تمهيد:
إذا أردنا التوغل في الحقل النفسي للمدرسة الغربية، فلا شكّ أنّنا بحاجة إلى التقهقر إلى بدايات عهد النهضة، وتفحص آراء الفلاسفة الاوربيين في مجال النفس الإنسانية وما يتصل بها من سلوكيات ورؤى ودوافع متنوعة، حيث كانت هذه الآراء لها أثر كبير في تزويد علم النفس الحديث بالمادة الخام بعد تولّده وإنفصاله تماماً عن الفلسفة في نهايات القرن التاسع عشر.
والحقيقة أنّ من العجالة أن نختار سنة محدّدة لتاريخ نشوء هذا العلم بصياغته الجديدة، وإن أمكن ضبط تاريخ ولادته وإنفصاله عن الفلسفة بإنشاء «فونت» أوّل مختبر للدراسات النفسية في لايبزيك عام «1879» واستقطابه للمشتاقين والباحثين من مختلف البلدان الغربية، ولكن الضرورة تقتضي إلقاء نظره عاجلة على مرحلة ما قبل الولادة حيث كان للفلاسفة في بدايات عصر النهضة اُطروحات ونظريات واسعة النطاق في هذا الميدان غيّرت المناخ الفكري في تلك الأوساط وبعثرت النظريات اليونانية من أرسطية وإفلاطونية الحاكمة في العصور الوسطى.
وأوّل ما يطالعنا في هذا الصدد هو الفيلسوف الفرنسي «ديكارت» ـ القرن السابع عشر ـ الذي يعتبر بحقّ أوّل فيلسوف أشاد اللبنات الاُولى للفلسفة الحديثة، وحطّم بمعول الشكّ جميع الترسبات الفكرية والخلفيات الذهنية السائدة في تلك الأعصار، ثمّ نتعرّض إلى إثنين من أساطين الفلسفة الغربية في القرن السابع عشر، وهما «اسپبنوزا» الهولندي، و «جوك لوك» الانجليزي.
ديكارت:
يطول بنا المقام مع ديكارت إذا أردنا استيعاب اُطروحته عن النفس والعقل والجسد وأنماط الفكر البشري فيما يرتبط بعلم النفس، ولكن نقتصر في ذلك على البنى الفكرية التي أقام عليها فلسفته وتصوراته عن النفس والعالم وما وراء الطبيعة، فكما هو المعروف عن ديكارت في سيره الفلسفي أنّه أخذ بمبدأ الشكّ في تركيبته المعروفة «أنا أشك، فأنا اُفكّر، فأنا موجود» وذلك أنّه أراد تحصيل العلوم الحقيقية ونبذ الأوهام والأفكار الباطلة التي تتراكم في الديانات والمذاهب الفلسفية والعقائد والمعقولات، وبما أنّ أكثرها مبني على الحدسيات والظنّيات وردت الذهن البشري من طريق الحس، أي انّ المحسوسات لها دور كبير في صياغة الفكر، والحسّ بدوره طريق غير مطمئن لكثرة أخطاء الحس وعدم الثقة بمعطياته الفكرية، فلمّا أراد بناء فلسفته على اليقين رأى أنّ محتويات ذهنه من علوم وإعتقادات متراكمة لا تقف على أرض اليقين الجازم، فكلّ أصل فلسفي أو قاعدة علمية مسلّمة تتناثر بين يديه إلى مشكوكات وينخر فيها إحتمال الضدّ، إلاّ شيء واحد، وهو أنّه إذا كان يشكّ في كلّ شيء، فلا يشكّ في قضيّة واحدة، وهي أنّه يشكّ، فهذه القضيّة يقينية حتماً، فكان هذا الشكّ بمثابة اللبنة الاُولى التي بنى عليها فيما بعد فلسفته، وهو أنّه إذا كان يشكّ حتماً، فهذا يعني أنّه يفكّر لا محالة، والتفكير دليل يقيني على أنّه موجود، وبذلك حصل على أصل يعتمد عليه في تسلسل المعلومات ويشيد عليه البنى الفوقية لجميع المعلومات فيما بعد، فإذا كان الإنسان يشكّ في وجود العالم الخارجي ويشك في معطيات الحواس أو البديهيات العقلية، فهو لا يشكّ في هذه القضية حتماً، ولا يستطيع أحد من الشكّاكين والسوفسطائيين أن يعتريه الريب مع هذه القضية.
ومنها شرع ديكارت يؤسس القضايا الفكرية والعقائدية الاُخرى فإثبات الخالق جلّ وعلا لا يتمّ من خلال المحسوسات والمشاهدات، لأنّها هي بدورها تعتمد في إثبات وجودها على تلك القضية الفكرية المركزية (أنا اُفكّر)، فإثبات وجود البدن وروافده الحسيّة يأتي بالمرتبة الثانية بعد وجود النفس، فيتفرع من تلك القضية الاُولى العلم بوجود الله ووجود البدن; لأنّ الفكر أسمى وأرقى من الشكّ، والشكّ لا يولّد اليقين. إذاً، الفكر له مصدر آخر غير النفس، فجميع التصورات من تصوّر الجسم والزمان والعدد، وكذلك نفس تصوّر وجود ذات مقدّسة لا متناهية في الكمال وأزلية وأبدية لا يمكن أن يكون مصدرها النفس الناقصة والمحدودة، والمحدود لا يمكنه تصور اللامحدود، والأضعف لا يوجد الأقوى، فلابدّ أن يكون الموجد لهذا التصوّر وجوداً لا متناهى أيضاً، وبما أنّ هذا الفكر (وهو عين النفس بعبارة اُخرى) لابدّ له من محل، فلابدّ من وجود البدن. وهكذا صارت لديه ثلاث قضايا يقينية: النفس، الله، البدن، ويقول ديكارت:
«بعد أن صرت موقناً بوجودي، التفت إلى ماهية نفسي وطلبت معرفة حقيقتها، فرأيت أنّني لست على يقين من شيء يتعلّق بالنفس سوى الفكر، لأنّني ما دمت اُفكّر فأنا مطمئن لوجودي، فإذا زال هذا الشعور عني، أي لو انتفى التفكير فلا دليل على وجودي، وبما أنّ وجودي مترتب على فكري فحسب، قبل إثبات وجود بدني وأعضائي، إذاً فماهية نفسي ووجودي لا يعني سوى فكري».
ويظهر من كلمات ديكارت ومجمل أفكاره وتصوراته عن النفس أنّها عبارة عن الفكر بالمعنى الأعمّ الذي يشمل الإحساسات الباطنية والعواطف والميول والإرادة والخيال والتعقّل وأمثال ذلك.
ومن هنا أخذ ديكارت بمقولة الثنوية بين النفس والبدن وإنّهما حقيقتان منفصلتان، وجوهران متباينان، فلا صلة وعلاقة مباشرة بينهما، فالنفس أقرب إلى الدراسة العلمية من البدن، لأنّ المادة لا تعرف إلاّ بتوسط الحواس، وكلّ ما هو جسم متقوّم بما هو نفس، أي أنّ الإنسان يدرك نفسه أوّلاً، ثمّ يدرك أنّ له بدناً، والبدن محدود ذو أبعاد ويشغل حيّزاً من الفراغ ومتحرّك ومندثر، والنفس ليست لها هذه السمات، فهي تأبى عن الحركة والإندثار والموت، وبعبارة اُخرى: النفس تتّسم بأنّ لها فكراً وشعوراً مع عدم البعد، والجسم على العكس من ذلك، فهو ذو أبعاد مع عدم الفكر والشعور، ومن ذلك قال ديكارت بالاثنينية الكاملة بينهما.
ويعدّ هذا الرأي تراجعاً فلسفياً إلى مقولة إفلاطون ونظريته عن النفس والبدن، وهذه أحد النقّاط السلبية في فلسفة ديكارت، حيث اكتفى بإظهار جوانب امتياز أحدهما عن الآخر دون جوانب الإتحاد وإشكالية التفاعل بين النفس والبدن، ممّا يجبر العلماء والمحقّقين على دراسة كلّ منهما بشكل منفصل وعدم الإستفادة من معطيات تأثير كلّ منهما على الآخر.
وأراد ديكارت أن يوجد حلاً لهذه المشكلة، وهي مسألة الارتباط الوثيق بين النفس والبدن وتفسير تأثير الأفكار النفسية على الحوادث البدنية من فقدان الشهية أو الضعف البدني أو الارتعاش وإصفرار الوجه وأمثالها الناشئة من أنماط فكرية معينة، فاضطر إلى القول بوجود (الأرواح الحيوانية) كواسطة بينهما، وهذه الأرواح أشبه بالريح البالغة الرقّة تمرّ على الأعصاب ومن ثمّ بالغدّة الصنوبرية فتحلّ بالنفس، وتقيم الإرتباط المذكور بين النفس والبدن ..
ويعتبر ديكارت على هذا الأساس الفلسفي أنّ الحيوانات فاقدة للنفس والفكر، فهي مجرّد آلات معقدّة، لأنّ الفكر والشعور مختص بالنفس الناطقة، أي الإنسان.
ويرى ديكارت أنّ الإنسان فاعل مختار، أي أنّه يتمتع بإرادة حرّة واختيار، وهو طالب للخير والصلاح بذاته، ويرفض القبيح، فهو دائماً يختار ما يعتقد أنّه حقّ وصواب، إلاّ أنّه قد يخطأ في إصابة الحقّ، وهذا الخطأ ناشيء من خطأ الحواس، وإلاّ فالذهن المجرّد لا يعتوره الخطأ في إدراكاته، وعلى أيّ حال، فالإنسان لا يستطيع درك الحقيقة على الدوام، لأنّ هناك فرقاً بين الإرادة الإلهية والبشرية، أنّ الله تعالى هو الذي يوجد الحقّ ويقرّره، والإنسان لا يوجد الحقّ، بل عليه أن يكتشفه ويتّبعه.
ثمّ أنّ إرادة الإنسان بالرغم من كونها غير محدودة بحدود، إلاّ أنّ قدرته محدودة، بخلاف قدرة الله تعالى اللامتناهية وإرادته الحتمية التحقّق، وبما أنّ الله تعالى هو القادر المطلق وفي نفس الوقت رحيم مطلق بعباده، فكلّ ما يصل إلينا منه ويقدّره لنا هو خير لنا وفيه صلاحنا حتّى وإن كان مقروناً بالألم والمشقّة، فأوّل قانون أخلاقي هو التسليم والرضا في مقابل المشيئة الإلهية.
وبما أنّ النفس والبدن جوهران متباينان، والأوّل مجرد وأشرف من الثاني وغير قابل للفناء والإندثار، فسعادة النفس أفضل من سعادة البدن، والآخرة أفضل من الدنيا، وهكذا نصل إلى النتيجة والحقيقة الأخلاقية الثانية، وهو أنّ الإنسان لا ينبغي له التعلّق بالاُمور الدنيوية والماديات أو الخوف من الموت، بل لابدّ من الاهتمام بالملذات الروحية فقط.
ثمّ أنّ الإنسان عندما ينظر إلى صغير حجم الأرض بالنسبة إلى عظمة الكون ووسيع أركانه، ويرى نفسه وموقعه في هذه الأرض فسوف يغمره به التواضع وعدم الكبر، وبما أنّ حوادث هذه الدنيا تسير غالباً في تيار معاكس لرغبات الإنسان، فما أسوأ حالنا لو اعتبرنا هذه الحياة هي الأصل وقطعنا الأمل بالحياة الاُخرى. اذاً، فالايمان بالآخرة ضروري.
أمّا أخلاق المعاشرة فيرى ديكارت أنّ أفراد البشر يحتاجون للاجتماع والتعاون فيما بينهم بما فيه صلاح كلّ فرد فرد منهم، فلابدّ من مراعاة الكل وترجيح مصلحة الجماعة ولو أحياناً على مصلحة الجزء والفرد.
وبالنسبة إلى علوم الإنسان والتصورات الذهنية فهي على ثلاثة أقسام: فطرية، واعتبارية، وخارجية.
العلوم الفطرية هي التي تتولد مع الفكر والموجودة في العقل بالفطرة، أي أنّها من ذاتيات العقل ولم ترد إليه من مكان آخر، كقانون العليّة، والمسائل الرياضية وأمثالها. أمّا الإعتبارية فهي وليدة الخيال ومن مجعولات قوّة الوهم، والعلوم الخارجية هي العلوم الواردة إلى الذهن من طريق الحواس الخمس كالمبصرات والمسموعات و.. فلا يمكننا الاطمئنان بصحتها وأنّ لها مصداقاً خارجياً مطابقاً لما في الذهن، فحتى لو كان لها واقع خارجي إلاّ أنّه متغيّر وغير مطابق لتصوراتنا، فمثلاً نحن نرى قرص الشمس لا يتجاوز مساحة الكف، بينما الحقيقة وطبقاً للقواعد الفلكية فانّ مساحته أكبر من حجم الأرض بعدّة آلاف المرّات.
إذاً، فالاُمور الفطرية الموجودة في العقل والتي يدركها الإنسان بالبداهة هي التي يمكن الإعتماد عليها في العلوم، فكلّ فرد يعلم بالبداهة أنّه موجود، وأنّ المثلث له ثلاث زوايا، وأنّ المساويان لشيء ثالث متساويان، وهكذا.
وبالرغم من ذلك يعتبر ديكارت من الفلاسفة الطبيعيين ومن الذين دعوا إلى التجربة في الميادين العلوم الطبيعية، لأنّه لا يرى تنافياً بين عدم توصّل الإنسان للحقيقة عن طريق الحواس والتجارب المادية، ولكن يرى أنّ هذا النمط من العلوم الطبيعية وإن كان عاجزاً عن إيصال الإنسان إلى الحقيقة، إلاّ أنّه نافع عملياً، أي أنّ لهذه العلوم قيمة عملية لا علمية وفلسفية.
ونكتفي من آراء ديكارت بهذا المختصر، ولا نجد ضرورة لبيان نقاط القوّة والضعف في هذه الفلسفة بعد أن أصبحت قديمة لا تحكي رؤى المدارس النفسية الحديثة وخاصة في فصله الحازم بين النفس والبدن، إلاّ أنّ الجميل في هذه الفلسفة أنّها أعطت منهجية جديدة لكلّ بحث علمي أن لا يعتمد على الرواسب الذهنية والخلفيات العلمية، بل يبدأ من الصفر ويستبدل الموهومات والمظنونات باليقين الجازم والواضح، حتّى أنّه يقول بالنسبة للديانة المسيحية، بأنّي أعتقد بالمسيحية لأنّي رأيتها أفضل ما لدينا من الديانات والمذاهب، ولكن قد يكون هناك دين أو مذهب أفضل من المسيحية لم نصل إليه بعد، واللطيف أنّه يضرب لذلك مثلاً في إيران، فيقول: من المحتمل وجود مذهب أفضل في بقعة ما من الأرض في إيران مثلاً، وهذا المعنى والمنهج العلمي هو الذي جعل من ديكارت يقفز بالفلسفة والحركة العلمية في أروبا تلك الخطوات الشاسعة في المنطق والرياضيات والنفس والعلوم الطبيعية الاُخرى.
* * *
اسپينوزا: (1632 ـ 1677م)
الفيلسوف الزاهد، والحكيم العارف، المطرود من قومه اليهود لأفكاره وآرائه الفلسفية المتحرّرة من اُطر الديانة اليهودية.
لا كلام لنا مع تحقيقاته في الفلسفة الإلهية وعلوم ما وراء الطبيعة والعقائد وأمثالها، أمّا تصوراته عن الإنسان والنفس والقيم الأخلاقية فانّه يرى تبعاً لرؤيته العرفانية عن الله تعالى وإحاطته وقيموميته على المخلوقات ونظريته في وحدة الوجود أنّ الإنسان بروحه وجسده مفردتان من صفات الله غير المحدودة، وهما: البعد، والعلم، فنحن لم نكتشف من صفات وكلمات المطلق سوى كلمتين، وقد ظهرت صفة البعد لنا بسيماء الجسم، أمّا العلم فهو مبدأ الروح والروحانيات، ولكن ليس البعد والعلم هما اللذان نشاهدها في أجسامنا ونفوسنا، لأنّهما محدودان ومتعينان ومن الحالات الطارئة، إلاّأنّهما صادران من البعد والعلم الإلهي الأزلي، وهذه المتغيرات في طبيعة المخلوقات لا تؤثر في أحدية المطلق وأزليته، كما في محدودية أمواج البحر وإندثارها وبقاء البحر على حاله. وبما أنّ النفس مطّلعة على أحوال البدن، والبدن محلّ المؤثرات الخارجية، فيمكن القول بأنّ النفس تدرك الأشياء الخارجية، وبعبارة أصح: إنّ إدراك النفس للاُمور الخارجية في الحقيقة هو بعينه إدراكها للجسد، وبما أنّ النفس أو الروح متصلة بالمبدأ الأعلى، فيمكن القول بأنّ علم الروح بالبدن أو بالأشياء الخارجية هو بنفسه علم الله تعالى.
أمّا علم الإنسان، فهو على قسمين: تام وغير تام، العلم التام هو: أن يكون إدراك الذهن للمعلوم بصورة كاملة، أي أنّه يدرك المعلوم ويدرك علله أيضاً، وبعبارة اُخرى: إنّ العلم التام هو ما لا يحتاج الإنسان في إدراكه إلى علم آخر، بل يكون مستقلاً وغير محتاج إلى أمر آخر (كالبديهيات الرياضية مثلاً)، أمّا العلم غير التام هو أن لا يكون المعلوم واضحاً لدى الذهن، أي أن يحتاج في إدراكه إلى العلم باُمور اُخرى، وبما أنّ الإنسان موجود محدود، وروحه مقيدة بالبدن، فإنّ أكثر معلوماته ناقصة وغير تامة حتّى علمه بنفسه وبدنه فكيف بالمعلومات الخارجية.
أمّا المعلومات التامة للإنسان فقليلة جدّاً، وهي المباني العقلية التي يشترك أفراد البشر في إدراكها، وتطمئن إليها النفس.
وكذلك الحال في أعمال الإنسان التي هي مظهر معلوماته فهي على قسمين أيضاً: فقسم منها تصدر بمقتضى طبعه ولا مدخلية لأمر آخر فيها، أي أنّ طبع الإنسان يكون علّة تامة لها، وقسم آخر لا يكون بمقتضى طبعه، بل يخضع لتأثير العوامل الخارجية، فالقسم الأوّل من سلوكيات الإنسان يصدر من نفسه فقط، ويصحّ أن يقال عنه أنّه فعل.
القسم الثّاني: إنفعال حتّى لو كان ظاهراً بصورة الفعل، لأنّ نفس الإنسان ليست مستقلّة في صدورها وتنفيذها، فمثلاً: عندما يقوم الشخص بالإحسان إلى آخر، فان كان الداعي إلى ذلك هو أنّه يرى أنّ وظيفته عمل الخير والإحسان إلى الغير، فقد فعل ما هو مقتضى طبعه، فهو فعل، وأمّا لو أحسن إلى آخر بدافع المصلحة وتوقّع النفع من الطرف الآخر، أو لإدخال السرور عليه، فانّ هذا الدافع يكون جزء علّة للإحسان، فلا يكون فعلاً، بل إنفعالاً.
إذاً، الإنفعالات النفسية تابعة للاُمور الخارجية، ولا تدخل ضمن إختيار الفرد، وكلّما كانت الإنفعالات النفسية أكثر ضاقت دائرة حريته واختياره.
أمّا العقل وحقيقة وهل أنّه مادة كما يظن بعض الناس وما هي حقيقة العلمية العقلية فيقول اسپينوزا:
«إن العقل ليس مادة ولا المادة فكراً، وليس عملية الدفاع سبباً كما أنّها ليست نتيجة أو أثراً (للعقل) وليس هاتان العمليتان مستقلتين ومتوازيتين، إذ ليس هنا عمليتان وليس هنا وجودان، بل هناك عملية واحدة نراها في الداخل فكراً، ومن الخارج حركة، هنا وجود واحد نراه من الداخل عقلاً ومن الخارج مادة ولكنه في الحقيقة ليس إلاّ مزيج مندمج من الإثنين، والعقل والجسم لا يوث أحدهما بالآخر، لأنّهما ليسا شيئين، بل شيئاً واحداً، ولا يستطيع الجسم أن يحمل العقل على أت يفكر ولا يستطيع العقل أن يحمّل الجسد على أن يبقى في حركة أو سكون أو يتخذ وضعاً آخر والسبب في ذلك بسيط وهو أن حكم العقل ورغبة الجسم وميوله شيء واحد بعينه، وكل العالم متحد بنفس هذه الطريقة المزدوجة ..وبهذا فإنّ عنصر الفكر وعنصر المادة شيء واحد يبدو مرّة فكراً ومرّة امتداداً.
وبعد أن أزال سبينوزا الفرق بين الجسم والعقل وجعل منهما حقيقة ذات وجهين أو مظهرين، نراه يتجه الى تقليل الفرق بين العقل والإرادة ويقول أنّهما حقيقة واحدة، وكل ما بينهما من فرق فهو في الدرجة لا في النوع، إذ لا يوجد في العقل ملكات ولا موجودات منفصلة تسمّى عقلاً وإرادة أو خيالاً أو ذاكرة، لأنّ العقل ليس وكالة للبيع تتجر بالافكار، ولكنّه هو الافكار نفسها في سيرها وتسلسلها، ولفظة العقل مجرد كلمة مجردة موجزة نطلقها على سلسلة الافكار، كما نطلق لفظ الإرادة على سلسلة الأعمال والمشيئات، إن العقل والإرادة مرتبطان مع هذه الفكرة أوتلك الفكرة أو الرغبة كالصخرية في هذه الصخرة أو تلك الصخرة وأخيراً الإرادة والعقل شيء واحد بعينه، لأنّ المشيئة فكرة طال بقاؤها في الشعور ثمّ تحولت إلى عمل، وكل فكرة تصير عملاً مالم تؤخرها فكرة معارضة، فالفكرة نفسها هي المرحلة الاُولى لعملية عضوية متحدة يتممها العمل الخارجي، فما يسمّى بالإرادة هو في الحقيقة رغبات أو غرائز أساسها جميعاً بقاء الفرد».
بالنسبة الى دوافع الإنسان الأوّلية، حبّ البقاء هو الميل الأصل في كلّ الموجودات والملائم لطبعها، ويترتب على ذلك أنّ علّة الفناء تكون خارجية، فجميع الكائنات تسعى للبقاء، والإنسان كأحد الموجودات غير مستثنى من هذه القاعدة، وبهذا تتجلّى أيضاً قدرة الله تعالى على مخلوقاته.
إذاً، فالإنسان يطلب كلّ ما يتصور أنّه مفيد لبقائه وترقيه، ويهرب من ضدّه، فما يقال من أنّ النفس ميّالة إلى الخير والفضيلة، وتتجنّب الشر والرذيلة غير صحيح، أي أنّ كلّ ما ترغب فيه النفس وتطلبه تظنّه خيراً وفضيلة، وما تهرب منه تحسبه شرّاً ورذيلة، فالخير والشرّ اُمور نسبية تختلف باختلاف النفوس والأشخاص.
أمّا العواطف والتقلّبات النفسية، فالحالات التي تقرّب النفس من كمال قواها تبعث على الفرح والسرور، وما تسبّب له البعد من الكمال تبعث على الحزن والغم. فإذا كان الفرح والحزن متعلّقاين باللذات والآلام الجسمنفسية، فالفرح والحزن في هذه الحالات من الإنفعالات التي ترتبط باُمور خارجية، كما أنّ الميل والفرح والحزن هي الإنفعالات الأساسية للنفس حيث تتولّد عنها سائر الإنفعالات الاُخرى.
فالفرح إذا اقترن بتصور سبب خارجي له فهو حبّ وعشق، وإذا اقترن الحزن والهمّ مع تصوّر علّة خارجية فهو البغض والكره، وكلّ ما شابه المحبوب فهو محبوب، وكذلك العكس صحيح، وإذا اقترن الفرح بتصوّر أمر مستقبلي فهو الأمل والرجاء، وإذا اقترن بأمر سابق فهو سرور، وإذا اقترن الحزن بأمر مستقبلي فهو الخوف أو اليأس، وإذا اقترن بأمر ماض فهو الكآبة أو الندم، وفرح الشخص المحبوب وحزن الشخص المبغوض سبب لفرحنا، أي إنّما نحبّ ما كان سبباً في فرح الصديق وحزن العدوّ، والعكس بالعكس.
وهكذا تتفرّع الإنفعالات والحالات النفسية من هذه الدعائم الثلاث، فتتولّد المشاعر الإنسانية من المواساة والحنان والرقّة والمروّة والرحمة، أو مضاداتها من القساوة والحسد والبخل والغيرة والحقد والتكبّر و...
وبذلك يعلم أنّ الإنسان في هذا الكم الهائل من الإنفعالات والجواذب والحالات النفسية المتغيّرة ما هو إلاّ ريشة في مهبّ الريح يتقلّب معها دون اختيار، ولا يعلم إطلاقاً بمصيره وما سيؤول إليه أمره، فالنادر من الأعمال والأفعال الصادرة من الإنسان يمكن اعتبارها أفعال إرادية وتصدر عن اختياره ويستحق بها المدح أو الذم، والثواب أو العقاب.
ولولا أنّ الإنسان لم يبتعد عن مسير الكمال، ولم يتورط في شباك الإنفعالات النفسية، فسوف لا يواجه المساءة والشرّ، وخاصة أنّ الشرّ أمر عدمي، وما لم نستطع إدراك الشرّ والسوء لا يمكننا إدراك الضدّ، أي الخير والحسن، وبهذا نفهم أنّ الخير والشرّ أمران اعتباريان ليس لهما واقع حقيقي خارج إطار النفس والذهن.
وبما أنّ الزهد وكفّ النفس والورع وتحمّل الحرمان يقترن عادة بالألم والحزن فلا يمكن أن يكون خيراً وفضيلة، ولكنّها أفضل على أيّ حال من اتباع الشهوات، وضرورية للحياة الإجتماعية، أمّا من يطلب الحقيقة فلا تكون وسيلة ومقنعة من الناحية الفلسفية، لأنّها بمثابة دفع الأفسد بالفاسد، لأنّ هذه الاُمور في حقيقتها إنفعالات وليست أفعال، لأنّ الشخص يبتغي من وراء ذلك جلب الراحة واللذّة الدنيوية أو الاُخروية، أو دفع الخطر والخوف من العقاب الدنيوي أو الاُخروي، ونخلص من ذلك إلى أنّ عموم الناس يعيشون حالة العبودية في الحياة إلاّ من شذّ وندر ممّن يمكن القول بأنّه حرّ.
وحينئذ قد يقال بأنّ لازم هذا القول وأنّ الإنسان يعيش أسير الإنفعالات هو القول بالجبر، فما معنى هذه التوصيات الأخلاقية؟ ولا معنى حينئذ للثواب والعقاب.
يقول اسپينوزا في الجواب: إنّ الثواب والعقاب على الأعمال لا يستلزم القول بالإختيار، فإنّ كلّ غرس أو بذرة ستنمو على شاكلتها، وكما أنّ الكلب الهار يقتل لمرضه هذا وهو غير مقصر وغير مختار في ذلك، فكذلك أفعال الإنسان، مضافاً إلى أنّ هذه حالة الأعم الأغلب من الناس ولا يعني ذلك نفي الإرادة والإختيار عن الإنسان من الأساس.
ويقول أيضاً: «كل شيء يحاول أن يبقى على وجوده وليس هذا لحفظ بقائه إلاّ جوهر حقيقته، والقوّة التي يستطيع بها الشيء أن يبقى هي قوام وجوده وجوهره، وكل غريزة هي خطّة ارتقت لها الطبيعة للمحافظة على بقاء الفرد، والسرور والآلم هما ارضاء الغريزة أو تعطيلها، وهما ليسا سببين لرغباتنا بل نتيجة لها، إنّنا لا نرغب في الأشياء لأنّها تسرنا، ولكنّها تسرنا لأنّنا نرغب فيها ولا مناص لنا من ذلك.
وترتب على ذلك أن لا يكون للانسان إرادة حرّة، لأنّ ضرورة البقاء تقرره الغريرة، والغريزة تقرر الرغبة، والرغبة تقرر الفكر والعمل، وقرارات العقل ليست سوى رغبات وليس في العقل إرادة مطلقة أو حرّة، وهناك سبب يسير العقل في إرادة هذا الشي ئ أو داك، وهذا السبب يسيره سبب آخر، ، وهذا يسيره سبب آخروهكذا الى ما لا نهاية، يظن الناس أنّهم أحرار لأنّهم يدركون رغباتهم ومشيئاتهم، ولكنّهم يجهلون الأسباب التي تسوقهم إلى أن يرغبوا أو يشتهوا»
وكيف كان، فقد تبيّن أنّ ترك الدنيا والعفّة والتقوى لا تعدّ خيراً وفضيلة لأنّها من الإنفعالات، والفضيلة هي العمل بمقتضى الطبع، فلا ينبغي حرمان النفس من التمتعات والملذات غاية الأمر لابدّ فيها من مراعاة حدّ الإعتدال وتجنّب الإفراط في ذلك، وينبغي أيضاً التمايل نحو التمتعات التي يرتضيها الطبع بشكل عام وتولّد السرور والراحة النفسية.
أمّا العشق لله تعالى فهو من الاُمور العقلانية، وليس من الإنفعالات النفسية، وهذا العشق ليس كسائر ألوان العشق النفسي، حيث لا بخل فيه ولا نقص، أي أنّ عاشق الحق تعالى يرى جميع الكائنات عاشقة للحقّ ومظاهر له، فيعشقها جميعاً، وهذا العشق ما هو إلاّ نتيجة لعشق الحقّ لنفسه، ولذا نقول أنّ الله تعالى يحبّ الخلق.
إنّ نجاة وسعادة الإنسان وشرفه وحريته تكمن في العشق للذات المقدسة، وهذا العشق هو الباقي والخالد بخلاف الأهواء النفسية المتعلّقة بالبدن والفانية بفنائه.
هذه عصارة ما كتبه هذا الفيلسوف الذائع الصيت في كتابه «الأخلاق» حول النفس وقواها وسلوك الإنسان في هذه الحياة، وهو وإن كان لا يخلو من شطحات لا تخفى على البصير، وكذلك لا تخلو أذكاره وكتاباته من غموض فلسفي عسر على المحقّقين استجلاء المراد منها، إلاّ أنّها تعتبر خطوة متقدّمة في الحقل التربوي.
ثمّ إنّ المجال لا يسعنا لاستعراض الأدلّة التي أقامها ومناقشتها فانّ الكتب المفصّلة والمختصة قد تكفلّت ذلك، فالأفضل الاكتفاء بهذا المقدار، واستعراض ما تبقى من نظريات فلسفية في الإطار النفسي لحكماء وفلاسفة القرن السابع عشر، وطبعاً كانت تعدّ هذه النظريات جديدة في عصرها; لأنّها تتمتّع بقوالب جديدة غير ما كان سائداً في الأوساط العلمية آنذاك. وخاصة في مثل «اسپينوزا» اليهودي الأصل، لما عرف عنهم الإلتزام بالخطوط العريضة للشريعة الموسوية من الناحية العقائدية والصياغة النظرية، وإن كانوا يشيعون الكفر والرذيلة في أوساط المجتمعات البشرية الاُخرى، ولذا وجدوا في اسپينوزا نشوزاً عن الطريقة فوجدوا عليه وكفّروه.
جون لوك: (1632 ـ 1704م).
الفيلسوف الانجليزي الذي أحدث تغييراً كبيراً في تحقيقاته عن ذهن الإنسان ومعلوماته، ويعتبر من أوائل المؤسسين لعلم النفس العلمي، ووضع الاُسس المنهجية للدراسات النفسية في إدراكات الإنسان وذلك من خلال نفيه القاطع لمقولة كانت عن المعلومات والفطرية والذاتية للعقل، فقد ذهب إلى أنّ الذهن البشري في بداية تكوّنه لوحة بيضاء، ثمّ تحصل فيه المعلومات الإكتسابية الواردة إليه من الحواس، فيقوم العقل بترشيدها وغربلتها وتمحيصها، فالذهن منفعل في معلوماته كالمرآة، وليس له رافد سوى الحسّ والملاحظات الباطنية.
وقد أخذ «كوندياك» الكثير من إفكاره النفسية ومذهبه الفكري من لوك، حيث ذهبا وخلافاً لديكارت إلى أنّ الأحاسيس هي الأصل والمنبع الوحيد للإدراكات الذهنية، وكذلك العواطف والإنفعالات والإنطباعات وغير ذلك، وأنّ الحياة النفسية منفصلة عن عالم البدن والإحساس هو العنصر النفسي الذي يشكل العمليات الذهنية العليا، وبذلك أمكن إيجاد القاعدة الأساسية للمذهب الترابطي في علم النفس، وعلى أي حال، فان لوك يرى أنّ جميع العلوم مكتسبة، ولا ينحصر الأمر بالتصورات الذهنية فحسب، بل حتّى القيم الأخلاقية والبديهيات الوجدانية كذلك، فالاُصول الأخلاقية المشتركة لدى جميع الناس تعود إلى الطبائع كالميل إلى الحياة السعيدة وتجنّب الألم والشقاء، فهذه لا تدخل في دائرة العلوم والحقائق، ومسألة الحسن والقبح ليست قضية عامة لدى الجميع بنحو واحد، فقد يكون أمر واحد عند قوم حسناً وجميلاً، إلاّ أنّه ليس كذلك عند آخرين، والديانات تختلف في تحريمها وإباحتها بالنسبة إلى المواضيع الخارجية، فقد يكون شيء مباحاً في ديانة محرّماً في اُخرى، وكذلك وجدان الأقوام يختلف بدوره من قوم إلى قوم، وحتّى البديهيات كذلك، كما نلاحظ ذلك في مفهوم «الله» حيث لا يمكن القول بأنّه مفهوم واحد لدى جميع الناس، فقد لا يوجد معادلٌ أصلاً لهذا المفهوم في أذهان البعض، وقد يفكّر البعض بوجود هذا المعنى، أو يختلف تصوّره لدى المرأة القروية بالنسبة إلى نفس هذا المفهوم لدى الحكيم والفيلسوف. فمع هذا الاختلاف لا يمكن القول بأنّه مفهوم فطري.
وبما أنّ التصورات والمفاهيم ليست فطرية، فكذلك التصديقات والقضايا المركبة من تلك التصورات لا تكون فطرية بطريق أولى.
وبعد إثبات عدم فطرية جميع التصورات والتصديقات والوجدانيات في الإنسان بالعديد من الأدلّة، وأنّ الذهن في بداية أمره لوحة بيضاء فارغة من أي رسم ونقش، يبدأ لوك ببيان منشأ الملعومات والمعاني المختلفة في الإنسان، فكل شيء يأتي من خلال التجربة، وهي على قسمين: أحدهما المحسوسات الواردة من الخارج بطريق الحواس، والآخر المشاهدات الباطنية عن طريق التفكّر والتعقّل، ومن خلال تفاعل هذين الرافدين تتبلور المعلومات.
وهناك تفصيل في تصوير وجود الحقائق والمعلومات في الذهن، وكيفية معرفة الإنسان بنفسه وبالعالم الخارجي، والفرق بين اليقينيات والمحتملات أو الظنّيات لا علاقة لنا به من قريب، المهم هو التأكيد على دور «جون لوك» ومن قبله «فرانسيس بيجن» الانجليزي على تحصيل العلوم التجريبية، وعدم الإغراق في عالم الحقائق المجردة والإهتمام بما وراء الطبيعة، ويمكن القول بأنّ هذين الانجليزيين غرسا أساس التحوّل العلمي وتغيير مجراه نحو دراسة الطبيعة بالطرق التجريبية.
وكان رأي «بيجن» أنّ الفلاسفة القدماء صرفوا جلّ أوقاتهم لكشف الحقائق لمجرد الكشف العلمي، أي لطلب الحقيقة لذاتها، وهذا المنهج خاطي من الأساس، وعلينا طلب العلم لا لأجل كشف الحقيقة والواقع، بل لنستفيد منه في حياتنا الدنيوية، فالعلم الذي لا تنعكس آثاره على الحياة اليومية للفرد ليست علماً وإن صادف الحقّ والواقع، وهذا هو المسلك العملي للعلوم، أو المنهج النفعي، فالعلم ليس له قيمة ذاتية، وإنّما هو وسيلة لنيل القدرة على الطبيعة والاستفادة منها، فالعلم يساوي القدرة.
وقد رجّحنا ذكر أفكار لوك على فرنسيس بيجن، لأنّ الأوّل له مساس بدراستنا النفسية للحضارة الغربية، حيث يعتبر جون لوك من مؤسسي المذهب الترابطي في علم النفس، والذي وضع ملامحه الرئيسية «هاركلي» الذي جاء بعده واقتبس الكثير من أفكاره على صعيد التصورات الذهنية، وكما سنرى أنّ جون لوك هو الممهد لظهور مدرسة التداعي النفسية في القرن الثامن عشر. حيث يرى جون لوك أنّ أحد المنابع المهمة للتصورات هو العوارض أو الكيفيات المحسوسة، فمثلاً، عندما يتصور الإنسان كرة من الثلج، فانّ ذلك يكون كافياً لإيجاد مفهوم البياض والبرودة في الذهن، وهاتان الخاصيتان موجودتان في كرة الثلج، وهي العلّة في إيجاد التصور المذكور باسم كيفيات، فهذه الكيفيات في كرة الثلج بعد أن تظهر على شكل إحساسات وإدراكات ذهنية تصبح تصورات.
والمنبع الآخر للتصورات هو طريقة عمل الذهن، فالتصورات من قبيل الشك، واليقين، والتفكير، والاستدلال والإرادة والمعرفة معلولة وصادرة عن هذا المصدر الباطني في الإنسان، ولا يعني هذا وجود معلومات وتصورات أوّلية في الذهن غير ما يرد من الحواس، غاية الأمر أنّ بعض التصورات يستلمها الإنسان من الحواس الداخلية، فهو يعبّر عن الكيفية المحسوسة بالإحساس، والكيفية الذهنية بالتفكّر، ويرى لوك أنّ عمل الذهن في مورد التصورات البسيطة كما يلي:
1 ـ تلفيق أو تركيب التصورات البسيطة في تصور كلّي واحد، كما في تصوّر الذهن لمدينة واحدة حيث يسترفد الذهن هذا التصور الكلي من كم كبير من التصورات الحسيّة الجزئية.
2 ـ تلفيق التصورات البسيطة أو تركيبها من دون خلق تركيب كلّي منها، كتصور العلاقة بين العامل وربّ العمل، والأب والابن، وأمثال ذلك من المتضادين والمتضايفين.
3 ـ إنتزاع الخصوصيات المشتركة من مجموعة المؤثرات الذهنية أو التصورات، وفي النهاية تشكيل مفاهيم كلية انتزاعية ليس لها حقيقة موضوعية في الخارج الواقعي.
ويقول «ول دورانت» في كتابه «قصّة الفلسفة»:
«لقد اقترح جون لوك تطبيق الاختيار الاستقرائي ووسائل فرنسيس بيكون على علم النفس، ولقد ارتدّ العقل لأوّل مرّة في الفكر الحديث على نفسه يختبرها في مقالة لوك العظيمة عن العقل البشري (1689) وبدأت الفلسفة في تفحّص الإدارة التي ركنت إليها ووضعت ثقتها فيها مدّة طويلة، ولم تعد تأتمن العقل، وضعفت ثقتها به.
كيف تبدأ المعرفة وكيف تنشأ؟ هل لدينا آراء فطرية عن الخير والشرّ مثلاً، كما يقول بعض الناس الصالحين، آراء يرثها العقل منذ ولادة الطفل وسابقة لجميع أنواع التجربة؟ لقد خشي علماء اللاهوت أن يزول الإيمان بالله من نفوس البشر، لأنّ أحداً من الناس لم ير الله في التلسكوب أو العين المجردة، وفكّروا بإمكانية تقوية الإيمان والأخلاق بالقول بأنّ الآراء الرئيسية التي يقوم عليها الإيمان والأخلاق أُمور غريزية وفطرية في كلّ نفس، ولكن جون لوك على الرغم من أنّه كان مسيحياً فاضلاً وصالحاً، وعلى استعداد للدفاع والنقاش بفصاحة عن معقولية المسيحية لم يقبل هذه الافتراضات اللاهوتية، فقد أعلن بهدوء أنّ جميع أنواع المعرفة فينا تأتينا من التجارب عن طريق حواسنا. وأن لا شيء في العقل سوى ما تنقله له الحواس، وقال: إنّ العقل يكون عند ولادة الطفل كالصفحة البيضاء خالياً من كلّ شيء، وتأخذ الحواس والتجارب في الكتابة على هذه الصفحة بوسائل كثيرة، إلى أن تلد الحواس الذاكرة، والذاكرة تلد الآراء، وكلّ هذا يؤدي إلى النتيجة المفزعة، وهي أنّه باعتبار أنّ الأشياء المادية وحدها هي التي تؤثر على حواسنا، فنحن لا نعرف شيئاً سوى المادة وإنّنا يجب أن نقبل بهذه الفلسفة المادية، فإذا كانت الحواس هي وسائل الأفكار، عندئذ تكون المادة بالضرورة هي التي يستمدّ منها العقل أفكاره وآراءه».
ويقول جون لوك نفسه:
«علينا أن نصرف النظر والبحث في المتيافيزقيا الغير مجدية حول الروح، وجوهر الأشياء، والعلل وغيرها، وأن نكتفي بالبحث في الاُمور الموصلة إلى نتائج مهما كانت قليلة، الأعمال الواقعية والحقيقية هي التي ترتبط بواقعنا اليومي، ونبحث في إدراكاتنا حتّى نستطيع تنظيم وتطبيق سلوكياتنا وفق مقتضى إدراكنا وفهمنا للاُمور».
وقد أصبحت مقولته الشهيرة: «العلم والمعرفة يعني المشاهدة» مصدر إلهام بعده للباحثين والمحقّقين.
والنتيجة الحتمية المترتبة على هذه الرؤية الفلسفية أنّ مقداراً كبيراً من المعلومات والمعارف التي كانت من الثوابت الفلسفية لدى إفلاطون وديكارت وغيرهما من الفلاسفة يتحوّل إلى ركام من الأوهام والخيالات المجعولة، فالمعارف الواردة إلى الذهن من المثل الافلاطونية، أو التصورات والمعلومات الفطرية لديكارت تصبح فاقدة للاعتبار، لأنّها معلومات لم تؤيدها التجربة الحسية.
ثمّ إنّ جون لوك يعتبر على الصعيد الاجتماعي والسياسي طرّاح نظرية الديمقراطية الفعلية في بلاد الغرب، وهي أحد العوامل التي خلدت اسم لوك في رجال ومؤسسي الحضارة الحديثة، ومن خلال كتاباته في هذا الصدد يمكن استجلاء بعض الحقائق النفسية عن دوافع الإنسان ونوازعه الأوّلية. حيث يؤكد لوك في مذهبه السياسي على احترام القانون الذي تضعه الحكومة للمجتمع من قبل الجميع، السلطة والشعب، لأنّ القانون الأوّلي يقول: «لا ينبغي لأحد الإضرار بحياة أو سلامة أو حرية أو أموال الآخرين»، و «انّه لا دليل للناس في ترك حالتهم الطبيعية وتشكيل المجتمع والانظواء تحت ظلّه سوى مجازات المجرمين والخارجين على القانون، والحكومة من دون قانون تكون مستبدّة وجبّارة، ولابدّ من رفضها، وإقرار الديمقراطية وحكومة القانون الذي يضعه نوّاب الشعب بعد انتخابهم من قبل الشعب، وكذلك لا يحقّ للحكومة منع الأفراد من الحريات المختلفة العبادية والإنتقادية وإبراز الرأي، وخاصة الملكيات الخصوصية.
* * *
ملاحظات:
رأينا أنّ الفلسفة وبالأخص الفكرية والتنظيرات النفسية لعمالقة الفكر الغربي في القرن السابع عشر تتسم بالتجدّد والحركية والتحرّر من ربقة الأفكار الموروثة، وهذه الحالة وإن تزامنت مع شيء من التنكّر للدين والتراث اليوناني، إلاّ انّها تمثّل نقطة إنطلاق إيجابية وضرورية لبناء حضارة جديدة وفاعلة ومتجاوبة مع متطلّبات الحاضر.
والأمر الآخر الملحوظ في هذه المرحلة الفكرية في الحضارة الغربية أنّها على درجة كبيرة من الإيمان بالله تعالى وبناء الذات والدعوة إلى المثل العليا والقيم السامية بأسلوب جديد يختلف كلياً عن المرتكزات الكنسيّة والموروثات اليونانية، بل يمكن القول بأنّها أفضل وأكمل على الصعيد التوحيدي والعقائدي من الثوابت الغامضة للثالثو المقدّس للمسيحية، والظاهر أنّ الفلسفة الإسلامية بما لها من زخم فكري وثراء فلسفي قد وجدت طريقها إلى هؤلاء الفلاسفة وأتباعهم من العلماء والمفكرين في تلك الحقبة من الزمان، ولكن هذا لا يعني غمط هؤلاء حقّهم وتهميش آراءهم وأفكارهم.
على الصعيد النفسي نلاحظ تحرّكاً نحو تأطير هذا العلم والإقتراب من الميدان التجريبي وخاصة في أفكار جون لوك الذي أنكر على ديكارت القول بفطرية المعلومات العقلية وأصرّ على اكتسابية جميع العلوم والأخلاق والعادات في الفرد ممّا مهّد السبيل للباحثين في علم النفس الإقتراب من الواقع الموضوعي أكثر وعدم التنظير في الهواء الطلق، وكما سوف يطالحنا في المدرسة الإسلامية أنّ النفس رغم كونها مجردة وأمر غير مادي، إلاّ انّها متّصلة بالبدن والمادة ومتأثّرة تماماً في جميع حالاتها بالمؤثرات الخارجية.
وعلى أيّة حال، فالمهم هو أن نستكشف سوابق المدرسة الغربية الحديثة في علم النفس من خلال ما استعرضناه بصورة مقتضبة من تصورات ورؤى أساطين النهضة الحديثة للقرن السابع عشر لنصل إلى القرن الثامن عشر مع ثلّة اُخرى من دعائم الفكر الغربي.
* * *
المصادر:
قصّة الفلسفة ـ ويل دورانت.
فلسفتنا ـ محمّد باقر الصدر(قدس سره).
سير حكمت در اروبا ـ الدكتور فروغي.
المربّ.ن العظام ـ شاتو جان.
مذاهب علم النفس والفلسفات النفسانية ـ الدكتور علي زعيتر.
إذا أردنا التوغل في الحقل النفسي للمدرسة الغربية، فلا شكّ أنّنا بحاجة إلى التقهقر إلى بدايات عهد النهضة، وتفحص آراء الفلاسفة الاوربيين في مجال النفس الإنسانية وما يتصل بها من سلوكيات ورؤى ودوافع متنوعة، حيث كانت هذه الآراء لها أثر كبير في تزويد علم النفس الحديث بالمادة الخام بعد تولّده وإنفصاله تماماً عن الفلسفة في نهايات القرن التاسع عشر.
والحقيقة أنّ من العجالة أن نختار سنة محدّدة لتاريخ نشوء هذا العلم بصياغته الجديدة، وإن أمكن ضبط تاريخ ولادته وإنفصاله عن الفلسفة بإنشاء «فونت» أوّل مختبر للدراسات النفسية في لايبزيك عام «1879» واستقطابه للمشتاقين والباحثين من مختلف البلدان الغربية، ولكن الضرورة تقتضي إلقاء نظره عاجلة على مرحلة ما قبل الولادة حيث كان للفلاسفة في بدايات عصر النهضة اُطروحات ونظريات واسعة النطاق في هذا الميدان غيّرت المناخ الفكري في تلك الأوساط وبعثرت النظريات اليونانية من أرسطية وإفلاطونية الحاكمة في العصور الوسطى.
وأوّل ما يطالعنا في هذا الصدد هو الفيلسوف الفرنسي «ديكارت» ـ القرن السابع عشر ـ الذي يعتبر بحقّ أوّل فيلسوف أشاد اللبنات الاُولى للفلسفة الحديثة، وحطّم بمعول الشكّ جميع الترسبات الفكرية والخلفيات الذهنية السائدة في تلك الأعصار، ثمّ نتعرّض إلى إثنين من أساطين الفلسفة الغربية في القرن السابع عشر، وهما «اسپبنوزا» الهولندي، و «جوك لوك» الانجليزي.
ديكارت:
يطول بنا المقام مع ديكارت إذا أردنا استيعاب اُطروحته عن النفس والعقل والجسد وأنماط الفكر البشري فيما يرتبط بعلم النفس، ولكن نقتصر في ذلك على البنى الفكرية التي أقام عليها فلسفته وتصوراته عن النفس والعالم وما وراء الطبيعة، فكما هو المعروف عن ديكارت في سيره الفلسفي أنّه أخذ بمبدأ الشكّ في تركيبته المعروفة «أنا أشك، فأنا اُفكّر، فأنا موجود» وذلك أنّه أراد تحصيل العلوم الحقيقية ونبذ الأوهام والأفكار الباطلة التي تتراكم في الديانات والمذاهب الفلسفية والعقائد والمعقولات، وبما أنّ أكثرها مبني على الحدسيات والظنّيات وردت الذهن البشري من طريق الحس، أي انّ المحسوسات لها دور كبير في صياغة الفكر، والحسّ بدوره طريق غير مطمئن لكثرة أخطاء الحس وعدم الثقة بمعطياته الفكرية، فلمّا أراد بناء فلسفته على اليقين رأى أنّ محتويات ذهنه من علوم وإعتقادات متراكمة لا تقف على أرض اليقين الجازم، فكلّ أصل فلسفي أو قاعدة علمية مسلّمة تتناثر بين يديه إلى مشكوكات وينخر فيها إحتمال الضدّ، إلاّ شيء واحد، وهو أنّه إذا كان يشكّ في كلّ شيء، فلا يشكّ في قضيّة واحدة، وهي أنّه يشكّ، فهذه القضيّة يقينية حتماً، فكان هذا الشكّ بمثابة اللبنة الاُولى التي بنى عليها فيما بعد فلسفته، وهو أنّه إذا كان يشكّ حتماً، فهذا يعني أنّه يفكّر لا محالة، والتفكير دليل يقيني على أنّه موجود، وبذلك حصل على أصل يعتمد عليه في تسلسل المعلومات ويشيد عليه البنى الفوقية لجميع المعلومات فيما بعد، فإذا كان الإنسان يشكّ في وجود العالم الخارجي ويشك في معطيات الحواس أو البديهيات العقلية، فهو لا يشكّ في هذه القضية حتماً، ولا يستطيع أحد من الشكّاكين والسوفسطائيين أن يعتريه الريب مع هذه القضية.
ومنها شرع ديكارت يؤسس القضايا الفكرية والعقائدية الاُخرى فإثبات الخالق جلّ وعلا لا يتمّ من خلال المحسوسات والمشاهدات، لأنّها هي بدورها تعتمد في إثبات وجودها على تلك القضية الفكرية المركزية (أنا اُفكّر)، فإثبات وجود البدن وروافده الحسيّة يأتي بالمرتبة الثانية بعد وجود النفس، فيتفرع من تلك القضية الاُولى العلم بوجود الله ووجود البدن; لأنّ الفكر أسمى وأرقى من الشكّ، والشكّ لا يولّد اليقين. إذاً، الفكر له مصدر آخر غير النفس، فجميع التصورات من تصوّر الجسم والزمان والعدد، وكذلك نفس تصوّر وجود ذات مقدّسة لا متناهية في الكمال وأزلية وأبدية لا يمكن أن يكون مصدرها النفس الناقصة والمحدودة، والمحدود لا يمكنه تصور اللامحدود، والأضعف لا يوجد الأقوى، فلابدّ أن يكون الموجد لهذا التصوّر وجوداً لا متناهى أيضاً، وبما أنّ هذا الفكر (وهو عين النفس بعبارة اُخرى) لابدّ له من محل، فلابدّ من وجود البدن. وهكذا صارت لديه ثلاث قضايا يقينية: النفس، الله، البدن، ويقول ديكارت:
«بعد أن صرت موقناً بوجودي، التفت إلى ماهية نفسي وطلبت معرفة حقيقتها، فرأيت أنّني لست على يقين من شيء يتعلّق بالنفس سوى الفكر، لأنّني ما دمت اُفكّر فأنا مطمئن لوجودي، فإذا زال هذا الشعور عني، أي لو انتفى التفكير فلا دليل على وجودي، وبما أنّ وجودي مترتب على فكري فحسب، قبل إثبات وجود بدني وأعضائي، إذاً فماهية نفسي ووجودي لا يعني سوى فكري».
ويظهر من كلمات ديكارت ومجمل أفكاره وتصوراته عن النفس أنّها عبارة عن الفكر بالمعنى الأعمّ الذي يشمل الإحساسات الباطنية والعواطف والميول والإرادة والخيال والتعقّل وأمثال ذلك.
ومن هنا أخذ ديكارت بمقولة الثنوية بين النفس والبدن وإنّهما حقيقتان منفصلتان، وجوهران متباينان، فلا صلة وعلاقة مباشرة بينهما، فالنفس أقرب إلى الدراسة العلمية من البدن، لأنّ المادة لا تعرف إلاّ بتوسط الحواس، وكلّ ما هو جسم متقوّم بما هو نفس، أي أنّ الإنسان يدرك نفسه أوّلاً، ثمّ يدرك أنّ له بدناً، والبدن محدود ذو أبعاد ويشغل حيّزاً من الفراغ ومتحرّك ومندثر، والنفس ليست لها هذه السمات، فهي تأبى عن الحركة والإندثار والموت، وبعبارة اُخرى: النفس تتّسم بأنّ لها فكراً وشعوراً مع عدم البعد، والجسم على العكس من ذلك، فهو ذو أبعاد مع عدم الفكر والشعور، ومن ذلك قال ديكارت بالاثنينية الكاملة بينهما.
ويعدّ هذا الرأي تراجعاً فلسفياً إلى مقولة إفلاطون ونظريته عن النفس والبدن، وهذه أحد النقّاط السلبية في فلسفة ديكارت، حيث اكتفى بإظهار جوانب امتياز أحدهما عن الآخر دون جوانب الإتحاد وإشكالية التفاعل بين النفس والبدن، ممّا يجبر العلماء والمحقّقين على دراسة كلّ منهما بشكل منفصل وعدم الإستفادة من معطيات تأثير كلّ منهما على الآخر.
وأراد ديكارت أن يوجد حلاً لهذه المشكلة، وهي مسألة الارتباط الوثيق بين النفس والبدن وتفسير تأثير الأفكار النفسية على الحوادث البدنية من فقدان الشهية أو الضعف البدني أو الارتعاش وإصفرار الوجه وأمثالها الناشئة من أنماط فكرية معينة، فاضطر إلى القول بوجود (الأرواح الحيوانية) كواسطة بينهما، وهذه الأرواح أشبه بالريح البالغة الرقّة تمرّ على الأعصاب ومن ثمّ بالغدّة الصنوبرية فتحلّ بالنفس، وتقيم الإرتباط المذكور بين النفس والبدن ..
ويعتبر ديكارت على هذا الأساس الفلسفي أنّ الحيوانات فاقدة للنفس والفكر، فهي مجرّد آلات معقدّة، لأنّ الفكر والشعور مختص بالنفس الناطقة، أي الإنسان.
ويرى ديكارت أنّ الإنسان فاعل مختار، أي أنّه يتمتع بإرادة حرّة واختيار، وهو طالب للخير والصلاح بذاته، ويرفض القبيح، فهو دائماً يختار ما يعتقد أنّه حقّ وصواب، إلاّ أنّه قد يخطأ في إصابة الحقّ، وهذا الخطأ ناشيء من خطأ الحواس، وإلاّ فالذهن المجرّد لا يعتوره الخطأ في إدراكاته، وعلى أيّ حال، فالإنسان لا يستطيع درك الحقيقة على الدوام، لأنّ هناك فرقاً بين الإرادة الإلهية والبشرية، أنّ الله تعالى هو الذي يوجد الحقّ ويقرّره، والإنسان لا يوجد الحقّ، بل عليه أن يكتشفه ويتّبعه.
ثمّ أنّ إرادة الإنسان بالرغم من كونها غير محدودة بحدود، إلاّ أنّ قدرته محدودة، بخلاف قدرة الله تعالى اللامتناهية وإرادته الحتمية التحقّق، وبما أنّ الله تعالى هو القادر المطلق وفي نفس الوقت رحيم مطلق بعباده، فكلّ ما يصل إلينا منه ويقدّره لنا هو خير لنا وفيه صلاحنا حتّى وإن كان مقروناً بالألم والمشقّة، فأوّل قانون أخلاقي هو التسليم والرضا في مقابل المشيئة الإلهية.
وبما أنّ النفس والبدن جوهران متباينان، والأوّل مجرد وأشرف من الثاني وغير قابل للفناء والإندثار، فسعادة النفس أفضل من سعادة البدن، والآخرة أفضل من الدنيا، وهكذا نصل إلى النتيجة والحقيقة الأخلاقية الثانية، وهو أنّ الإنسان لا ينبغي له التعلّق بالاُمور الدنيوية والماديات أو الخوف من الموت، بل لابدّ من الاهتمام بالملذات الروحية فقط.
ثمّ أنّ الإنسان عندما ينظر إلى صغير حجم الأرض بالنسبة إلى عظمة الكون ووسيع أركانه، ويرى نفسه وموقعه في هذه الأرض فسوف يغمره به التواضع وعدم الكبر، وبما أنّ حوادث هذه الدنيا تسير غالباً في تيار معاكس لرغبات الإنسان، فما أسوأ حالنا لو اعتبرنا هذه الحياة هي الأصل وقطعنا الأمل بالحياة الاُخرى. اذاً، فالايمان بالآخرة ضروري.
أمّا أخلاق المعاشرة فيرى ديكارت أنّ أفراد البشر يحتاجون للاجتماع والتعاون فيما بينهم بما فيه صلاح كلّ فرد فرد منهم، فلابدّ من مراعاة الكل وترجيح مصلحة الجماعة ولو أحياناً على مصلحة الجزء والفرد.
وبالنسبة إلى علوم الإنسان والتصورات الذهنية فهي على ثلاثة أقسام: فطرية، واعتبارية، وخارجية.
العلوم الفطرية هي التي تتولد مع الفكر والموجودة في العقل بالفطرة، أي أنّها من ذاتيات العقل ولم ترد إليه من مكان آخر، كقانون العليّة، والمسائل الرياضية وأمثالها. أمّا الإعتبارية فهي وليدة الخيال ومن مجعولات قوّة الوهم، والعلوم الخارجية هي العلوم الواردة إلى الذهن من طريق الحواس الخمس كالمبصرات والمسموعات و.. فلا يمكننا الاطمئنان بصحتها وأنّ لها مصداقاً خارجياً مطابقاً لما في الذهن، فحتى لو كان لها واقع خارجي إلاّ أنّه متغيّر وغير مطابق لتصوراتنا، فمثلاً نحن نرى قرص الشمس لا يتجاوز مساحة الكف، بينما الحقيقة وطبقاً للقواعد الفلكية فانّ مساحته أكبر من حجم الأرض بعدّة آلاف المرّات.
إذاً، فالاُمور الفطرية الموجودة في العقل والتي يدركها الإنسان بالبداهة هي التي يمكن الإعتماد عليها في العلوم، فكلّ فرد يعلم بالبداهة أنّه موجود، وأنّ المثلث له ثلاث زوايا، وأنّ المساويان لشيء ثالث متساويان، وهكذا.
وبالرغم من ذلك يعتبر ديكارت من الفلاسفة الطبيعيين ومن الذين دعوا إلى التجربة في الميادين العلوم الطبيعية، لأنّه لا يرى تنافياً بين عدم توصّل الإنسان للحقيقة عن طريق الحواس والتجارب المادية، ولكن يرى أنّ هذا النمط من العلوم الطبيعية وإن كان عاجزاً عن إيصال الإنسان إلى الحقيقة، إلاّ أنّه نافع عملياً، أي أنّ لهذه العلوم قيمة عملية لا علمية وفلسفية.
ونكتفي من آراء ديكارت بهذا المختصر، ولا نجد ضرورة لبيان نقاط القوّة والضعف في هذه الفلسفة بعد أن أصبحت قديمة لا تحكي رؤى المدارس النفسية الحديثة وخاصة في فصله الحازم بين النفس والبدن، إلاّ أنّ الجميل في هذه الفلسفة أنّها أعطت منهجية جديدة لكلّ بحث علمي أن لا يعتمد على الرواسب الذهنية والخلفيات العلمية، بل يبدأ من الصفر ويستبدل الموهومات والمظنونات باليقين الجازم والواضح، حتّى أنّه يقول بالنسبة للديانة المسيحية، بأنّي أعتقد بالمسيحية لأنّي رأيتها أفضل ما لدينا من الديانات والمذاهب، ولكن قد يكون هناك دين أو مذهب أفضل من المسيحية لم نصل إليه بعد، واللطيف أنّه يضرب لذلك مثلاً في إيران، فيقول: من المحتمل وجود مذهب أفضل في بقعة ما من الأرض في إيران مثلاً، وهذا المعنى والمنهج العلمي هو الذي جعل من ديكارت يقفز بالفلسفة والحركة العلمية في أروبا تلك الخطوات الشاسعة في المنطق والرياضيات والنفس والعلوم الطبيعية الاُخرى.
* * *
اسپينوزا: (1632 ـ 1677م)
الفيلسوف الزاهد، والحكيم العارف، المطرود من قومه اليهود لأفكاره وآرائه الفلسفية المتحرّرة من اُطر الديانة اليهودية.
لا كلام لنا مع تحقيقاته في الفلسفة الإلهية وعلوم ما وراء الطبيعة والعقائد وأمثالها، أمّا تصوراته عن الإنسان والنفس والقيم الأخلاقية فانّه يرى تبعاً لرؤيته العرفانية عن الله تعالى وإحاطته وقيموميته على المخلوقات ونظريته في وحدة الوجود أنّ الإنسان بروحه وجسده مفردتان من صفات الله غير المحدودة، وهما: البعد، والعلم، فنحن لم نكتشف من صفات وكلمات المطلق سوى كلمتين، وقد ظهرت صفة البعد لنا بسيماء الجسم، أمّا العلم فهو مبدأ الروح والروحانيات، ولكن ليس البعد والعلم هما اللذان نشاهدها في أجسامنا ونفوسنا، لأنّهما محدودان ومتعينان ومن الحالات الطارئة، إلاّأنّهما صادران من البعد والعلم الإلهي الأزلي، وهذه المتغيرات في طبيعة المخلوقات لا تؤثر في أحدية المطلق وأزليته، كما في محدودية أمواج البحر وإندثارها وبقاء البحر على حاله. وبما أنّ النفس مطّلعة على أحوال البدن، والبدن محلّ المؤثرات الخارجية، فيمكن القول بأنّ النفس تدرك الأشياء الخارجية، وبعبارة أصح: إنّ إدراك النفس للاُمور الخارجية في الحقيقة هو بعينه إدراكها للجسد، وبما أنّ النفس أو الروح متصلة بالمبدأ الأعلى، فيمكن القول بأنّ علم الروح بالبدن أو بالأشياء الخارجية هو بنفسه علم الله تعالى.
أمّا علم الإنسان، فهو على قسمين: تام وغير تام، العلم التام هو: أن يكون إدراك الذهن للمعلوم بصورة كاملة، أي أنّه يدرك المعلوم ويدرك علله أيضاً، وبعبارة اُخرى: إنّ العلم التام هو ما لا يحتاج الإنسان في إدراكه إلى علم آخر، بل يكون مستقلاً وغير محتاج إلى أمر آخر (كالبديهيات الرياضية مثلاً)، أمّا العلم غير التام هو أن لا يكون المعلوم واضحاً لدى الذهن، أي أن يحتاج في إدراكه إلى العلم باُمور اُخرى، وبما أنّ الإنسان موجود محدود، وروحه مقيدة بالبدن، فإنّ أكثر معلوماته ناقصة وغير تامة حتّى علمه بنفسه وبدنه فكيف بالمعلومات الخارجية.
أمّا المعلومات التامة للإنسان فقليلة جدّاً، وهي المباني العقلية التي يشترك أفراد البشر في إدراكها، وتطمئن إليها النفس.
وكذلك الحال في أعمال الإنسان التي هي مظهر معلوماته فهي على قسمين أيضاً: فقسم منها تصدر بمقتضى طبعه ولا مدخلية لأمر آخر فيها، أي أنّ طبع الإنسان يكون علّة تامة لها، وقسم آخر لا يكون بمقتضى طبعه، بل يخضع لتأثير العوامل الخارجية، فالقسم الأوّل من سلوكيات الإنسان يصدر من نفسه فقط، ويصحّ أن يقال عنه أنّه فعل.
القسم الثّاني: إنفعال حتّى لو كان ظاهراً بصورة الفعل، لأنّ نفس الإنسان ليست مستقلّة في صدورها وتنفيذها، فمثلاً: عندما يقوم الشخص بالإحسان إلى آخر، فان كان الداعي إلى ذلك هو أنّه يرى أنّ وظيفته عمل الخير والإحسان إلى الغير، فقد فعل ما هو مقتضى طبعه، فهو فعل، وأمّا لو أحسن إلى آخر بدافع المصلحة وتوقّع النفع من الطرف الآخر، أو لإدخال السرور عليه، فانّ هذا الدافع يكون جزء علّة للإحسان، فلا يكون فعلاً، بل إنفعالاً.
إذاً، الإنفعالات النفسية تابعة للاُمور الخارجية، ولا تدخل ضمن إختيار الفرد، وكلّما كانت الإنفعالات النفسية أكثر ضاقت دائرة حريته واختياره.
أمّا العقل وحقيقة وهل أنّه مادة كما يظن بعض الناس وما هي حقيقة العلمية العقلية فيقول اسپينوزا:
«إن العقل ليس مادة ولا المادة فكراً، وليس عملية الدفاع سبباً كما أنّها ليست نتيجة أو أثراً (للعقل) وليس هاتان العمليتان مستقلتين ومتوازيتين، إذ ليس هنا عمليتان وليس هنا وجودان، بل هناك عملية واحدة نراها في الداخل فكراً، ومن الخارج حركة، هنا وجود واحد نراه من الداخل عقلاً ومن الخارج مادة ولكنه في الحقيقة ليس إلاّ مزيج مندمج من الإثنين، والعقل والجسم لا يوث أحدهما بالآخر، لأنّهما ليسا شيئين، بل شيئاً واحداً، ولا يستطيع الجسم أن يحمل العقل على أت يفكر ولا يستطيع العقل أن يحمّل الجسد على أن يبقى في حركة أو سكون أو يتخذ وضعاً آخر والسبب في ذلك بسيط وهو أن حكم العقل ورغبة الجسم وميوله شيء واحد بعينه، وكل العالم متحد بنفس هذه الطريقة المزدوجة ..وبهذا فإنّ عنصر الفكر وعنصر المادة شيء واحد يبدو مرّة فكراً ومرّة امتداداً.
وبعد أن أزال سبينوزا الفرق بين الجسم والعقل وجعل منهما حقيقة ذات وجهين أو مظهرين، نراه يتجه الى تقليل الفرق بين العقل والإرادة ويقول أنّهما حقيقة واحدة، وكل ما بينهما من فرق فهو في الدرجة لا في النوع، إذ لا يوجد في العقل ملكات ولا موجودات منفصلة تسمّى عقلاً وإرادة أو خيالاً أو ذاكرة، لأنّ العقل ليس وكالة للبيع تتجر بالافكار، ولكنّه هو الافكار نفسها في سيرها وتسلسلها، ولفظة العقل مجرد كلمة مجردة موجزة نطلقها على سلسلة الافكار، كما نطلق لفظ الإرادة على سلسلة الأعمال والمشيئات، إن العقل والإرادة مرتبطان مع هذه الفكرة أوتلك الفكرة أو الرغبة كالصخرية في هذه الصخرة أو تلك الصخرة وأخيراً الإرادة والعقل شيء واحد بعينه، لأنّ المشيئة فكرة طال بقاؤها في الشعور ثمّ تحولت إلى عمل، وكل فكرة تصير عملاً مالم تؤخرها فكرة معارضة، فالفكرة نفسها هي المرحلة الاُولى لعملية عضوية متحدة يتممها العمل الخارجي، فما يسمّى بالإرادة هو في الحقيقة رغبات أو غرائز أساسها جميعاً بقاء الفرد».
بالنسبة الى دوافع الإنسان الأوّلية، حبّ البقاء هو الميل الأصل في كلّ الموجودات والملائم لطبعها، ويترتب على ذلك أنّ علّة الفناء تكون خارجية، فجميع الكائنات تسعى للبقاء، والإنسان كأحد الموجودات غير مستثنى من هذه القاعدة، وبهذا تتجلّى أيضاً قدرة الله تعالى على مخلوقاته.
إذاً، فالإنسان يطلب كلّ ما يتصور أنّه مفيد لبقائه وترقيه، ويهرب من ضدّه، فما يقال من أنّ النفس ميّالة إلى الخير والفضيلة، وتتجنّب الشر والرذيلة غير صحيح، أي أنّ كلّ ما ترغب فيه النفس وتطلبه تظنّه خيراً وفضيلة، وما تهرب منه تحسبه شرّاً ورذيلة، فالخير والشرّ اُمور نسبية تختلف باختلاف النفوس والأشخاص.
أمّا العواطف والتقلّبات النفسية، فالحالات التي تقرّب النفس من كمال قواها تبعث على الفرح والسرور، وما تسبّب له البعد من الكمال تبعث على الحزن والغم. فإذا كان الفرح والحزن متعلّقاين باللذات والآلام الجسمنفسية، فالفرح والحزن في هذه الحالات من الإنفعالات التي ترتبط باُمور خارجية، كما أنّ الميل والفرح والحزن هي الإنفعالات الأساسية للنفس حيث تتولّد عنها سائر الإنفعالات الاُخرى.
فالفرح إذا اقترن بتصور سبب خارجي له فهو حبّ وعشق، وإذا اقترن الحزن والهمّ مع تصوّر علّة خارجية فهو البغض والكره، وكلّ ما شابه المحبوب فهو محبوب، وكذلك العكس صحيح، وإذا اقترن الفرح بتصوّر أمر مستقبلي فهو الأمل والرجاء، وإذا اقترن بأمر سابق فهو سرور، وإذا اقترن الحزن بأمر مستقبلي فهو الخوف أو اليأس، وإذا اقترن بأمر ماض فهو الكآبة أو الندم، وفرح الشخص المحبوب وحزن الشخص المبغوض سبب لفرحنا، أي إنّما نحبّ ما كان سبباً في فرح الصديق وحزن العدوّ، والعكس بالعكس.
وهكذا تتفرّع الإنفعالات والحالات النفسية من هذه الدعائم الثلاث، فتتولّد المشاعر الإنسانية من المواساة والحنان والرقّة والمروّة والرحمة، أو مضاداتها من القساوة والحسد والبخل والغيرة والحقد والتكبّر و...
وبذلك يعلم أنّ الإنسان في هذا الكم الهائل من الإنفعالات والجواذب والحالات النفسية المتغيّرة ما هو إلاّ ريشة في مهبّ الريح يتقلّب معها دون اختيار، ولا يعلم إطلاقاً بمصيره وما سيؤول إليه أمره، فالنادر من الأعمال والأفعال الصادرة من الإنسان يمكن اعتبارها أفعال إرادية وتصدر عن اختياره ويستحق بها المدح أو الذم، والثواب أو العقاب.
ولولا أنّ الإنسان لم يبتعد عن مسير الكمال، ولم يتورط في شباك الإنفعالات النفسية، فسوف لا يواجه المساءة والشرّ، وخاصة أنّ الشرّ أمر عدمي، وما لم نستطع إدراك الشرّ والسوء لا يمكننا إدراك الضدّ، أي الخير والحسن، وبهذا نفهم أنّ الخير والشرّ أمران اعتباريان ليس لهما واقع حقيقي خارج إطار النفس والذهن.
وبما أنّ الزهد وكفّ النفس والورع وتحمّل الحرمان يقترن عادة بالألم والحزن فلا يمكن أن يكون خيراً وفضيلة، ولكنّها أفضل على أيّ حال من اتباع الشهوات، وضرورية للحياة الإجتماعية، أمّا من يطلب الحقيقة فلا تكون وسيلة ومقنعة من الناحية الفلسفية، لأنّها بمثابة دفع الأفسد بالفاسد، لأنّ هذه الاُمور في حقيقتها إنفعالات وليست أفعال، لأنّ الشخص يبتغي من وراء ذلك جلب الراحة واللذّة الدنيوية أو الاُخروية، أو دفع الخطر والخوف من العقاب الدنيوي أو الاُخروي، ونخلص من ذلك إلى أنّ عموم الناس يعيشون حالة العبودية في الحياة إلاّ من شذّ وندر ممّن يمكن القول بأنّه حرّ.
وحينئذ قد يقال بأنّ لازم هذا القول وأنّ الإنسان يعيش أسير الإنفعالات هو القول بالجبر، فما معنى هذه التوصيات الأخلاقية؟ ولا معنى حينئذ للثواب والعقاب.
يقول اسپينوزا في الجواب: إنّ الثواب والعقاب على الأعمال لا يستلزم القول بالإختيار، فإنّ كلّ غرس أو بذرة ستنمو على شاكلتها، وكما أنّ الكلب الهار يقتل لمرضه هذا وهو غير مقصر وغير مختار في ذلك، فكذلك أفعال الإنسان، مضافاً إلى أنّ هذه حالة الأعم الأغلب من الناس ولا يعني ذلك نفي الإرادة والإختيار عن الإنسان من الأساس.
ويقول أيضاً: «كل شيء يحاول أن يبقى على وجوده وليس هذا لحفظ بقائه إلاّ جوهر حقيقته، والقوّة التي يستطيع بها الشيء أن يبقى هي قوام وجوده وجوهره، وكل غريزة هي خطّة ارتقت لها الطبيعة للمحافظة على بقاء الفرد، والسرور والآلم هما ارضاء الغريزة أو تعطيلها، وهما ليسا سببين لرغباتنا بل نتيجة لها، إنّنا لا نرغب في الأشياء لأنّها تسرنا، ولكنّها تسرنا لأنّنا نرغب فيها ولا مناص لنا من ذلك.
وترتب على ذلك أن لا يكون للانسان إرادة حرّة، لأنّ ضرورة البقاء تقرره الغريرة، والغريزة تقرر الرغبة، والرغبة تقرر الفكر والعمل، وقرارات العقل ليست سوى رغبات وليس في العقل إرادة مطلقة أو حرّة، وهناك سبب يسير العقل في إرادة هذا الشي ئ أو داك، وهذا السبب يسيره سبب آخر، ، وهذا يسيره سبب آخروهكذا الى ما لا نهاية، يظن الناس أنّهم أحرار لأنّهم يدركون رغباتهم ومشيئاتهم، ولكنّهم يجهلون الأسباب التي تسوقهم إلى أن يرغبوا أو يشتهوا»
وكيف كان، فقد تبيّن أنّ ترك الدنيا والعفّة والتقوى لا تعدّ خيراً وفضيلة لأنّها من الإنفعالات، والفضيلة هي العمل بمقتضى الطبع، فلا ينبغي حرمان النفس من التمتعات والملذات غاية الأمر لابدّ فيها من مراعاة حدّ الإعتدال وتجنّب الإفراط في ذلك، وينبغي أيضاً التمايل نحو التمتعات التي يرتضيها الطبع بشكل عام وتولّد السرور والراحة النفسية.
أمّا العشق لله تعالى فهو من الاُمور العقلانية، وليس من الإنفعالات النفسية، وهذا العشق ليس كسائر ألوان العشق النفسي، حيث لا بخل فيه ولا نقص، أي أنّ عاشق الحق تعالى يرى جميع الكائنات عاشقة للحقّ ومظاهر له، فيعشقها جميعاً، وهذا العشق ما هو إلاّ نتيجة لعشق الحقّ لنفسه، ولذا نقول أنّ الله تعالى يحبّ الخلق.
إنّ نجاة وسعادة الإنسان وشرفه وحريته تكمن في العشق للذات المقدسة، وهذا العشق هو الباقي والخالد بخلاف الأهواء النفسية المتعلّقة بالبدن والفانية بفنائه.
هذه عصارة ما كتبه هذا الفيلسوف الذائع الصيت في كتابه «الأخلاق» حول النفس وقواها وسلوك الإنسان في هذه الحياة، وهو وإن كان لا يخلو من شطحات لا تخفى على البصير، وكذلك لا تخلو أذكاره وكتاباته من غموض فلسفي عسر على المحقّقين استجلاء المراد منها، إلاّ أنّها تعتبر خطوة متقدّمة في الحقل التربوي.
ثمّ إنّ المجال لا يسعنا لاستعراض الأدلّة التي أقامها ومناقشتها فانّ الكتب المفصّلة والمختصة قد تكفلّت ذلك، فالأفضل الاكتفاء بهذا المقدار، واستعراض ما تبقى من نظريات فلسفية في الإطار النفسي لحكماء وفلاسفة القرن السابع عشر، وطبعاً كانت تعدّ هذه النظريات جديدة في عصرها; لأنّها تتمتّع بقوالب جديدة غير ما كان سائداً في الأوساط العلمية آنذاك. وخاصة في مثل «اسپينوزا» اليهودي الأصل، لما عرف عنهم الإلتزام بالخطوط العريضة للشريعة الموسوية من الناحية العقائدية والصياغة النظرية، وإن كانوا يشيعون الكفر والرذيلة في أوساط المجتمعات البشرية الاُخرى، ولذا وجدوا في اسپينوزا نشوزاً عن الطريقة فوجدوا عليه وكفّروه.
جون لوك: (1632 ـ 1704م).
الفيلسوف الانجليزي الذي أحدث تغييراً كبيراً في تحقيقاته عن ذهن الإنسان ومعلوماته، ويعتبر من أوائل المؤسسين لعلم النفس العلمي، ووضع الاُسس المنهجية للدراسات النفسية في إدراكات الإنسان وذلك من خلال نفيه القاطع لمقولة كانت عن المعلومات والفطرية والذاتية للعقل، فقد ذهب إلى أنّ الذهن البشري في بداية تكوّنه لوحة بيضاء، ثمّ تحصل فيه المعلومات الإكتسابية الواردة إليه من الحواس، فيقوم العقل بترشيدها وغربلتها وتمحيصها، فالذهن منفعل في معلوماته كالمرآة، وليس له رافد سوى الحسّ والملاحظات الباطنية.
وقد أخذ «كوندياك» الكثير من إفكاره النفسية ومذهبه الفكري من لوك، حيث ذهبا وخلافاً لديكارت إلى أنّ الأحاسيس هي الأصل والمنبع الوحيد للإدراكات الذهنية، وكذلك العواطف والإنفعالات والإنطباعات وغير ذلك، وأنّ الحياة النفسية منفصلة عن عالم البدن والإحساس هو العنصر النفسي الذي يشكل العمليات الذهنية العليا، وبذلك أمكن إيجاد القاعدة الأساسية للمذهب الترابطي في علم النفس، وعلى أي حال، فان لوك يرى أنّ جميع العلوم مكتسبة، ولا ينحصر الأمر بالتصورات الذهنية فحسب، بل حتّى القيم الأخلاقية والبديهيات الوجدانية كذلك، فالاُصول الأخلاقية المشتركة لدى جميع الناس تعود إلى الطبائع كالميل إلى الحياة السعيدة وتجنّب الألم والشقاء، فهذه لا تدخل في دائرة العلوم والحقائق، ومسألة الحسن والقبح ليست قضية عامة لدى الجميع بنحو واحد، فقد يكون أمر واحد عند قوم حسناً وجميلاً، إلاّ أنّه ليس كذلك عند آخرين، والديانات تختلف في تحريمها وإباحتها بالنسبة إلى المواضيع الخارجية، فقد يكون شيء مباحاً في ديانة محرّماً في اُخرى، وكذلك وجدان الأقوام يختلف بدوره من قوم إلى قوم، وحتّى البديهيات كذلك، كما نلاحظ ذلك في مفهوم «الله» حيث لا يمكن القول بأنّه مفهوم واحد لدى جميع الناس، فقد لا يوجد معادلٌ أصلاً لهذا المفهوم في أذهان البعض، وقد يفكّر البعض بوجود هذا المعنى، أو يختلف تصوّره لدى المرأة القروية بالنسبة إلى نفس هذا المفهوم لدى الحكيم والفيلسوف. فمع هذا الاختلاف لا يمكن القول بأنّه مفهوم فطري.
وبما أنّ التصورات والمفاهيم ليست فطرية، فكذلك التصديقات والقضايا المركبة من تلك التصورات لا تكون فطرية بطريق أولى.
وبعد إثبات عدم فطرية جميع التصورات والتصديقات والوجدانيات في الإنسان بالعديد من الأدلّة، وأنّ الذهن في بداية أمره لوحة بيضاء فارغة من أي رسم ونقش، يبدأ لوك ببيان منشأ الملعومات والمعاني المختلفة في الإنسان، فكل شيء يأتي من خلال التجربة، وهي على قسمين: أحدهما المحسوسات الواردة من الخارج بطريق الحواس، والآخر المشاهدات الباطنية عن طريق التفكّر والتعقّل، ومن خلال تفاعل هذين الرافدين تتبلور المعلومات.
وهناك تفصيل في تصوير وجود الحقائق والمعلومات في الذهن، وكيفية معرفة الإنسان بنفسه وبالعالم الخارجي، والفرق بين اليقينيات والمحتملات أو الظنّيات لا علاقة لنا به من قريب، المهم هو التأكيد على دور «جون لوك» ومن قبله «فرانسيس بيجن» الانجليزي على تحصيل العلوم التجريبية، وعدم الإغراق في عالم الحقائق المجردة والإهتمام بما وراء الطبيعة، ويمكن القول بأنّ هذين الانجليزيين غرسا أساس التحوّل العلمي وتغيير مجراه نحو دراسة الطبيعة بالطرق التجريبية.
وكان رأي «بيجن» أنّ الفلاسفة القدماء صرفوا جلّ أوقاتهم لكشف الحقائق لمجرد الكشف العلمي، أي لطلب الحقيقة لذاتها، وهذا المنهج خاطي من الأساس، وعلينا طلب العلم لا لأجل كشف الحقيقة والواقع، بل لنستفيد منه في حياتنا الدنيوية، فالعلم الذي لا تنعكس آثاره على الحياة اليومية للفرد ليست علماً وإن صادف الحقّ والواقع، وهذا هو المسلك العملي للعلوم، أو المنهج النفعي، فالعلم ليس له قيمة ذاتية، وإنّما هو وسيلة لنيل القدرة على الطبيعة والاستفادة منها، فالعلم يساوي القدرة.
وقد رجّحنا ذكر أفكار لوك على فرنسيس بيجن، لأنّ الأوّل له مساس بدراستنا النفسية للحضارة الغربية، حيث يعتبر جون لوك من مؤسسي المذهب الترابطي في علم النفس، والذي وضع ملامحه الرئيسية «هاركلي» الذي جاء بعده واقتبس الكثير من أفكاره على صعيد التصورات الذهنية، وكما سنرى أنّ جون لوك هو الممهد لظهور مدرسة التداعي النفسية في القرن الثامن عشر. حيث يرى جون لوك أنّ أحد المنابع المهمة للتصورات هو العوارض أو الكيفيات المحسوسة، فمثلاً، عندما يتصور الإنسان كرة من الثلج، فانّ ذلك يكون كافياً لإيجاد مفهوم البياض والبرودة في الذهن، وهاتان الخاصيتان موجودتان في كرة الثلج، وهي العلّة في إيجاد التصور المذكور باسم كيفيات، فهذه الكيفيات في كرة الثلج بعد أن تظهر على شكل إحساسات وإدراكات ذهنية تصبح تصورات.
والمنبع الآخر للتصورات هو طريقة عمل الذهن، فالتصورات من قبيل الشك، واليقين، والتفكير، والاستدلال والإرادة والمعرفة معلولة وصادرة عن هذا المصدر الباطني في الإنسان، ولا يعني هذا وجود معلومات وتصورات أوّلية في الذهن غير ما يرد من الحواس، غاية الأمر أنّ بعض التصورات يستلمها الإنسان من الحواس الداخلية، فهو يعبّر عن الكيفية المحسوسة بالإحساس، والكيفية الذهنية بالتفكّر، ويرى لوك أنّ عمل الذهن في مورد التصورات البسيطة كما يلي:
1 ـ تلفيق أو تركيب التصورات البسيطة في تصور كلّي واحد، كما في تصوّر الذهن لمدينة واحدة حيث يسترفد الذهن هذا التصور الكلي من كم كبير من التصورات الحسيّة الجزئية.
2 ـ تلفيق التصورات البسيطة أو تركيبها من دون خلق تركيب كلّي منها، كتصور العلاقة بين العامل وربّ العمل، والأب والابن، وأمثال ذلك من المتضادين والمتضايفين.
3 ـ إنتزاع الخصوصيات المشتركة من مجموعة المؤثرات الذهنية أو التصورات، وفي النهاية تشكيل مفاهيم كلية انتزاعية ليس لها حقيقة موضوعية في الخارج الواقعي.
ويقول «ول دورانت» في كتابه «قصّة الفلسفة»:
«لقد اقترح جون لوك تطبيق الاختيار الاستقرائي ووسائل فرنسيس بيكون على علم النفس، ولقد ارتدّ العقل لأوّل مرّة في الفكر الحديث على نفسه يختبرها في مقالة لوك العظيمة عن العقل البشري (1689) وبدأت الفلسفة في تفحّص الإدارة التي ركنت إليها ووضعت ثقتها فيها مدّة طويلة، ولم تعد تأتمن العقل، وضعفت ثقتها به.
كيف تبدأ المعرفة وكيف تنشأ؟ هل لدينا آراء فطرية عن الخير والشرّ مثلاً، كما يقول بعض الناس الصالحين، آراء يرثها العقل منذ ولادة الطفل وسابقة لجميع أنواع التجربة؟ لقد خشي علماء اللاهوت أن يزول الإيمان بالله من نفوس البشر، لأنّ أحداً من الناس لم ير الله في التلسكوب أو العين المجردة، وفكّروا بإمكانية تقوية الإيمان والأخلاق بالقول بأنّ الآراء الرئيسية التي يقوم عليها الإيمان والأخلاق أُمور غريزية وفطرية في كلّ نفس، ولكن جون لوك على الرغم من أنّه كان مسيحياً فاضلاً وصالحاً، وعلى استعداد للدفاع والنقاش بفصاحة عن معقولية المسيحية لم يقبل هذه الافتراضات اللاهوتية، فقد أعلن بهدوء أنّ جميع أنواع المعرفة فينا تأتينا من التجارب عن طريق حواسنا. وأن لا شيء في العقل سوى ما تنقله له الحواس، وقال: إنّ العقل يكون عند ولادة الطفل كالصفحة البيضاء خالياً من كلّ شيء، وتأخذ الحواس والتجارب في الكتابة على هذه الصفحة بوسائل كثيرة، إلى أن تلد الحواس الذاكرة، والذاكرة تلد الآراء، وكلّ هذا يؤدي إلى النتيجة المفزعة، وهي أنّه باعتبار أنّ الأشياء المادية وحدها هي التي تؤثر على حواسنا، فنحن لا نعرف شيئاً سوى المادة وإنّنا يجب أن نقبل بهذه الفلسفة المادية، فإذا كانت الحواس هي وسائل الأفكار، عندئذ تكون المادة بالضرورة هي التي يستمدّ منها العقل أفكاره وآراءه».
ويقول جون لوك نفسه:
«علينا أن نصرف النظر والبحث في المتيافيزقيا الغير مجدية حول الروح، وجوهر الأشياء، والعلل وغيرها، وأن نكتفي بالبحث في الاُمور الموصلة إلى نتائج مهما كانت قليلة، الأعمال الواقعية والحقيقية هي التي ترتبط بواقعنا اليومي، ونبحث في إدراكاتنا حتّى نستطيع تنظيم وتطبيق سلوكياتنا وفق مقتضى إدراكنا وفهمنا للاُمور».
وقد أصبحت مقولته الشهيرة: «العلم والمعرفة يعني المشاهدة» مصدر إلهام بعده للباحثين والمحقّقين.
والنتيجة الحتمية المترتبة على هذه الرؤية الفلسفية أنّ مقداراً كبيراً من المعلومات والمعارف التي كانت من الثوابت الفلسفية لدى إفلاطون وديكارت وغيرهما من الفلاسفة يتحوّل إلى ركام من الأوهام والخيالات المجعولة، فالمعارف الواردة إلى الذهن من المثل الافلاطونية، أو التصورات والمعلومات الفطرية لديكارت تصبح فاقدة للاعتبار، لأنّها معلومات لم تؤيدها التجربة الحسية.
ثمّ إنّ جون لوك يعتبر على الصعيد الاجتماعي والسياسي طرّاح نظرية الديمقراطية الفعلية في بلاد الغرب، وهي أحد العوامل التي خلدت اسم لوك في رجال ومؤسسي الحضارة الحديثة، ومن خلال كتاباته في هذا الصدد يمكن استجلاء بعض الحقائق النفسية عن دوافع الإنسان ونوازعه الأوّلية. حيث يؤكد لوك في مذهبه السياسي على احترام القانون الذي تضعه الحكومة للمجتمع من قبل الجميع، السلطة والشعب، لأنّ القانون الأوّلي يقول: «لا ينبغي لأحد الإضرار بحياة أو سلامة أو حرية أو أموال الآخرين»، و «انّه لا دليل للناس في ترك حالتهم الطبيعية وتشكيل المجتمع والانظواء تحت ظلّه سوى مجازات المجرمين والخارجين على القانون، والحكومة من دون قانون تكون مستبدّة وجبّارة، ولابدّ من رفضها، وإقرار الديمقراطية وحكومة القانون الذي يضعه نوّاب الشعب بعد انتخابهم من قبل الشعب، وكذلك لا يحقّ للحكومة منع الأفراد من الحريات المختلفة العبادية والإنتقادية وإبراز الرأي، وخاصة الملكيات الخصوصية.
* * *
ملاحظات:
رأينا أنّ الفلسفة وبالأخص الفكرية والتنظيرات النفسية لعمالقة الفكر الغربي في القرن السابع عشر تتسم بالتجدّد والحركية والتحرّر من ربقة الأفكار الموروثة، وهذه الحالة وإن تزامنت مع شيء من التنكّر للدين والتراث اليوناني، إلاّ انّها تمثّل نقطة إنطلاق إيجابية وضرورية لبناء حضارة جديدة وفاعلة ومتجاوبة مع متطلّبات الحاضر.
والأمر الآخر الملحوظ في هذه المرحلة الفكرية في الحضارة الغربية أنّها على درجة كبيرة من الإيمان بالله تعالى وبناء الذات والدعوة إلى المثل العليا والقيم السامية بأسلوب جديد يختلف كلياً عن المرتكزات الكنسيّة والموروثات اليونانية، بل يمكن القول بأنّها أفضل وأكمل على الصعيد التوحيدي والعقائدي من الثوابت الغامضة للثالثو المقدّس للمسيحية، والظاهر أنّ الفلسفة الإسلامية بما لها من زخم فكري وثراء فلسفي قد وجدت طريقها إلى هؤلاء الفلاسفة وأتباعهم من العلماء والمفكرين في تلك الحقبة من الزمان، ولكن هذا لا يعني غمط هؤلاء حقّهم وتهميش آراءهم وأفكارهم.
على الصعيد النفسي نلاحظ تحرّكاً نحو تأطير هذا العلم والإقتراب من الميدان التجريبي وخاصة في أفكار جون لوك الذي أنكر على ديكارت القول بفطرية المعلومات العقلية وأصرّ على اكتسابية جميع العلوم والأخلاق والعادات في الفرد ممّا مهّد السبيل للباحثين في علم النفس الإقتراب من الواقع الموضوعي أكثر وعدم التنظير في الهواء الطلق، وكما سوف يطالحنا في المدرسة الإسلامية أنّ النفس رغم كونها مجردة وأمر غير مادي، إلاّ انّها متّصلة بالبدن والمادة ومتأثّرة تماماً في جميع حالاتها بالمؤثرات الخارجية.
وعلى أيّة حال، فالمهم هو أن نستكشف سوابق المدرسة الغربية الحديثة في علم النفس من خلال ما استعرضناه بصورة مقتضبة من تصورات ورؤى أساطين النهضة الحديثة للقرن السابع عشر لنصل إلى القرن الثامن عشر مع ثلّة اُخرى من دعائم الفكر الغربي.
* * *
المصادر:
قصّة الفلسفة ـ ويل دورانت.
فلسفتنا ـ محمّد باقر الصدر(قدس سره).
سير حكمت در اروبا ـ الدكتور فروغي.
المربّ.ن العظام ـ شاتو جان.
مذاهب علم النفس والفلسفات النفسانية ـ الدكتور علي زعيتر.
أحمد القبانجي - مساهمات الفلاسفة في نشوء علم النفس
أحمد القبانجي - مساهمات الفلاسفة في نشوء علم النفس
www.ahewar.org