رسالتان بين أنسي الحاج و عبدالله القصيمي

صديقي أنسي الحاج.

كلما أردت أن أنسى، أن أصمت، أن أغفر، لم أستطع

لبنان يتسع لكل هذا، لكل هؤلاء ثم يختنق ضيقاً بهذا الإنسان

أخلاق لبنان، تسامح لبنان، حرية لبنان تهضم كل هذا الطعام، كل هذا الطعام الرديء، كل هذا الطعام الفاسد، كل هذا الطعام المغشوش ثم تخرج عن كل وقارها، عن كل تسامحها، عن كل حرياتها، رافضة أن يكون بين أطباق هذا الطعام الرديء الفاسد المغشوش هذا الطبق الواحد، هذا الطبق الواحد .. هذا الطبق الواحد.

صحة لبنان تستقبل كل هؤلاء الحاملين لكل سلالات الأوبئة، لكل الجراثيم المعدية

- تستقبل كل هؤلاء الحاملين منابت الأمراض، تستقبلهم بمناعة، بشجاعة، ثم ترتجف خوفاً من هذا الإنسان، خوفاً من الجراثيم التي لا يحملها .. هذا الإنسان، خوفاً من الجراثيم التي لا يحمل هذا الإنسان واحداً منها، خوفاً ممن لا يحمل احتمالاً من احتمالات الخوف.

فكر لبنان يواجه كل الأفكار المتحدية، كل الأفكار المناقضة، كل الأفكار الشاذة والرديئة والسخيفة والبليدة

- يواجه كل الرياح، كل الأعاصير، دون أن يغلق على نفسه الأبواب، دون أن يدخل السراديب والكهوف، بحثاً عن الحماية، عن الأمان، ثم ينهض بكل موكبه الرسمي، بكل أجهزته الرسمية لكي يعاقب إنساناً بالطرد المهين خوفاً من أن يكون _ أي هذا الإنسان_ احتمالاً من احتمالات التحدي - خوفاً من أن يكون هذا الإنسان خطراً على فكر لبنان، على نظامه، على مذاهبه، على أربابه، على معابده، على أمنه، على سلامته، على رخائه - ثم ينهض لبنان بكل موكبه الرسمي، بكل أجهزته، بكل قوة الدولة فيه لكي يغلق كل أبوابه، لكي يضع كل الحراس على كل حدوده ومطاراته خوفاً من احتمالات التحدي، الذي لا يحتمل أن يكون كذلك.

لبنان يعيش كل هذا الذي يعيشه، يعيش كل هؤلاء الناس، كل هذه المذاهب، كل هذه الخصومات، كل هذه التناقضات، كل هؤلاء العملاء المتجندين في كل الجبهات

- لبنان يعيش كل هذه الأخلاق، كل هذا الخروج على الأخلاق، يعيش كل هذه الأفكار، كل هذا الخروج عن الأفكار - ثم يعجز أن يعيش إنساناً واحداً - أن يعيش فيه إنسان واحد- ثم تنهض كل سلطة الدولة في لبنان لكي تعاقب بالطرد المذل إنساناً واحداً - إنساناً لا يحتمل أن يكون تحدياً لأحد، ولا هزيمة لأحد، ولا منافسة لأحد، ولا إزعاجا لأحد، ولا إهانة لأحد، ولا إحراجاً لأحد.

لبنان يعيش كل هذا الذي يعيشه، كل هؤلاء الناس، كل هؤلاء العملاء الذين يعيشهم، ثم يعجز أن يعيش هذا الإنسان، ثم يرفض أن يعيش فيه هذا الإنسان، ثم يخاف أن يعيش فيه هذا الإنسان

- يخاف على أفكاره، على مذاهبه، على تاريخه، على آلهته، على أمجاده، على صداقته لجيرانه، على تعامله معهم، يخاف على كل ذلك من هذا الإنسان العربي الواحدالذي لا يستطيع ان يكون إغراءا ولا تخويفا الذي لا يستطيع أن يكون تهديداً لمصالح أحد، ولا أخطر على فساد أحد.

إذا كيف استطيع أن أنسى أو أصمت أو أغفر؟ إذا كيف تستطيع أنت أن تنسى أو تصمت أو تغفر؟ إذاً كيف يستطيع أي لبناني أن ينسى أو يصمت أو يغفر؟ إذا كيف يستطيع أي شاعر، أي مفكر، أي فنان، أن ينسى أو يصمت أو يغفر؟

إن صورة رهيبة دميمة مهينة تعيش الآن في عقلي، في أعصابي، في أحلامي، تعذبني، تهزمني، تشتمني، تتحدى كل نماذجي الأخلاقية والفكرية والإنسانية، تتحدى كل ما تعلمت، كل ما سمعت، كل ما قرأت، تتحدى كل أربابي، كل زعمائي، كل تاريخي، كل آبائي، كل أنبيائي، كل المعلمين الذين جاؤا ليعلموني معنى الشجاعة في الإنسان، معنى الصدق، معنى الكرامة، معنى العدل، معنى الرفض فيه، معنى الكبرياء.

إني أتصور كل هؤلاء الذين يعيشون في لبنان، كل هؤلاء الذين يحتفل بهم لبنان، يعانقهم، يهتف لهم، كل هؤلاء الذين ينقسم لبنان، تنقسم طوائفه ومذاهبه وزعماؤه ليكونوا عملاء لهم.

ثم أتصور في الجانب الآخر من الصورة هذا الإنسان الذي طرده من لبنان خوفاً منه أو رفضاً له أو تنظفاً من أدرانه، من فساده، من معاصيه، وحينئذ يتحول كل شيء أمامي إلى اشمئزاز، إلى غثيان، إلى دمامات، إلى عقاب لخيالي، لتطلعاتي إلى المستقبل، لإعجابي بالإنسان، باحتمالاته الأخلاقية والفكرية والإنسانية، باحتمالاته المقبلة، باحتمالات الإنسان فيه، باحتمالات الإنسان في الإنسان. إن هذه الصورة في خيالي لتشوه، لتقتل احتمالات الإنسان في الإنسان، إن لبنان لا يملك نفطاً، مثلما يملك جيرانه، أقرباؤه. إذاً ما الذي يملكه، ما الذي يملكه ليكون نداً لمن يملكون النفط، التعداد البشري، المساحات الواسعة من الأرض؟

إنه يملك شيئاً يجب أن يظل يملكه، يجب أن يزداد له امتلاكاً

إنه يملك الانفتاح الإنساني، إنه يملك القدرة على استقبال كل احتمالات الإنسان، كل صيحاته، كل مستوياته، كل تحليقاته، كل ما فيه من شِعر، من نبوة، من إيمان، من رفض للإيمان، من ذكاء، من غباء، من حقيقة، من خرافة، من تحد، من استسلام.

إنه يملك الأنفتاح لكل الإنسان، إنه يملك الانفتاح على كل الإنسان

إنه يجب أن يملك كل هذا الانفتاح، أن يظل يملكه، أن يقاتل ليمتلكه، ليظل يملكه، وإلا فماذا يمكن أن يظل له، أن يتمسك به، أن يناضل دونه، أن يزعمه لنفسه!

أتمنى أن يجتمع في لبنان كل فرسان التاريخ، كل جياد التاريخ ليهزموا عنه الهزيمة، ليغسلوا عنه هذه الخطيئة، ليردوا إليه تسامحه، حريته، كرامته، استقلاله، انفتاحه على كل الآفاق، لكل الآفاق، ليجعلوه ملكاً لكل الناس دون أن يملكه أحد من الناس، ملكاً لكل الأفكار دون أن يتحول إلى عبد لبعض الأفكار، إلى عدو لبعض الأفكار

أتمنى، أتمنى لك يا لبنان، أتمنى أن تكفّر عن هذه الخطيئة، عن هذه الإهانة، أتمنى أن تكفر عنها بعنف، بقوة، بإصرار، بصراخ، بفروسية

عبدالله القصيمي

21/4/1967

=========

رد أنسي الحاج

صديقي عبدالله القصمي

استغرابك لما يجري في لبنان يحمل الإنسان على الظن بأنك رجل ساذج

إني أرفض أن أصدق أنك هذا الساذج. يجب أن نتعلم انتظار الأسوأ، دائماً، من الدول، خاصة عندما تكون الدولة منبثقة من مجتمع تركيبه اصطناعي وقيمه زائفة. هكذا دولة هي، حتماً، دولة تسويات ومساومات وتنازلات وتجاوزات.

أما استغرابك كيف يستطيع" الشعراء والمفكرون والفنانون أن ينسوا أو يصمتوا أو يغفروا، فهو يجعلني أضحك. ماذا يستطيع هؤلاء أن يفعلوا غير أن لا يفعلوا شيئاً؟ هل خدعتك مظاهر الحرية ومزاعمها في لبنان؟ أم أنك، بالقياس إلى الدول العربية الأخرى، ترى لبنان جنة، ثم تظنه جنة بالفعل وفي المطلق؟

هؤلاء الذين ذكرت يستطيعون النسيان والسكوت والغفران بسهولة، وقد اعتادوا ذلك وأفظع منه في الماضي البعيد والماضي القريب والحاضر

نحن في لبنان أهل عيش، أهل كيف، أهل عرق ومازة ولهو، أهل بيع وشراء وما بينهما، أهل جبل وأهل ساحل، أهل مال وأهل أعمال، أهل طيبة، ولكننا شعب يكره وجع الرأس.

وأنت كنت وجع رأس .. كنت وجع حقيقة، وجع شهادة، وجع ضمير.. ونحن في لبنان نفضل السترة ولا نحب المشاكل

نقول للحقيقة: كوني حقيقة، ولكن بعيداً بعيداً.

وحين أبعدوك قلنا: هذه خيانة عظمى. أتريد الحقيقة؟ وجودك في لبنان، بقاؤك في لبنان هو الخيانة العظم

.كنت شوكة في خاصرتنا

كنت قذى في عيننا. كنت مغصاً في أمعاء لبنان

لبنان الصغير، الهادئ، الوديع، المسالم، الذي لا يريد وجع الرأس

الذي يريد السترة. الذي لا طعم له ولا لون

الذي له، من حين إلى حين، رائحة الجبان"...


أنسي الحاج

======================
* رد أنسي الحاج على رسالة المفكر السعودي عبدالله القصيمي الحزينة، الغاضبة، بعد أن قررت السعودية أن تنفيه من لبنان عقاباً على "ارتداده" من الوهابية الصحراوية إلى العقل والإلحاد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...