المدينة الجاحدةُ تربض غيرَ بعيد. وحدَها الكلابُ سيّدةُ المكان والزّمان. لا صوتَ يعلو على صوتِ قَنوعَ بنِ يَنوعَ، سليلِ القَنوعِ الأكبر. البشرُ هنا؟ آوَوا إلى أكواخهم مُبْكرِين، استكانوا إلى جدرانِ أمكنتِهم، وَفِي القلوبِ حسراتٌ على أفُق غيرِ مُبشِّر. وحدَنا في غرفة باردة لم يُنعش جسدَينا فيها غيرُ قنّينة ماء حياة تدبّرنا أمرها في آخر لحظة وسجاير ابتعناها بالتقسيط، نتقاسم الواحدةَ منها بعد كلّ كأس.
فجأةً، انطلق صوتُ زيّاد صادحاً بقصيدته، التي لا تُشبهُ قصائدَ، قصّتِه التي لا تُشبهُها قصص:
"مِن أجْلكِ يا فخيتَتِي"..
واشْ عْقلتِ يا فَخيتةٌ
يومَ حصّلَني أبوكِ
أكتُبُ نمْرةَ التّلِفونِ في خُرصةِ البابِ
فشبّعَني سَبّـاً، فضرَبَني
وقبّسَني..
وَمَا أوعَـرَ تقبيسَةَ الگرّابِ!..
مِن أجلكِ يا فخيتةُ أستأنسُ بنُباحِ الكِلابِ (...)
-واقيلا هوما هـادو اللـّي سْمعناهم تَينْبحُو دابَـا..
قلتُ، والدّموعُ تنزل مِدراراً على خدّينِ ضاحكَيْن. علتِ الضّحكات وصار مُستحيلاً عليّ التحكّم في "العْدسة". مِن فَرْط الضّحك، في هدوء المكان بعيداً عن المدينةِ، الحافية العارية، الـْتَنامُ في حضن البرّاني فرِحةً فرْحةَ صيّاد مُحترفٍ بغنيمة، فاتَني أن أوثّق -بالصوت والصورة- القصيدة التي لا تُشبهُ قصصاً ولا قصائدَ. "قُلْ قصيدتَك وامْضِ". قلتُ لي /له وقد بدأ الصّمتُ يُحْكم قبضتَه على الجدران الأربعة. (شرَع زيّاد في ترتيلِ حكايته "فَخيتَة" بالضّبط في الوقتِ الذي انخرطتُ في تسويدِ هذه الصّفحات بدون أيّ اتفاق مُسبَق)... حيواناتٌ أخرى قد يُسمَع لها صوتٌ في ليلِ المكان البهيم؛ هذا الفأرُ الحقير، مثلا! يأبى إلا أنْ ينطّ، كلَّ حين، في كلّ اتجاه. دعْنِي، أيّها الحقير، أنتشِ بهذه اللحظة الهُلامية من هذه التجربة الغرائبية التي لا تتكرّر كل يوم. اصمُتي، أيّتها الكلابُ اللّعينة، أيّها الجرذُ الحقير، دَعِي قاطنِي الأكواخ يقولون. ليس لديهم ما يقولون؟ قد آوَوا مُبكِرين؟ حسَنٌ، لكنْ متى يقولون؟!..
المدينة الجاحدةُ تربض غيرَ بعيد. وحدَها الكلابُ هنا الآن، سيّدةُ المكان والزّمان. نباحٌ من كلّ الاتجاهات ودون أيّ سبب. البشر هنا؟ آوَوا إلى أكواخهم مُبْكرِين. لا جديدَ في هذه الأرض، أرضِ هذه المدينة، الخادعة الـْبيعتْ للبرّاني وتنام فرِحةً فرْحةَ صيّاد مُحترف بغنيمة!.. وحدَه صوتُ قَنوعَ بنِ يَنوعَ. صوتٌ آخَرُ /أصواتٌ لنباح قنوعٍ هنا وقنُوعةٍ هناك. ربّما هي "صَارُوفة" في مكانٍ واحد؛ وحدَها الكلابُ، هنا الآن، سيّدةُ المكان والزّمان. أصواتٌ أخرى غيرُ أصواتِ الفأر الحقير صارت تُسمَع في الأرجاء (قد تكون أصواتاً غيرَ موجودة إلا في دماغي، فلا تُصدّقوا كلّ ما تسمعون، تقرؤون!)..
-زِيّادْ، زِيّادْ، سْمع، نُوضْ أصاحْبي! زِيّادْ.. أخّا هادشّي راه بْزّاف عْلى فارْ..
-واهْ؟ أش سْمعتِ، أش سْمعتِ؟
قال، وهو يرفع الأغطية الثقيلة عن رأسه ويطلّ عليّ بوجهه المحمَرّ من تأثير المشروب المرّ.
-أخُويا بْحال إلى بْنادم مْعانا فالدّارْ!..
في الغرفة، الواسعة بمكا يكفي اثنين أو ثلاثة، مائدةٌ وقارورة منكفئة وكأسان وحبّاتُ موز وليمون. قبل لحظات فقط، كان معهما. دخّنَ سيجارة لم يحلم بها في يومِه المنحوس وابتلع إصبعَي موز وليمونة وهو يطوف بعينيه البوميتَيْن في الغرفة وفوق الطاولة وفي محيطها. "هندَز" كلّ زوايا الغرفة وما فوق الطاولة وراح يضع خطة الليلة لزيارتنا في شخصية أخرى. إلى جانب أصوات الكلاب وصوتِ الفأر الحقير، أصواتُ قدمَيه، الشّيطانيتيْن، تتربّصان فوق السّطح لنومةٍ مُبكّرة كي "يشفط" فيها الجيوبَ والطاولة وَمَا جاوَر. أصواتُ قدميه، الحقيرتين، وأصواتُ الكلاب اللعينة وصوت الفأر التّافه سيّدةُ المكان والزّمان. وْالحاضي اللهْ؛ زياد عادَ إلى تْكرشيختِه ليشرع، بعد لحظات فقط، في عزف سمفونيته، التي تُسمَع من بداية الشّعبة البعيدة. القارورةُ مُنكفئةٌ وفارغة. أصواتُ الملاعينِ فقط تُسمَع في محيط المدينة اللّعينة، النّائمة في وداعةِ مَن لمْ تبعْ نفسَها للبرّاني! أصواتُ قنوعَ بنِ ينوعَ وفصيلتِهما وصوتُ الجرذ الجائع الكريه، ينطّ في كل مكان وحين. لا تستطيع أن تُحدّد مكانه؛ لا تعرف إنْ كان واحداً أو مجموعة.
أتفادى إشعال النور حتى لا أزعج صديقي الغاطّ في سُباته. ضوءُ التلفون بالكاد يُنيرُ دائرة صغيرة في اتجاه باب الغرفة. الغرفةُ تسَع اثنينِ أو ثلاثة، فلمَ لا يعود هذا المتربّص بنا ويمضي ليلتَه معنا؟! صوتُ قدَميه، الحقيرتَين، يتواطأ مع أصواتِ الكلاب والجرذان، اللعينة والحقيرة تِباعاً. من فوق سقفِ البناية الصّغيرة يتربّص بلحظةِ سهو لينقضّ على الغنيمة؛ إصبع موز أو إصبعين، عُلبتَي ياغورتْ وسكاكر وبعض الدراهم في جيوب إن استطاع إليها سبيلا وهاتف شارد قرب وسادة أو مهمَلا في مكان ما. قد يخطف، أيضاً، الخبزات التي أحضر زياد من أجل الطاجين الذي لم نطبخ.. في آخر لحظة، قرّرنا، قبل أن نركب العربة المهترئة في اتجاه تاسلطانتْ، أن نتناول أكلة خفيفةً، بدل انتظار أن يُطبَخ الطاجين. أخّرَنا ذلك عن ركوب العربة المتهالكة أكثرَ مما خططنا. تأجّلَ إعداد الطاجين إلى غداء اليوم الموالي، إذن
أصواتُ قدمَي الشرّير المُتربّصة أزعجتْني. وددتُ لو خلَتْ من حُضورِه حكايةُ الليلةَ. هذا اللعينِ فوق البيت الصغير، ذي الغرفة التي تتّسع لأكثرَ من اثنين. هذا القردُ المُثير للشّفقة، الذي كان -قبل دقائقَ قليلة فقط- يتناول، في دعةِ النّسانيس البائسة، إصبعَي الموز ويكرع الموناضةَ ويسرط البيمُوات، يُفضّل الآن أن يتربّص بنا كغنيمتين محتمَلتين. هذا القرد الذي ابتلع، قبل قليلٍ فقط، موزَنا وليموننا وسفّ سجايرنا، يريد الآن أن يهجم علينا، في غفلة منا، ويسلب أشياءنا ويُصادرَ لحظاتِ المرَح، التي اجتزأناها قسراً من عبوس هذه الحياة، ويُغيّرَ سيناريو الحكاية. أحتقر الأصوات التي تُسمَع في سماءِ أرجاء المدينة اللّعينة والخُطط التي تُرسَم في ليل.
الجرذ اللّعين تجرّأ أكثر. اصطدم بالمكنسة المستندة إلى الدولاب الخشبيّ العتيق وكاد يُسقطها لولا أنّ حاشيتَه تصدّتْ لها. لو كانت المكنسة وقعتْ أرضاً، كما أراد الفأرُ الملعون، لأيقنتُ أنّ الثالثَ، الذي تسعه الغرفة لكنه فضّل التربص بنا بعد أن ادّعى لنا أنه ذاهب للنوم في بيته القريب، قد دخلها في غفلةٍ منّا. تمكّنتُ، مُستعيناً بضوء الهاتف، من رؤية ما وقع، لكنْ دون رؤيةِ المُتسبب؛ عرفتُ أنه ذلك الجرذ النّجِس. بعد لحظات، سُمِعت، من جديد، أصواتُ ذلك القرد فوق سقفِ البيت الخلفي. لَم يكنْ، إذن، جليسُنا مَن اتّخذ هيأةَ شخصيةٍ أخرى وقد وضع خُطة للهجوم علينا بعد أن تستبدّ بنا نومةٌ ثقيلة عقِب السهرة الطويلة. ليس غيرَ ذلك الفأرِ الحقير. تصيرُ أصوات قوائمِه الضّئيلة، الجائعة، المُتربّصة بما يفضُل مِن موائدَ لا تُبسَط كلّ يوم في البيت الخلفي غيرِ المأهول، أشبهَ بتحرّكات إنسان. يا لَهذا الجرذ البئيس مِن نعلي، الجرذ، ابنِ الجرذ اللعين! (في دماغي كانت قد انتفتِ الفروقُ بين البشَرِ والحشَر والحيوان).
دقائق بعد ذلك، كانتِ "العْدسةُ"، حيثُ خُطّت أولى كلماتِ الحكاية، مُلقاةً بإهمالٍ فوق جسم مدفون تحت أغطية بلا لونٍ، في الزاوية القريبة، في مكانٍ ما، بعيداً عن المدينةِ، النّائمةِ في وداعةِ مَن لمْ يستبحْ جسدَها البْرّاني. في إحدى صفحاتِ "Notes" مكتوبٌ: (وحدَها الكلابُ، هنا الآن، سيّدةُ المكان والزّمان. لا صوتَ يعلو على صوتِ قَنوعَ بنِ يَنوعَ، سليلِ القَنوعِ الأكبر. البشرُ هنا؟ آوَوا إلى أكواخهم مُبْكرِين، استكانوا إلى جدرانِ أقفاصهم، وَفِي القلوبِ حسراتٌ على أفق غيرِ مُبشِّر)...
في مكانٍ ما مِن ذاكرةِ الجهاز (الذي حرصتُ على أن أوصله بالتيار كي يُشحَن بما يكفي لتأريخ حكاية /حكايا اليوم الموالي المحتمَلة) كانت كلماتُ نديمي مدوَّنةً كما سمعتُها منه قبل ساعات:
واشْ عْقلتِ يا فَخيتةٌ
يومَ حصّلَني أبوكِ أكتُبُ..
نمْرةَ التّلِفونِ في خُرصةِ البابِ
فشبّعَني سَبّـاً، فضرَبَني
وقبّسَني..
وَمَا أوعَـرَ تقبيسَةَ الگرّابِ!..
مِن أجلكِ يا فخيتةُ أستأنسُ بنُباحِ الكِلابِ (...)
فجأةً، انطلق صوتُ زيّاد صادحاً بقصيدته، التي لا تُشبهُ قصائدَ، قصّتِه التي لا تُشبهُها قصص:
"مِن أجْلكِ يا فخيتَتِي"..
واشْ عْقلتِ يا فَخيتةٌ
يومَ حصّلَني أبوكِ
أكتُبُ نمْرةَ التّلِفونِ في خُرصةِ البابِ
فشبّعَني سَبّـاً، فضرَبَني
وقبّسَني..
وَمَا أوعَـرَ تقبيسَةَ الگرّابِ!..
مِن أجلكِ يا فخيتةُ أستأنسُ بنُباحِ الكِلابِ (...)
-واقيلا هوما هـادو اللـّي سْمعناهم تَينْبحُو دابَـا..
قلتُ، والدّموعُ تنزل مِدراراً على خدّينِ ضاحكَيْن. علتِ الضّحكات وصار مُستحيلاً عليّ التحكّم في "العْدسة". مِن فَرْط الضّحك، في هدوء المكان بعيداً عن المدينةِ، الحافية العارية، الـْتَنامُ في حضن البرّاني فرِحةً فرْحةَ صيّاد مُحترفٍ بغنيمة، فاتَني أن أوثّق -بالصوت والصورة- القصيدة التي لا تُشبهُ قصصاً ولا قصائدَ. "قُلْ قصيدتَك وامْضِ". قلتُ لي /له وقد بدأ الصّمتُ يُحْكم قبضتَه على الجدران الأربعة. (شرَع زيّاد في ترتيلِ حكايته "فَخيتَة" بالضّبط في الوقتِ الذي انخرطتُ في تسويدِ هذه الصّفحات بدون أيّ اتفاق مُسبَق)... حيواناتٌ أخرى قد يُسمَع لها صوتٌ في ليلِ المكان البهيم؛ هذا الفأرُ الحقير، مثلا! يأبى إلا أنْ ينطّ، كلَّ حين، في كلّ اتجاه. دعْنِي، أيّها الحقير، أنتشِ بهذه اللحظة الهُلامية من هذه التجربة الغرائبية التي لا تتكرّر كل يوم. اصمُتي، أيّتها الكلابُ اللّعينة، أيّها الجرذُ الحقير، دَعِي قاطنِي الأكواخ يقولون. ليس لديهم ما يقولون؟ قد آوَوا مُبكِرين؟ حسَنٌ، لكنْ متى يقولون؟!..
المدينة الجاحدةُ تربض غيرَ بعيد. وحدَها الكلابُ هنا الآن، سيّدةُ المكان والزّمان. نباحٌ من كلّ الاتجاهات ودون أيّ سبب. البشر هنا؟ آوَوا إلى أكواخهم مُبْكرِين. لا جديدَ في هذه الأرض، أرضِ هذه المدينة، الخادعة الـْبيعتْ للبرّاني وتنام فرِحةً فرْحةَ صيّاد مُحترف بغنيمة!.. وحدَه صوتُ قَنوعَ بنِ يَنوعَ. صوتٌ آخَرُ /أصواتٌ لنباح قنوعٍ هنا وقنُوعةٍ هناك. ربّما هي "صَارُوفة" في مكانٍ واحد؛ وحدَها الكلابُ، هنا الآن، سيّدةُ المكان والزّمان. أصواتٌ أخرى غيرُ أصواتِ الفأر الحقير صارت تُسمَع في الأرجاء (قد تكون أصواتاً غيرَ موجودة إلا في دماغي، فلا تُصدّقوا كلّ ما تسمعون، تقرؤون!)..
-زِيّادْ، زِيّادْ، سْمع، نُوضْ أصاحْبي! زِيّادْ.. أخّا هادشّي راه بْزّاف عْلى فارْ..
-واهْ؟ أش سْمعتِ، أش سْمعتِ؟
قال، وهو يرفع الأغطية الثقيلة عن رأسه ويطلّ عليّ بوجهه المحمَرّ من تأثير المشروب المرّ.
-أخُويا بْحال إلى بْنادم مْعانا فالدّارْ!..
في الغرفة، الواسعة بمكا يكفي اثنين أو ثلاثة، مائدةٌ وقارورة منكفئة وكأسان وحبّاتُ موز وليمون. قبل لحظات فقط، كان معهما. دخّنَ سيجارة لم يحلم بها في يومِه المنحوس وابتلع إصبعَي موز وليمونة وهو يطوف بعينيه البوميتَيْن في الغرفة وفوق الطاولة وفي محيطها. "هندَز" كلّ زوايا الغرفة وما فوق الطاولة وراح يضع خطة الليلة لزيارتنا في شخصية أخرى. إلى جانب أصوات الكلاب وصوتِ الفأر الحقير، أصواتُ قدمَيه، الشّيطانيتيْن، تتربّصان فوق السّطح لنومةٍ مُبكّرة كي "يشفط" فيها الجيوبَ والطاولة وَمَا جاوَر. أصواتُ قدميه، الحقيرتين، وأصواتُ الكلاب اللعينة وصوت الفأر التّافه سيّدةُ المكان والزّمان. وْالحاضي اللهْ؛ زياد عادَ إلى تْكرشيختِه ليشرع، بعد لحظات فقط، في عزف سمفونيته، التي تُسمَع من بداية الشّعبة البعيدة. القارورةُ مُنكفئةٌ وفارغة. أصواتُ الملاعينِ فقط تُسمَع في محيط المدينة اللّعينة، النّائمة في وداعةِ مَن لمْ تبعْ نفسَها للبرّاني! أصواتُ قنوعَ بنِ ينوعَ وفصيلتِهما وصوتُ الجرذ الجائع الكريه، ينطّ في كل مكان وحين. لا تستطيع أن تُحدّد مكانه؛ لا تعرف إنْ كان واحداً أو مجموعة.
أتفادى إشعال النور حتى لا أزعج صديقي الغاطّ في سُباته. ضوءُ التلفون بالكاد يُنيرُ دائرة صغيرة في اتجاه باب الغرفة. الغرفةُ تسَع اثنينِ أو ثلاثة، فلمَ لا يعود هذا المتربّص بنا ويمضي ليلتَه معنا؟! صوتُ قدَميه، الحقيرتَين، يتواطأ مع أصواتِ الكلاب والجرذان، اللعينة والحقيرة تِباعاً. من فوق سقفِ البناية الصّغيرة يتربّص بلحظةِ سهو لينقضّ على الغنيمة؛ إصبع موز أو إصبعين، عُلبتَي ياغورتْ وسكاكر وبعض الدراهم في جيوب إن استطاع إليها سبيلا وهاتف شارد قرب وسادة أو مهمَلا في مكان ما. قد يخطف، أيضاً، الخبزات التي أحضر زياد من أجل الطاجين الذي لم نطبخ.. في آخر لحظة، قرّرنا، قبل أن نركب العربة المهترئة في اتجاه تاسلطانتْ، أن نتناول أكلة خفيفةً، بدل انتظار أن يُطبَخ الطاجين. أخّرَنا ذلك عن ركوب العربة المتهالكة أكثرَ مما خططنا. تأجّلَ إعداد الطاجين إلى غداء اليوم الموالي، إذن
أصواتُ قدمَي الشرّير المُتربّصة أزعجتْني. وددتُ لو خلَتْ من حُضورِه حكايةُ الليلةَ. هذا اللعينِ فوق البيت الصغير، ذي الغرفة التي تتّسع لأكثرَ من اثنين. هذا القردُ المُثير للشّفقة، الذي كان -قبل دقائقَ قليلة فقط- يتناول، في دعةِ النّسانيس البائسة، إصبعَي الموز ويكرع الموناضةَ ويسرط البيمُوات، يُفضّل الآن أن يتربّص بنا كغنيمتين محتمَلتين. هذا القرد الذي ابتلع، قبل قليلٍ فقط، موزَنا وليموننا وسفّ سجايرنا، يريد الآن أن يهجم علينا، في غفلة منا، ويسلب أشياءنا ويُصادرَ لحظاتِ المرَح، التي اجتزأناها قسراً من عبوس هذه الحياة، ويُغيّرَ سيناريو الحكاية. أحتقر الأصوات التي تُسمَع في سماءِ أرجاء المدينة اللّعينة والخُطط التي تُرسَم في ليل.
الجرذ اللّعين تجرّأ أكثر. اصطدم بالمكنسة المستندة إلى الدولاب الخشبيّ العتيق وكاد يُسقطها لولا أنّ حاشيتَه تصدّتْ لها. لو كانت المكنسة وقعتْ أرضاً، كما أراد الفأرُ الملعون، لأيقنتُ أنّ الثالثَ، الذي تسعه الغرفة لكنه فضّل التربص بنا بعد أن ادّعى لنا أنه ذاهب للنوم في بيته القريب، قد دخلها في غفلةٍ منّا. تمكّنتُ، مُستعيناً بضوء الهاتف، من رؤية ما وقع، لكنْ دون رؤيةِ المُتسبب؛ عرفتُ أنه ذلك الجرذ النّجِس. بعد لحظات، سُمِعت، من جديد، أصواتُ ذلك القرد فوق سقفِ البيت الخلفي. لَم يكنْ، إذن، جليسُنا مَن اتّخذ هيأةَ شخصيةٍ أخرى وقد وضع خُطة للهجوم علينا بعد أن تستبدّ بنا نومةٌ ثقيلة عقِب السهرة الطويلة. ليس غيرَ ذلك الفأرِ الحقير. تصيرُ أصوات قوائمِه الضّئيلة، الجائعة، المُتربّصة بما يفضُل مِن موائدَ لا تُبسَط كلّ يوم في البيت الخلفي غيرِ المأهول، أشبهَ بتحرّكات إنسان. يا لَهذا الجرذ البئيس مِن نعلي، الجرذ، ابنِ الجرذ اللعين! (في دماغي كانت قد انتفتِ الفروقُ بين البشَرِ والحشَر والحيوان).
دقائق بعد ذلك، كانتِ "العْدسةُ"، حيثُ خُطّت أولى كلماتِ الحكاية، مُلقاةً بإهمالٍ فوق جسم مدفون تحت أغطية بلا لونٍ، في الزاوية القريبة، في مكانٍ ما، بعيداً عن المدينةِ، النّائمةِ في وداعةِ مَن لمْ يستبحْ جسدَها البْرّاني. في إحدى صفحاتِ "Notes" مكتوبٌ: (وحدَها الكلابُ، هنا الآن، سيّدةُ المكان والزّمان. لا صوتَ يعلو على صوتِ قَنوعَ بنِ يَنوعَ، سليلِ القَنوعِ الأكبر. البشرُ هنا؟ آوَوا إلى أكواخهم مُبْكرِين، استكانوا إلى جدرانِ أقفاصهم، وَفِي القلوبِ حسراتٌ على أفق غيرِ مُبشِّر)...
في مكانٍ ما مِن ذاكرةِ الجهاز (الذي حرصتُ على أن أوصله بالتيار كي يُشحَن بما يكفي لتأريخ حكاية /حكايا اليوم الموالي المحتمَلة) كانت كلماتُ نديمي مدوَّنةً كما سمعتُها منه قبل ساعات:
واشْ عْقلتِ يا فَخيتةٌ
يومَ حصّلَني أبوكِ أكتُبُ..
نمْرةَ التّلِفونِ في خُرصةِ البابِ
فشبّعَني سَبّـاً، فضرَبَني
وقبّسَني..
وَمَا أوعَـرَ تقبيسَةَ الگرّابِ!..
مِن أجلكِ يا فخيتةُ أستأنسُ بنُباحِ الكِلابِ (...)