لعل السبب الأبرز الذي جعلني أختار هذا العنوان ، مثلما دفعني منذ سنوات لقراءة كتابات " نوال السعداوي " ، انها تتسم بقدرة فائقة على اثارة النقاش حولها ، وأيضا غزارة انتاجها ، وتنوعه .. فهي مثل الفرنسية سيمون دي بوفوار في بعض الاحيان ، بيد أن دي بوفوار وجدت نفسها في مناخ فكري اكثر تسامحا ، في الوقت الذي وجدت نوال السعداوي نفسها في بيئة طاردة للمختلف ، لكن مثلما قلبت كتب المفكرة الفرنسية الافكار المتداولة عن النساء .. كانت نوال السعداوي تحاول الكشف عن الازدواجية الاخلاقية التي تعاني منها المجتمعات العربية ، وكانت هذه هي نقطة البداية ، كتاب بعنوان " المرأة والجنس " صدر عام 1972 وفيه حاولت أن تمزج تجربتها الشخصية بقصص جمعتها من نساء آخريات عرفتهم ، وكذلك بدراسات واسعة في علم الاجتماع والسيكولوجيا ، وسيقابل الكتاب بصدمة ، فهذه السيدة المتحررة الفكر ، اصبحت شخصية مثيرة للقلق باحاديثها المفتوحة عن الحرية والجنس ، فحتى بعض المقربين منها انقلبوا عليها . احد اكبر ردود الفعل جاءت من المؤسسات الدينية الذي اتهمتها بانها تخوض في موضوع " محرم " وستتم مصادرة الطبعة الاولى من الكتاب ، ويصدر قرارا بفصلها من وظيفتها كطبيبة . تكشف نوال السعداوي سبب الغضب من الكتاب لأنه يشير إلى ازدواجية المقاييس الاخلاقية في مجتمعنا :" أن المقاييس الاخلاقية التي يضعها المجتمع لابد أن تسري على جميع أفراده بصرف النظر عن الجنس او اللون او الطبقة الاجتماعية ، فإذا كان المجتمع يؤمن بالعفة في الجنس كقيمة اخلاقية فلابد أن تسري هذه القيمة على جميع افراده ، اما أن تسري على جنس دون الجنس آخر او على طبقة دون الطبقة الاخرى ، فهذا يدل على أن العفة ليست قيمة اخلاقية وإنما هي قانون فرضه النظام الاجتماعي القائم " . لكن إذا كنت المؤسسات الدينة والسياسية ومعهما الرجال قد استقبلوا كتاب نوال السعداوي بغضب وانزعاج ، فالنساء اللواتي قرأنه اخذن يفكرن في حياتهن بطريقة جديدة .. بعد اشهر من مصادرة الكتاب تصدر طبعة جديدة له في بيروت ستنفذ من المكتبات خلال اسابيع . كان مبدأ السعداوي أن المجتمع ينشيء النساء ضعيفات بحاجة دائمة إلى حماية الرجل ، فالمرأة في بلاد العرب رغم انها حصلت على حق التصويت في الانتخابات ، والعمل والتعليم ، لكن هذه المرأة لم تتمكن من ان تكون مسؤولة عن قرارها .مسؤولية كاملة .ولهذا فان نوال السعداوي مثل سيمون دي بوفوار تجد ان الفروقات بين الرجال والنساء لا تزال فروقات وجودية ، على حد تعبير صاحبة " الجنس الاخر " . كانت سيمون دي بوفوار قد اشرت الى ان التباعد بين خبرات النساء اليومية ووجودهن في العالم ، وبين خبرات الرجال ووجودهم ادى الى اعتبار حصول النساء على القليل تطورا ..في مذكرات نول السعداوي التي اسمتها " اوراق .. حياتي " تنبهنا ان معركة المرأة تبدا منذ الولادة ، فيما يقال للولد كن شجاعا وجسورا ، يطلب من البنت ان تكون ضعيفة وان لا تفارق الدموع عينيها ، ونجد ان المجتمع يفرض على البنت أن تتعلم السلوك في الحياة بطريقة محتشمة ، اما الولد فيتعلم كيف يغتنم الاشياء ، تقول سيمون دي بوفوار ان الولد يسمح له ان يستولي على العالم المادي ويشق طريقه فيه ، تلبس الفتاة فساتين ملونة ، ولا تتجاسر على الجري خشية اتساخها .. وتتعلم البنت ، بطرق بسيطة ، التردد عند فعل اي شيء خشية الاضرار بشخصيتها الرقيقة وهم ما تسميه بوفوار " تفكر البنت في نفسها بوصفها موضوعة في مكان ، بدلا من ان تحدد المكان من حولها او تشيده لنفسها ..في كتابها " المرأة والجنس " تثبت نوال السعداوي استنادا الى ابحاث في علم الجينات . ان السلبية والضعف المنسوبين اجتماعيا للمراة ليس لهما اي اساس علمي :" أن التكوين الجسمي للمرأة يعطيها فرصا اكبر من الرجل من حيث المتانة والايجابية في الحياة " ولهذا نرى السعداوي تكتشف أن فكرة سيادة الرجل على المرأة لأنه الجنس الأقوى ليست إلا من صنع المجتمع ، وأن هذا التفوق المزعوم للرجال على النساء ليس إلا " دعابة ذكورية " .ونجدها تذهب الى ابعاد اخرى لترينا كيف أن نظرة المجتمع للمرأة تعرضها الى هزات كبيرة ، لتصبح اكثر عجزاً عن التحرر من السلبية :" حينما تولد البنت ، وبالرغم انها لا تستطيع النطق والتعبير عن نفسها ، إلا انها تستطيع أن تدرك من النظرات من حولها انها ليست مثل اخيها الولد . ومنذ أن تبدأ الطفلة تحبو أو تمشي ، تتربى على الحذر والخوف " . كانت سيمون دي بوفوار قد كتبت في مؤلفها الشهير " الجنس الآخر " أن كل العوامل تتآمر على منع المرأة من انشاء قوة نافذة لها ، وفعالية ، في العالم الاوسع ، فلا يكون العالم عند المراة " مجموعة ادوات " ، بل " يهيمن مصير نافذ الحكم باهواء غامضة " . وترى نوال السعداوي أن كل عامل من العوامل المحيطة بموقف المرأة يتآمر على تحجيمها في صندوق حتى تكون متوسطة القدرة لا لأنها ادنى بالفطرة ، بل لتعليمها ان تصير ذات نظرة داخلية سلبية . ان تصير مفتقرة الى الثقة في نفسها متحمسة لارضاء الغير .
من بين السمات الاكثر ثباتا وبروزا في عالم " نوال السعداوي " الحضور الطاغي للكتابة الذي تعتبره سلاحا فعالاً في الصراع من اجل تأسيس العدالة في اطار نظام يستقي شرعيته من السلطة الاستبدادية التي يمارسها الحاكم في الدولة ، او تلك التي يمارسها الاب او الزوج في الاسرة . والسمة الثانية عند سعداوي هي الكلمة المكتوبة التي اضحت بالنسبة لها عملا من اعمال التمرد على الظلم الذي يمارس باسم الدين او الاخلاق ، ولهذا نجد السعداوي تكرس كتاباتها لتقصي العلاقة بين مصادر القهر الواقع على النساء ، وبين سلطة الاستبداد التي تكرس مفاهيم خاصة بها ، وفي احدى مقالاتها التي جمعتها في كتاب بعنوان " معركة جديدة في قضية المراة " تؤكد أن المجتمع " الذكوري " ينظر الى النساء باعبارهن الشيطان الذي يتحمل المسؤولية الكاملة عن الشرور ، ولهذا تصبح اجسادهن من الفواحش التي يجدر اختفاؤها . فيما يخلق الرجال ربطا بين النساء والشيطان ، يبنون عليه اضطهادهم ، وعكس ما يشاع عن نوال السعداوي فهي لا تشن هجوما على الدين ، ولكن على استخدام الدين في خدمة اغلراض استبدادية واقتصادية .
تروي نوال السعداوي في الجزء الاول من سيرتها الذاتية " اوراق .. حياتي " عن كيفية تحول الدين الى امر كريه بالنسبة لها ، فقد كان معلموا مادة الدين في المدرسة الثانوية يتعمدون جعل الدين صعبا ومنغلقا على الفهم .، كما كانوا يكثرون من التهديد بنار جهنم والترغيب بجنة الفردوس . وعلى الرغم من ان السعداوي مرت بفترة تَّدين في مرحلة من دراستها الثانوية ، فانها لم تتوان عن نقد التشويه الذي ادخله الفقهاء على أوجه عديدة من الاسلام . وترى نوال السعداوي أن كثير من الفقهاء يربطون بين حواء وفكرة الشر التي يجدونها متأصلة في النساء ، وفي روايتها " براءة ابليس " الصادرة عام 1994 نجد الشيخ بسيوني يخبر " جنات " انه يرى في عينيها شبق حواء ، بينما آخرون كانوا يرون فيهما حزنا دفينا يعود لزمن ارتكاب حواء الخطيئة . ترفض نوال السعداوي الاسلام الراديكالي ، وترى انه دين اقلية صغيرة ذات صوت مسموع تتنبنى سياسات العنف لانها لم تجد وسيلة اخرى للانتعاش ، ولعل الدين الذي تتوسل به نوال السعداوي هو الذي يلعب دورا اساسيا في الدفاع عن الانسان ، وهو في نفس الوقت النسق الايماني الذي يعتنقه الفرد والذي ينبذ العنف في تعامله مع الصراعات الداخلية والخارجية ، وهي تكتب في سيرتها الذاتية قائلة :" لقد تربيت على الإيمان بالمبادئ الاساسية للاسلام ، كان الاسلام يعني لي دائما الإيمان بالله ، وروح العدل ، والحرية ، والحب " .، ووفقا لتحليل نوال السعداوي ، فقد اصبحت النساء ضحايا قوانين وعادات ظالمة فرضتها استراتيجيات ذكورية " جردتهن من القوة والتاثير باسم الدين " .: تقول في مذكراتها :" كانت جدتي امرأة غير متعلمة ، لم تقرأ القرأن قط ، وكانت مؤمنة، اخبرتني ان الإله هو العدل ، واعتاد والدي على ترديد ما قالته جدتي ، ولكن بكلمات اخرى : أن الله هو ضميرنا الذي يخبرنا اننا ارتكبنا خطأ حين لا ندافع عن العدل ، ياتينا صوت الله من اعماقنا وليس من مأنة المسجد . هذا هو الدين الحقيقي ، الدين الصحيح للبشر الذين يجب أن يؤمنوا بالعدل وبان الإله بالنسبة لهم هو العدل ..بالنسبة لي هو القوة الجماعية للبشر .. مفهومي عن الدين مختلف جدا .. مفهومي عن الإله انه في داخلنا ، واذا كان الإله خارجيا ، فهو القوة الجماعية لمنظومة البشر ، واذا كان داخليا ، فهو قوتي الابداعية " . وتحث نوال السعداوي النساء على استعادة الاسلام عبر التحقيق النقدي والتفكير المستقل وإزالة " جميع قيود العقيدة العمياء " كوسيلة لإعادة ادراج انفسهن في الذاكرة الاسلامية تقول :" يجب على المرأة العربية دراسة الدين ، وتفسيره من خلال قدرتها على التفكير المنطقي بدلا من رؤيته من خلال عقول الآخرين . ولابد ان تربط المفاهيم والنصوص الدينية بسياقاتها التاريخية والاجتماعية ، وأن تُطور نظرة نقدية شديدة تنتصر فيها العقلانية على التقليد والاتباع ، ويحل مذهب المنفعة محل الالتزام الاعمى بحرفية النص .. لان الاديان يجب ان تتطور وتتغير مع تطور المجتمعات " – كتاب المرأة والدين والأخلاق - .
في معظم حواراتها تصف نوال السعداوي نفسها بانها امرأة هدفها الاساسي من الكتابة هو التنفيس عن غضبها ، تكتب قائلة :" القمع هو ما يغضبني أكتر منأي شيء آخر : قمع النساء وقمع الفقراء " ، وبقى هذا المبدا محور كتاباتها وحواراتها على مدى عقود مما تسبب في حصولها على عدد كبير من المتابعين المرحبين ، وايضا من المنتقدين لافكارها وكتابتها وتضيف :" شعرت دائما ان القلم سلاح فعال بوسعي ان استخدمه ضد الظلم والاستبداد " ولهذا نجد ان معظم روايات وقصص نوال السعداوي تشير الى أن المرأة تعاني وقد عانت وستظل تعاني تحت نير الانظمة البطريركية المستبدة ،ويتم تهميش اغلب شخصياتها النسائية ، وغالبا ما يقاتلن ضد هذا التهميش والايذاء ، ونجد نساء نوال السعداوي في اعمالها الادبية يظهرن وقد قمعهن المجتمع من خلال الحكم عليهن بالعجز ، وتشير نوال السعداوي كيف تؤدي الممارسات الثقافية الظالمة والتقاليد التي تقرها المجتمعات " الابوية " الى ايذاء النساء وتحويلهن الى ضحايا .
تعترف نوال السعداوي المولودة في السابع عشر من تشرين الأول عام 1931 في احدى قرى صعيد مصر ، بان اسم ابيها " انحفر فوق جسدها منذ لحظة ولادتها فالاسم يرافقها " فوق كراريسي في المدرسة، وشهادات نجاحي وتفوقي، وفوق أغلفة كتبي التي كتبتها بقلمي، بالعرق والدم في ليالي البرد والحر، في الليل والنهار " ، لكن اسم امها ذهب بعد وفاتها ، الأم التي تقول عنها انها لم تكن تملك شيئا ، حتى اطفالها التسعة كانوا من املاك الزوج ، تكتب في مذكراتها :" منذ أمسكتُ القلم بين أصابعي وأنا أقاوم هذا التاريخ، أقاوم هذا التزييف في السجلات الرسمية، أود لو شُطب اسم جدي وأضع مكانه اسم امي " زينب" ، وهي التي علمتني الحروف: " أ، ب، ج، د " كانت تُمسك يدي تحت يدها، وتجلعني أكتب اسمي من أربعة حروف: " ن و ا ل" ، وأسمع صوتها مثل تغريد عصفورة: نوال … يا نوال " .- اوراق .. حياتي .. الجزء الاول – تصر نوال السعداوي التي جربت الكتابة وهي في الثالثة عشر من عمرها أن تشتبك مع الشرور من خلال منهج ميداني يناضل فيه الشخص لتحقيق الحرية الكاملة :" يجب ان تبدا بنفسك ، من أرضك ، وليس بوجودك في كل مكان " ولهذا ترى السعداوي أن الكفاح يجب ان يبدأ محليا ، ثم يتمدد ليكون عالميا :" يجب ان تبدا من ارضك ، من قريتك ، من بلدك ، لتحرر نفسك " .
بداياتها الاولى وكانت رواية بعنوان " مذكرات طفلة اسمها سعاد " لم تعجب مدرس اللغة الذي كتب ان هذه التلميذة بحاجة الى تقوية في الدين ، كانت قد كتب على الرواية اسم نوال زينب السعداوي ، فقد ارادت ان تحتفظ باسم امها معها ، اخفت الرواية بين ملابسها خوفا من ان تقع بيد والدها ، إلا ان الرواية الصغيرة ستقع بيد الام التي قالت لها : عندك موهبة يانوال ، وستسمع نفس العبارة من ابيها ، مع تانيب ان لا تكرر وضع اسم امها الى جانب اسم ابيها ، تقول نوال السعداوي ان الكتابة مثل التشريح ، راسمة بذلك توازنا بين وظيفتها كطبيبة ومسيرتها المهنية باعتبارها كاتبة قصص وروايات ومسرحيات ودراسات ، وهي توضح في حوار معها ، ان كلا من العلم والفن يسعى إلى فهم افضل للجنس البشري :" بينما يكشف الجراح العلاقات المتشابكة مع بين الاجزاء التشريحية المختلفة في جسم الانسان ، يعرض كاتب الادب القصصي الامراض والاضطرابات التي اعضاء المجتمع " ورغم انها اشتهرت بسبب نقدها الاجتماعي الصريح الذي عبرت عنه من خلال دراساتها ورواياتها وقصصها ، فانها ايضا تمتلك مجموعة اعمال انتقدت فيها التباينات والفوارق التي لا حظتها حولها . ومنذ صدور كتابها الاول " مذكرات طبيبة " الذي نشر عام 1958 نشرت اكثر من اربعين كتابا ، تناولت فيها وضع النساء سواء كن فلاحات اميات او من سكان المدن المتعلمات ، فالنساء اللاتي تقدمهن نوال السعداوي ليس فقط مقموعات ، وانما مثقلات ايضا بسياسات المجتمع الذكورية التي تفرق بين اعضائه على اساس نوع الجنس
كانت والدتها من عائلة برجوازية درست في مدارس فرنسية وتعلمت العزف على البيانو ، وكان الاب موظفا ساعده طموحه على الزواج من فتاة غنية ، تقول ان حلمها الاول أن تكون عازفة موسيقى ، لكن والدها لم يستطع شراء بيانو، لذا تحول اهتمامها إلى القراءة والكتابة. لم تكن تطمح أن تصبح طبيبة ، لكن نتيجتها في الثانوية، اجبرتها على دراسة الطب . تخرجت من جامعة القاهرة عام 1955 ، وتخصصت في الطب النفسي.
ترتبط السياسة عند نوال السعداوي بفعل الاحتجاج ، وتتذكر انها ربطت بين اول تظاهرت خرجت فيها عندما كانت طالبة بالثانوية ، بمقاومة امها للتقاليد ، وهي المقاومة التي ورثتها عنها ، كانت الام قد قبض عليها عندما كانت في المدرسة الابتدائية بعد ان خرجت مع زميلاتها ليهتفن ضد الانكليز ، وتعزز نوال السعداوي فكرتها عن الاحتجاج بانه نضال لا يمكن ان يكون سعيا فرديا وانما جهد جماعي ، ويعد كتابها " مذكراتي في سجن النساء " من الشهادات التي تثبت أن المرأة بامكانها التغلب على الممارسات القمعية حتى وهي معزولة في زنزانة .
ترحل نوال السعداوي بعد ان جعلت من الكتابة سلاحا في معركتها ضدّ مُثلّث السلطة السياسية - الدينية - الاجتماعية. وطبعاً، كان لهذه المعارك خسائرها التي تمثلت في فتاوى التكفير والتهديد بالقتل والفصل من الوظيفة ، والاعتقال والهروب من الوطن جعلها تبدو شخصية غريبة :" كما لو كنت قد اتيت الى العالم من كوكب ىخر ..لم اكن أومن بدولة سلبتني كبريائي وحريتي ، وبزوج لم يعاملني كند له ، وباله جعلني نصف انسان " - اوراق ... حياتي
من المؤكد اننا كلما قرأنا نوال السعداوي ، وجدنا الآف الخيوط التي تربط بين اعمالها ، وبين حياتها ، وان كتبها ستدخلنا في عالم مختلف ومدهش ، والأهم جريء .
من بين السمات الاكثر ثباتا وبروزا في عالم " نوال السعداوي " الحضور الطاغي للكتابة الذي تعتبره سلاحا فعالاً في الصراع من اجل تأسيس العدالة في اطار نظام يستقي شرعيته من السلطة الاستبدادية التي يمارسها الحاكم في الدولة ، او تلك التي يمارسها الاب او الزوج في الاسرة . والسمة الثانية عند سعداوي هي الكلمة المكتوبة التي اضحت بالنسبة لها عملا من اعمال التمرد على الظلم الذي يمارس باسم الدين او الاخلاق ، ولهذا نجد السعداوي تكرس كتاباتها لتقصي العلاقة بين مصادر القهر الواقع على النساء ، وبين سلطة الاستبداد التي تكرس مفاهيم خاصة بها ، وفي احدى مقالاتها التي جمعتها في كتاب بعنوان " معركة جديدة في قضية المراة " تؤكد أن المجتمع " الذكوري " ينظر الى النساء باعبارهن الشيطان الذي يتحمل المسؤولية الكاملة عن الشرور ، ولهذا تصبح اجسادهن من الفواحش التي يجدر اختفاؤها . فيما يخلق الرجال ربطا بين النساء والشيطان ، يبنون عليه اضطهادهم ، وعكس ما يشاع عن نوال السعداوي فهي لا تشن هجوما على الدين ، ولكن على استخدام الدين في خدمة اغلراض استبدادية واقتصادية .
تروي نوال السعداوي في الجزء الاول من سيرتها الذاتية " اوراق .. حياتي " عن كيفية تحول الدين الى امر كريه بالنسبة لها ، فقد كان معلموا مادة الدين في المدرسة الثانوية يتعمدون جعل الدين صعبا ومنغلقا على الفهم .، كما كانوا يكثرون من التهديد بنار جهنم والترغيب بجنة الفردوس . وعلى الرغم من ان السعداوي مرت بفترة تَّدين في مرحلة من دراستها الثانوية ، فانها لم تتوان عن نقد التشويه الذي ادخله الفقهاء على أوجه عديدة من الاسلام . وترى نوال السعداوي أن كثير من الفقهاء يربطون بين حواء وفكرة الشر التي يجدونها متأصلة في النساء ، وفي روايتها " براءة ابليس " الصادرة عام 1994 نجد الشيخ بسيوني يخبر " جنات " انه يرى في عينيها شبق حواء ، بينما آخرون كانوا يرون فيهما حزنا دفينا يعود لزمن ارتكاب حواء الخطيئة . ترفض نوال السعداوي الاسلام الراديكالي ، وترى انه دين اقلية صغيرة ذات صوت مسموع تتنبنى سياسات العنف لانها لم تجد وسيلة اخرى للانتعاش ، ولعل الدين الذي تتوسل به نوال السعداوي هو الذي يلعب دورا اساسيا في الدفاع عن الانسان ، وهو في نفس الوقت النسق الايماني الذي يعتنقه الفرد والذي ينبذ العنف في تعامله مع الصراعات الداخلية والخارجية ، وهي تكتب في سيرتها الذاتية قائلة :" لقد تربيت على الإيمان بالمبادئ الاساسية للاسلام ، كان الاسلام يعني لي دائما الإيمان بالله ، وروح العدل ، والحرية ، والحب " .، ووفقا لتحليل نوال السعداوي ، فقد اصبحت النساء ضحايا قوانين وعادات ظالمة فرضتها استراتيجيات ذكورية " جردتهن من القوة والتاثير باسم الدين " .: تقول في مذكراتها :" كانت جدتي امرأة غير متعلمة ، لم تقرأ القرأن قط ، وكانت مؤمنة، اخبرتني ان الإله هو العدل ، واعتاد والدي على ترديد ما قالته جدتي ، ولكن بكلمات اخرى : أن الله هو ضميرنا الذي يخبرنا اننا ارتكبنا خطأ حين لا ندافع عن العدل ، ياتينا صوت الله من اعماقنا وليس من مأنة المسجد . هذا هو الدين الحقيقي ، الدين الصحيح للبشر الذين يجب أن يؤمنوا بالعدل وبان الإله بالنسبة لهم هو العدل ..بالنسبة لي هو القوة الجماعية للبشر .. مفهومي عن الدين مختلف جدا .. مفهومي عن الإله انه في داخلنا ، واذا كان الإله خارجيا ، فهو القوة الجماعية لمنظومة البشر ، واذا كان داخليا ، فهو قوتي الابداعية " . وتحث نوال السعداوي النساء على استعادة الاسلام عبر التحقيق النقدي والتفكير المستقل وإزالة " جميع قيود العقيدة العمياء " كوسيلة لإعادة ادراج انفسهن في الذاكرة الاسلامية تقول :" يجب على المرأة العربية دراسة الدين ، وتفسيره من خلال قدرتها على التفكير المنطقي بدلا من رؤيته من خلال عقول الآخرين . ولابد ان تربط المفاهيم والنصوص الدينية بسياقاتها التاريخية والاجتماعية ، وأن تُطور نظرة نقدية شديدة تنتصر فيها العقلانية على التقليد والاتباع ، ويحل مذهب المنفعة محل الالتزام الاعمى بحرفية النص .. لان الاديان يجب ان تتطور وتتغير مع تطور المجتمعات " – كتاب المرأة والدين والأخلاق - .
في معظم حواراتها تصف نوال السعداوي نفسها بانها امرأة هدفها الاساسي من الكتابة هو التنفيس عن غضبها ، تكتب قائلة :" القمع هو ما يغضبني أكتر منأي شيء آخر : قمع النساء وقمع الفقراء " ، وبقى هذا المبدا محور كتاباتها وحواراتها على مدى عقود مما تسبب في حصولها على عدد كبير من المتابعين المرحبين ، وايضا من المنتقدين لافكارها وكتابتها وتضيف :" شعرت دائما ان القلم سلاح فعال بوسعي ان استخدمه ضد الظلم والاستبداد " ولهذا نجد ان معظم روايات وقصص نوال السعداوي تشير الى أن المرأة تعاني وقد عانت وستظل تعاني تحت نير الانظمة البطريركية المستبدة ،ويتم تهميش اغلب شخصياتها النسائية ، وغالبا ما يقاتلن ضد هذا التهميش والايذاء ، ونجد نساء نوال السعداوي في اعمالها الادبية يظهرن وقد قمعهن المجتمع من خلال الحكم عليهن بالعجز ، وتشير نوال السعداوي كيف تؤدي الممارسات الثقافية الظالمة والتقاليد التي تقرها المجتمعات " الابوية " الى ايذاء النساء وتحويلهن الى ضحايا .
تعترف نوال السعداوي المولودة في السابع عشر من تشرين الأول عام 1931 في احدى قرى صعيد مصر ، بان اسم ابيها " انحفر فوق جسدها منذ لحظة ولادتها فالاسم يرافقها " فوق كراريسي في المدرسة، وشهادات نجاحي وتفوقي، وفوق أغلفة كتبي التي كتبتها بقلمي، بالعرق والدم في ليالي البرد والحر، في الليل والنهار " ، لكن اسم امها ذهب بعد وفاتها ، الأم التي تقول عنها انها لم تكن تملك شيئا ، حتى اطفالها التسعة كانوا من املاك الزوج ، تكتب في مذكراتها :" منذ أمسكتُ القلم بين أصابعي وأنا أقاوم هذا التاريخ، أقاوم هذا التزييف في السجلات الرسمية، أود لو شُطب اسم جدي وأضع مكانه اسم امي " زينب" ، وهي التي علمتني الحروف: " أ، ب، ج، د " كانت تُمسك يدي تحت يدها، وتجلعني أكتب اسمي من أربعة حروف: " ن و ا ل" ، وأسمع صوتها مثل تغريد عصفورة: نوال … يا نوال " .- اوراق .. حياتي .. الجزء الاول – تصر نوال السعداوي التي جربت الكتابة وهي في الثالثة عشر من عمرها أن تشتبك مع الشرور من خلال منهج ميداني يناضل فيه الشخص لتحقيق الحرية الكاملة :" يجب ان تبدا بنفسك ، من أرضك ، وليس بوجودك في كل مكان " ولهذا ترى السعداوي أن الكفاح يجب ان يبدأ محليا ، ثم يتمدد ليكون عالميا :" يجب ان تبدا من ارضك ، من قريتك ، من بلدك ، لتحرر نفسك " .
بداياتها الاولى وكانت رواية بعنوان " مذكرات طفلة اسمها سعاد " لم تعجب مدرس اللغة الذي كتب ان هذه التلميذة بحاجة الى تقوية في الدين ، كانت قد كتب على الرواية اسم نوال زينب السعداوي ، فقد ارادت ان تحتفظ باسم امها معها ، اخفت الرواية بين ملابسها خوفا من ان تقع بيد والدها ، إلا ان الرواية الصغيرة ستقع بيد الام التي قالت لها : عندك موهبة يانوال ، وستسمع نفس العبارة من ابيها ، مع تانيب ان لا تكرر وضع اسم امها الى جانب اسم ابيها ، تقول نوال السعداوي ان الكتابة مثل التشريح ، راسمة بذلك توازنا بين وظيفتها كطبيبة ومسيرتها المهنية باعتبارها كاتبة قصص وروايات ومسرحيات ودراسات ، وهي توضح في حوار معها ، ان كلا من العلم والفن يسعى إلى فهم افضل للجنس البشري :" بينما يكشف الجراح العلاقات المتشابكة مع بين الاجزاء التشريحية المختلفة في جسم الانسان ، يعرض كاتب الادب القصصي الامراض والاضطرابات التي اعضاء المجتمع " ورغم انها اشتهرت بسبب نقدها الاجتماعي الصريح الذي عبرت عنه من خلال دراساتها ورواياتها وقصصها ، فانها ايضا تمتلك مجموعة اعمال انتقدت فيها التباينات والفوارق التي لا حظتها حولها . ومنذ صدور كتابها الاول " مذكرات طبيبة " الذي نشر عام 1958 نشرت اكثر من اربعين كتابا ، تناولت فيها وضع النساء سواء كن فلاحات اميات او من سكان المدن المتعلمات ، فالنساء اللاتي تقدمهن نوال السعداوي ليس فقط مقموعات ، وانما مثقلات ايضا بسياسات المجتمع الذكورية التي تفرق بين اعضائه على اساس نوع الجنس
كانت والدتها من عائلة برجوازية درست في مدارس فرنسية وتعلمت العزف على البيانو ، وكان الاب موظفا ساعده طموحه على الزواج من فتاة غنية ، تقول ان حلمها الاول أن تكون عازفة موسيقى ، لكن والدها لم يستطع شراء بيانو، لذا تحول اهتمامها إلى القراءة والكتابة. لم تكن تطمح أن تصبح طبيبة ، لكن نتيجتها في الثانوية، اجبرتها على دراسة الطب . تخرجت من جامعة القاهرة عام 1955 ، وتخصصت في الطب النفسي.
ترتبط السياسة عند نوال السعداوي بفعل الاحتجاج ، وتتذكر انها ربطت بين اول تظاهرت خرجت فيها عندما كانت طالبة بالثانوية ، بمقاومة امها للتقاليد ، وهي المقاومة التي ورثتها عنها ، كانت الام قد قبض عليها عندما كانت في المدرسة الابتدائية بعد ان خرجت مع زميلاتها ليهتفن ضد الانكليز ، وتعزز نوال السعداوي فكرتها عن الاحتجاج بانه نضال لا يمكن ان يكون سعيا فرديا وانما جهد جماعي ، ويعد كتابها " مذكراتي في سجن النساء " من الشهادات التي تثبت أن المرأة بامكانها التغلب على الممارسات القمعية حتى وهي معزولة في زنزانة .
ترحل نوال السعداوي بعد ان جعلت من الكتابة سلاحا في معركتها ضدّ مُثلّث السلطة السياسية - الدينية - الاجتماعية. وطبعاً، كان لهذه المعارك خسائرها التي تمثلت في فتاوى التكفير والتهديد بالقتل والفصل من الوظيفة ، والاعتقال والهروب من الوطن جعلها تبدو شخصية غريبة :" كما لو كنت قد اتيت الى العالم من كوكب ىخر ..لم اكن أومن بدولة سلبتني كبريائي وحريتي ، وبزوج لم يعاملني كند له ، وباله جعلني نصف انسان " - اوراق ... حياتي
من المؤكد اننا كلما قرأنا نوال السعداوي ، وجدنا الآف الخيوط التي تربط بين اعمالها ، وبين حياتها ، وان كتبها ستدخلنا في عالم مختلف ومدهش ، والأهم جريء .