عزيزي الأديب الناقد باسم عبد الحميد حمودي:
..... الواقع اني أنما أكتب اليك لكي اشكرك على اختيارك لقصتي الأخيرة (المطر وطبيعة الأشياء) لبرنامجك القصصي، فلقد كنت في الحديقة أحاول إغراء نفسي للعودة الى القراءة في كتاب جديد – أقبل عليَّ أحد أولادي وأخبرني أن شيئاً يُقال عني كمقدمة لقصة ستذاع لي من الاذاعة، فلما بلغت الغرفة التي فيها الراديو، وجدت أن القراءة للنص قد بدأت توا، فلم آسف كثيراً على ما فاتني من تقديم تصريحاً أو تلميحاً أنا أعرف جدية الناقد الذكي في كل الأحوال..وأتقبل دائماً ما هو طبيعي وصادق، فاغتبط في حين اتجاوز ما هو غير عادل أو الأحكام العادلة في النقد باقية كما في بقية الاشياء، وماهو غير عادل لابد أن يصحّحه الزمن، ومن الاخطاء التي وقع فيها النقاد في الأربعينات ولم تكن لهم هذه الطاقة لناقد اليوم، أنهم أعطوا أحكاماً غير نزيهة على ما كتبت، ذلك أني كنت أكتب بغزارة، فكان للنقد طابع الحقد....ولكن تلك الأحكام القديمة وغير النزيهة ظلت تلاحقني في الدراسات أو التعليقات التالية.
لقد قلت كلمتي في القصة والرواية ونفضت ما في أغصاني من ثمر في الفجاجة وفي النضج، وأني إذ أقف على مشارف العام السادس بعد السبعين فإنني أتلفت الى الوراء متفقداً حقلي.. ما فيه ما خالط القمح من زؤان، فأشعر بالرضا بصورة عامة أو نسبية، فلو أن كل أديب كان صادقاً مع نفسه ومع الواقع، لكان لنا الشيء الكثير مما سيغدو تراثاً لهذه المرحلة الغاصة بالمعطيات، ولا أريد بهذا أن ترسل المقدمة التي قدمت بها قصتي كدراسة أو تعريف بالكاتب وبالقصة، فذلك شيء نافع مادام الملايين من مستمعي الإذاعة، قد سمعوا ذلك ولهم بالطبع أحكامهم هم أيضاً، فقرّاء اليوم ومن يصغون للبرامج الأدبية على وعي تام بالحياة وبالأسلوب الجدير بالتعبير عنها .
إن ما أرجوه هو أن تتكرم مشكوراً، فتبلغ خالص شكري للبطلين في القصة ، للعجوزين في الدور، فإن صوتهما قد ترجرج متأثراً بما هي الحال عليها في القصة، وبذلك أضفيا على القصة تلك النكهة اللذيذة والعطرة، بحيث جعلاها أكثر حرارة في تلك الوحدة التي كان العجوزان يعيشانها في العاصفة الممطرة، كما اني لأشكرك بعمق وصدق، استاذ باسم،لأن الإضافات والحذوفات من حوار القصة، لم تخل بالسياق والاداء الذي يتطلبه البرنامج المسموع، فكل تغيير جاء في موقعه حتى أن أكثر من جملة كأنني أنا الذي كتبها .
إن الواقعية مدرسة متعددة ومتشعبة كما في تسميات الفروع، ولكن ما اؤمن به من واقعية في الأدب عموماً، ليست المحاكاة الحرفية للمشهد أو الحدث، فذلك تصور فوتوغرافي بالقلم، وكان مقبولاً جداً في زمن مضى، لأن الكتابة عموماً حين تخلصت عموماً من القولبة لمصلحة الإعلان عن حياة ومباذل ومفاسد البرجوازية، ولأن الأديب قد تأقلم مع الأفكار الاِشراكية التي تحاول أن تجعل الحياة جميلة وسعيدة لأكبر عدد من الناس، فإن الأدب بات أصفى رؤية للأشياء .
إن عاصفة من العواطف والمشاعر كانت تطوف في قلب العجوزين في القصة، ولقد أعتبرتهما سعيدين لأنهما عاشا معاً كل عمرهما، أنجبا وكبر الصغار وطاروا بأجنحتهم الى أعشاشهم هم...فهذه الأشياء الدقيقة والتي تبدو ذاتية أحياناً هي مادة القصة، لأنها أيضاً مادة الحياة المصنوعة من الأفكار ومن تداعيات الأفكار، فإن بنية أية قصة لاتقوم في اعتقادي على الحدث بقدر ما يدور حول الحدث من حوار.
هذا ما جعل القصة المعاصرة بعيدة نسبياً عن الوصف أو الانغمار فيه طويلاً، إن الإبداع عملية ولادة من الواقع ومن بذورنا ومن جهد الزمن الجميل وكل أدب لا يتخذ طابعاً وصورته من الواقع ويتماثل ويتشابه معه هو دخيل أو تقليدي في أحسن الأحوال.
وبعد.. فما أطيب الوقت الذي أكتب فيه الى بعض من أعجب به وأحبّه من الجيل الجديد، تلك الأغراس النظرة وقد استقام عودها وأمتلأت سنابلها بقمح البركة، وقط لم أحسد أحداً من أيّ جيل أدبي، فهؤلاء جميعاً هم الإبداع والتراث، وأعتقد دونما غلواء، أنني الآن من التراث، وتقييم أي تراث يتطلب بعض الوقت، لذلك فلست بآسٍ على إهمال تراثي، فأنا لا اللاحق في طلب الاعتراف به كتراث لمرحلة طويلة من نضال هذا الوطن الرائع والباسل والنبيل.
مع أصدق الود وعلى أمل اللقاء مرة أخرى، إذا أقيم الملتقى الثاني للقصة العراقية في منتصف الصيف في هذه السنة. دمت ومن معك بكل عافية وخير.
المخلص :عبد المجيد لطفي
23-5-1980
..... الواقع اني أنما أكتب اليك لكي اشكرك على اختيارك لقصتي الأخيرة (المطر وطبيعة الأشياء) لبرنامجك القصصي، فلقد كنت في الحديقة أحاول إغراء نفسي للعودة الى القراءة في كتاب جديد – أقبل عليَّ أحد أولادي وأخبرني أن شيئاً يُقال عني كمقدمة لقصة ستذاع لي من الاذاعة، فلما بلغت الغرفة التي فيها الراديو، وجدت أن القراءة للنص قد بدأت توا، فلم آسف كثيراً على ما فاتني من تقديم تصريحاً أو تلميحاً أنا أعرف جدية الناقد الذكي في كل الأحوال..وأتقبل دائماً ما هو طبيعي وصادق، فاغتبط في حين اتجاوز ما هو غير عادل أو الأحكام العادلة في النقد باقية كما في بقية الاشياء، وماهو غير عادل لابد أن يصحّحه الزمن، ومن الاخطاء التي وقع فيها النقاد في الأربعينات ولم تكن لهم هذه الطاقة لناقد اليوم، أنهم أعطوا أحكاماً غير نزيهة على ما كتبت، ذلك أني كنت أكتب بغزارة، فكان للنقد طابع الحقد....ولكن تلك الأحكام القديمة وغير النزيهة ظلت تلاحقني في الدراسات أو التعليقات التالية.
لقد قلت كلمتي في القصة والرواية ونفضت ما في أغصاني من ثمر في الفجاجة وفي النضج، وأني إذ أقف على مشارف العام السادس بعد السبعين فإنني أتلفت الى الوراء متفقداً حقلي.. ما فيه ما خالط القمح من زؤان، فأشعر بالرضا بصورة عامة أو نسبية، فلو أن كل أديب كان صادقاً مع نفسه ومع الواقع، لكان لنا الشيء الكثير مما سيغدو تراثاً لهذه المرحلة الغاصة بالمعطيات، ولا أريد بهذا أن ترسل المقدمة التي قدمت بها قصتي كدراسة أو تعريف بالكاتب وبالقصة، فذلك شيء نافع مادام الملايين من مستمعي الإذاعة، قد سمعوا ذلك ولهم بالطبع أحكامهم هم أيضاً، فقرّاء اليوم ومن يصغون للبرامج الأدبية على وعي تام بالحياة وبالأسلوب الجدير بالتعبير عنها .
إن ما أرجوه هو أن تتكرم مشكوراً، فتبلغ خالص شكري للبطلين في القصة ، للعجوزين في الدور، فإن صوتهما قد ترجرج متأثراً بما هي الحال عليها في القصة، وبذلك أضفيا على القصة تلك النكهة اللذيذة والعطرة، بحيث جعلاها أكثر حرارة في تلك الوحدة التي كان العجوزان يعيشانها في العاصفة الممطرة، كما اني لأشكرك بعمق وصدق، استاذ باسم،لأن الإضافات والحذوفات من حوار القصة، لم تخل بالسياق والاداء الذي يتطلبه البرنامج المسموع، فكل تغيير جاء في موقعه حتى أن أكثر من جملة كأنني أنا الذي كتبها .
إن الواقعية مدرسة متعددة ومتشعبة كما في تسميات الفروع، ولكن ما اؤمن به من واقعية في الأدب عموماً، ليست المحاكاة الحرفية للمشهد أو الحدث، فذلك تصور فوتوغرافي بالقلم، وكان مقبولاً جداً في زمن مضى، لأن الكتابة عموماً حين تخلصت عموماً من القولبة لمصلحة الإعلان عن حياة ومباذل ومفاسد البرجوازية، ولأن الأديب قد تأقلم مع الأفكار الاِشراكية التي تحاول أن تجعل الحياة جميلة وسعيدة لأكبر عدد من الناس، فإن الأدب بات أصفى رؤية للأشياء .
إن عاصفة من العواطف والمشاعر كانت تطوف في قلب العجوزين في القصة، ولقد أعتبرتهما سعيدين لأنهما عاشا معاً كل عمرهما، أنجبا وكبر الصغار وطاروا بأجنحتهم الى أعشاشهم هم...فهذه الأشياء الدقيقة والتي تبدو ذاتية أحياناً هي مادة القصة، لأنها أيضاً مادة الحياة المصنوعة من الأفكار ومن تداعيات الأفكار، فإن بنية أية قصة لاتقوم في اعتقادي على الحدث بقدر ما يدور حول الحدث من حوار.
هذا ما جعل القصة المعاصرة بعيدة نسبياً عن الوصف أو الانغمار فيه طويلاً، إن الإبداع عملية ولادة من الواقع ومن بذورنا ومن جهد الزمن الجميل وكل أدب لا يتخذ طابعاً وصورته من الواقع ويتماثل ويتشابه معه هو دخيل أو تقليدي في أحسن الأحوال.
وبعد.. فما أطيب الوقت الذي أكتب فيه الى بعض من أعجب به وأحبّه من الجيل الجديد، تلك الأغراس النظرة وقد استقام عودها وأمتلأت سنابلها بقمح البركة، وقط لم أحسد أحداً من أيّ جيل أدبي، فهؤلاء جميعاً هم الإبداع والتراث، وأعتقد دونما غلواء، أنني الآن من التراث، وتقييم أي تراث يتطلب بعض الوقت، لذلك فلست بآسٍ على إهمال تراثي، فأنا لا اللاحق في طلب الاعتراف به كتراث لمرحلة طويلة من نضال هذا الوطن الرائع والباسل والنبيل.
مع أصدق الود وعلى أمل اللقاء مرة أخرى، إذا أقيم الملتقى الثاني للقصة العراقية في منتصف الصيف في هذه السنة. دمت ومن معك بكل عافية وخير.
المخلص :عبد المجيد لطفي
23-5-1980