منذ شروعه بقراءة متون الكتب الفلسفية، راح مارتن هيدغر (1889 - 1976) يخصِّص وقتاً لقراءة كتابات الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 – 1804) ليبدأ بذلك صُحبته مع مواطنه الألماني حتى بانت ثمار قراءاته تلك في مقالة كتبها سنة 1912 تحت عنوان مشكل الواقعية في الفلسفة الحديثة، وهي المقالة التي تؤكِّد، حتى الآن، بواكير التفكُّر الهيدغري المدوَّن عن خطاب سلفه كانط، تلك البواكير التي سرعان ما تواصلت على نحو مستمر في بقيّة محاضراته وكتاباته التالية، ومنها محاضرات سنة 1923 تمَّ نشرها تحت عنوان أنطولوجيا.. هرمينوطيقا الواقعاني، في سنة 1988، أتى فيه/ فيها إلى مناقشة آراء كانط، ما يعني أن فلسفة مواطنه بدت تستأثر باهتمامه بعد سنة 1912، لتستمر تالياً بعطاء متواصل؛ في درس شتاء 1925/ 1926، وفي درس صيف 1927، ودرس شتاء 1927/ 1928. وفي موسم محاضرات سنة 1926/ 1927، ألقى هيدغر محاضرة بعنوان تأريخ الفلسفة من توما الأكويني إلى كانط. وفيها تمَّت المقاربة والمقارنة بين فيلسوف وسيط وآخر حديث، ونشرت في الجزء الثالث والعشرين من أعمال هيدغر الفلسفية الكاملة.
وعندما صدر كتابه الكينونة والزمان سنة 1927، كان اهتمام هيدغر بفلسفة كانط له الأهمية الكبرى من حيث القبول والرفض؛ إذا استمرت الأفكار الكانطية تأسره ولا فكاك من الإصغاء إلى صوتها الفلسفي بالنسبة إليه، ولا الاكتفاء بدراساته السابقة عن مواطنه الألماني كانط الذي دخل إلى ثلاثة كتب مُهمة من كتاباته في خلال أقل من خمس سنوات حيث نشر كتابه كانط ومشكلة الميتافيزيقا سنة 1929، وكان هذا الكتاب في أصله عبارة عن محاضرات ألقاها هيدغر في أثناء الفصل الشتائي للسنة الدراسي 1925/ 1926 - قبل صدور الكينونة والزمان - وتكرَّر إلقاء المحاضرات نفسها في أيلول/ سبتمبر 1928 بـ (معهد هيردر) في (مدينة ريغا)، ولم يكتف بذلك؛ بل ألقاها أيضاً في (دافوس) خلال شهر آذار/ مارس 1929 لينشرها في السنة ذاته ككتاب تحت عنوان كانط ومشكلة الميتافيزيقا، ويهديه إلى ماكس شيلر حيث وفاته في سنة 1928. ويبدو أن تلك المحاضرات جاءت كتطبيق قرائي تأويلي مُسهب لما تناوله هيدغر في الجزء الثاني من كتابه الكينونة والزمان المعنون بـ "الدازين والزمانية".
تأويل فينومينولوجي
وفي السنة ذاته، وضع محاضراته نقد العقل المحض.. تأويل فينومينولوجي. وفي أصلها كانت عبارة عن دروس ألقاها هايدجر حول كانط في (جامعة ماربورغ) خلال شتاء السنة الدراسي 1927/ 1928، وبقيت تلك المحاضرات حبيسة الأرشيف الهيدغري لسنوات طويلة حتى تنبَّه لها الابن (هارتمان هيدغر) ليُنشرها بعد وفاة والده بسنة في كتاب ضمن الجزء الخامس والعشرين من الأعمال الكاملة سنة 1977، وكان الأجدر بهيدغر نفسه نشرها ككتاب في أثناء حياته لكي يقف القارئ المهتم بفلسفة كانط كما يؤوِّلُها هيدغر إلاّ أننا لا نعرف سبب عزوف هيدغر عن نشرها في حياته!
في تلك السنوات، كان هيدغر مفتوناً بفلسفة كانط على نحو مثير بحيث إن التداخل بين الكتابين الآنفين كان كثيراً فيما لو عقدنا مقارنة بين عناوين مباحثهما؛ بل وفي طريقة هيدغر القرائية لفلسفة مواطنه كانط. وفي سنة 1930 كان هيدغر يلقي دروساً صيفية عن كانط، وهي التي نُشرت تالياً تحت عنوان ماهيَّة الحرية البشرية.. مدخل إلى الفلسفة، خصوصاً الفصل الأول من الجزء الأول في الكتاب الذي صدر سنة 1982 ضمن الأعمال الكاملة - المجلد 31، ما يعني أن هيدغر غيَّب نشرها في أثناء حياته!
إن هذا التداخل القرائي سنجده متاحاً أيضاً فيما أقبل عليه هيدغر نفسه عندما كان يلقي محاضراته في (جامعة فرايبورغ - فرع بريسغاو) هذه المرّة، وذلك خلال دورة سنة 1935/ 1936 تحت عنوان الأسئلة الأساسية للميتافيزيقا، والتي تحوَّلت إلى كتاب نُشر سنة 1962 تحت عنوان السؤال عن الشيء.. حول نظرية المبادئ الترنسندنتالية عند كَنْت.
كذلك نجده يأتي إلى تناول كانط في دراسات أخرى غير مخصوصة به مباشرة كما أسلفنا؛ فبين سنتي 1942/ 1943 يكتب دراسته المطوَّلة مفهوم هيجل للتجربة، وبينهما، وتحديداً في سنة 1938، انتهى من دراسته عصر صورة العالم، وكذلك دراسته المهمة كلمة نيتشه: "الله مات" سنة 1943. وفي محاضرات السنة الدراسية 1955/ 1956 تناول هيدغر فلسفة كانط أيضاً لينشر تلك المحاضرات في كتاب له يعنوان مبدأ العلة. وفي كل هذه الدراسات أتى هيدغر إلى ذكر كانط فيها على نحو أو آخر، بقي هيدغر مرافقاً لفيلسوف نقد العقل المحض في كتابات أخرى عديدة حتى نشر سنة 1961 دراسته أطروحة كانط حول الكينونة، وهي الدراسة التي قد تكون كُتبت في وقت سابق على هذا التأريخ.
هرمينوطيقا الواقعانية
إن تلمُّس مسارات القراءة الهيدغرية لفلسفة مواطنه إيمانويل كانط تتطلَّب قراءة كل هذه الأعمال المذكورة بتؤدة ومتابعة تأريخية لتبيان الكيفية التي يفكِّر فيها هيدغر داخل المتن الكانطي؛ بل في الخطاب الكانطي برمته، ويمكننا أن نقف عند بعضها، وهي: أنطولوجيا.. هرمينوطيقا الواقعانية، ومن ثم الكينونة والزمان، وخلالهما محاضراته/ كتابه كانط ومشكلة الميتافيزيقا، ومحاضراته نقد العقل المحض.. تأويل فينومينولوجي، ومن ثمَّ محاضرة الأسئلة الأساسية للميتافيزيقا أو السؤال عن الشيء..، من دون بخس بقية مقالاته ودراساته وكتبه ومحاضراته الأخرى التي أوّلت الخطاب الكانطي.
يبدو لنا، أن هيدغر وضع في هذه المؤلَّفات جُل ما تُريد قوله قراءته الخاصّة بكانط، خصوصاً أنها ضمَّت جُل مسارات هيدغر الفلسفية، وهو ما ستبدأ به درستنا هذه. أما الكتابات والمحاضرات والدراسات والمقالات الهيدغرية الأخرى التي اختصَّت بفلسفة كانط فسنرجئ تحليلها المكثف لحين من الزمان من دون إهمالها كلياً في دراساتنا هذه.
متابعة
1. خلال سنة 1923، كان هيدغر يلقي محاضرة أسبوعية في (جامعة فرايبورغ) تتناول ثلاثة مفاهيم بدت مركزية في خطابه الفلسفي الذي تبلور في تلك المرحلة هي: الأنطولوجي، والهرمينوطيقا، والواقعانية. وفي الوقت الذي كانت فيه تلك المحاضرات مدوَّنة، بقيت أيضاً حبيسة الصَّمت من حيث التداول العمومي؛ فهي لم تُنشر إلاّ بعد وفاة هيدغر! وإذا كان هيدغر توفي في سنة 1976، فإن محاضراته تلك سنُشرت في سنة 1988 ضمن المجلد الثالث والستين من الأعمال الكاملة تحت عنوان أنطولوجيا.. هرمينوطيقا الواقعانية.
كانت تلك المحاضرات تأسيسية من الناحية الفلسفية لجزء كبير من فلسفة هيدغر في كتابه الكينونة والزمان الذي صدر سنة 1927، حيث انفتاح الأفق الفلسفي لفيلسوف اسمه مارتن هيدغر الذي اعتنى بالبنية الجسديَّة لنص محاضرات 1923، حتى إنه زوَّدها بمقدِّمة وجيزة، ما يعني أنه، ومنذ البداية، كان يعدّها للنشر ككتاب، أما لماذا تأخَّر نشرها بحيث صدرت مطبوعة بعد وفاته بخمسة وستين سنة؟ ذلك أمر لم نكتشفه بعد!!
بدا إيمانويل كانط زائراً خفيف الظل في تلك المحاضرات؛ فالمرّات التي ورد اسمه فيها لا عناء في عدِّها، حيث ظهر كانط فيها كفيلسوف لا حول ولا قوة له فيما يريد هيدغر قوله فيها، فلا توجد قراءة بعينها لفيلسوف نقد العقل المحض رغم أنه حضر في مقدِّمة الكتاب على نحو حجاجي عابر بدا فيه أنموذجاً لفيلسوف لا يُحتذى به إنما يمكن تذكرُّه كما تم تذكُّر مارتن لوثر (1483 - 1546)، والجمع بينهما في سياق تذكُّري يعني تذكُّر مرجعية لاهوتيّة ولكن بنسبة معينة.
يعود هيدغر إلى سلفه كانط ويستحضره في الفقرة الخامسة من الفصل الثاني عبْر سياق حجاجي ضد كانط غير مقصود، يستذكره وهو يناقش مفهوم الإنسان بوصفه حيواناً عاقلاً فيحشره في خانة التفكير الدِّيني حتى إنه يستذكر كتاب كانط الدِّين في حدود مجرَّد العقل في ظل تخلي هيدغر كلياً عن دلالة ورسم مصطلح الإنسان كحيوان عاقل، ليس هذا فحسب؛ بل يصف هيدغر مواطنه كانط - بالمقارنة مع ماكس شلر (1874 - 1929) - يصفه بـ "الدوجماطيقية أو الدوغمائية" الذي كان ماكس شيلر توغَّل فيها أكثر من كانط نفسه.
من جهة أخرى، وفي سياق حديث هيدغر عن العلاقة بين الظاهرة والفينومينولوجيا، يرتقي هيدغر بالفيلسوف كانط إلى مستوى الكانطية أكثر، يرتقي به من كونه مجرّد فيلسوف إلى (مذهبه)، إلى النَّزعة الكانطية، إلى الاتجاه الكانطي، وهي المرجعية التي يؤصَّل فلسفة فلهلم دلتاي (1833 - 1911) فيها بوصف تلك المرجعية من إشكاليات الفلسفة الكانطية.
في تلك المحاضرات ما كان حضور كانط سوى مؤشِّر سلبي فهو الضد الذي لا يروق لفيلسوف الواقعانية أو الحدثية الهرمينوطيقية؛ إذ شتان بين الجهاز المفاهيمي لكانط في نقد العقل المحض، والجهاز المفاهيمي لهيدغر في أنطولوجيا.. هرمينوطيقا الواقعانية، فثمَّ فرق بين الإنسان كحيوان عاقل والإنسان بوصفه ذلك الكائن (Dasein) أو مُمكن الوجود بذاته - بحسب ترجمتي لمصطلح (Dasein) - ناهيك عن التوجُّه الأنطولوجي لكل منهما.
2. في (جامعة ماربورغ)، ألقى هيدغر بين سنتي 1926/ 1927محاضرة تحت عنوان تأريخ الفلسفة.. من توما الأكويني إلى كانط قارن فيها بين كانط وتوما الأكويني. كانت تلك المحاضرة الأولى التي اندفع فيها هيدغر إلى تخصيص قوله القرائي عن كانط كفيلسوف يمكن المقارنة بينه وغيره من الفلاسفة، واختار لذلك توما الأكويني (1225 - 1274) قبالة كانط، وهي المرّة الأولى التي يرتقي فيها اسم كانط إلى عنوان محاضرة في وقت كان فيه مخطوط الكينونة والزمان يأخذ طريقه للنشر.
في تلك المحاضرة، أعطى هيدغر أهمية لافتة إلى المثال الترْسندالي الكانطي معتبراً إيّاه نقطة الشروع والتقاطع لفلسفة ما بعد الكانطية، لا سيما لدى فخته وشلنج وهيجل. وفيها أكَّد أيضاً على أن رؤية كانط في المثالية الترْسندالية إنما ترتبط في أفق أنطو - لاهوتي يعود بجذوره إلى توما الأكويني، وهو ما أصَّله هيدغر سابقاً في محاضراته لسنة 1923، ولكن بنمط مقارنة آخر عندما راح يُنبت ما هو لاهوتي كمرجعية كانطية لدى فلهلم دلتاي؛ بل لدى ماكس شيلر حيث البُعد الدوجماطيقي الذي يحفل به خطابه.
إن المقارنة الهيدغرية بين كانط والأكويني تبدو في تلك المحاضرة ذات بُعد تأصيلي يُظهر مثالية كانط بوصفها مرتبطة بالفكر اللاهوتي الكلاسيكي ليس فقط عند الأكويني؛ بل حتى لدى أرسطوطاليس (385 ق.م – 323 ق.م)، ما يعني أن المثال الترْسندالي أو المثالية الترْسندالية الكانطية إنما هي مجرَّد مفتاح لفهم العلاقات بين لاهوات توما الأكويني واللاهوتيات القديمة الباكرة، ومنها اللاهوت الأرسطوطاليسي كما هو في تطلّعاته الفلسفية.
ومن جهة أخرى استدرك هيدغر في تلك المحاضرة قراءته التأصيلية بأن أيَّة فلسفة للمثال الترْسندالي لا تعني الانغماس في ما هو لاهوتي! فمعالجة كانط بدت فلسفية كما هي معالجة أرسطوطاليس وهو تأصيل درج عليه هيدغر في الكثير من أبحاثه التي يحلو لها الرجوع إلى الأصل الإغريقي وذلك درب من دروبه الممتعة.
آفاق تمهيديّة
حتى هنا، تبدو قراءات هيدغر لفلسفة كانط ذات آفاق تمهيديّة، فهي مجرَّد إرهاصات أولية يظهر فيها صاحب نقد العقل المحض كفيلسوف خلفي يُحتذى به بوصفه أنموذجاً للمقارنة والاستشهاد به في أثناء بناء موقف معيّن من رؤية أو نظرية أو قضية أو مسألة أو مفهوم ما دون أيّة تبعية تُذكر، لكن ذلك الإرهاص الأولي كان بداية طريق نحو نقاشات معمَّقة في نصين مهمين هما: الكينونة والزمان، وكانط ومشكلة الميتافيزيقا، ناهيك عن نقد العقل المحض.. تأويل فينومينولوجي، وهي المحاضرات/ الكتب الذي حضر فيه كانط شيخاً لعلّه من الظلم تجاوز مقامه أو مجرَّد استذكاره على نحو عابر..، فكيف كان حضور كانط في هذه الكتب/ المحاضرات؟ كيف كان خطاب كانط مقروءاً من جانب فيلسوف الغابة السّوداء فيها؟
د. رسول محمَّد رسول -
* نشرت في مجلة (الأديب العراقي)، خريف 2020، ص 140 – 145.
www.facebook.com
وعندما صدر كتابه الكينونة والزمان سنة 1927، كان اهتمام هيدغر بفلسفة كانط له الأهمية الكبرى من حيث القبول والرفض؛ إذا استمرت الأفكار الكانطية تأسره ولا فكاك من الإصغاء إلى صوتها الفلسفي بالنسبة إليه، ولا الاكتفاء بدراساته السابقة عن مواطنه الألماني كانط الذي دخل إلى ثلاثة كتب مُهمة من كتاباته في خلال أقل من خمس سنوات حيث نشر كتابه كانط ومشكلة الميتافيزيقا سنة 1929، وكان هذا الكتاب في أصله عبارة عن محاضرات ألقاها هيدغر في أثناء الفصل الشتائي للسنة الدراسي 1925/ 1926 - قبل صدور الكينونة والزمان - وتكرَّر إلقاء المحاضرات نفسها في أيلول/ سبتمبر 1928 بـ (معهد هيردر) في (مدينة ريغا)، ولم يكتف بذلك؛ بل ألقاها أيضاً في (دافوس) خلال شهر آذار/ مارس 1929 لينشرها في السنة ذاته ككتاب تحت عنوان كانط ومشكلة الميتافيزيقا، ويهديه إلى ماكس شيلر حيث وفاته في سنة 1928. ويبدو أن تلك المحاضرات جاءت كتطبيق قرائي تأويلي مُسهب لما تناوله هيدغر في الجزء الثاني من كتابه الكينونة والزمان المعنون بـ "الدازين والزمانية".
تأويل فينومينولوجي
وفي السنة ذاته، وضع محاضراته نقد العقل المحض.. تأويل فينومينولوجي. وفي أصلها كانت عبارة عن دروس ألقاها هايدجر حول كانط في (جامعة ماربورغ) خلال شتاء السنة الدراسي 1927/ 1928، وبقيت تلك المحاضرات حبيسة الأرشيف الهيدغري لسنوات طويلة حتى تنبَّه لها الابن (هارتمان هيدغر) ليُنشرها بعد وفاة والده بسنة في كتاب ضمن الجزء الخامس والعشرين من الأعمال الكاملة سنة 1977، وكان الأجدر بهيدغر نفسه نشرها ككتاب في أثناء حياته لكي يقف القارئ المهتم بفلسفة كانط كما يؤوِّلُها هيدغر إلاّ أننا لا نعرف سبب عزوف هيدغر عن نشرها في حياته!
في تلك السنوات، كان هيدغر مفتوناً بفلسفة كانط على نحو مثير بحيث إن التداخل بين الكتابين الآنفين كان كثيراً فيما لو عقدنا مقارنة بين عناوين مباحثهما؛ بل وفي طريقة هيدغر القرائية لفلسفة مواطنه كانط. وفي سنة 1930 كان هيدغر يلقي دروساً صيفية عن كانط، وهي التي نُشرت تالياً تحت عنوان ماهيَّة الحرية البشرية.. مدخل إلى الفلسفة، خصوصاً الفصل الأول من الجزء الأول في الكتاب الذي صدر سنة 1982 ضمن الأعمال الكاملة - المجلد 31، ما يعني أن هيدغر غيَّب نشرها في أثناء حياته!
إن هذا التداخل القرائي سنجده متاحاً أيضاً فيما أقبل عليه هيدغر نفسه عندما كان يلقي محاضراته في (جامعة فرايبورغ - فرع بريسغاو) هذه المرّة، وذلك خلال دورة سنة 1935/ 1936 تحت عنوان الأسئلة الأساسية للميتافيزيقا، والتي تحوَّلت إلى كتاب نُشر سنة 1962 تحت عنوان السؤال عن الشيء.. حول نظرية المبادئ الترنسندنتالية عند كَنْت.
كذلك نجده يأتي إلى تناول كانط في دراسات أخرى غير مخصوصة به مباشرة كما أسلفنا؛ فبين سنتي 1942/ 1943 يكتب دراسته المطوَّلة مفهوم هيجل للتجربة، وبينهما، وتحديداً في سنة 1938، انتهى من دراسته عصر صورة العالم، وكذلك دراسته المهمة كلمة نيتشه: "الله مات" سنة 1943. وفي محاضرات السنة الدراسية 1955/ 1956 تناول هيدغر فلسفة كانط أيضاً لينشر تلك المحاضرات في كتاب له يعنوان مبدأ العلة. وفي كل هذه الدراسات أتى هيدغر إلى ذكر كانط فيها على نحو أو آخر، بقي هيدغر مرافقاً لفيلسوف نقد العقل المحض في كتابات أخرى عديدة حتى نشر سنة 1961 دراسته أطروحة كانط حول الكينونة، وهي الدراسة التي قد تكون كُتبت في وقت سابق على هذا التأريخ.
هرمينوطيقا الواقعانية
إن تلمُّس مسارات القراءة الهيدغرية لفلسفة مواطنه إيمانويل كانط تتطلَّب قراءة كل هذه الأعمال المذكورة بتؤدة ومتابعة تأريخية لتبيان الكيفية التي يفكِّر فيها هيدغر داخل المتن الكانطي؛ بل في الخطاب الكانطي برمته، ويمكننا أن نقف عند بعضها، وهي: أنطولوجيا.. هرمينوطيقا الواقعانية، ومن ثم الكينونة والزمان، وخلالهما محاضراته/ كتابه كانط ومشكلة الميتافيزيقا، ومحاضراته نقد العقل المحض.. تأويل فينومينولوجي، ومن ثمَّ محاضرة الأسئلة الأساسية للميتافيزيقا أو السؤال عن الشيء..، من دون بخس بقية مقالاته ودراساته وكتبه ومحاضراته الأخرى التي أوّلت الخطاب الكانطي.
يبدو لنا، أن هيدغر وضع في هذه المؤلَّفات جُل ما تُريد قوله قراءته الخاصّة بكانط، خصوصاً أنها ضمَّت جُل مسارات هيدغر الفلسفية، وهو ما ستبدأ به درستنا هذه. أما الكتابات والمحاضرات والدراسات والمقالات الهيدغرية الأخرى التي اختصَّت بفلسفة كانط فسنرجئ تحليلها المكثف لحين من الزمان من دون إهمالها كلياً في دراساتنا هذه.
متابعة
1. خلال سنة 1923، كان هيدغر يلقي محاضرة أسبوعية في (جامعة فرايبورغ) تتناول ثلاثة مفاهيم بدت مركزية في خطابه الفلسفي الذي تبلور في تلك المرحلة هي: الأنطولوجي، والهرمينوطيقا، والواقعانية. وفي الوقت الذي كانت فيه تلك المحاضرات مدوَّنة، بقيت أيضاً حبيسة الصَّمت من حيث التداول العمومي؛ فهي لم تُنشر إلاّ بعد وفاة هيدغر! وإذا كان هيدغر توفي في سنة 1976، فإن محاضراته تلك سنُشرت في سنة 1988 ضمن المجلد الثالث والستين من الأعمال الكاملة تحت عنوان أنطولوجيا.. هرمينوطيقا الواقعانية.
كانت تلك المحاضرات تأسيسية من الناحية الفلسفية لجزء كبير من فلسفة هيدغر في كتابه الكينونة والزمان الذي صدر سنة 1927، حيث انفتاح الأفق الفلسفي لفيلسوف اسمه مارتن هيدغر الذي اعتنى بالبنية الجسديَّة لنص محاضرات 1923، حتى إنه زوَّدها بمقدِّمة وجيزة، ما يعني أنه، ومنذ البداية، كان يعدّها للنشر ككتاب، أما لماذا تأخَّر نشرها بحيث صدرت مطبوعة بعد وفاته بخمسة وستين سنة؟ ذلك أمر لم نكتشفه بعد!!
بدا إيمانويل كانط زائراً خفيف الظل في تلك المحاضرات؛ فالمرّات التي ورد اسمه فيها لا عناء في عدِّها، حيث ظهر كانط فيها كفيلسوف لا حول ولا قوة له فيما يريد هيدغر قوله فيها، فلا توجد قراءة بعينها لفيلسوف نقد العقل المحض رغم أنه حضر في مقدِّمة الكتاب على نحو حجاجي عابر بدا فيه أنموذجاً لفيلسوف لا يُحتذى به إنما يمكن تذكرُّه كما تم تذكُّر مارتن لوثر (1483 - 1546)، والجمع بينهما في سياق تذكُّري يعني تذكُّر مرجعية لاهوتيّة ولكن بنسبة معينة.
يعود هيدغر إلى سلفه كانط ويستحضره في الفقرة الخامسة من الفصل الثاني عبْر سياق حجاجي ضد كانط غير مقصود، يستذكره وهو يناقش مفهوم الإنسان بوصفه حيواناً عاقلاً فيحشره في خانة التفكير الدِّيني حتى إنه يستذكر كتاب كانط الدِّين في حدود مجرَّد العقل في ظل تخلي هيدغر كلياً عن دلالة ورسم مصطلح الإنسان كحيوان عاقل، ليس هذا فحسب؛ بل يصف هيدغر مواطنه كانط - بالمقارنة مع ماكس شلر (1874 - 1929) - يصفه بـ "الدوجماطيقية أو الدوغمائية" الذي كان ماكس شيلر توغَّل فيها أكثر من كانط نفسه.
من جهة أخرى، وفي سياق حديث هيدغر عن العلاقة بين الظاهرة والفينومينولوجيا، يرتقي هيدغر بالفيلسوف كانط إلى مستوى الكانطية أكثر، يرتقي به من كونه مجرّد فيلسوف إلى (مذهبه)، إلى النَّزعة الكانطية، إلى الاتجاه الكانطي، وهي المرجعية التي يؤصَّل فلسفة فلهلم دلتاي (1833 - 1911) فيها بوصف تلك المرجعية من إشكاليات الفلسفة الكانطية.
في تلك المحاضرات ما كان حضور كانط سوى مؤشِّر سلبي فهو الضد الذي لا يروق لفيلسوف الواقعانية أو الحدثية الهرمينوطيقية؛ إذ شتان بين الجهاز المفاهيمي لكانط في نقد العقل المحض، والجهاز المفاهيمي لهيدغر في أنطولوجيا.. هرمينوطيقا الواقعانية، فثمَّ فرق بين الإنسان كحيوان عاقل والإنسان بوصفه ذلك الكائن (Dasein) أو مُمكن الوجود بذاته - بحسب ترجمتي لمصطلح (Dasein) - ناهيك عن التوجُّه الأنطولوجي لكل منهما.
2. في (جامعة ماربورغ)، ألقى هيدغر بين سنتي 1926/ 1927محاضرة تحت عنوان تأريخ الفلسفة.. من توما الأكويني إلى كانط قارن فيها بين كانط وتوما الأكويني. كانت تلك المحاضرة الأولى التي اندفع فيها هيدغر إلى تخصيص قوله القرائي عن كانط كفيلسوف يمكن المقارنة بينه وغيره من الفلاسفة، واختار لذلك توما الأكويني (1225 - 1274) قبالة كانط، وهي المرّة الأولى التي يرتقي فيها اسم كانط إلى عنوان محاضرة في وقت كان فيه مخطوط الكينونة والزمان يأخذ طريقه للنشر.
في تلك المحاضرة، أعطى هيدغر أهمية لافتة إلى المثال الترْسندالي الكانطي معتبراً إيّاه نقطة الشروع والتقاطع لفلسفة ما بعد الكانطية، لا سيما لدى فخته وشلنج وهيجل. وفيها أكَّد أيضاً على أن رؤية كانط في المثالية الترْسندالية إنما ترتبط في أفق أنطو - لاهوتي يعود بجذوره إلى توما الأكويني، وهو ما أصَّله هيدغر سابقاً في محاضراته لسنة 1923، ولكن بنمط مقارنة آخر عندما راح يُنبت ما هو لاهوتي كمرجعية كانطية لدى فلهلم دلتاي؛ بل لدى ماكس شيلر حيث البُعد الدوجماطيقي الذي يحفل به خطابه.
إن المقارنة الهيدغرية بين كانط والأكويني تبدو في تلك المحاضرة ذات بُعد تأصيلي يُظهر مثالية كانط بوصفها مرتبطة بالفكر اللاهوتي الكلاسيكي ليس فقط عند الأكويني؛ بل حتى لدى أرسطوطاليس (385 ق.م – 323 ق.م)، ما يعني أن المثال الترْسندالي أو المثالية الترْسندالية الكانطية إنما هي مجرَّد مفتاح لفهم العلاقات بين لاهوات توما الأكويني واللاهوتيات القديمة الباكرة، ومنها اللاهوت الأرسطوطاليسي كما هو في تطلّعاته الفلسفية.
ومن جهة أخرى استدرك هيدغر في تلك المحاضرة قراءته التأصيلية بأن أيَّة فلسفة للمثال الترْسندالي لا تعني الانغماس في ما هو لاهوتي! فمعالجة كانط بدت فلسفية كما هي معالجة أرسطوطاليس وهو تأصيل درج عليه هيدغر في الكثير من أبحاثه التي يحلو لها الرجوع إلى الأصل الإغريقي وذلك درب من دروبه الممتعة.
آفاق تمهيديّة
حتى هنا، تبدو قراءات هيدغر لفلسفة كانط ذات آفاق تمهيديّة، فهي مجرَّد إرهاصات أولية يظهر فيها صاحب نقد العقل المحض كفيلسوف خلفي يُحتذى به بوصفه أنموذجاً للمقارنة والاستشهاد به في أثناء بناء موقف معيّن من رؤية أو نظرية أو قضية أو مسألة أو مفهوم ما دون أيّة تبعية تُذكر، لكن ذلك الإرهاص الأولي كان بداية طريق نحو نقاشات معمَّقة في نصين مهمين هما: الكينونة والزمان، وكانط ومشكلة الميتافيزيقا، ناهيك عن نقد العقل المحض.. تأويل فينومينولوجي، وهي المحاضرات/ الكتب الذي حضر فيه كانط شيخاً لعلّه من الظلم تجاوز مقامه أو مجرَّد استذكاره على نحو عابر..، فكيف كان حضور كانط في هذه الكتب/ المحاضرات؟ كيف كان خطاب كانط مقروءاً من جانب فيلسوف الغابة السّوداء فيها؟
د. رسول محمَّد رسول -
* نشرت في مجلة (الأديب العراقي)، خريف 2020، ص 140 – 145.
Rasool M. Rasool
Rasool M. Rasool ist bei Facebook. Tritt Facebook bei, um dich mit Rasool M. Rasool und anderen Nutzern, die du kennst, zu vernetzen. Facebook gibt Menschen die Möglichkeit, Inhalte zu teilen und die...