30 رسالة بين فريديريكو فيلليني وجورج سيمونون

رسالة بين فيلليني وسيمونون
روما في: 04 يوليوز 1969
عزيزي سيمونون،
ألتمس صفحك إن كنت أكتب إليك بهذه الطريقة، لأنّ خطّي يكاد يكون حقيقة غير مقروء. كما ألتمس صفحك لتأخّري في الردّ عليك، لكوني لم أعد الى روما إلا يوم أمس، فقط.
فأي متعة تلك التي حققتها لي قراءة رسالتك!(3)
ولكم أودّ لو تتاح لي إمكانية الاستجابة لدعوتك، لأقضي برفقتك بعض الوقت!
لكنّ ذلك ليس بالمتيسّر للأسف الشديد، لأنّ الأمور أخذت تسير بكيفية يتعذر عليّ التحكّم فيها، الى حدّ أنّي لن أتمكن من ممارسة ما أرغب فيه، إلا مع متمّ شهر سبتمبر القادم. لكنّي أتمنى أن ألتقي بك في البندقية، حيث سأقضي يومين، في نهاية الشهر الجاري. وأعدك بأنّي سأبحث عنك.
أحيّيك تحية مفعمة بالودّ العميق وبمشاعر الامتنان الخالصة، تقديرا منّي للصداقة المتينة العرى التي ما تفتأ تبرهن عليها حيالي، وهو ما يحقق لي بصراحة، كلما أطريت عليّ، متعة ما بعدها متعة.
أتمنى لك عطلة سعيدة يا عزيزي سيمنون، والى اللقاء عمّا قريب.
المخلص فريديريكو فيلليني
****
لوزان في: 17 سبتمبر 1969
عزيزي فيلليني،
بالأمس، حدثت لي واحدة من أبهج المغامرات، التي من شأنها أن تدفئ الصّدر. فقد كنت منهمكا في قراءة الحوار الذي أجرته معك مجلة الإكسبريس L’Expresse بباريس، مثلما عوّدت نفسي هذه الأيام على قراءة كل ما أعثر عليه من مقالات تتعلّق بفيلمك: ساتيريكون Satyricon؛ فإذا بالذهول يصيبني منذ الجملة الرّابعة من الحوار، وبالإعجاب يتملّكني بفعل ردودك، فقلت في قراري بأنّ ما صدر عنك هو تحديدا، نفسُ ما كنت سأجيب به، لو أني سُئِلت ذات الأسئلة! لقد وقفتُ على أفكاري في أقوالك، سواء ما تعلّق منها بالإبداع الفنّي، أو ما اتصل بمختلف المواقف التي تفرضها الحياة علينا. ثمّ قلبت صفحة المجلة، فعثرت على ما قلته في حقّي؛ فتبث لي بالملموس بأني لم أخطئ أبدا في شأن ما تحدثت عنه سلفا، ووسمته بـ”الذرّات المتماسكة” التي توحّد فيما بيننا. وإني لأنتظر بفارغ الصّبر مشاهدة فيلمك الجديد، حالما يخرج الى صالات العرض عندنا. وهذا ما يمنحني رغبة في رؤيتك من جديد، أنت بالذات.
إنّ في جعبتي مشروعَ روايتين، ينبغي أن أنتهي من كتابتهما قبل متمّ هذه السنة. وما أن أتحرّر من ذلك، حتى أبعث إليك لترخّص لي بزيارة خاطفة الى روما، أتحدث إليك أثناءها طويلا. إنّ تجربة فيلم ساتيريكون لتبدو لي سلفا، باعثة على الإثارة والحماس!
لك منّي كلّ التقدير والصّداقة المتينة، يا عزيزي فيلليني؛ والى اللقاء المرتقب عمّا قريب، مثلما آمل.
الوفيّ جورج سيمونون
***
روما في: 22 سبتمبر 1969
صديقي الأعزّ سيمونون،
أتصدّق أنّي أعكف بين الفينة والفينة، على إعادة قراءة رسالتك الأخيرة؟! لم يعد ثمّة مجال للشكّ في أنّي أعاني حيالك من “مركّب نفسيّ” قوي، خاصّة أنّ مشاعري صارت من الآن تتحرّك، وكأنها مشاعر طفل حقيقي، كلّما فكّرت فقط في أنك ستأتي ربّما الى روما، وبأنّا سنتمكّن من رؤية بعضنا، والتحدّث قليلا فيما بيننا!
هذه هي الحقيقة. فحين نستحضر موهبتك التي لا حدّ لها، وقوّة انضباطك للعمل الإبداعي التي تفوق كلّ قوّة بشريّة، نشعر في دخيلة أنفسنا بدهشة كبيرة، مثلما ينتابنا خجل كاسف، لا ينقذنا منه إلا تذكّر نبلك وشيمك الإنسانيّة الفاضلة. حينها، نستعيد معك علاقة الندّية، فندرك بأنّا نحبّك، وهنا بالذات مكمن الأهمية؛ وبهذا، يصبح لك بيننا حضور عائلي وثيق، تغدو على إثره صديقنا الأكبر سنّا، الذي يودّ الكلّ اغتنام فرصة مصاحبته، ورفيق الحياة والعمل الإبداعي، وكذا القدوة التي لا تخيّب كلّ من يحتذي حذوها أبدا، والمثال الحيّ الذي يجعلنا نشعر بالقوة الإنسانيّة الشديدة.
ألتمس صفحك أيها العزيز، في كوني تركت لنفسي العنان نسبيا، لتجنح بمشاعرها الى أبعد مدى، خاصّة أني أدرك جيّدا مقدار الإزعاج الذي يتسبّب لك فيه أحيانا، الاستماع الى مثل هذه الأمور…
ولطالما فكّرت في الكتابة إليك، من غير أي باعث يذكر، ولا لسبب محدّد، اللهمّ لأبعث إليك بسلامي وحسب، ولأتمنّى لك قدرة دائمة على العطاء الإبداعي؛ لكني، كنت أخشى دائما أن أزعجك. لكني ربّما سأقوم بهذا ابتداء من اليوم، فأكتب إليك بين الحين والحين الآخر.
أنتظر أن تحلّ بيننا يا صديقي العزيز، في الوقت الذي تراه يناسبك.
أنا سأنكبّ ـ وهذا أمر محتمل ـ على تصوير فيلم قصير خلال شهر ديسمبر المقبل(4)؛ لكن هذا لن يكون بالنسبة إلي عائقا، بل أفضّل بالأحرى أن تأتي في تلك الفترة بالذات، إن تمكّنت من ذلك. فما خضت تجربة عمل فنّي ما، إلا وأحسست بتحسّن داخلي، وبأني أحيا بكيفية أكبر؛ وهذا بالطبع سيمكنني، حين تكون بالقرب منّي، من استغلال رفقتك الى أبعد حدّ.
اسمح لي بأنْ أطبع على جبينك قبلة مودّة وامتنان يا عزيزي سيمونون، لما تغمرني به دائما من فرح متجدّد.
والى أن نلتقي عمّا قريب، دمت لصديقك.
المخلص فيديركو فيلليني
****
لوزان في: 1 ديسمبر 1969
صديقي العزيز فيلليني،
لم تلبث للتوّ أن طوّحت ببرنامج الأحد التلفزيوني!(5) وإنّي لا أتصوّر بالكلّ ما الذي يُمكنُ عملُه، بعد متابعة المشهد الباهر ليوم أمس، الذي كان مشهدا وافر الحيوية، وأصيلا وعميقا في الآن نفسه؟ لقد كنتما، ماسيناMasina (6) وأنت، ممتازين بكلّ المقاييس، وتكشّف حضورك عن وحدة متراصّة التراصَ الإنسانيّ المؤنس!
لكم أودّ لو أني أستطيع الدردشة معك طويلا بشأن هذا، وأنا في حضرتك! لكنّ شهر نوفمبر الذي برمجته للعمل، كي أحرّر شهر ديسمبر، استغرقته نزلة زكام خرقاء للأسف الشديد، حكمت عليّ الى الآن بملازمة الفراش.
سأكتب إليك في مستهل السنة القادمة، لأسألك عن الوقت الذي يمكن لك فيه أن تكون متحرّرا من كلّ التزام.
برافو مرّة أخرى!
أنت وحدك من يستطيع أن يمنحنا مثل ذلك المشهد، الذي يعدّ في حدّ ذاته فيلما كاملا. ويا له من فيلم!
أقبّلكما معاً، أنت وزوجتك ماسينا.
جورج سيمونون
***
روما في: 4 نوفمبر 1969
عزيزي سيمونون،
أي متعة ما بعدها متعة هذه التي خلّفتها في نفسي رسالتك! أولا، لأنها صدرت عنك، وهذا وحده أمر رائع؛ ثمّ لأنها صادفت مفارقتي لباريس، وشعور مثبّط للهمّة يسيطر علي، مفاده أنّه لم يكن ينبغي علي إطلاقا، أن أقبل بالمشاركة في ذلك البرنامج التلفزيوني، لكوني أعلم سلفاً بأني سأساهم بذلك القبول، في جعل ذاتي مسخرة يهزأ منها الكلّ، لجهلي الذريع باللغة الفرنسية! وقد بدا لي بأن المسألة كلها لم يكن يغلب عليها فوق ذلك، سوى جو مشبع بالابتهاج، الذي يمكن أن يوصف بأنه كان في نفس الوقت ودّيا وسطحيا وأخرق بنسبة قليلة، من قبيل ما يستبدّ بالاجتماعات ذات النمط الأبرشي؛ لقد كان هؤلاء المهرّجون مكتسحين بكيفية يشوبها إفراط، كما بدا لي بأنّ الكلّ غرق في طقس أشبه ما يكون باحتفاء عابث ومحزن… بينما أنت على العكس يا صديقي الأعز، كاتبتني لتؤكّد لي بأنّ كل شيء قد تمّ على ما يرام، وهو ما يجعلني أصدّقك من غير أي تردّد، لأني أكِنّ لك في نفسي الكثير من التقدير والاعتبار.
فهل زالت عنك نزلة الزّكام، التي حدّثتني عنها؟
في إيطاليا، صدرت اليوم جريدة كُتِب على إحدى صفحاتها هذا العنوان الجدير بأدب الخيال العلمي: اثنا عشر مليون ايطالي يلزمون الفراش بسبب نزلة البرد!
أتمنى أن تكون قد تعافيتَ، وانضبطتَ لأجواء العمل كدأبك، وهو ما قد يبعث فينا جميعا المسرّة والفرح. فقد قرأت في الأيام القليلة الماضية رواية من رواياتك التي لم أكن على علم سابق بها، وهي الموسومة بعنوان: الانتقال. ولكم تنتابني، كلما انتهيت من قراءة مؤلّف من مؤلفاتك، رغبة عارمة في أن أرفع يدي بالتصفيق لك دون توقف، وأخذ القلم للكتابة إليك، للتعبير عن إعجابي بمقدّراتك الإبداعية، وأن أصيح ملء حنجرتي كذلك، مردّدا: برافو، مرّة وأخرى وأخريات! ولكم هي صحتك أدعى للإعجاب يا عزيزي سيمونون، صحة لا تخذلك أبدا، وتسمح لك بأن تكون دائما على صواب ووضوح شديدين، وبأن تمضي قُدُما نحو الأهمّ على الدّوام، وأن تكون أشدّ صدقاً، فتؤلّف لنا الى ما لا نهاية أمّهات النصوص الأدبية، الواحد تلو الآخر!
أقبّلك، وأنتظر مجيئك ببالغ الشوق.
صديقك المخلص فريديريكو فيلليني
****
لوزان في: 10 أبريل 1975
برقية
إليك منّي أحرّ التهنئات، لحصولك على جائزة الأوسكار(7)، التي كنت دائما وأبدا أهلاً لها.
جورج سيمونون
*****
شيانتشيانو في أغسطس 1976
صديقي الأعزّ سيمونون،
لا تُعِر كبير الاهتمام لمداد الشّريط، الذي لطّخ من قبل يديّ وذقني، قبل أن يمتدّ الى الورقة. فقد كتبتُ وأعدتُ كتابة هذه الرّسالة لثلاث مرّات متتالية، لكنّي حين أصل من كلّ واحدة منها الى السّطر الثالث، أنتهي الى تمزيقها. ولعلّ جزءا من هذا الارتباك يعود فعلا الى طبيعة الشريط اللاّصق بآلة الرّقن، التي ما أن أشرع في العمل بها، حتى يلطّخ شريطها الأوراق؛ لكنّ المؤكّد أنّ الجزء الأهمّ من ذلك الاضطراب لا يُعزى إلا الى طبيعة المشاعر الجيّاشة التي اعترتني أيضا، وأنا منكبّ على الكتابة إليك، مما جعلني أغرق في الارتباك والخجل.
أنا في شيانتشيانو(8) Chianciano، وهي بلدة تشبه الى حدّ ما منطقة فيشي Vichy الفرنسيّة؛ هي ربّما عتيقة المباني شيئا ما، لكنّ هذه القدامة في جميع الأحوال، أقلّ بكثير من بِلى آلة الرّقن التي وضعها مدير الفندق تحت تصرّفي، بشكل فيه الكثير من الحُميا والحماس!
أجتاز مرحلة مشوبة بضيق يبعث على الملل، ويثير حتى السّخرية والضّحك، وهو ما لا أقوى القضاء عليه، ولا حتى على طرده. وقد بدأت هذه الحالة في السيطرة على مغالق نفسي قبل موعد وصولي الى فالمونت(9) Valmont . فقد كان في نيتي أن أمكث هناك عشرة أيام، أستريح خلالها مثلما آمل، وأقوم ببعض التحليلات الطبّية، وأحاول كذلك الحسم بصفة نهائية في أمر الفيلم الجديد المزمع تصويره، ثمّ المرور عليك في الأخير، إن أمكن لي ذلك، لأسلّم عليك، وأقدّم لك شكري وامتناني.
فقد سبق لي أن سمعت من قبل، الكثير من الأحاديث التي تمدح فالمونت، وتشجّع على زيارتها؛ لكنّي ما أن وصلت إليها مؤخّرا، في صبيحة يوم رمادي ماطر، بعد أن توقّعتُ منها الكثير، حتى وجدت الرّيح تعوي بين أشجار التنّوب، والوادي غارقا في عتمة شبه شاملة؛ ثمّ ذكّرتني عمارة الفندق بمستشفى الدكتور مابيز(10) Mabuse . أضف الى هذا أني ما أن دخلت الى الغرفة التي حجزتها بالفندق، وحاولت إشعال النور، حتى انخطف التيار الذي يصل كل تجهيزات الغرفة الكهربائية. حينها، قرّرت الانصراف، فعبرتُ من لوزان الى مونتروه، ومن مونت لوبران الى ريغوت (أو شيء من هذا القبيل)، دون التوقف في أي مكان، لأجد نفسي بالطائرة تعود بي في اليوم الموالي، الى روما. ربّما أنا لم أكن أحرص في الأصل على قضاء تلك الأيام في العطلة، ولا كنت متحمّسا لإجراء الفحوصات الطبّية، ولا لإلحاق أي تغيير كيفما كان نوعه، على إيقاع حياتي وعملي. لكن الشيء الوحيد الذي ندمت على عدم التمكّن من تحقيقه حقّاً، هو اللقاء بك يا عزيزي سيمونون، لأحاول أن أعبّر لك أثناءه عن مدى التأثر الكبير، الذي شعرت به حيال ما كتبته في حقّ عملي وشخصي، ضمن المقدّمة التي طلبها منك كييل(11) Keel، ليوطئ بها للكتاب الذي يضمّ الصور الفوتوغرافية المتّصلة بأفلامي. ذلك أنّي شعرت، لمّا أمدّني كييل بنسخة منه لأطّلع على تلك المقدمة النبيلة منك، وكان يرسم على محياه ابتسامة أشبه ما تكون بابتسامة الصيني الصغير؛ بأنّ أذنيّ احمرّتا من فرط التأثّر. ولمّا انخرطت في قراءة ما دبّجه يراعك الكريم، انتابني الإحساس بأنّ الزّمن لم يمض قطّ، فشُبّه لي أنّ سيمونون الشّامخ لا يصبّ تلك الكلمات الرائقة إلا في أذن ذلك الفتى، الذي لم يتعدّ أبدا سنّ السابعة عشرة، والذي حصل له منذ أربعين سنة خلت، أن قرأ في ليلة واحدة رواية الكلب الأصفر، وحوذي الضاحية، ومشنوق سانت فوليان، فانتهى به المطاف ليلتها الى “الإصابة” بلوثة تقدير غير محدود لصاحب تلك الروايات، وهي “العدوى” التي لم يكن عليه أن يحاول قطّ، معالجة نفسه منها.
صديقي العزيز سيمونون، أشعر وكأني سخيف نسبيا، حين أكتب إليك كلّ هذا؛ لكنّه الحقيقة. إنّي معجب بك، ومحبّ لك على الدّوام، وقد شعرت بهذا الإحساس مرّة أخرى، وبكيفية مكثفة أيضا، حين تمكّنت من الاستماع لصوتك على آلة التسجيل. كانت وجنة كييل قد احمرّت من أثر الفرح، وهو يقدّم لي بمطار جنيف، الشّريط الصّوتي الذي سجّلتَه، وأضاف الى ذلك أيضا: إنك أنت من يبعث به إلي؛ وإنّ هذه لالتفاتة رقيقة منك، تضاف الى سلسلة الالتفاتات اللطيفة الأخرى، التي ما فتئت تطوّقني بها.
صحيح أني لا أكفّ نسبيا عن التمطيط ولا عن الإسهاب، لكني أودّ مع ذلك أن أحكي لك شيئا آخر، أكشف لك من خلاله عن حجم الغُنُم الوفير الذي حقّقه لي الالتقاء بخيالك وإبداعك. ويتعلّق الأمر هنا بحلم قصير، تراءى لي منذ عامين في المنام، وكان ذلك قبل شروعي في تصوير فيلم: كازانوفا. وقتها، كنت أجتاز فترة يشملها اكتئاب داهم. تملّكني الجمود والجفاء واليأس والنفور من ذلك الفيلم، واستبدّ بي الشعور بأني وقعت في ورطة قذرة؛ فقضيت نتيجة لذلك، ليال بكاملها أقلّب في ذهني وأبحث، لعلي أجد وسيلة تخلّصني من تلك الورطة، دون كبير خسارة مما من شأنه أن يطال الالتزامات التي تعهّدت بها. وكم من أسئلة حارقة تردّدت في دخيلتي، من قبيل: ما علاقتي أنا بالذات، بكازانوفا؟ وهل أنا مطّلع بما يكفي على وقائع الحياة المتّصلة بالقرن 19؛ أنا الذي لم أكن أتحمّل أبدا، النقوش المصطنعة ولا بيروكات الشّعَر البيضاء؟ ثمّ كيف لي أن أدير فيلما بلغة ليست بالكلّ لغتي؟
ولشدّ ما تردّدت على مكاتب محامين كثر، ألتمس استشارتهم، ولطالما ملأت في محاولة منّي لمداهنة المنتج والتملّق إليه، مئات الأوراق التي انتهيت بتمزيقها، كما أني كثيرا ما تعوّدت على الانفجار كقنبلة ظلّت موقوتة، في وجه أولئك الذين كانوا يحاولون التهدئة من روعي. لقد ساورني الشعور بأني سجين، ومقيّد بأغلال ثقيلة، ومحكوم عليه بإنجاز فيلم بعيد كلّ البعد عن طبعه وخياله وقناعته، وهو فيلم تدور أحداثه حول شخصية لا تنتمي الى تمثلي الذّهني ولا الفكري، ولا أشعر حيالها بأي تعاطف!
باختصار، رأيتني ذات ليلة في الحلم، أثناء تلك الفترة المطبوعة بحالتي النفسيّة المحبطة، أصحو في النوم على صوت نقر متواصل على آلة الكتابة. حينها، انتبهتُ الى أني كنت أنام في حديقة كبيرة تبلّلها رطوبة نديّة، ويتناثر على أرضيتها نبات بحجم كبير وخضرة كثيفة. وكان هناك وسط أرضية الحديقة المعشوشبة، بناية تنتصب على هيئة قلعة أو برج، يصدر عنها صوت النقر المتواصل على تلك الآلة. ثمّ رأيتني أدنو من البناية، غير أني حين حاذيتها، اضمحلّ الصوت، فلم أعد أسمع أي شيء. ولما وقفت على أصابع قدمي، لمحت من خلال نافذة دائرية، حجرة تشبه الزنزانة ابيضّت جدرانها بطلاء جيري، كما رأيت كذلك رجلا أشبه ما يكون بقِسّ، انخرط في شيء لم أستطع تبيّنه، بحكم أنّه كان يدير لي ظهره. جالسا على كرسي كان، وبمقربة قدميه جلس على الأرض مباشرة عشرة أطفال صغار، من الذكور والإناث. لطيفين للغاية كانوا، وهم يضحكون، ويمزحون، بينما يلمسون صندل القسّ، وحزام جبّته الصّوفية. وما هي إلا برهة، حتى استدار الرّجل نحوي، فتكشّف لي بأنه سيمونون! وعلى الفور، أدركت بأنّ الشعر اللّصيق بذقنه، وهي ذقن بيضاء، ما كان سوى شعر مصطنع، وأنّ الذقن نفسها مستعارة. فبقيت، وأنا مندهش لما رأيت وخائب الأمل بعض الشيء، متحيّرا وغير قادر على تفسير الأمر، الى أن تناهى الى سمعي صوت قريب، قال لي:
إنها ذقن زائفة. مؤكّد أنّها زائفة. ثمّ إنّه لم يتقدّم بعد في الشيخوخة، الى هذا الحد. إنّه ما يزال على العكس شابّا. أكثر شبابا مما سبق!
وماذا يفعل؟ سألت.
إنّه يصبغ رواية جديدة. أرأيت؟ إنه صبغ منها الى حدّ الآن، النصف. إنها رواية رائعة عن نِبْتون.
ثمّ ما هي إلا برهة حتى تلاشى الصوت، لأجد نفسي هذه المرّة قد استفقت حقيقة من النوم.
طيّب، أنا لا أرغب في الاندفاع وراء تفسيرات ملائمة ومقنعة لهذا الحلم، لكنّ الشيء المؤكّد عندي والثابت، هو أنّي (وقد نسيت أن أذكّرك بأنّ من بين الأسباب التي ساهمت في كآبتي خلال تلك الفترة أيضا، هو إدراكي بكيفية مثيرة للإزعاج بأني بلغت الخامسة والخمسين، وصرت بذلك أنزلق بشكل حتمي نحو هاوية الستّين!)؛ شعرت بأن حدّة التوتر بداخلي قد خفّت في اليوم الموالي، فبدا لي الفيلم أقلّ إثارة للكراهية، ثمّ شرعت بعد ذلك في العمل، وأنجزت الفيلم.
وللسائل أن يسأل: وصعوبة الانجليزية؟ حينها أردّ: إذا كان سيمونون قد استطاع أن يذهب في ذلك الحلم، الى حدّ “صباغة” رواياته، فكيف لي أن لا أستطيع أنا تصوير فيلم ناطق بلغة أخرى غير لغتي؟ وقد يضيف المعترض ربما قائلا: طيّب، وماذا عن مسألة الشخصية الرئيسية للفيلم، التي من الممكن أن تكون غريبة عن تمثلك؟ ماذا عن تلك المسافة التي شعرت بها حيال كازانوفا؟ حينها أيضا سأردّ: أجل، هذا صحيح، كازانوفا كان شخصية غريبة عنّي، شخصية ظللت أشعر من قبل ببُعْدها عن شخصي، لكنها كانت في نفس الوقت تعيش في أعماقي، تماما مثل نبتون، إله الحبشة البحرية، عند سيمونون.
والحصيلة يا صديقي الأعزّ، هي أنّ سيمونون سيد الحياة والإبداع، كائن شامخ ينتمي الى ميثولوجيا الأحلام، ويتدخّل كمبعوث للرؤى الخارقة التي تصنع المعجزات.
ألتمس صفحك مرة أخرى يا عزيزي، عن كلّ هذه الثرثرة المفكّكة الأوصال، وأغتنم هذه الفرصة الأخيرة لأشكرك من صميم القلب، ولأتمنى لك حظّا سعيدا.
المخلص فديريكو فيلليني
****
لوزان في: 18 أغسطس 1976
صديقي الغالي فيلليني،
كم كان تأثري شديدا، إثر توصّلي برسالتك! وكم كان يحدوني الأمل للحظة ما، في أن ألتقي بك بسويسرا! لكنّي أتفهّم جيّدا ردّة فعلك وتبرّمك.
كلّ ما كاشفتني بشأنه أثّر فيّ بشكل عميق، لأنّي رغم سنّ الثالثة والسبعين ونصف السنة التي بلغتها، ما زلت أشعر وكأني فتى صغير السنّ. من المحتمل أنك الشخص الوحيد في العالم، الذي أشعر حياله بأواصر وثيقة تجمعني به في مجال الإبداع. وقد حاولت أن أقرّ بهذا في إحدى المقدّمات، لكن ذلك جاء بكيفية رعناء. لذا، أريدك أن تشعر بمدى قربي منك، لا كفنان فقط ـ إن أمكن لي الاعتماد على هذه اللفظة، التي لا أحبّها ـ وإنّما كإنسان، وكمبدع أيضا.
لقد ظللنا نحن الاثنين، وأتمنّى أن نظلّ الى النهاية، طفليْن كبيريْن لا ينضبطان سوى لنوازعهما الدّاخليّة، التي غالبا ما تكون غير قابلة للتفسير، بدل الامتثال لضوابط خارجية لم تعد لها عندي، مثلما عندك، أية دلالة؛ بل لم تعد لها بالأحرى إلا نسبة أقل، عندك أنت بالذات مقارنة بي، إذا ما أخذنا في الاعتبار ما فضُل عندي بسبب الطفولة من نوع الخجل، بالنظر الى أني لم أكن سوى ولد لطيف للغاية وطيّع جدّا! بينما أنت، فمقدام. وإني لأحاول منذ سنوات، أي منذ أن توقّفت عن كتابة الرّوايات، أن أصبح مقداما مثلك، لكني ربّما صرت الآن أبالغ في النّطح، مثل الكباش الهائجة، دون العثور على البيئة الحقيقية للقيام بذلك.
إنّ الحلم الذي قصصته عليّ أشبه ما يكون ببعض أحلامي، لكني شعرت معه تقريبا بالحرج، لكوني حظيت في منامك بكلّ تلك الأهمية الكبرى، وساهمت بنصيب قليل من جهتي، في إخراجك لفيلم كازانوفا.
كثيرا ما عشت في حياتي أنا أيضا، لحظات مشوبة بالاضطراب والاحباط، وكثيرا ما دفعت بي الى محاولة التوقف عن الكتابة بصفة نهائية. ولعلّ مردّ هذا فيما أعتقد، هو ما نلاقيه أنا وأنت، من لحظات الضغط النفسي القاهر، التي نشعر أثناءها بنوع من الاجدوى والفراغ.
لحسن الحظ أنك تقفز عليها في كل مرة أنت على الأخص، وأنك كلما شعرت بالإحباط، إلا قفزت عليه، ووثبت أكثر فوق الوضع المنهار. وأعتقد ـ من غير أي رغبة مني في لعب دور الناقد ولا المحلل ـ بأنّ هذا أمر طبيعي للغاية، بل وبمقدوري أن أذهب الى حدّ القول بأنّ ذلك حدث عدّة مرّات، لشخص في قامة مايكل أنجلو أو ليونار دو فانشي.
أنا معجب بك منذ أفلامك الأولى جميعها. لكن ما يحظى على الأخص بإعجابي وتقديري هو قدرتك الذاتية، التي تمكّنك في كل مرة من التخلّص من الضغوط والتابوهات والضوابط المكرهة كافة. فأنت في عالم السينما الراهن فريد النوع، وإنك لتدرك أنت بالذات هذا الأمر، وتقرّ به في قرارك. فأنت تشقى، ويحدث لك أن تشعر بالوحدة، فتفقد على إثر ذلك الثقة بالنفس، لأنك لا تجد من المقرّبين إليك بالتحديد أندادا. لذلك، عليك أن تواصل مدّنا يا عزيزي فيلليني بأمّهات الأفلام المعاكسة للذائقة السائدة عند العموم، وهي الأفلام التي لا تعتمد فيها سوى على حُدوسك العميقة، بينما يواصل الآخرون مدّنا بأفلام مصنوعة وفق ضوابط ووصفات جاهزة.
أتمنّى أن نلتقي في يوم ما، لقاء الانشراح والصّراحة المعهودة بيننا، لأني أعتبرك شخصيا أخا شقيقا.
ولهذا بالذات، أطبع على خدّك قبلة أخوية صادقة، أنت وجيولييتا.
مخلصك الدائم ـ وجدانيا وإبداعيا ـ جورج سيمونون.
*****
روما في: 30 أكتوبر 1976
عزيزي سيمونون،
جاءنا الصديق المشترك كييل، حاملا إلينا منك هدية جميلة، وهي ذلك الكتاب النفيس الذي خصّصْتنا فيه، جولييتا وأنا، بإهداء لطيف. فقد قرأت من قبل الجزء الأول ـ وحتى الثاني على ما أعتقد ـ من سلسلة تلك الأجزاء “المُمْلاة”، مثلما تصرّ على تسميتها، لمّا كنتُ ببيت كييل بزيوريخ؛ ويتعلّق الأمر بالكتابين اللذين يحملان عنوان: آثار الخطى، ورجل صغير. وكم كانت رغبتي شديدة في أن أكتب إليك وقتها، لأعبّر لك عن مقدار الفرح والسّلوان، الذي حققه لي ذانك المؤلفان أثناء قراءتهما! (واسمح لي بأن أفتح قوسا هنا، لأسألك: لماذا لم ينشر موندادوري أي شيء منها في إيطاليا؟).
وها هي ذي تلك المتعة السّحرية الآن، تتكرّر مع رجل مثل آخر بكيفية شديدة الكثافة، تعادل ما كنت قد شعرتُ به من قبل، أو ربّما تفوقه. فقد دأبت مثل ملايين القراء الآخرين في العالم، على أن أقرأ كتاباتك دائما بنوع من النّهم والعطش، غير أنّي أحسست هذه المرّة بأنّ ثمّة شيئا ما في طريقة قراءتي قد حدث، وأنا أتابع الأحداث والوقائع التي تتضمنها صفحات هذا المؤلف: لقد شعرت بفضول متوفز، وبحُميّا واعية وثاقبة، وبمشاركة تتضمّن تسلية وشقاء في نفس الآن، فظللت أترصّد ما كُتِب صفحة بصفحة، وأنا مغمور بالتوتر ونفاد الصّبر، وفي قراري يضطرب خليط من الآمال والمخاوف، التي أحسست أنّها تهمّني بشكل خاص وعميق.
ويا ما رفعتُ عينيّ عن الكتاب لمرّات، وأنا مستنكر ومندهش ومتأثر في الصميم! ويا ما همست لمرّات قائلا، وشعور بالرضا الحميم يغمرني: “أنا أيضا أرى الى الأمور بهذه الكيفية! أنا أيضا أتصرّف بهذا الشكل في عملي، ومع النساء والآخرين!”.
هذا مدهش! فقد ملأني الحماس والتأثر، وشعرت بفرح عارم. وكأنّ صديقا، بل أخا أكبر، أحسننا جميعا وأشدّنا ذكاء، وأكثرنا كرما وتواضعا وشجاعة، تقدّم في العمر لسنوات ليجرّب من أجلنا الحياة المنتظرة، بنفس الشهيّة التي نحسّ بها مفتوحة للحياة، وبذات القلق والانزعاج، وبنفس الفضول وحبّ التطلّع، وبنفس التوثب والخجل واللامبالاة؛ وكأنما هو ما تقدّم علينا في السنّ، إلا ليخضع نفسه لتجربة أكبر وأشمل، عانى فيها الكثير، واستمتع خلالها بالكثير، فأصابه المرض حينا، وذاق ما ذاقه في تجاربها من حلاوة ومرارة حينا آخر، ليتأكّد بأنّ العيش أمرٌ ممكن، وبأنّا نستطيع أيضا أن نحيا الحياة، وأنّ شأنها يسير بالأحرى بكيفية جيدة؛ وكأنّه يقف فوق جبل اليقين النسبيّ، الذي بلغ ذروته، ويدعونا وهو هادئ الدواخل وباسم الوجه، بإشارة منه تشجعنا على التقدّم الى الأمام، ومحاولة المواصلة وتجريب اللحاق به، ما دام قد مهّد لنا الطريق.
قد يصاب كل ناقد أدبي يقرأ هذه الأسطر بالرّعب، لأني عادة ما لا أحسن التعبير عمّا يجيش بالدواخل؛ وأعترف أني حين أعبّر، فإنما برعونة. لكن، كلّ ما حاولته هنا، بكيفية رعناء، كان بهدف أن أبيّن لك مدى فرحي الشديد بالنتيجة الرائعة التي توصّلت إليها، يا صديقي الأعزّ، يا سيمونون الهائل الذي لا يمكن أن يُعوّض أبدا!
لقد أنْهيت الآن رسالتي، ولن أضايقك بعدُ أبدا. وقبل أن أضع نقطة النهاية، اسمح لي بأن أرسم على جبينك قبلة تعبّر عن تقديري وإعجابي وامتناني وتعاطفي الكبير، وأن نتقدّم إليك ـ جولييتا وأنا ـ بأصدق وأحرّ الأماني، آملين أن تعيش سنوات هادئة ورائقة، مع رفيقتك تيريز اللطيفة.
المخلص فديريكو فيلليني
*****
لوزان في: 9 نوفمبر 1976
عزيزي وأخي فيلليني،
ربّما كان من المرجّح أن أكتب “ولدي” لا “أخي”، بالنظر الى فارق السنّ الذي يفصل بيننا(12)؛ لكنك تدرك ولاشك أنّ استعمالي لهذه الكلمة، ما كان القصد منه سوى الإحالة على معنى آخر، غير ما هو معتاد لها. ثمّة شخصان فقط ممن أطلق عليهما هذه الصّفة، لعلّ أحدهما يكبرني سنّا، ويتعلّق الأمر بجان رونوار(13) Jean Renoir، الذي تعرّفت عليه قبل سنة 1930، حين كنّا نخوض المعركة جنبا الى جنب، لصالح ما سُمّي حينها بالسينما الطلائعيّة، وهو الأمر الذي كنّا نُساق على إثره عدّة مرّات، الى مركز الشرطة. وإذا كنت قد سمحت لنفسي بأن أماثل بينك وبينه، فلأنّي أولا لم أشعر معك قطّ بأنّ علاقتنا يمكنها أن تتأثر بالبُعد الجغرافي الفاصل بيننا، رغم أنّ كلاّ منّا يعيش بعيدا عن الآخر، وهو ذات الأمر الذي يحدث لي مع رونوار، بحكم أنه يسكن في منطقة كاليفورنيا، منذ سنوات.
ثمّة اتصال روحي ما بيني وبينك، ربّما أغالي في تمثله، لكنّي أؤمن به بصدق، مع ذلك. فنحن نسير معا، من منطلق شكليْن فنّييْن مختلفيْن، نحو تحقيق نفس الهدف: الوصول الى معرفة أشدّ حميميّة بالإنسان، حتى لا أقول بالإنسانية. وإننا لنعمل على تحقيق ذلك بنفس الطريقة، التي يمكن للمرء أن يسِمَها بالطريقة المضادّة للاشتغال الفكري.
أعتقد أني قلت لك من قبل، إنك شبيهي غريزيّ المنحى في الفن. فكلّ ما سجّلته بشكل لا إرادي منذ مرحلة طفولتك، وكلّ ما تنكبّ الى اليوم على تسجيله بشكل لاواع، ما تنفكّ تعيد صياغته بقوّة إبداعية تجعل أعمالك الفنيّة أعمالا كونيّة بامتياز. والأمر نفسه ـ وإن بصفة أقلّ نسبيّا ـ يجري معي. مثلما ظلّ يحصل لجان رونوار طيلة حياته الفنية كلها، بالطريقة ذاتها(14).
نحن أقرب ما نكون الى إسفنجات تمتصّ، دون علم بذلك، نبض الحياة من حولها، فتعيده بكيفية فنيّة فيما بعد، وقد طاله التحوّل والتبدّل، دون أن يعلم أيّ منّا طبيعة الخيمياء التي حدثت بدواخلنا، فحوّلت ما حوّلته فنّا. ولعلّ هذا يُعزى عندنا الى السّحر.
إنّك بالذات أعظمنا، نحن الثلاثة. إلا أني أعلم بالتجربة، كم تتضمّن هذه الكيفية المنذورة للإبداع، من مخاوف وإحباطات، وكم يشملها أخيرا من مشاعر الرّضا والارتياح.
أشعر بقربك الكبير منّي رغم هذه المسافة الفاصلة بيننا، فأسلّي النفس مع ذلك بالتفكير في إمكانية اجتماعنا سوية، في فرصة قادمة. حينها، سأتمكّن ولا شك من التعبير لك بكيفية أفضل عن إعجابي وصدق مشاعري، مثلما أستطيع أن أعبّر لجولييتا أيضا عن الامتنان الخاص، هي التي ما تفتأ تساعدك، وتعينك على تحمّل وطأة الإبداع الفنّي المتواصل باستمرار.
أقبّلك بشكل أخوي، يا عزيزي فيلليني، وألتمس منك أن تقبّل جولييتا لأجلي.
المخلص جورج سيمونون

*****

لوزان في: 24 نوفمبر 1976
عزيزي فيلليني العظيم،
توصلت مؤخّرا بألبوماتك الرّائعة من قِبَل صديقنا المشترك كييل(15). ولمّا تصفّحتها، وجدتُ فيها تعدّد عبقريتك ووحدتها المتماسكة، في الآن ذاته. إنّك دائم التجدّد باستمرار، لكنك تبقى مع ذلك مثلما أنت تماما. وكأنّ قوّة داخليّة ما (وهذا أمر محتمل)، تدفعك الى ذلك دفعا. ليس في أعمالك أيّ تصنّع أو تحذلق، ولا أيّ تأصيل ينزع الى مجرّد التأصيل وحسب، وإنّما توجّهك الفنّي هو الأصالة الإبداعيّة بالذات، أي أنّها بعبارة أخرى لا تنتمي إلا إليك، من غير أن تكون قد وقعتَ أنت تحت تأثير أيّ حركة فنية أو تقليعة تعبيريّة؛ وهذا ما يجعل أعمالك نفيسة جدّا وفريدة للغاية.
سبق لي من قبلُ أن كوّنت بشأن رسوماتك الإعداديّة، التي حصلتُ على ألبومها للتوّ فبلبلني، نفسَ الانطباع؛ لأنّ بمقدور تلك الألبومات مجتمعة أن تجد لها موقعاً لائقا بها، لتعرض سواء في أحد الأروقة الفنيّة، أو في خزانة للأفلام والوثائق السينمائيّة، أو حتى في معرض مخصّص لعلم النفس البشري.
أتعلم أني أحببت السيرك أنا نفسي، وشغفت به أيما شغف؟ كان ثمّة حوالي سنة 1916، بمدينة لييج التي كانت مسقط رأسي، سيرك مهمّ لا يتخذ شكل فسطاط متنقّل، وإنّما شكل بناية كبيرة صلبة المعمار، تقدم فيها مع مطلع كلّ فصل خريف، عروضٌ فنيّة يوميّة طيلة الأسبوع، بل كان يقدّم أحيانا عرضان اثنان في اليوم.
لقد كنت مفتونا بالسيرك. وشاءت الأقدار أن أصير كاتباً صحفيا في صحيفة لاجازيت دولييج La Gazette de Liège. وبما أنّ إدارة التحرير لم تشأ أن تعهد إلي بالزاوية الأدبيّة الخاصّة بالأوبرا، سواء منها الأوبرا المضحكة أو الكوميديا، فقد ورثت زاوية الكتابة عن السيرك. وخُصّصَتْ لي فيه شرفة أتفرّج منها كلّ يوم على العروض. كان برنامج العروض يتغيّر كلّ أسبوع، إلا أنّ هذا لم يكن يمنعني في بعض الأحيان، من متابعة العروض لمرّتين أو ثلاث مرّات في الأسبوع نفسه.
بطبيعة الحال، كنت أقتحم الكواليس، وأتجوّل بين حجراتها ومرافقها. وبذلك، صرتُ صديقا لأغلب الفنانين والفنّانات، الذين كنتُ أراهم إمّا يهيّئون أنفسهم لتقديم العروض، أو يجلسون أمام المرآة لوضع رتوشات الماكياج الضروريّة على وجوههم. وبذلك، تعرّفت على ما يمكن تسميته بالعائلات الكبرى التي تنذر حياتها للسيرك، وهي أسر محدودة العدد، تتقاسم بين أفرادها مختلف التخصّصات الفنيّة للسيرك. وإني لأذكر في معرض هذا السياق، أنّ امرأة متخصّصة في ألعاب التأرجح الهوائي، قالت للجميع بصوت هادئ ذات مساء، بعدما انتهت من تأدية دورها البهلواني على الحبل المعلّق تحت سقف عمارة السيرك: “والآن، عليّ الالتحاق سريعا بالمستشفى، لأني على وشك الولادة!”؛ لأنّ كلّ شيء كان يبدو لها طبيعيّا بشكل تامّ. زد على هذا أنها استأنفت دورها مباشرة، بعد التوقّف الذي دام أياما معدودة فقط.
وكنتُ الى جانب ذلك صديقا أيضا لعائلة فراتيلليني Fratellini الإيطالية الأصول، التي أنجبت أشهر المهرّجين الذين امتدّوا على مدى ثلاثة أجيال، يتوارثون فيما بينهم تلك المهنة. وكانت آخرهم في تلك الآونة امرأة، سبق لها قبل أن تتزوّج من الكوميدي الفرنسي بيير إيتيكس Pierre Etaix، أن كانت إحدى عشيقاتي؛ بل لم تكن تجمعنا غواية الجسد وحدها، وإنّما كنّا حتى حبيبيْن حقيقيين في لحظات معينة.
ها أنت ذا ترى بأنّ لدينا على الأقلّ، وبصرف النظر عن المعرفة المخصّصة للإنسان، موهبة واحدة نشترك الاهتمام بها بيننا.
أمّا بالنسبة الى رسوماتك الإعداديّة، فأتمنّى أنْ يُفكّر القائمون على رواق من أروقة العرض الفنيّة في العالم في تقديمها للعرض، ضمن إطار يليق بقيمتها الفنيّة والمعرفيّة ذات الصّلة بعلم النّفس.
بعد ترجمتها بعناية فائقة، تمكّنت من إعادة قراءة رسالتيك الأخيرتين من البداية الى النهاية. ولكم غمرني الفرح إثر ذلك، مثلما اعتراني في نفس الوقت بعض الارتباك، لأنّك أنت الفنّان الحقّ، الذي أشعر في دخيلتي، أمام مجموع أعماله الفنيّة المتعدّدة، بأنّي صغير بصفة كاملة.
أنا الآن خارج دائرة الإبداع، ولهذا ربّما أتفهّم مخاوف المبدع بكيفية أفضل.
قبّل جولييتا قبلات حارّة من جهتي، هي التي لا تني تذكّرني نسبيّا بالسيرك، ما دامت تتقن هي كذلك فنّ التدريج بشكل حقيقي. ولا تنس أن تنقل لها عبارات التقدير والإعجاب، من جهتي.
أرسم على خدّك يا عزيزي العظيم فيلليني، قبلات الأخوة الحقة، وأودّعك.
جورج سيمونون

****

لوزان في: 17 نوفمبر 1976
عزيزي فيلليني،
أنا في أوج سعادتي وفي قمّة انتشائي. أولا، بسبب الكلمة اللطيفة التي جاءتني منك، وأنت بزيوريخ؛ فانبريت أردّ عليها باعتماد عنوانك بروما، لأني لا أعرف كم من الوقت ستمكث هناك بسويسرا. ثمّ لأنّي توصّلت منك اليوم بألبوم المهرّجين الرّائع، وهو ما جعلني أحوز من هذا الصنف ألبوميْن اثنيْن(16)، الشيء الذي يسمح لي حقاً في الاسترسال الجميل في الحلم.
لاشك أنك ستشعر بالارتياح، الى جانب الشعور طبعا بالقليل من الفراغ، بعدما فرغت من عملك الجبّار، الذي أنجزت فيه التحفة الفنّية الهائلة: كازانوفا. وإنّي لأستعجل رؤيتك، وتقبيل خدّيْك. أنا أعيش لحدّ الآن، مغلقاً عليّ بإحكام في شقتي الصغيرة، للمعالجة من نزلة زكام ألمّت بي مؤخّرا. لا شيء ثمّة يستدعي القلق، باستثناء المضادّات الحيويّة التي تتعبني بشكل رهيب.
إنني كثيرا ما أفكّر فيك، هذه الأيام. لذلك، حين تعود مرّة أخرى الى زيارة سويسرا، لا تنس أن لك بيتا هناك هو بيتي الصغير المتواضع، حيث سيعدّ حلولك بين ظهرانيه، حلول أخ شقيق.
لك كلّ تقديري وإعجابي، يا عزيزي فيلليني. ولا أجرؤ إلا بالكاد على أن أبثّك أمنيتي بأن تكون سنتك الجديدة سنة نجاح، مثل التي قضيتها هذا العام، لأني أضع في الحسبان مجموع الثقل التي حملته على منكبيك خلال هذه السنة. ولحسن الحظ، أنهما عريضان وقويان!
لكما معا، مرة أخرى، أحلى الأماني والمتمنيات. ولا تنس أن تعرّج عليّ مثلما يحلو لك، حتى ولو من غير سابق إشعار.
جورج سيمونون

****

روما في: 27 نوفمبر 1976
عزيزي الغالي سيمونون،
إنّ من دواعي الفرح الحقيقيّ أنْ يتعرّف المرء، وسط كمّ الرسائل الهائل، على مظروف رسالتك ذي التناسب القويم، وقد كُتِب عليه اسمي وعنواني بحروف أنيقة، طبعتها آلة كاتبة.
حقّا، إنّ التراسل معك صنيعٌ مدهش وطريف، يعيد لي نُسغ الشّباب وقوّته، لكوني أعثر فيه على نصيب وافر من الحماس، وأعيش أثناءه لحظات من الانتظار المُطَمْئن، ورغبة عارمة في الدّردشة والبوح، ممّا اعتقدتُ أنّي لن أعثر عليه أبدا، أو أعيشه. فأنت ما تفتأ تغدق عليّ برسائلك، بكرم وافر ولطف رقيق منك، حتى انتعشت علاقتنا وغدت بحقّ طبيعيّة، الى حدّ بدا لي معه أنّ من الغريب جدّاً أن لا ألتقي بك بالصدفة على قارعة الطريق، أو على رصيف مقهى أو مطعم، مثلما يلتقي الناس بالأصدقاء الذين يعرفونهم منذ الأزل، والزملاء الذين يسيرون معهم في الحياة على نفس النهج الذي ساروا عليه، أو مثلما ألتقي أنا بأولئك الذين اشتغلت معهم في هيئة تحرير واحدة من نفس الجريدة، فكتبنا معاً ملخصات الأفلام والسيناريوهات السينمائية، وقضينا ساعات متأخرة من الليل في السّهر، ثمّ رافقنا بعضنا البعض الى البيت، ونحن لا نكفّ عن الدردشة الطويلة، الى مطلع الفجر…
في الأسبوعين المنصرمين، سافرت الى زيوريخ، فانتابتني رغبة قوية في رؤيتك، لكنّي اكتفيتُ بمجرد كلمة قصيرة بعثت بها إليك من المبنى الصغير، حيث يتواجد مركز الطباعة والنشر الواقع في ملكية صديقنا كييل، والذي أطلعني بوجه تشرّب بحمرة الرّضا والانبساط، على نماذج أولية من الأغلفة المخصّصة لمؤلّفاتك الستّ، التي سينشرها قبل متمّ هذا العام. وقد شدّ انتباهي ما رأيته من تفاصيل الرّسوم التي أنجزها بيكاسو، على تلك الأغلفة.
ناقشت مع كييل نسبيّا هذه الفكرة، واقترحت عليه بشكل خجول (لأنّي على يقين تامّ بأنّ العديد من ناشريك الكُثر، أنجز شيئا من هذا القبيل)، أن يستبدل تلك الرسوم بصور فوتوغرافية لوجوه رجال ونساء، يتمّ التقاطها من زاوية نظر قريبة جدّا، أو بصور لشخصيات تتنقّل هنا وهناك، أو لأشخاص نكرات تؤخذ لهم صور عن طريق الصدفة، فيظهرون فيها وكأنهم بوغتوا بنا ندخل عليهم الحانات، أو نتقاطع معهم في شارع من الشوارع، أو نلتقي بهم في محطات القطار المختلفة، على امتداد المدن الأوربيّة.
من المؤكّد أنّ هذه الصّور ينبغي أن يتمّ إنجازها بكيفية خاصّة جدّا، ثمّ تطويرها وتقطيعها وطبعها، من خلال محاولة استعادة الأجواء القديمة، والدّمغة الفوتوغرافيّة التي ارتبطت بثلاثينيّات وأربعينيّات القرن.
أصغى كييل الى ما قلته باهتمام شديد، وبعدها حرّك رأسه، ثمّ شرح لي بكيفية واضحة، بصوته المنغّم النبرة والهادئ، مؤكّداً على أن الجمع بين بيكاسو وسيمونون من زاوية نظر طِباعيّة، وإذن: تجاريّة، له دلالة إيحائية كبيرة جدّا بالنسبة للألمان، الذين هم في حاجة دائمة الى القليل من الترهيب والتخجيل، والى ما يجعلهم متأهّبين من قِبَل شيء ما، يحظى بكيفية قطعيّة بقيمة كرّسها التاريخ.
ومهما يكن، فإنّ تلك المجموعة المنتخبة من المؤلفات قد بدت لي على كلّ حال، رائعة!
بعد زيوريخ، ذهبت الى لندن لأكرّس وقتي كلّه لعملية الميكساج الصّوتي النهائيّ الخاصّ بالنسخة الانجليزيّة من فيلم كازانوفا. فأيّ عمل عابث هو “طباعة” هذا الفيلم! إذ أنجزت تصويره باللغة الانجليزية (وهذا في حدّ ذاته عمل أهبل!)، ثمّ كان عليّ أن أترجمه فيما بعد، بإعداد دبلجة إيطالية، ليتعيّن عليّ مجدّدا القيام بنقله الى الانجليزية، بناء على ما تمّ بالإيطالية! وها هو في هذه الأثناء يخضع للدّبلجة الفرنسيّة بفرنسا، بعد أن ترجم من الانجليزية والإيطاليّة!
أنا ما أفتأ أنظر بعين التقدير والإعجاب الى بساطة التعبير المُعجز، التي حقّقتها في كتاباتك الأدبيّة، يا عزيزي سيمونون، باعتماد لغة قابلة للترجمة الى أي لغة أخرى في العالم، كيفما كانت طبيعتها أو خصوصيتها، دون أن تفقد تلك اللغة بالكلّ، سحر الأسلوب الذي يقوم على تقنية السّهل الممتنع.
أمّا أنا فألقى كلّ مرّة مع اللّغة المحكيّة في أفلامي، التعقيدات الشّديدة والعويصة جدّا، لأنّ ثمّة دائما بعض الكلام العامّي في أفلامي، وتعبيرات مأخوذة من اللغات الدّارجة، وشخصيات تتكلّم بطريقة تميّزها بشكل خاص، فتتصرّف تصرّفا شخصياً كبيراً في كلمات بعينها، وفي بناء بعض التعابير الدّارجة التي لا تكون بالمرّة قابلة للترجمة الى لغة أخرى، لأنّ الثقافات والأساطير والديانات والفولكلور والعادات مختلفة بنسبة كبيرة جدّا، من شعب الى آخر.
كان هذا الفيلم قاسيا وعنيدا ومعادياً، وقد بدأته على مضض! ويبدو لي بأنّه، في الحدّ الذي يُسمح لي فيه بإصدار حكم ما على منجزي الفنّي، يمثّلني بشكل نسبيّ تمثيلا خالصا، أو أنه يمثل على الأقل هذه الفترة بالذات من حياتي، التي تخلّلتها فترات من الشكّ، والرّيبة، والتردّد، وخيبة الأمل. كما يبدو لي بأنّ جميع ما خلّفته ورائي، لم يعد يسعفني بالكلّ، وأنّي لهذا السّبب اللاواعي كنت أمانع ربّما ذلك الفيلم: لم أكن أرغب في إنجازه، لأنّي استشعرت بأنّ شيئا ما كان ينبغي عليه أن يتغيّر، بعد خروجه للعموم.
بلادي، روما، عاداتي وطريقتي نفسها في العمل، كلّ هذا يحتاج منّي الى تغيير. وأحلم بالذهاب الى بلد آخر، الى أمريكا بالضبط، والى إعادة ترتيب حياتي ترتيبا يبدأ من نقطة الصّفر، وكأني ولدت من جديد. أعرف بأنّك ما فتئت تقوم بهذا في أغلب أوقات حياتك، وانتهيْتَ مع ذلك الى البقاء بأعجوبة مخلصاً لنفسك مثلما أنت، حتى ولو أنّك كنت كثيرا ما غيّرت الوسط المحيط بك، وكثيرا ما نقلت موهبتك التي هي كنزك الحيويّ الحقيقي، من مكان آمن الى آخر أكثر أمنا.
أعتقد، وأنا أفكّر في هذه المسألة بهدوء، بأنّ عليّ القيام حقّاً بمثل ما قمتَ أنت به، لكنّي أعلم في نفس الوقت بأنّي لن أفعل ذلك، ولن أسافر، وسأجد آلاف الأسباب والحجج التي سأعلّل بها إرجائي للفكرة، وسأعثر على كافة أنماط التبرير التي يُمكن التعلّل بها، بدء من البواعث القوميّة وانتهاء بالأسباب الفنيّة، التي ترى أنّ الفنّ “لا ينبغي له أن يتعرّض الى عمليات الاجتثاث التي تمنعه من تربته وأصوله”، والى التعلّل بحجّة اللغة، ومن الممكن لي أن أدّعي حتى بعض الأسباب، التي ترتبط بحالتي المدنية، من قبيل: أنّي هرمت كثيرا، وتعبت بما فيه الكفاية!
لاشك في أني أزعجك بهذه التخاريف المشبعة بالثرثرة؛ لذلك، امنحني وعدا بأن لا تضيّع وقتك في الإجابة عن هذه الشكاوى المتباكية. إذ أن شيئا ما سيحدث عندي، ولاشك.
لكنّي أحسّ بأني أنا من ينبغي عليه هذه المرّة، أن يساعد نفسه في ترتيب مسار الأمور، وضبط التوجّه الجديد الذي ستسير عليه.
والحال أني أشعر وكأنّي لم أقرّر في أي شيء من حياتي أبدا، رغم أني أمارس دوماً مهنة ظلّت تلزمني باتخاذ آلاف القرارات في اليوم الواحد. لكن هذه ليست سوى قرارات خاصّة جدّا، سهلة التعرّف عليها، بل هي ليست حتى قرارات، وإنما أشبه ما تكون بأمور مقرّرة سلفا، ما كان علي سوى اتباعها. في حين أنّ القرارات الأخرى، تلك التي لا تتعلق بكيفية التعبير الإبداعي عندي، وإنّما تتصل بالأحداث والوقائع التي ينبغي أن تطال حياتي الشخصية، على المستوى الاجتماعي والعاطفي، فيبدو وكأني لم أتخذ بشأنها أي قرار واع بالمرّة.
سأوقف سيل هذه الشكاوى السخيفة، ولنتحدث في شيء آخر.
اطّلعت لدى صديقنا كييل في زيوريخ، على حوار كان قد أجراه معك بعض الأطبّاء. وأنا أتابع قراءة ردودك الخاصّة والملهمة جدّا، اكتشفت في لحظة من اللحظات بأنّك تُكنّ الكثير من التقدير والإعجاب بيونج(17) Jung . وإني لأعتبره أنا نفسي واحدا من بين المفكّرين العظماء، الذين ألهموا الإنسانية. لذلك، تحدوني رغبة عارمة في أن أروي لك وقائع زيارتي لبرجه الشهير، الذي يقع في بلدة بلينجين Bellingen.
كان ذلك البرج، الذي سبق لي أن قرأت عنه بعض الأمور في الفصل الذي خصّصه له يونج بالذات، في كتابه: ذكريات وأحلام وتأمّلات؛ يشبه الى حدّ ما كوخا صغيرا بُني على شاطئ بحيرة. هو بالطبع عملاق، لكنّه أقرب ما يكون الى بناء شيّدته يد فتى غرّ، بمعنى أنّه أقرب ما يكون الى تشكيل طينيّ سُوّي بكيفية يدويّة عفوية. لقد شعرت حياله بمشاعر احترام كبيرة، لأنّه بدا أقرب ما يكون الى دار حضانة فقيرة. ومع ذلك، ظهر لي أيضا بأنه يحمل ملامح مسرح صغير، وهو ما حذا بي الى تخيّل يونج منكبّا على العمل في برجه ذاك، في ما يشبه خشوع ممثل مسنّ وتواضعه، وكأنما هو كان يتمرّن هنالك، في طقس بسيط وغامض، على أداء دور رعاة مسنين من القوقاز. والى جانب ذلك، كان كلّ ما في البرج قد لاءمني بشكل كبير، لأنّه لا يحاول فقط إعادة إنتاج أشياء من الماضي العتيق، ومن العصر والوسيط، وإنما هو يملك حقا صفة من صفات المسرح.
استقبَلَنا، أصدقائي وأنا، أحد حفدة يونج، وكان أصغرهم. كان ذلك الفتى قد شاهد أفلامي، فأظهر لي على إثر ذلك لطفا وائتمانا، فأدخلني حجرة صغيرة لا تُفتح عادة في وجه عموم الزّوار، لأنّ اقتحامها مثلما أخبرني ذلك الفتى، يخلق لهم صراحة بعض الحرج، في الأسرة .
ارتقيْنا سلما صغيرا ضيقا، قُدّت درجاته من حجر، ثمّ فتحنا دفّة باب صغير. في البداية، استقبلنا ظلام دامس كان يسود الفضاء، لكني سرعان ما استطعت أن أميّز بعد ذلك، تفاصيل حجرة ضيّقة وخانقة لها نافذتان شُكّلتا على طراز قوطي بزجاج مرمري ثخين، كان يونج بنفسه قد صبغ جدرانها، ورسم عليها تزاويق دائريّة، ودراسة لمختلف الأساطير، وبعض الأشياء والتماثيل الصغيرة جدا، وخرذة تفوق كلّ تصوّر. وفي زاوية من الحجرة، عُلّق ثوب ساحر ومشرّع وشيخ معلّم. وقد أخبرني الحفيد أنّ جدّه كان يقضي في هذه الحجرة السّاعات والسّاعات الطوال.
بالتأكيد، أقلّ ما يمكن أن يقال هو أن تلك الحجرة مثال شاذ وغريب ومخالف للمعهود، وهو ما دفع بأصدقائي الى استشعار د
سيمونون


*****


15 يناير 1977(1)
برقية
صديقي العظيم،
منهمكا بالردّ على رسالتك الأخيرة المترعة بالتأملات الهادئة والنصح الغالي كنتُ، فإذا ببرقيتك التي تشهد هي الأخرى على عظيم ما تُكنّه لشخصي وعملي الفنّي من محبّة وتقدير وتشجيع، ترد عليّ، وهو ما ملأني ويملأني دوما، بقدر كبير من القوّة والطاقة.
وإلى جانب هذا، أريد كذلك أن أعبّر لك عمّا يجيش بدخيلة نفسي من تحيّر وارتباك طفيفين،لأني أخشى أن تسعى شركة جومون(2) Gaumont، بمعنى من المعاني، الى استعمال علاقة الصّداقة التي تجمع بيننا، فتضايقك بتقديم طلب ما. أتمنى صادقا أن لا يحصل منها هذا.
أتوقع أن أحلّ بزيورخ خلال نهاية هذا الشهر الجاري، أو ربّما خلال مطلع الشهر المقبل، لأتصل بك هاتفيا من هناك، وأبثك مدى السّعادة التي سأحسّ بها ولا شك، وأنا أتهيأ لزيارتك بلوزان.
أقبّلك بحرارة بالغة، يا صديقي وتوأم روحي، ولا أنسى أن أنقل إليك مرّة أخرى شكري العميق على تلك الهدية الثمينة التي توصلت بها منك، وهي مؤلّف «ريح الشمال وريح الجنوب»(3) الذي قرأته مجدّدا في ليلة وصوله ذاتها، بنفس النّهم الجميل والشغف اللذيذ، اللّذيْن قرأت بهما مؤلفاتك، حين كنت فتى يافعا.
إلى اللقاء عمّا قريب. وسلامي ومشاعر مودّتي وتقديري أبعث بها معك الى ثيريز كذلك.
فريديريكو فيلليني


****

لوزان في 17 يناير 1977
برقية
صديقي الأعزّ والأغلى،
أدركتُ بعد فوات الأوان بأنّي لم أقل حتى نصف ما خطر ببالي، وما فكّرتُ في قوله، في البرقية التي أبرقت بها إليك، يوم السبت المنصرم.
لقد أنجزتَ عملا باذخا وجوهريّا، يتميّز بعمق وفنيّة جماليّة كبيرين.
كلّ شيء في هذا الفيلم عظيم(4)، كلّ شيء فيه صادق، وكلّ شيء فيه يتميّز أيضا بطابعه الإنساني العميق.
لقد واصل الفيلم ـ بتأثيره العميق في نفسي ـ ملاحقته لي يوميّا، ولاشك أنّ هذا سيحدث لملايين الناس من أمثالي.
إلاّ أني سأسعد كثيرا بالتحدث معك عنه، أنت بالذات ـ ما لم يتركنا الخجل الطبيعي فينا، شبه أخرسيْن تقريبا! ـ وذلك ما سيشكّل عندي التكريم الأكبر، الذي أستطيع أن أوفّره لك.
لا تخش أي شيء بخصوص جومون. سأقوم، بعد مراجعتك في الأمر والتعاقد فيه معك، بكلّ ما سيطلبه منّي القائمون على الشركة، وسأكون مسرورا للغاية بتقديم مساهمة ولو بسيطة، في خضمّ ما حققه عملك الفنيّ من انتشار خارق.
صديقي العزيز، بقدر ما أفكّر في أمر هذا الفيلم، بقدر ما يحملني ذلك على الاقتناع بأنّ ما تحقق هو إنجازك لتحفة فنيّة مطلقة.
من غير شك أنك ستشعر بفراغ أعماقك. ذلك أمر طبيعي، خاصة بعد كلّ ما بذلته من جهد مكثف. وإني لأقدّر فيك ذلك، منذ وقت لا يستهان به. وما أزال الى الآن أقدّرك بشكل كبير، وأغبطك شيئا ما، لأنك توصلت الى تحقيق هذا المنجز المتكامل، بجميع المعاني الممكنة للكلمة.
لا يهمّ ما ستطلبه مني شركة جومون.
سأكون على استعداد دائم لإنجاز أي شيء يُطلَب منّي، لكنّ هذا لا يعتمد إلا عليك أنت، أنت وحدك.
أقبلك بكلّ حرارة.
سيمونون


****

روما في: 24 يناير 1977
صديقي العزيز سيمونون،
أردّ متأخّرا شيئا ما على برقيتك الثانية، لأنّي كنت موزّعا بين الرغبة في المجيء لزيارتك، والخوف من أن تلقي مسألة «كازانوفا، وجومون، و،،، الخ»، بظلالها المربكة والثقيلة وغير المرغوب فيها، على لقائنا.
لكني شعرت في الأخير، بأن صداقتنا يمكنها أن تتحمل مثل هذه المضايقات المعاكسة، لذلك قررت أن أحلّ بلوزان إذن، في الفترة التي تلائمك بشكل أفضل. فأنا سأصل الى زيورخ في نهاية الأسبوع القادم، وعندها سأتصل بك من تلك المدينة عن طريق الهاتف، قبل لقائنا بيومين. فهل توافق؟
أقبّلك بكثير من التعلّق والمحبّة، يا صديقي العزيز والعظيم، ولا أخفيك أني أشعر بقليل من الارتباك الجميل، بسبب قرب رؤيتي لك.
أتمنى لك قضاء أيام هادئة وسعيدة، وإلى أن نلتقي قريبا.
صديقك
فريديريكو فيلليني


****


لوزان في: 28 يناير 1977
برقية
صديقي العظيم فيلليني،
توصلت الآن برسالتك المؤرخة في 24 من الشهر الجاري، مثلما توصلت كذلك من شركة جومون، وفي نفس اللحظة، بمكالمة هاتفية تخبرني بأنّك قادم يوم الثلاثاء فاتح فبراير.
لكم أشتاق إلى رؤيتك، وسأكون رهن إشارتك ابتداء من يوم الثلاثاء، أو أي يوم تختاره للمجيء الى زيارتي.
أنا كلي لهفة وشوق الى هذا اللقاء.
جومون تلحّ على أن تحضر معنا محرّرة مجلة الإكسبريس، لكنّي لم أعدها بأي شيء، وأترك لك أنت وحدك اتخاذ القرار المناسب.
لك كل محبتي وشوقي، يا عزيزي فيلليني.
وإلى أن نلتقي عما قريب.
جورج سيمونون
[بلا تاريخ]
بطاقة بريديّة
أنا في زيارة عابرة لزيورخ، رفقة الصديق دانييل؛ ومن زيورخ أبعث إليك سلامي الحارّ.
أتمنى أن أحلّ بلوزان منتصف شهر فبراير تقريبا، لألتقي معك، وأشدّ على يديك بحرارة.
بلّغ تحياتي الى ثيريز
سيمونون

****

1 سبتمبر 1977
صديقي الغالي والأسطوري سيمونون،
أكتب إليك من شيانتشيانو(5) Chianciano ، مثلما سبق لي أن فعلت معك من قبل، حين هجرت فالمونت Valmont بطريقة متسرّعة (وخرقاء بعض الشيء)، لقضاء أيام العطلة في هذه المحطّة التي تعتمد على المعالجة بالمياه المعدنيّة، التي أعتقد أنها لا تختلف عن كافة المحطّات السياحيّة المعتمدة على المعالجة بالمياه المعدنيّة في العالم بأسره، إلا في هذا الخاصية الوحيدة التي تجعل شيانتشيانو تقع بقلب منطقة توسكانيا، وتحاط بقرى وبلدات وقصور وكنائس صغرى وبوادي تسحرنا، وتبتزّ منّا عبثا الأسى والحنين الى حقب وأزمنة، لم نكن نعرفها من قبل أبدا، وإنّما نتخيل روعة العيش أثناءها، وحسب. إنّ بلدي كلّه بهذه الكيفية، نتحسّر دائما فيه على ضياع شيء ما وُجِد من قبل، نعتقد أنه كان أفضل حالا مما هو موجود، الآن.
ماذا أصنع في شيانتشيانو؟ لا شيء. في روما نفسها لم أكن أفعل أي شيء منذ وقت غير يسير، حتى بعد أن اكتريت المكتب المعتاد منذ شهرين، لأوهم نفسي بالانهماك في إعداد فيلمي الجديد. مضى عليّ الآن عام كامل، لم أنجز فيه أيّ شيء! وهذا أمر لم يسبق لي أن عشته، على الإطلاق. فماذا يجري، إذن؟
إليك الوقائع: شغلت نفسي لمدّة شهر بفكرة أني سأرحل، وسأنتقل الى أمريكا، لأنجز فيلما هناك. وداخلني الاعتقاد بأني مستعد تماما لذلك، بل ذهب بي الأمر الى حدّ توديع الأصدقاء، فخالجني على الأخص الانطباع بأني بلغت حدّ الانفصال عن شخصيتي العادية، والإحساس بالاضطراب والتأثر، كمهاجر. وفيما بعد، أدركت يوما بأني لن أرحل أبدا، وأن ما حدث لي لم يكن سوى حصيلة للأجواء الثقيلة التي كانت تسود الحياة الإيطالية، ونتيجة للخوف من نضوب موهبتي، وعدم إيجادي لشيء ما أقوله، خاصة وقد اشتعل شعر رأسي شيبا ـ وعما قريب سيجتاحني الصلع! ـ وأني لهذين السببين، رغبت في تبديل الأجواء، قصد التمكن من تجديد ولادتي بالخارج.
لم أرحل، وإنما وجدتني كمن قرّر تغيير مقرّ إقامته، وهجر شقته المألوفة، فحمل معه كل الأثاث؛ لكن ما أن نزل درجات السلالم، وألفى نفسه على عتبة الباب الرئيسي للعمارة، حتى عضّ على أصابعه؛ فلم يعد يرغب في العودة الى شقته العتيقة، كما أنه صار يخشى في ذات الآن، أن لا يطيب له المقام في محلّ الإقامة الجديد؛ وبذلك، صار يمضي الوقت حائرا وهو لا يدري ماذا عليه أن يصنع بكل ذلك الأثاث، الذي وضعه على قارعة الطريق، بجانب العمارة!
في غضون هذه الفترة المتقلّبة، خربشت ما شاء لي أن أخربش، فأعددتُ بكيفية ترميقيّة ثلاثة مشاريع، أحدها كان قديما جدّا عندي، ظل يسومني العذاب باستمرار، ومن المحتمل أني كنت أخشى من مواجهته، لأني لا أبلغ الحدّ الذي يجعلني أقبض عليه بشكل تام؛ فهو يفتتني، ويخيفني، فظللت أجرّه معي لخمس عشرة سنة، لأنه بدا لي دوما أنه موضوع أكثر راهنية، وأحوج ما يكون على الدوام لأن يطرق… لكني لم أطرقه. إنه مشروع يجمع حوله سلسلة لا تصدق من التعارضات، والتنازعات، والعوائق المباغتة، والخصومات الحانقة، والمحاكمات، والأمراض، وتصدّع العلاقات التي تبدو متينة؛ وقد رأيت من هذا ألوانا الطيف كافة، كلما حاولت أن أعيد الإمساك به بين يدي. ولكم أود أن أتحدث طويلا في يوم ما، من غير مداراة ولا مداهنة، عن هذه المغامرة الإبداعية ـ أو بالأحرى العَيّ الإبداعي! ـ الغريبة، التي خلّفت لدي نزوات متطيّرة، في النهاية.
صديقي العزيز،ألتمس منك الصفح، لما قد تتسبب لك فيه هذه الثرثرة من إزعاج، لكني حتى وإن كنت أميل كثيرا الى التحدث معك في كل شيء، يتعين علي بحق أن أبذل جهدا لاحتواء هذا الفيض المتدفّق من المسارّة التي تبوح بمكنون أسرارها، والحدّ من هذا الإسهاب غير المناسب، ومن التماس النصح. فأنا أعرف بأنك متعوّد دائما على هذا النمط من العلاقة التي تربط بين الآخرين؛ لذا أشعر في قراري بأني مذنب حيالك، بدرجة أقل.
لستُ كلفا ولا مأخوذا بالمشروعيْن الآخرين، ولدي الانطباع بأني لن أفعل سوى تكرار نفسي فيهما، لذلك أود أن أغير كل شيء، سواء الموضوعات، أو الميولات، أو الأساليب، إلا أني لا أعرف ما الذي علي أن أقدّمه للمنتجين الذين أتعامل معهم، لكي أقنعهم بأن يتركوني أنجز أفلاما لا تحمل توقيعي. ستكون هذه أفضل للغاية!
إجمالا، أنا أجتاز خلال هذه اللحظة، فترة تفرّغي المعتاد، وفترة القصف المكثف للأفكار المحبطة والقاصرة. ولكم أجد عنتا ما بعده عنت للتعوّد على أني سأبلغ بعد فترة وجيزة، وجيزة جدا، سنّ الستين، وأني سوف أنقب ولاشك في صفحات حينما كنت عجوزا(6)، لأعيد قراءتها، بحثا فيها عن معلومات ونصائح وتحذيرات، من شأنها أن تكون لي مهمّة في العمق. ويا للألق، والسلوى، ورقّة المصادفات المتصلة بالمخاوف والمفازع والتأملات التي ينطوي عليها كتابك الثمين جدا!
ظللت أعيد وأكرر لنفسي بأنّ أي مشروع، إلا ويكون مساويا لأي مشروع آخر، وقد أقررت بهذا في جرأة، ضمن الحوارات العديدة التي أجريت معي، مضيفا بأنه لا ينبغي أن نضيّع أي ثانية من وقتنا في اختيار الفكرة، أو الموضوع، لأنّ ذلك ليس سوى تعلّة لتحريك الطاقة الإبداعيّة الكامنة فينا، على الدوام… ومع هذا، صارت المسألة عندي في كلّ مرّة مدعاة أكثر فأكثر للخيفة، وغدا الشك والحيرة والتردّد وضربات الحظ المرتجلة، تصيب ذهني بالفتور والوهن.
حينها، فكّرت فيك، وفي الخصب الإبداعي الذي يفوق عندك، ما تحتمله أية طاقة بشرية عادية، وفي الثقة المدهشة التي تفيض عليك، فشعرت بتحسّن حالي، ثمّ أصدرتُ أمرا بأن يجري البحث لي عن مكتب، للشروع في رقصي الأبدي.
ألتمس عذرك يا عزيزي، لتبيّني بأنّ هذه الرسالة منفصمة العرى، ولا يجمع بين أطرافها المتنافرة أي رابط، وكأنها هذيان سكير تعتعه الشّرب، زد على ذلك أنها لا تبرهن عن رغبتي القوية في التعبير عما أكنّه لك من مشاعر المحبة والتقدير والامتنان، بعد طول الصمت الذي حصل من جهتي. على كل حال، سأصمت قريبا، وسأنزل برفقة جولييتا الى النبع في الظهيرة، للارتواء من ماء السّانت إيللّينا، ونحن نتجول وسط الممشى الكبير المحاط بالأشجار، والكأس في يدنا، بينما جوقة نسائية تعزف موسيقى الـﭬـالس. تماما مثل ما وصفته أنت بكيفية بارعة في مؤلفك: ميـكري في محطّة ﭬـيشّي، الذي عثرت على نسخة منه لدى الكُتبي المحلّي، في المساء الذي تزامن مع يوم وصولي الى محطة شيانتشيانو، فقرأته على الفور (أو بالأحرى أعدت قراءته، لكني لم أعد أذكر)، بالمتعة التامة التي أجدها دائما في قراءة مؤلفاتك؛ ودعني أقول لك بكيفية سريعة، بأنه مؤلف جميل ورائع!
إذن، تقبّل شكري الخالص على كل شيء، يا صديقي العزيز. سآتي الى زيورخ في بحر الأسبوع القادم، لأني أريد أن أجري سلسلة من التحليلات الطبية بكانتونال (صحتي بألف خير، وإنما سأفعل ذلك، من غير داع يذكر، اللهم الرغبة في إنفاق المزيد من الوقت)، وسأكون سعيدا بمهاتفتك من هناك، لأبلغك سلامي. تذكّرني مثلما تستحضر ذكريات ثيريز السعيدة. أما أنا فأطبع على خدّك قبلة أخوية حارّة.
فريديريكو فيلليني


****


مونت ألتشيني في: 3 سبتمبر 1977
عزيزي سيمونون،
ونحن نتجول بالسيارة هنا، بين الوديان المحيطة بمحطة شيانتشيانو، وصلنا اليوم إلى مونت ألتشيني، وهي هضبة أسطورية لا تقل روعة كذلك عما كان عليه حال الأولمب بالنسبة للإغريق، زمن هوميروس. هنا أيضا، ثمّة قدسية: فنبيذ البرونيللو دي مونتاليتشينو شراب مقدّس، بمستطاعه أن ينافس بصورة أفضل، النبيذ الفرنسي الأكثر شهرة.
أكاتبك اللحظة من مكتب صاحبة الضيعة، التي يتم فيها إنتاج النبيذ، وأنا خجل شيئا ما من كثرة الجوائز المحيطة بي، والشواهد المعلّقة على الحيطان، والميداليات، وقصاصات الجرائد المطلّة عليّ من كل ناحية، وصور رؤوس المتوّجة بالأكاليل والتيجان، والقساوسة، وأصحاب الشهرة المعروفين بحبّهم للخمور، والذين ينتمون لجهات الأرض الأربع، وعليها إهداؤهم وعلامات امتنانهم. وبهذا، وجدت نفسي أندفع أنا كذلك، وسط دوامة المبالغة.
لا خبرة لي في أمر النبيذ، بل لا أعرف فيه أي شيء على الإطلاق، لكن هذا البرينللو الذي ارتشفت منه، أمام المنظر المدهش لوادي أورتشيا، بدا لي ممتازا. إلا أنّ جولييتا هي من فكّر في تنصيب سيمونون حكما، في أمر هذا النبيذ. ها هو ذا أبعث به إليك، إذن، لتحكم بنفسك. أملي أن يصلك سالما، وعلى أحسن حال. نرفع الآن كأسيْنا ونحن نتمنى كامل الصحة والسعادة والعافية لصديقينا جورج وثيريز. تشينْ تشينْ!
مع وافر الحب.
فريديريكو فيلليني


***

لوزان في: 7 سبتمبر 1977
عزيزي فيلليني،
ما يحدث لك عشته أنا حوالي مائتين وثلاثين مرّة، وما زال إلى الآن يحدث لي، كلما انتهيت من تأليف كتاب ما. في البداية، لم أكن أقيم وزنا لقيمة الروايات التي أكتبها، مع أني كنت أبدل قصارى جهدي في تجويدها. لكن، بقدر ما صارت رقعة قرائي تتسع، بقدر ما صرت أشعر بالواجب حيالهم، فبدا لي كل مرّة بأني أدنى من المستوى المطلوب. وما كنت أنتهي من تأليف رواية من الروايات، حتى يداخلني الاعتقاد بأنها سيئة، وهذا يتواصل عندي الى أن أنتهي مرّة أخرى من مراجعتها، لتبدو لي بأنها على العكس من ذلك، جيدة للغاية. فتبدأ حينئذ فترة اضطراب وقلق، أعيشها ستّ مرّات تقريبا، في العام. وكنت أعتقد بأني لن أعثر لروايتي القادمة على موضوع جدير بالكتابة. وفي كل مرة، يخالجني الاعتقاد بأنّ معيني نضب. وكانت هذه الفترة الغير السارة تسترق شهرا أو شهرين، الى أن يأخذ موضوع جديد ما في الاستحواذ علي، ذات يوم.
والحال أن الروائي ليس كالسينمائي، لأنه لا يحتاج كي يؤلّف عمله، سوى الى بعض الأوراق البيضاء وآلة كتابة. بينما السينمائي يلفي نفسه على العكس، في مواجهة عدّة إكراهات، بدء بالرّأسمال الهائل الذي يوضع تحت تصرّفه ليستثمر في عمله، الى غاية اختيار الممثلين المناسبين لأداء الأدوار التي يراهم مناسبين لها، والذين لا يكونون دائما رهن الإشارة،،، الخ.
أشكرك يا عزيزي فيلليني جزيل الشكر على الثقة الكبيرة التي وضعتها فيّ، وأنت تكتب إلي ما كتبته من أسرار وشواغل خاصة، ضمّنتها رسالتك الأخيرة. فما تشعر به ليس خارجا عن العادي، ولا هو يستدعي القلق وانشغال البال. وأرجو أن تغفر لي طريقتي هذه في التحدّث إليك، التي تشبه الى حدّ ما طريقة الطبيب الذي يتحدّث الى مريض من مرضاه.
أشعر من خلال الأسطر التي كتبتها، بأنّك عوض أن تجد نفسك أمام الفراغ، وجدت نفسك على العكس، تحت تأثير عمل فنّي ظلّ يلاحقك منذ زمن بعيد، وبأنك لأسباب عديدة، منها الجيّد ومنها غير ذلك، تتردّد في الشروع فيه، وتقف حائرا أمام مواجهته. كالخوف مثلا من الوقوع في تكرار نفسك. أتعتقد أني كلما تعاطيت الى الكتابة، لا أعاني من نفس مشاعر الخوف، لاسيما أن ذاكرتي ليست على ما يرام، كما أني لا أجد في نفسي الشجاعة اللازمة، لأعيد قراءة ما سبق لي أن كتبته؟
لسوف ترى بنفسك، بأنك ستستيقظ ذات يوم وصبر نافذ، وأنت لا تطيق الإبطاء دون الارتماء في لجة الإبداع، من دون تفكير في أي شيء، عدا التركيز على فيلمك الجديد. وانطلاقا من هذه اللحظة بالذات، لن تعاني من القلق ولا من التردّد أو الحيرة، أبدا. إذ بمجرد ما أن ترسخ الجملة الأولى من سيناريوك على الورقة البيضاء، حتى تجد نفسك تسبح (مثلما يقال بالعاميّة)، وأنت مندفع بنشاط وحيوية نحو الأمام.
أما بالنسبة للتضجّر، فأنا كذلك أعاني منه، خاصة قبل الشروع في العمل. أضع الأدوات الضرورية للكتابة في محلها المناسب، وأراقب موقع كل شيء على حدة، وكأني بهلوان من بهلوانات السيرك، الذين يتحققون من كافة الحبال والأجهزة التي تتوقف عليها سلامة حياتهم.
أتضجر من وضع إبريق الشاي في الناحية غير المخصصة لها، فأضعه فيها بشكل تام، وأحرص على أن تكون غلاييني الستة طوع يدي، وأن،،، الخ.
في الواقع، أنت منذ عام يا عزيزي فيلليني، تعيش حالة المرأة الحامل التي تتساءل هل سيتحقق لها أن تنجب ولدا بحق وحقيقة، أم لا.
حدثتني عن حينما صرت عجوزا. أتعلم أني كتبت ذلك الكتاب، حين كنت بالضبط في مثل سنّك، اليوم؟ حينها، ظننت أني انتهيت. ثم أدركت فيما بعد، بأني بدأت أصير شابّا من جديد. وبعدها بخمس عشرة سنة استمرّ شبابي. لكن ما جعل مسارّتي صعبة، وفرض علي الغشّ نسبيا في تأليف ذلك النصّ، هو أن زوجتي التي سأضطر الى الانفصال عنها بعد سنتين، أو ثلاث سنوات قبل صدور الكتاب، كانت تقرأ دفاتري يوميا، لحظة بلحظة. وكانت تبحث فيها عن الدور الذي أفرده لها فيه، خاصة أنها كانت على استعداد للشعور بالإهانة، لو أني قصّرت في حقها، ولم أمنحها الدور الجميل الذي ظلت تنتظره. لهذا انتظرت ما يقارب عقدا من الزمن، قبل نشر ذلك الكتاب.
كم من مؤلفات أخرى تلته؟ إنها الجزء الذي أعتبره الأهم، في مجمل تآليفي. وقد أمليت هناك في ﭬـالمونت، حيث قضيت ما يقارب شهرين، مؤلفين ضخمين من مؤلفاتي.
قال لي موريس شوﭬالييه بأنه ظلّ يحسّ على امتداد حياته المهنية الطويلة والناجحة، في كلّ مرّة كان يدخل فيها الخشبة بالتهيّب من الجمهور، الى حدّ الذي الرغبة في التقيؤ. وأضاف: ضعاف الموهبة هم الذين لا يعرفون فقط، هذا التهيّب بالذات!
أنا متأكّد من أنّك لن تتأخر في العودة مرة أخرى الى إيقاعك الإبداعي. إنه حياتك، وقدرك، وأكاد أقول: إنه واجبك!
إذن، هيّا الى العمل، من غير كوابح!
أقبّلك، مثلما أقبّل من خلالك جولييتا أيضا، وأنتظر سماع صوتك عبر الهاتف.
سيمونون

* على سبيل الإشارة:
أظن أني أفلحت في الاحتياط، بجعل هذه الرسالة تصلك بزيورخ، على عنوان صديقنا المشترك كييل، بعد أن لم أعد أعرف أين ينبغي البعث بها إليك.


***

روما في: 20 دجنبر 1978
صديقي العزيز سيمونون،
كم مرّة تحرّكت رغبتي في الكتابة إليك، كي أختلي بك قليلا، لأبثك بعض ما يختلج في الصدر، وأدردش برفقتك؟ لكنّ المواظبة على قراءة يومياتك (وهي اليوميات التي اقتنيتها من بروكسل، حيث عثرت عليها هناك كاملة.. على الأقل، الى غاية الجزء الذي نشر منها لحدّ الآن، ويحمل عنوان: ما دمتُ حيا.. فهل هذا هو آخر ما نشر منها، أم هناك ما هو أجدّ منها؟)… أقول: لكنّ قراءة يومياتك بانتظام ومواظبة، والاطلاع من خلالها على ما تقوم به يوميا، ومعرفة ما تقوله، وما تفكّر فيه يوما بيوم، كلّ ذلك أعطاني الانطباع بأني أتواجد دوما برفقتك، وأتبادل معك الانطباعات باستمرار، وكذلك الأسرار، والتعاليق، مثلما نقوم بذلك مع الصديق الذي نلتقي به كلّ يوم.
شكرا على برقيتك المفعمة بفيض المشاعر، وعلى أمانيك كذلك، واسمح لي بأن أقدّم لك أنا أيضا، أمنيات أخرى تعادل ما تمنيته لي، أنت وثيريز ولأبنائكما.
وأنا؟ ماذا فعلت خلال كل هذه المدة الطويلة؟
لقد أنجزت فيلما بعنوان: بروفة الأوركسترا Prova d’orchestra؛ وأودّ أن أحكي لك عن أجواء الحيرة، والارتباك، والمحاولات، والجهود التي بذلتها إحدى المجموعات الموسيقية، لتصل في النهاية الى تحقيق هذه اللحظة الباذخة من الانسجام، الذي تجسّد في تعبيرها الموسيقي.
بالطبع، مع الموسيقيين ثمّة رئيس الجوقة الذي يكتشف، ضمن الجدلية الصعبة لهذه العلاقة، بأنّ الهدف المشترك من عزف الموسيقى قد تمّ قتله، وتجاهله، وحيد عنه، وتُرك جانبا.
في هذا الفيلم القصير، هناك بالطبع أشياء أخرى تجري. لكن، ما بدا لي أني لم أقدّمه فيه، ولم يكن في نيتي بالمطلق أن أقدّمه فيه، هو الدلالات والأفكار، وما يسمّى بعلم الرموز Symbologie الذي يستثير هذه الأيام، سجالا حامي الوطيس، يزيد من شرارته بعض رجالات السياسة، وبعض الوزراء والصحافيين والسوسيولوجيين والنقابيين، بل وحتى الباطرونا (أرباب المال والأعمال)، وربّما سيزيده جذوة فيما بعد رجال الـ(7)ـSME أيضا!… ضجّة عارمة لم أكن مهيئا لها من قبل، تبلبلني وتخجلني الى حدّ أني انتهيت الى النأي بنفسي عن الكلّ، ودفن ذاتي من جديد هنا في السّينيتسيتّا(8)، حيث انخرطت في الإعداد لفيلم بعنوان: مدينة النساء، وهو الفيلم الذي كان إعداده يجري منذ السنة المنصرمة، فتوقف خلال فترة أعياد الميلاد تحديدا.
أحاول دون كبير طاقة ولا حماس، أن أباشر العمل في هذا الفيلم، من جديد. يا لغرابة هذا الفيلم! أو بالأحرى: ما أغرب ما يحدث لي معه! إنها المرة الأولى التي أشعر فيها بالخمول الشامل، والفراغ الرهيب، وكأني غريب عن هذا المشروع، الذي يتعين علي إنجازه. فالفيلم بدوره لا يتوقف عن الظهور لي بمظهر غير المبالي ولا المكترث هو الآخر، وكأنه يغلق على نفسه في كثافته السميكة. كلّ منا يبادل الآخر الازدراء والاحتقار، ونتجنب أن يقع اللقاء بيننا. وفي انتظار حدوث هذا، يتمّ الاشتغال في الأستوديو على ترتيب الديكور يوما بعد يوم، وينهمك المساعدون المساعدين لي في إعداد ما ينبغي إعداده بحماسهم المعهود، بينما ينتابني أنا باستمرار الشعور بأني منخرط في شيء لا يتصل بي أبدا، بنفسية تسكنها طمأنينة غير مسؤولة عن أي شيء، مثل الذي ينجز شغلا لفائدة شخص آخر غيره، شخص آخر سيتولى ترتيب كل شيء حين يصل، وربما سيتخذ قرار عدم إنجاز الفيلم بالمرة، بكيفية مستعجلة؛ هذا في كل الأحوال هو ما أتمناه، وأنتظره!
ومهما يكن، فالشعور الوحيد الذي أعتقد أني أحسه حيال هذه الحكاية، هو أني متطلّع بفضول كبير الى ما ستؤول إليه، ومن ذا الذي سينجز الفيلم. أما أنا، فيقينا لست بذلك الذي سينجزه.
سأتوقف عند هذا الحد، دون رغبة في إزعاجك بزيادة بشكواي ونحيبي المعتادين.
أتمنى لك أعياد ميلاد سعيدة، أما أنا وجولييتا فوقع تفكيرنا على قضاء بعض الأيام لدى أسرة آل كييل، بزيورخ.
وبهذه المناسبة، سنأتي لزيارتك، وقضاء القليل من الوقت برفقتك، إذا كان هذا سيروق لك.
بلّغ تحياتي الحارّة الى ثيريز.
أقبّلك بحرارة، يا صديقي العزيز والأبدي.
المخلص
فريديريكو فيلليني


****

لوزان في: 8 يناير 1979
عزيز فيلليني العظيم،
أنا دائما أقرأ رسائلك بمتعة ما فوقها متعة، حتى ولو أن الطائرة التي من المفترض أن تصل بها مباشرة الى سويسرا، ما دمت أرسلتها عبر البريد الجوي، اختارت أن تعرّج بها الى القطب الشمالي أولا، قبل أن توصلها الى هنا. ما جعلني بالفعل أشعر قليلا بالخوف، هو أني خشيت أن تكون جئتَ الى سويسرا، وأكون أنا فوّتت فرصة رؤيتك عني، لأني لم أرد عليك في حينه، بسبب تأخر وصول رسالتك!
أتعلم بأنّ أضمومة رسائلك والحوارات التي أجريت معك، من شأنها ـ حين تُجمع كاملة ـ أن تسمح للدارس بإنجاز دراسة تحليلية عن نفسية المبدع الحقيقي، الذي تقدّم أنت ـ إن صحّ هذا التعبير ـ نموذجا أصليا وأصيلا له.
فقد فوجئت على سبيل المثال بالصدى، الذي خلّفه فيلمك الأخير في مختلف المحافل، وبالكمّ الهائل من الملاحظات والتأملات التي ساهم في إفرازها. إن بمقدور المرء أن يقول الشيء نفسه عن بقية أفلامك كافة، لأني مقتنع بأنها تنطوي جميعها عن عدّة دلالات، قد لا تدركها أنت نفسك!
إنّ هذا بالضبط هو ما يميّز روح المبدع. وأعتقد أني ذكرت لك هذا من قبل، حين قلت إنك تبدع انطلاقا من منطقة ما فوق الوعي، وأنك حين تشعر بالفراغ بعد كل عملية إبداع، مثل حالك الآن، فإنّ هذا إنما يعني على العكس، بأنّ الاشتغال الإبداعي الحقيقي قد حصل معك وقتها، انطلاقا من أعماق الأعماق. وبهذه الكيفية، تكون قد أبدعت ـ وما زلت تبدع ـ عالما سينمائيا ما ينفكّ يدهشك، أنت أولا!
دائما ما أعتقد بأنّ الإبداع هو مسألة لاواعية، وأن هذا هو ما يميزه عن بقية الأعمال الذهنية الأخرى، التي يتم تمثلها عن طريق العقل وحده، وبالممارسة الحاذقة.
وإني لأنتظر إذن، وأنا واثق بقدراتك، أن أسمع خبر ولادة عملك الجديد. سأكون حينها سعيدا لرؤيته، والتحدث معك بشأنه.
اقتسم مع جولييتا مشاعر محبتي الثابتة والخالصة والواثقة.
جورج سيمونون

* على سبيل الإشارة:
أبعث إليك رفقته، بلائحة تضمّ مجموع المؤلفات التي أمليتها، بما فيها تلك التي صدرت من قبل، وتلك التي تنتظر طريقها الى النشر.


****

روما في: 22 يوليو 1979
عزيزي سيمونون،
منذ مدّة طويلة وأنا أشعر بالحاجة الى التحدث معك، لكني كبحت هذه الحاجة بدافع الخوف، أو بالأحرى بما تحصّل لدي من قناعة، أثبتت لي بأني لن أزيدك، حين أحدثك عن فيلمي الجديد، سوى ضجر وحزن على ضجر وحزن، بفعل عادتي المسكونة بالبوح المتذمّر من كلّ شيء، والنواح الصبياني؛ ولهذا، أرجأت ذلك إلى حين، في انتظار أن تخيّم على مشاعري لحظات السكينة، ليهدأ مزاجي أثناءها، ويروق صفاء، ولأكون عندئذ قادرا على الكتابة.
فإذا برسالتك القصيرة تطلّ علي بكيفية عجيبة في اللحظة المناسبة، خاصّة أنها كانت لعذوبة المفاجأة، لحظة لم أنتظرها فيها. وهذه ثالث مرّة يحدث لي هذا معك، يا صديقي العزيز؛ لذا، أخشى بحق أن أصير مدللا، وأن يوشك هذا التزامن (أنا في ذروة أزمتي، وسيمونون يكاتبني) أن يصير ضرورة لا مناص منها، فلا أقدر على الانفكاك منها، ولا تجاوزها بالكل. لذلك، تصوّرتني أخوض في التضرّع إليك، ملتمسا منك أن تباعد بين هذه المواقيت السارّة، كي لا أسقط في مطبّ الحاجة إليها. لكن، هيهات! لأني بالنظر الى ما ذكرتَه في رسالتك الأخيرة، أدركت بدهشة كبيرة (جعلتني أتأثر تارة، وأخجل شيئا ما أخرى)، بأنّك حتى ولو لم تنهمك في الكتابة إلي، يحصل لك أن تفكّر فيّ، وفي عملي، وفي الأفلام التي أنكبّ على إنجازها.
صديقي الأعز، طريقتك الرقيقة التي كشفت لي من خلالها، بأنّك تفكّر فيّ على الدّوام غمرتني بالسعادة، وملأت أعماقي بالطمأنينة، وأكّدت لي بأنّ بيننا تواطؤا سرّيا، وتشاركا روحيّا قويّا. وسيكفيني من الآن فصاعدا، أن أتخيّلك وسط حجرتك الصغيرة الوردية بلوزان، أو تحت الشجرة الضخمة في الحديقة، كي أشعر بأنك فجأة هنا، برفقتي، تشدّ على كتفي، وتؤازرني، وتمنحني الطاقة والنشاط. تماما مثلما تفعل رسائلك، وكما يحدث معي في هذه اللحظة بالذات، التي انغمست أثناءها في خضم هذا الفيلم الثقيل جدّا على النفس، والمحبط، والمظلم، والعدواني. ها أنذا أعود من جديد، وأدرك هذا، للعب دور الضحية، وبث الشكوى. ومع ذلك، فهذا كله صحيح: إنها المرّة الأولى التي يحدث لي فيها الشعور بحالة السأم والقلق النفسيين، وأنا منكب على إنجاز فيلم. ويبدو أن هذه الحالة تكبس علي نفسيا وفسيولوجيا، تقريبا: زد على ذلك أني لم أعد، منذ شهور وشهور (إلا أني أردّد في داخلي بأنّ هذا يمكنه أن يكون دام سنوات طويلة، أو هو هكذا منذ الأزل!)، أتذوق طعم النوم في الليل إلا لماما، وبالضبط لثلاث ساعات أو أربع وحسب، وهو نوم مثقل ومنهك بفعل آثار الأقراص المنوّمة، ويُشبّه لي أنه أقرب الى ضربات الهراوة التي تهوي على الأعصاب، فتدوّخني، ويزيد ذلك من درجة إنهاكي. وفي انتظار أن تُفرَج، أواصل التردّد يوميا على السينيسيتّا، لتصوير مشهد وراء الآخر، والإشراف على الممثلين، وتصحيح وضع ديكور معين، والتعديل من هيئة لباس أو بذلة، وأنا أكدّس شرائط الفيلم دون توضيب، وكأنه حجرة ينبغي ملأها، بينما أتحرّك ـ وأنا مسرنم ـ وسط الظلمة الساطعة والمهددة، التي تشبه ظلمة غور منجمي عميق. أجل، ثمة الكثير والكثير، ثم الكثير والكثير من النساء، بل ليس ثمة غير النساء في هذا الفيلم، لكنّهنّ في هذا الفيلم الذي لا أشعر حياله بشعور خاص، ولا أحبّه؛ وإذن، وقع التشويش على المتعة والمرح اللذين عادة ما يرتبطان بالنساء، ويتصلان بقربهنّ، ففسد الأمر، وضعف مقدار المتعة والمرح أكثر، أو أن المرح والمتعة غرقا بسرعة في خضم تأملاتي السوداوية، التي أردّد فيها بأنّ هذا الفيلم، كان عليّ القيام به قبل هذا الوقت بعشر سنوات، وبأني بعد عشرين سنة قد ينبغي إنجازه مرة أخرى،،، وأحيانا، أشعر بأني أتموّج حقا لانعدام الجاذبية، وهذا ما يتسبب لي في دوخة خفيفة، وفي الشعور المحرج بالغثيان. وإليك بالمقابل ما أفكّر فيه بالتوازي، فيبهجني. أقول: سيكون الأمر ممتعا وجميلا، لو أن صديقي سيمونون تواجد معي في هذا المكان، لنكون معا برفقة بعضنا، نحن الاثنين، وسط هذا الكمّ الهائل من النساء! لكم سيكون الأمر جميلا لو أن هذه الفكرة تحققت! ربما بهذا أنجح في مواصلة الفيلم، وذهني قد خفّت حدّة انشغاله، بشكل كبير…
أتوقف الآن عند هذا الحدّ، لأني أدركت بأني أبالغ، وأني أجحد بما يحققه لي عملي الفني، الذي هو طريقة العيش الوحيدة التي أحذق ممارستها. لكن، صحيح جدا أني هذه المرة بالذات، مغتمّ وحزين بحق وحقيقة.
اسمح لي يا صديقي الأعز بأن أطبع على خدّك قبلة، بقلب أفعمه الامتنان، وبوجدان تعمّقت بداخله مشاعر الصداقة الأخوية، ولا تنس أن تبلّغ سلامي كذلك الى السيدة ثيريز.
كان بودّ جولييتا أن تكاتبك، لكنها لم تقرّر البتة تنفيذ ذلك، بسبب الخجل الذي يساورها، فطلبت مني أن أبلغكما معا سلامها.
المخلص
فريديريكو فيلليني


****

20 سبتمبر 1979
عزيزي فيلليني،
لن تكون لك الأمور سهلة، ولا متيسّرة أبدا. وأعتقد بأن ما من مبدع كبير من الذين نطلق عليهم صفة العباقرة، كان يشتغل في ظرفية تملأها الغبطة والسرور التامان. وإنّ ممّا صدمني مثلا، أني لم أر صورة من صور مايكل أنجلو قط، ولا ليوناردو دافنشي، ولا رامبراندت، ولا فان غوغ، يظهر فيها أحد هؤلاء بأسارير منبسطة وهو يبتسم، أو حتى وهو هادئ وحسب. لقد تصوّرت، حينما كنت في سنّ الشباب، بأنّ الكُتاب ينشؤون مؤلفاتهم في أجواء مشبعة بالغبطة والمسرّة والرسّامين ينخرطون في شؤونهم الفنّية، وهم يوقعون لحنا خفيفا بالصّفير، أو يحكون قصصا جميلة لبعض أصدقائهم. لكني أدركت فيما بعد، بأنّ الأمور لا تكون كذلك إلا لأهل الصّنعة والرداءة، لا لأصحاب الفنّ الحقيقي!
إنّ السير على هذا الدّرب ـ مثلما عرفت دائما، حتى لا أقول مثلما تعرف منذ زمن بعيد ـ هو شأن صعب، فكلّما تقدّمت على أرضه الوعرة، كلما واجهتك الحواجز الكثيرة، التي ينبغي عليك تحدّيها والانتصار عليها، لإنجاز فيلم من أفلامك. وهذه المرّة، أمامك ما يكفي من الحواجز. فقد بلغني في حينه، نعي الملحّن الموسيقي الذي ربطتك به أواصر المودّة والتفاهم القوية والحقيقية. ولم يكن هذا الموت سوى المشكلة الأولى، التي تعدّ في ذاتها عصيّة عن الحل سلفا، ناهيك عن أخريات! إذ تلاها موت أحد الممثليْن اللذين تلاحم مصيرهما في الفيلم، مع مصير مائة الى مائتي امرأة، بينما الفيلم لم ينته بعد؛ وقد اعتقد البعض، على إثر هذه الرجّة الأليمة، بأنك ستتخلى عن العمل!
بالنسبة إلي، أنا مقتنع بالعكس. ومتأكّد من أن هذه الصعوبات المتعدّدة، عوض أن تحبطك، سترجّك وتمنحك أكثر مما مضى، إرادة تدفع بك الى المضي قدما الى الأمام، حتى النهاية. ولو أني كنت أراهن بالمال، لراهنت بالكثير على أن هذا الفيلم سيكون أحسن أفلامك، وأنك ستتجاوز فيه نفسك، وستتحدّاها، حتى وإن بدا هذا مستحيلا.
في غضون الأسابيع الماضية، خطرت ببالي كثيرا، فشعرت ـ مثل دأبي دوما ـ بأنك قريب مني، وبأني أمشي على رؤوس أصابعي حتى لا أزعجك، وأنت منهمك في عملك.
لن أقول لك «أتمنى لك الشجاعة والصبر لمواجهة هذه المواقف الطارئة!»، لأني على علم تام بأنك تملكهما، أو ستملكهما.
ثق في صداقتي الأخوية المتينة يا عزيزي فيلليني، ولا تنس أن تبلغ تحياتي الى جولييتا، وأن تقول لها بأن عليها أن تتحدّى الخجل.
المخلص العجوز
جورج سيمونون


***

روما في: 15 أكتوبر 1979
صديقي سيمونون الأعز،
ها نحن ننخرط مرّة أخرى في الحديث إلى بعضنا البعض، يُؤلّف بين قلبيْنا شعور ثابت على الدوام بالصداقة، ومفعم باستمرار بدفق الحرارة المطلقة والأبدية. وإني لأضبط نفسي باستمرار، مردّدا: الآن، سأكتب الى صديقي، أو: الآن، سأبلغه سلامي عبر الهاتف، لكن تواجد كتبك من حولي دائما، وتحدّثي عنك في أغلب الأوقات الى جولييتا والأصدقاء، إلى جانب انخراطي خلال فترات العُزلة في التفكير فيك وفي حياتك، كل هذا ظلّ يمنحني شعورا حيويا للغاية، ويجعلني أشعر فيما بعد بأنّي أحظى برفقتك؛ وهو ما جعلني أحسّ بأن الإقدام على أية مبادرة أخرى ملموسة أكثر، من شأنه أن يصبح ـ في عيني ـ مجرد إجراء مربك، وغير لائق، وتقريبا مختزل، إذا قورن بنوعية المشاعر التي أودّ أن أبلغها لك.
وإذا برسائلك القصيرة ـ منتظمة، وفي الوقت المنتظر ـ تتقاطر علي، بعدها. وبما أنها ظلت على وجه التقريب، تصلني منك في خضم الأجواء التي تكون دائما مفعمة بالصخب والقلق، اللذين يصاحبان تصوير الفيلم، فإنّ قراءتها ظلت تعطيني الانطباع بأني أصغي فيها إلى صوت حكيم ورائق وغيور علي، دائما ما ينتهي بأن يقول لي بعض الأشياء، التي كثيرا ما تسعد نفسي، ويطبع علي كذلك بعض القبل، في إطار مبادرة محبوبة جدا، يفعمها سخاء غامر… فأي هدية في الدّنيا أثمن من أن يكون للمرء صديق شبيه بصديقي سيمونون!
سأدردش معك قليلا، الآن، ومن غير أي خيط ناظم لما قد أقول. بعد التوقف الذي لحق بالفيلم الذي أنجزه، إذن، وهو التوقف الذي استغرق أكثر من شهر، تمّ استئناف التصوير منذ أسبوعين، ومع التصوير أخذت المشاكل في اعتراضي مرة أخرى، وكذلك الطوارئ والمضايقات؛ إنها إجمالا تتمة لتلك الكوكبة من الأحداث المعاكسة، التي ما زلت لا أدري إن كانت هي حصيلة للفيلم، أو أن الفيلم هو بشكل من الأشكال هدفها الخفي والبريء. فأثناء التوقف الذي اضطرتني إليه الشركة المنتجة، التي كانت متيقنة من قدرتها على الاستفادة الكبيرة من ذلك ـ وهو اليقين الذي تكشف على أنه لم يكن في النهاية، قد بني إطلاقا على أي أساس! ـ ركّبت بين جميع المشاهد التي صوّرناها، أي بين أكثر من نصف الشريط. وإذا كانت هذه العملية قد وطّنت من روعي، وطمأنتني من جهة، مثلما نطمئن دائما حين نرى تحقق العمل المضني والطويل ضمن شكل ملموس، بعد أن ظل غير محسوس أبدا ـ رغم أنه لم يكن إلا كذلك! ـ فإني رأيت من جهة أخرى، (وأنا لا أشاهد على الإطلاق، المادّة المصوّرة كل يوم، وإنما أفضل مشاهدتها كاملة عند النهاية)، تزايد شكوكي وندمي وسخطي إزاء فيلم، بصورة مدوّخة وعصابية، وهو الفيلم الذي أعتبره في قراري مجرد ورطة، حتى ولو أن ذلك صار يحدث معي الآن، بالهدوء المطلق الذي لا مفر منه.
أصوّر هذه الأيام المتواليات المسمّاة عامة: الرّؤى، ويتعلق الأمر هنا بسفر طويل، يهبط البطل أثناءه، وهو يتدحرج ويتزحلق في مزلقة دائرية، لينطمس تارة، ثمّ يطفو على السطح من جديد ، ليغور ثانية في أعماق أسطورته الفاتنة عن الأنثى، حيث يرى السيقان العريضة لروزينا الخادمة، التي كان يراقبها بنهم شديد من تحت المائدة، وهو طفل صغير؛ ويرى زوجة طبيب الأسنان المترفة، وهي تتجرّد من ملابسها قطعة فقطعة، داخل عتمة القمرية البحرية، قبل الخروج الى ضوء غشت السّاطع الذي يشيع توهجه على الشاطئ، كي تتجه رأسا صوب بحر صقيل، برفقة متجامل (مدّع للجمال!) يشبه طرزان؛ ويرى كذلك السيدة التي تعطي دروسا خصوصية في اللاتينية، وهي محتشمة جدّا، ومفعمة جدّا بروح محافظة ومندفعة للغاية؛ كما يرى المومس الأولى ذات المؤخرة البيضاوية الضخمة الحدرة، وهي ترتقي درجات السلم في أحد المواخير، لاهية وعابثة، حتى ليُشبّه لنا بأنها تكاد تقول لنا شيئا، أو أنها على وشك البوح بسر ما، فتسحرنا بذلك للأبد؛ مثلما يرى راكبات الدراجات النارية ذوات الشقرة الفاقعة، اللواتي يمارسن لعبة برج الموت، وهنّ ملفوفات في لباس جلدي أسود، يظهرن فيه متعجرفات ومتحجّرات عاطفيا؛ ويرى بائعة السّمك المتدثرة في سِرادات الصّوف، وكأنها من طائفة السّاموراي، بينما ينزّ العرق من وجهها وذراعيها ونهديها الضخمين، فيشعّ جسمها كله مثل تلك الأسماك الفضّية النابضة بالحياة، في السّلال.
أعترف لك يا عزيزي سيمونون بأني وددت لو لم أخرج أبدا من هذه الحلقة بالذات من حلقات الفيلم، لو أني بقيت وسط بوتقتها للأبد، وسط دائرتها الوهّاجة والدّافئة للأبد. ألم يسبق لك أنت أيضا، أن وجدت نفسك تعيش ـ وأنت منهمك في كتابة رواياتك ـ ضمن أجواء خاصة، وفي خضم وضعيات محددة، وبرفقة شخصيات معينة، الى حدّ لا تعود ترغب فيه هجر ذلك أبدا، ولا الانقطاع عنه؟ لكن المتوالية الأخيرة تنتظرني خلال الأسبوعين القادمين، وهي بعنوان: الحلبة. ويتعلق الأمر فيها بمدرّج فسيح، يتعيّن على مارشيللو ماستروياني أن يواجه اختبارا مخيفا وغير معلوم، بينما النساء يملأن المدرجات، ويصحن بأعلى الأصوات، ويتهدّدن، ويتوعّدن. فهل سينجح البطل؟ لا علم لأحد بذلك. ربما هذا ليس ممكنا. إذ أن المؤكّد الى الآن، هو أني لا علم لي بذلك.
يتعين على فضاء الحلبة أن يكون مفروشا بالملصقات واللوحات، التي تتضمن كتابات ضخمة وعملاقة حول مختلف الموضوعات، إضافة الى مجموعة من البورتريهات التي تتصل بأشخاص يمثلون الذكورة الأسطورية، أي أولئك الذين يمثلون صورة الفحولة الحقيقية والمكرّسة، من قبيل دون جوان، وهنري الثامن، وكازانوفا، وجياني أنييلي،،، الخ. وقد خطر ببالي كذلك، في سياق التقدير والإعجاب الصادقين اللذين أكنهما لشخصك، أن أضع تمثالا منحوتا لجورج سيمونون، يُتكتّم عليه، ويكون متفرّدا جدا عن البقية، لأحقق بذلك مثلما عرض لي ببالي، تكريما خاصا أشمل فيه شخصك الكريم بالمحبة؛ إلا أني قلت في نفسي بعدها، بأن تلك الإشارة قد تبدو من جهتي ماكرة نسبيا، ووقحة شيئا ما… أليس كذلك؟ من غير أن نأخذ في الحسبان بأن ميغري ومئات الشخصيات الأخرى، قد تأتي لتحدجني ربما، بنظرة إشفاق صماء ساخرة.
حسنا، هذا يكفي. من غير شك، أنا أزعجك بهذه الترّهات. وقد تبيّن لي بأني سُمْتك لفظاظتي، عذاب قراءة هذه الرسالة التي لا تنتهي!
أي شوق يشدّني إلى رؤيتك مرة أخرى، يا صديقي العزيز!
وكم أودّ لو سافرت الى لوزان. في كل مرة، أردد هذه الأمنية، إلا أني لست متأكدا من أني أستطيع تحقيقها في الواقع. وفي انتظار أن يتحقق ذلك، أنا أسعد بكوني أستمر في تخيل زيارة صديقي سيمونون لي في الأستوديو، وخاصة في موقع تصوير الحلبة. ولم لا؟ ربما، كي يعطيني وسط آلاف النساء، النصيحة السّديدة والقويمة بشأن النهاية.
نقبّلك جولييتا وأنا، بحرارة كبيرة، أنت وثيريز، ونقول لك الى الملتقى القريب، والقريب جدا.
المخلص
فريديريكو فيلليني


****

لوزان في: 31 أكتوبر 1979
عزيزي فيلليني،
لو لم أكن منخرطا بكيفية محمومة كالعادة، في إملاء خاتمة مؤلّفي الواحد والعشرين، من سلسلة ما أمليه، لاستهوتني دعوتك التي ضمّنتها رسالتك المؤرّخة في 15 من هذا الشهر، وجعلتني أندفع صوب السّينيسيتا، ساعيا الى الفرار من لوزان للمرة الأولى منذ ثماني سنوات، لا لأشجّعك (الشيء الذي لم تكن قط في حاجة إليه)، وإنّما لأراك وأنت تنازل عملا فنيا كبيرا، (وأنا أستعمل هنا لفظة لم تعد تستعمل في أيامنا هذه، بينما كانت تشير في القرن الماضي الى العمل المركزي المتعيّن على الفنان إنتاجه، إثر عودته من مرحلة التمهير والتمرين، التي قد تستغرق عدّة سنوات، يقضيها في الطواف حول فرنسا، أو أوروبا). إلا أنّ هذه المقارنة لا تستقيم في حالتك، أنت بالذات، لأنك أنجزت خلال مسارك الفني السابق، العديدَ من الأعمال الكبرى.
وأعتقد مع ذلك بأن الأمر يتعلق هذه المرة، بعمل قوي وحافل جدّا بالحياة، وطموح للغاية كذلك. فكلما أغمضت عيني، إلا تخيلتك على سطح سُقالة غير ثابتة، مثلما كان مايكل أنجلو تحت سقف كنيسة السكستين، أو شكسبير فوق منصّات المسارح الهشة، التي يرعد فيها المشتري، ويعلن الملك لير صخبه وعنفه، أمام جمهور متحرّك بكثافة.
أجل، كنت أرغب في معرفة الكيفية التي يتسنى بها لشخص وحيد تماما، شخص تُرك لمقدراته الذاتيّة وحسب، أن ينجز فيلما من هذا الحجم الذي تصوّرتَه بمجموع انفعالاتك ومشاعرك، دون اكتراث بمعرفة أي شيطان سيواجهك، ولا كيف ستصل الى تحقيق أهدافك وغاياتك، رغم العراقيل والعوائق جميعها.
لاشك أنك اجتزتَ اليوم، بالنّظر الى ما حدثتني عنه، فخّ المزلقة الدائريّة، اللّهم إلا إذا دخل بطلك، بعد الهبوط على شاطئ بحر هادئ ومتلألئ، الحلبة التي تحيط بها مئات النساء، اللواتي عليه منازلتهن.
ولأنّي أعتقد بأني أعرفك حقّ المعرفة، فأنا على يقين تام بأنّ هذا العمل الذي أنجزته، سيكون بلا زيادة أو نقصان، انعطافة كبرى وفارقة في تاريخ السينما، وتاريخ الفنّ عامة. لا، أنا لم أكن لأشعر بالاهانة ولا بالنكد، لو اعتمدتَ تمثالي شاهدا على ذلك الاحتداد والهياج اللذين حدثتني عنهما، لكني أعتقد بأني لن أكون جديرا بذلك، ولا كان ميغري سيشعر بالغيرة.
لقد ظلّ الإنسان يسعى منذ الأزل إلى الإمساك بصورة المرأة، إلا أن أي عمل من الأعمال الملحمية لم يستطع القبض على صورة كافة النساء، ولا استطاع الإحاطة بمختلف الاستيهامات المتصلة بالجنس والتخييل.
أنا لا أدنو عبر هذه الرسالة، من سقالتك الهشة إلا على رؤوس الأصابع، لأني لا أرغب بأي شكل من الأشكال في إزعاجك، ولا في قطع شريط حدسك الفني، واندماجك الكلي والكامل في العمل، حتى ولو لدقيقة واحدة.
ولا تنس، حين تنتهي من تصوير مشهدك الأخير من الفيلم، أن تبعث لي بتلغراف يتضمن كلمة واحدة فقط، هي: «النهاية». لأتيقن حينها، بأنك ربحت الرهان الذي تحديت فيه نفسك والآخرين؛ وإن أعلم مسبقا بأنك ستربح ذلك مرة أخرى، كدأبك وديدنك في جميع المرّات.
بالتأكيد، سنحتفل بهذا، ههنا، حين ستأتي. إلا أن صداقتك المستأمنة هي في حدّ ذاتها احتفال؛ لذا، سأبقى في الانتظار المشفوع بالصّبر، وأنا أحسّ بك قريبا جدا، كما هو الأمر دائما، لأقاسمك عن بعد كل ما تشعر به من اضطرام روحيّ مربك.
وتقبّل عزيزي فيلليني، أنت وجولييتا، فائق مشاعر المحبة والتقدير.
جورج سيمونون


***

روما في: 29 دجنبر 1979
صديقي الأغلى والأعزّ،
في رسالتك الأخيرة طلبتَ منّي أن أبعث لك ببرقية مختصرة، أعلن فيها عن نهاية تصوير الفيلم الجديد، متى ما حصل ذلك. وقد أقسمت في قرار نفسي بأن لا أخيّب رجاءك، وبأن أبعث إليك فعلا بتلك البرقية؛ لكنّي شعرت فيما بعد بأني قد أبدو بكيفية ما مضحكا، إنْ أنا أقدمتُ على إعلان نهاية التصوير بتلك الكلمات التلغرافية المختزلة، مثلما يفعل جنرال في الجيش، حين يعلن لرئيس الجمهورية عن نهاية حالة النزاع على الجبهة. ومنذ أن اقتنعت بعبثية هذا، غالبا ما صرت أؤجّل إخبارك بما تحقق عن طريق رسالة قصيرة، لم يحنْ أوان كتابتها إلا الآن، وحسب!
أجل، العمل السينمائي انتهى، وبنوع من الانضباط الدقيق في المواعيد، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التوقعات التي كانت منتظرة. انتهيت منه في منتصف شهر نوفمبر، لأشرع للتوّ في الدّبلجة، بحكم أني قمت سلفا، بجزء لا يستهان به من التوضيب والمونتاج، إبان الفترة التي توقف فيها التصوير، بفعل ذلك الحادث

الترجمة: أحمد الويزي






مجلة نزوى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...