يتعلق بالأفكار والحدس والأحلام . لكنها مع ذلك هي وسيلة مدهشة في الصمود والاستمرار في العيش بأدراكٍ في عالم مخيف يهاجمنا من كل مكان .." . من هذا المنطلق يمكن تحويل العلاقة الفردية التي تبدو هامشية في النخلة والجيران مثلاً أو في غيرها إلى افق جماعي يوحي بمدى العلاقة بين الرواية والتاريخ .
لا أريد الإطالة بالتحدث عن الفصول الخاصة بالزمان في روايات فرمان فأنني أرى نفس الأسس في علاقتها بالتاريخ .
جدير بالملاحظة أنك توليت في هذه الفصول مسافة كافية لتمرير خطوط الضوء الكاشفة لعلاقة الزمن الروائي الفرماني بالتاريخ العراقي .
لقد كان الفصل الخاص المعنون (علاقة المكان باللغة عند غائب طعمة فرمان ) قائماً على الأسس التي أراها ضرورية في البحث الأكاديمي . هذا الفصل هو النموذج المطلوب في بحث كل الجوانب الأخرى وحبذا لو جرى توسيعه بالدخول إلى دلالات اللغة الفرمانية واسباب خلوها من اللغة القاموسية التي يدعو لها أصحاب الحداثة في هذا الوقت .
أتذكر بهذه المناسبة رواية (النفوس الميتة ) لنيقولاي جوجول . أنقسم النقاد بشأنها إلى ثلاثة أقسام :
· القسم الأول وصفها بانها رواية الأضحاك والتسلية . "كان جوجول أستخدم أسلوبه التهكمي الساخر ".
· القسم الثاني وجد فيها أعنف نقد وأعظم الهجاء للمجتمع الروسي .
· القسم الثالث من النقاد وجد فيها مساساً عنيفاً بالشخصية الروسية .
وقد كانت لغة الرواية المذكورة هي التي هزت النقاد وجذبتهم لمتابعة الرواية ودراستها . واللغة ذاتها هي التي خلقت له الكثير من المتاعب الأدبية وغيرها فاضطر فيما بعد إلى اصدار جزء ثان للرواية مدافعاً فيها عن فضائل الشخصية الروسية . لكن من دون جدوى فقد ظلت ( النفوس الميتة ) رواية لها أمتياز خاص في الادب الروسي .
كان تناول البناء الزماني في روايات فرمان قد أخذ بعض التفاصيل المهمة التي شرحت عدداً من المعاني التي فاتها تسليط الضوء عند البحث في المكان . هذه نقطة إشارة واضحة تسجل للدكتور علي إبراهيم إذ بنى ترابطاً بين المكان ، واللغة ، والزمان . وبذلك حرر نفسه وحرر كتابه من تبعة الحمولة الثقيلة التي ترهق البحث بالتفاصيل الصغيرة أحياناً ، فاعتماده على تحاليل معطيات السرد الاسترجاعي كحساب من حسابات الزمن الماضي ، بالاستفادة في ذات الوقت من السرد الاستشرافي كحساب من حسابات المستقبل ، منح من دون شك عمقاً أضافياً لبحثه خاصة وأنه أخذ من الخطاب الروائي وسيلة لتفكيك الزمن ، بالعكس مما فعله أثناء تفكيك المكان وسيلة لبناء الرؤية الاجتماعية .
أيها الصديق:
ختاماً أقول أن جهدك في الكتاب سيضعه في مصاف الدراسات الغنية المهمة في مكتبة الأدب العراقي . فقد تحركتَ في البحث بحركة مضبوطة في إعادة توليد روايات غائب فرمان بكشف المفارقة التاريخية في المجتمع العراقي بمراحل متعددة من تطوره بكيفية ملموسة وواضحة وغنية .
بكل فخر أقول: أن رؤياك في هذا الكتاب تدل على غزارة ثقافة أدبية متسعة ومتعددة بما تشكل طروحات تجعل من كتاب ( المكان والزمان في روايات غائب طعمة فرمان ) لبنة أساسية في نظرية الرواية العراقية . فقد وضع كتابك علامات هامة عن الدلالة العامة للرواية ومعناها ونهجها من الوجهة الفلسفية والتاريخية متمنياً لك الصبر الطويل لتقديم أعمال جديدة مكملة لتنظير الرواية العراقية .
أتمنى أن يتم طبع الكتاب بأقرب وقت لما يحمل من روح وطبيعة مؤثرتين في اللحظات الراهنة في الكتابة الروائية العراقية.
ــــــــــــ
أخوكم جاسم المطير
بصرةلاهاي في 6/10/001
ـــــــــــــــــــــ
ملاحظات :
تجد في متن مسودة الكتاب ملاحظات صغيرة أخرى أشرتها بالقلم الرصاص . الموقف النهائي منها يعود لك ولحريتك .