عتبةٌ لابدّ منها:
الأصبهانيُّ، ابن داودٍ، فيلسوفٌ ماديٌّ، على أساس أنَّ البدهيات مستمدة من الواقع؛ فالبدهيُّ عنده ليس ما يُطابق الواقع، ولكنه ما يتفاعل بإيجاب في الواقع. ومن هنا كان سبب اتخاذه المذهب الظاهري نِحلة له، إذ المذهب هذا يجعلُ من نظرية المعرفة نظريتين مفترقتين، الأولى للمعرفة البشرية والثانية للمعرفة الشرعية، فهم يحررون المعرفة البشرية التي يحتاجها الناس في حياتهم، ثم يشقّون طريق المعرفة الشرعية القائمة على تلقي النصوص الشرعية كما تظهر لنا؛ إذ ليس الغرض أن نصنع مدلولا بشريا يجاوز ظاهر النص، فيبرز قدراتنا. ومن هنا كان رفضهم للقياس.
وقد استخدم ابن داود هذا التفريق، ليؤسسَ طريقه في (العشق) ومن ثمَّ صناعة كتابِه (الزَهْرة). فابنُ داودٍ يرى أنَّ طريقَ المعرفة البشرية هو الحس، وأما حاجة الحس للبدهيات كي يكتمل طريق الاستدلال؛ فإنه يقرر أن البدهي هو ما يتفاعل بإيجاب في الواقع، لا ما يطابق الواقع. وقد كانت هذه النظرةُ التي وظفها في منتدى الزهرة، -المنتدى المجازي-، نواةً لأول منتدى ثقافي عربي، ذلك الذي أسَّسه أبو القاسم، الحسن بن بشر الآمدي، ليبني مركزا للتعايش بين اللات والعزى؛ يقول في (الموازنة بين أبي تمام والبحتري): "فأما أنا فلست أفصح بتفضيل أحدهما على الآخر، ولكني أوازن ين قصيدتين من شعرهما إذا اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية وبين معنى ومعنى فأقول: أيهما أشعر في تلك القصيدة وفي ذلك المعنى، ثم احكم أنت حينئذ على جملة ما لكل واحد منهما إذا أحطت علما بالجيد والرديء". لكنّ الآمدي ما استطاعَ أن يتجرد من كرسي عرشه على المنتدى، فهو وإن بدأ نصه في الدفاع عن أبي تمام، -عندما انبرى للرد على مقولة أبي علي السجستاني التي تحدُّ إبداع أبي تمام في ثلاث معانٍ-إلا أن هذه البداية قد تؤول أنها لصرف الذهن عن تأويلاتٍ لا يُريدها المؤلف حين يورد: "بل الذي وجدتهم ينعونه عليه كثرة غلطه، وإحالته، وأغاليطه في المعاني والألفاظ" لهذا فقد انطوى في العُزّى ما استُبعِد: (وإن جرت الألفاظ منا بمدحةٍ/ لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني).
لقد كان منتدى الآمدي تأسيسا للمنهجية التي قامت عليها مجالس الأدب لاحقا، إذ سَعَى الآمديُّ إلى تلمُّسِ الأسباب التي أدت إلى الأخطاء، ثم استعرض الرؤية العامة حول هذه الأسباب، ليكشف عن استراتيجيات التلقي والإرسال، لتتوازن المذاهب بين حقائقها وأباطيلها. لكنّ الآمدي في منتداه حمل معه روحَ ابن داود؛ حيث سيطرت عليه فكرة الواقع والحقيقة وسعى إلى تنميط الشعر فيها؛ فمثلا لما جاء إلى قول أبي تمام: (جَلَّيْتَ والموتُ مبْدٍ حُرَّ صَفْحَتِهِ/وقدْ تَفَرْعَنَ في أفعاله الأجـــــــل) قال: كيف اشتق للأجل الذي هو مُطِلٌّ على كل النفوس فعلا من اسم فرعون وقد أتى الأجل على نفس فرعون وكل فرعون كان في الدنيا؟!. من هنا سيطر الحسُ على لغة الآمدي النقدية؛ فهو يحاكم أبا تمام من خلال نافذة الحس! وأبو تمام يتلاعب بالمعاني، ويعقد بينها خيالات لا يسيطر عليها إلا فضاءات الوعي المعقدة.
ابن داود الأصبهاني كان مثليَّا؛ يعشق شخصا اسمه (محمد بن جامع الصيدلاني) ولعل في اسم معشوقه ما يُذكِّر بصيدليته!. ومثليّةُ ابنِ داود مُتعلّقة بفلسفته المادّية. أي أنه يريد تجريب شيء ما، ينتظر نتائج الوعي بشيء ما، بعد أن عقد الصلة بينه وبين المادة بتفاعل مادي. (يُروى أن نفطويه دخل على ابن داود في مرضه الذي مات فيه؛ فقال له: كيف تجدك؟ فأجابَ: حُبُّ مَن تَعلم أورثني ما ترى. فقال نفطويه: ما منعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع على وجهين: أحدهما النظر المباح، والثاني اللذة المحظورة. فأما النظر المباح فأورثني ما ترى، وأما اللذة المحظورة فإنه منعني منها ما حدثني به أبي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا علي بن مسهر، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس عن النبي أنه قال: من عشق فكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة). ولنلحظ أن ابن داود لم يروِ إلا حديثا واحدا عن أبيه، اختار متنَه؛ لأنه مرتبط بالتفاعل الواقعي، فهو يريد أن يجعل من دخول البدهيات إلى تجربته الحياتية، دخولًا ماديا أيضا. لهذا مثلية ابن داود هي مثلية فلسفية، يعيها هو ومحمد بن جامع الصيدلاني، ومن هُنا تُفسَّر تلك الحكاية الغريبة التي يرويها الخطيب البغدادي يقول: ومن الغريب في حكاية عشق ابن داود للصيدلاني، أن الصيدلاني كان يُنفق على ابن داود، وما عُرف فيما مضى من الزمان معشوق ينفق على عاشق إلا هو. والمفارقة أن تلك الفلسفة هي التي قضت عليه، ففي الحديث الذي يرويه بسنده، لم يُفرق بين عِشْق مثليّ أو عشقٍ غيري، لكن نتيجة الشرط (من عشق) متفرعة عن الغيرية، تلك التي لا يستطيع أن يجربها يقينا؛ لهذا هرب منها، وهو لا يَعلم أنَّ مثليةَ الأُنثى هي غيرية في الآن نفسه. ومن هنا كان تشتته، وانقلاب منتداه رأسًا على عقب.
____________________
* بابٌ مثقلٌ بالحديد:
وسيكون حديثي هنا عن جزئية في منتدى ابن داود، الذي ارتضيت أن أُسمّيه منتدى الزهرة؛ نسبةً إلى كتابه الشهير. وهذه الجزئية تتفرع إلى جهتين: الأولى: هل للعشق مُقابل موضوعي؟ بمعنى هل له مقابل لفظي وإيمائي ونحو ذلك يمكن أن يوفيه حقّه، فإن كان فما مدى صحة مقاربته ماديا؟ مما يُمكّن الآخر من ضبط العشق وأفعال العشاق؟ والثانية: تساؤل كبير حول الإرث الأنثوي الذي يشرح هذه الظاهرة (العشق)؛ فالأصبهاني يُعبئ كتابه بإرث ذكوري، ثم يأخذنا معه في دعوى أنه يشرح الباب، بل الموضوع العشقي كله!
لهذا تُربِك الأصبهانيَّ تلك الافتراضات التي تُتداول في منتداه من أن العاطفة الأنثوية إلهية، والعاطفة الذكورية مادّية، ولا يُعنى بالإناث الإفراد، بل مفهوم الأنوثة بصفته يرتكز على عاطفة إلهية، وكذا الذكر في العاطفة المادية، ولعلّ القاعدة في الانطلاق بهذا الافتراض، هو أن الذكور في الخطاب الشعري العربي يَعُدّون العاشق مؤنثا، إذ مرادهم أنه لا يليق بالذكر أن يكون عاشقا، بل هي صفة أنثوية. هم هنا يعدون فعل العشق مثلبة، لهذا نجد تعريف الغزل عند ابن رشيق في العمدة أنه التخلق بما يوافق النساء. ومن هنا قال الناقد عبد الله الغذامي عن هذه الحالة ناقدا لها: " فإن جنس العاشق يختلط، فلا هو رجل ولا هو امرأة، كما أنه ليس عاقلا ولا مجنونا، ولا هو حي ولا هو ميت، إنه كائن مجازي فحسب".
من هُنا فإنَّ هذا الافتراض ينطلق من أساس راسخ في الخطاب الشعري عند العرب، ومن ثمَّ ماذا لو حصلنا على إرث أنثوي نستطيع به أن نتجاوز الفرضية إلى نظرية، ولا أعني بالإرث الأشعارَ التي كتبها نساء فحسب، إنما ما كانت معانيه مضادة للذكورة؛ لننظر إلى أي اتجاهٍ يتجه. لكن كيف نحصل على هذا الإرث والخطاب الذكوري مستبد بالعقل الذكوري والإناثيّ، ويخرجهم على قالب واحد. لهذا فإني أقترحُ أن تُنْبَثَ شواهد متفرقة تنتمي إلى خطاب مغاير للذكورية، ويُركز على كونه خارج من أنثى، أو ما يُشتبه بكونه خارج من أنثى، ولا يلزم الاكتفاء بالشعر التقليدي، بل يُتوسع إلى مفهوم الشعر بصورتها الأشمل التي استخدمها حسان ابن ثابت دليلاً على شاعرية ابنه عبد الرحمن حين لسعه زنبور؛ وذلك أن عبد الرحمن رجع ذات يوم وهو يبكي قائلا: "لسعني طائر"!، وبحكم أن الطائر يحتاج إلى تخصيص لنعرف أي طيرٍ هو؟ فقال حسان: "صِفْه يا بني" فقال عبد الرحمن: "كأنه ملتفّ في بردي حَبِرة" فابتسم حسان وهلل قائلا: "قال ابني الشعر ورب الكعبة". كما أيضا يؤخذ من غير الشعر، شواهد، ولو فتحنا الباب على مصراعيه للعصور الحديثة، لوجدنا الإرث الذي يسعفنا لتفكيكِ العاطفة الذكورية المُزيفة، التي يمثلها قول عمر بن أبي ربيعة:
سلامٌ عليها ما أحبّت سلامنا/ فإن كرهته فالسلام على أخرى
وتأسيس عاطفة أنثوية تشمل الإناث والذكور، ونعرف من أين تَغرف، وإلى أين تتوجه. وأما هنا الآن فإني أريدُ أن أعود إلى شواهدَ الأصبهاني لأفكّكها، وأُبيّن أنَّ ما جاءَ فيها، لا يشرح العشق ولا يغوص في أسراره، ومن ثم لا يمكن الاستدلال بها، ثم سأعرض نموذجًا أو نموذجين أنثويين لعلها توضح مقصدا من المقابلة التي أريد بين الشواهد الذكورية والشواهد الأنثوية، وإلا فليته يحصل أن نضع شواهد كُثر أنثوية في مقابل الشواهد الذكورية، لنأسِسَ منها خطابا موازيا. ولعلّ هذا يحصل في قادم الأيام.
_______________
رأيتُ الحُبَّ ليس له دواء/ سوى وضع الصدور على الصدور
وكأن ابن الرومي سمع قول القائل هذا فقال لأُجَرِّبَ، فلما جرب قال:
أعانقه والنفس بعد مشوقة/ إليه وهل بعد العناق تداني
وألثم فاها كي تزول حرارتي/ فيشتد ما ألقى من الهيمانِ
كأن فؤادي ليس يُشفى غليله/ سوى أن يرى الروحين تمتزجان
إن ابن الرومي هنا يرد ردا مؤلما، على سابِقه، وهو في الوقت عينِهِ ردا لنفسه، حين خرج من تجربة (وضع الصدور على الصدور)، بمزيد من التساؤلات عن مصدر العشق؟ فكأنه يقول: إن كان مصدر العشق رغبة جسدية فها أنا وضعت الصدر على الصدر، وما زادني إلا شوقا مختلفا. أي لو كان وضع الصدر على الصدر مصدر العشق، لكان يطلب وضعها مرة ثانية وثالثة، ورابعة وخامسة ...إلى أن يشبع بعد حين، لكن الذي يحصل أن النفس بعد وضع الصدر على الصدر تطلب معنى آخر، لأن الجسد عن ليلى مثله عند سلمى، لكن حين يضع صدره على جسد حبيبته يأخذ في تأمل معانٍ مختلفة، وكأن جسدها مختلف عن أجسادِ البقيّة، فيأتي التساؤل عن هذه المعاني التي تجعل من جسدٍ مميز على جسد، مع أنهما في الظاهر واحد، بل قد يكون غير المعشوق هو الأجمل ظاهريا.
لهذا فالملاحظ من تجربة ابن الرومي أن هيمانَه لم يكن جسديا بل روحيا بعلامة قوله (سوى أن يرى الروحين تمتزجان) أي أنه استسلم لهذا العشق الخِضمّ وقال إن العقل لن يسكت عن التساؤلات إلا بامتزاج الروحين. لكن حين يُسأل كيف تمتزج الروحان؟ لن يُجيب إلا بإعادة القضية إلى سابق عهدها، وذلك بأن يقول فهم العشق مستحيل كاستحالة أن أفهم مزج الأرواح، وقبل ذلك ما الروح؟!.
هو لا يعلم ما الروح؟ لكن يعلم أنَّ مصدر العشق يوازي مفهوم الروح، تلك التي نُحيلها إلى الله؛ لأننا لا نعلم ما الله؟ إلا أنه المُطلق الذي يُدرك كل شيء وهو لطيف لا نُدرك كنهه، فَمَنْ رأينا لطيفًا، عظيما، رؤوفا، حنونا، شفيقا، عطوفا، رحيما، مُؤْثِرا على نفسه، جليلا، مُريْدا، مُتحدّثًا كملاكٍ ينظر إلى السماء، نقولُ عنه: هو من روح الله، مع أننا لا نعلم كنه الله، وفي الوقت نفسه نحدد من يكون من روحه، إن السبب نابع من تلك المعاني المتجردة التي ارتفعتْ عن معاني المادة والنسبيّة، وصراع الأرض.
وقد خرجَ فريق ثالث، -يمكن عَدّهم بين القائلِ الأوّلِ، وابن الرومي-يروْنَ أن العشق ما دون إرادة الولد. ويمكن أن نستشهد لهم بقول القائل:
ما الحبُّ إلا قبلة/ وغمز كفٍّ أو عضُد
من لم يكن ذا حبه/ فإنما يبغي الولد
ما الحب إلا هكذا/ إن ينكح الحب فسد
إلا أنَّ هذا الفريق لم يخرج كثيرا عن الفريق الأول أصحاب الجنس الكامل، إنما خففوا من تعمّقه الجسدي، ومن ثم يصح أن يُقال إن هذا الطريق متفرع عن الأول، وفي الجملة لم يقربا أبدا من تساؤلات العشق.
لهذا اتّجه فريقٌ رابع؛ ليجمع بين الفريق الأول والفريق الثالث، -أي أصحاب الجنس الكامل وأصحاب الغمز واللمس والقُبل-ليبيّن أن القُبل ونحوها طريق لابد منه، لكن لا يكتمل الحب إلا بقضاء كامل الوطر. ويمكن أن نستشهد لهم بقول:
تقول وقد قبَّلتها ألف قُبلة/ كفاك أما شيء لديك سوى القُبل
فقلت لها حب على القلب حفظه/ وطول سهاد تستفيض له المقل
فقالت وأيم الله ما لذة الفتى/ من الحب في قلب يخالفه العمل
____________
أي إن الأبيات التي تُنسب للأنثى من خلال لسان الذكر، لها سياقات (ذكرية) في العموم، ولكن من المهم أيضا الاعتناء بها على افتراض أنها أشعار أنثوية، ومن ثم تُدْرس، ليُحدّد ما هو ذكوري وما هو مغاير، فيُصنف بحسب دقة الرؤية الإنسانية.
فمثلا هنا (البيت الثالث) = (فقالت وأيم الله ما لذة الفتى/ من الحب في قلب يخالفه العمل) يزعم الشاعر أنه ينقل لنا رأي الأنثى التي يُحبها، وهو أنها ترى أن الجنس الكامل هو المعيار الحقيقي للعشق، بدليل أن الاعتقاد القلبي الذي لا يصدقه العمل لا يعول عليه، وهنا وضعت (اللذة) محل (الاعتقاد) أي أن اللذة لا يعول عليها في قلبِ من لا يفعل الجنس الكامل.
ونلحظ أولا (معيارًا) وضعتْه في مقاييسها، وهو اللذة، ومن ثمَّ اعتبرت أنَّ ما يجلب اللذة هو الجنس الكامل فحسب، وهذا قد يكذبه مطلق الحس حين نتأمل التفاعل الجنسي عند الأنثى، فنجد أن الأنثى بالعموم تتلذذ كثيرا بما هو دونَ الجنس الكامل، ومن هنا فالأنثوية تستغرق في التفاصيل الدقيقة، أما الذكورية فهي محبة الأشياء الكبرى والتذمر من كثرة التفاصيل، ولهذا انشغال الذكورية الدائم بالحروب المباشرة على أساس أنها هي الحل السريع والأكبر، وأما الأنثوية فقد كانت تدخل في رحلة احتيال ذكي حتى تظفر بما تشاء، وهذا الاحتيال قد يستغرق مئات التفاصيل الصغيرة. وبعدَ تغيّر الزمن من حيث قلة الحروب والارتضاء بالسَلام الجُزئي على الأقل، استمرّت الذكورية تبحث في الأشياء الكبرى، وتتململ من التفاصيل، بل إنها تندب الزمان الذي ضاعت فيه الثقافة الشمولية! وقد يتضح هذا في التفاصيل الصغيرة في تصاميم البيوت الحديثة أو الصبر الطويل على فن الطبخ، وتشعباته الكثيرة، أو حتى الاستغراق في تفاصيلِ الأزياء، ونحوها مما تنتمي لما بعد الحداثة.
فهل البيت فعليا ينتمي لأنثى؟ أم هو الشاعر نفسه ألَّفَ من خياله حوارا بينه وبين من يدَّعِي حُبَها، بعدَ أنْ تساءل: هل الحب هو قُبل وحسب أم جنس كامل؟ وأضمر أن يَنْسِبَ للأنثى المتخيلة -التي لا يعرفها أحد-ما هو مرفوض اجتماعيا، وينسب لنفسه ما هو عُذري؟ وفي هذا باطن معكوس، حين أخرج للناس مراد مَن يُحبها، أي أنه أخرج هذا الرأي لأنه يتبناه فعليا، ولا يوجد عشيقة ولا ما يحزنون.
ونلحظ (ثانيا) أن (القُبَل) عملٌ، أيضا ولكنها أُسقطت من قاموس الأبيات!، بمعنى إذا كانت الأنثى المتخيلة في الأبيات تقول إن اللذة لا يعول عليها إلا بالعمل، فما بال القُبَل!! أليست عملا؟ وهذا الأمر قد يُشير إلى الإرادة المُسبقة عند قائلها لمدح الجنس الكامل، ولكن خوفًا من غضبةِ أحدٍ أو نحو ذلك جعله على لسان عشيقة مجهولة، بل ليست موجودة.
______________
وثالثا فإن هذه الفرق الثلاث (الأول والثالث والرابع) لم يشرحوا العشق وأسرار بقائه أو فنائه، بل تحدثوا عن ظواهرَ تُحَرِّك كوامن شبقية ليس إلا، وهذا ما يجعلهم يربطونها بالأحاسيس وحسب، ومن يخرجها من الأحاسيس عندهم يُخرجونه من خطابهم ومجتمعهم بل يلعنونه لعنة أبدية، كمثل امتزاج الروحان لا مكان لها عندهم، بل هي عبارة مستهجنة عندهم، ولا تعبر إلا عن مجانين أو أناس صدقوا بخرافات غير مادية!!. لهذا يقول قائلهم:
قولا لعاتكة التي/ في نظرةٍ قضت الوطر
إني أريدك للنكاح/ ولا أريدك للنظر
لو كنت مقتنعا بذ/ لك، كان هذا للقمر
_________________
إذن يُمكِنُ أن نستخرج من هذه الأبيات الذكورية معنىً أنثويًا نطق به الشاعر ليخرج فحولته وتسلطه، ولكن لم يدر أنه ينقل لنا رأيا لامرأة اسمها عاتكة، كانت ترى العشق بتفاصيل لا تخطر على بال الذكر الذي يريد أن يتمتع بجسدها في أسرع وقت، ويذهب إلى أخرى، بينما عاتكة لمجرد أن رأته تلذذت وأحبَّتْ أنْ تعيشَ في نشوةِ هذه النظرة وقتًا كافيًا، ولكن الذكر أفسدها عليها بمطالبته بأن يمارس الجنس الكامل بسرعة!
___________________
لهذا يمكن لنا الإشارة إلى أن المقابل الموضوعي هو اعتلالات الجسد من جهة، وسيلان اللفظ من جهة أخرى. فأما الأولى وهو اعتلالات الجسد فإن الجسد يستجيب للروح وأسرارها، وتكون استجابته ظاهرة كخفقان القلب وشرود الذهن إلا عن المحبوب، وكالاضطراب حين اللقاء، والفرح اللاواعي، والبكاء الغامض في لحظة صمتٍ وعيّ، والنظر للمحبوب بخلاف حقيقته الطبيعية، أي تختفي عيوبه عن عيني العاشق، مع نظر الحاضرين لها، وكالكلام غير المفهوم. واستجابة الجسد للروح العاشقة لا يُمكن أن تحصى بحركاتٍ ما، إذ يمكن أن يفعل الجسد ما لا يتوقع، وذلك لأن الروح لا يُعْلم كنهها، حتى تحصرَ أفعال استجابة الجسد لها، فلا يمكن إلا تحديد ما ظهر منها، أما مالم يظهر فليس أمامنا إلا طريقين إما أن نقول: غياب الظواهر دليل على عدم وجودها. وهذه الفكرة متولدة عن الفكرة المادية/ المادية، ولهذا يرجعون لتفسير العشق تفسيرا مرتبطا بالدماغ وإفرازاته. أو أن نقول: غياب الظواهر ليس دليلا على عدم وجودها، لأننا أمام متضادين الروح/ المادة، وما إخراج الروح لبعض الأفعال في فترة من الفترات إلا دليلا على أنها تُخرج في أي لحظة شيئا مفاجئا. بمعنى هل الظواهر الجسدية التي تخرج من العشّاق واحدة لم تتغير منذ شعر الإنسان بجاذبية غامضة تجذبه نحو إنسان ما؟ أم هي عوارض وظواهر ازدادت وتغيرت وتبدلت بحسب الزمن؟ فنحن نقرأ في التاريخ في بعض القصص أن القلب توقف من شدة العشق، وهذا لم يحصل إلا قليلا، لكنَّ الماديين سيقولون لا دليل على أنه مات من العشق! لا يوجد أمامنا إلا سبب مادي وهو هبوط الدورة الدموية مثلا أو. أو. إلخ. هنا الافتراق الواضح بين فهم المادي للعشق وفهم الروحي له، إذ المادّي يرى أن العشق مرتبط بالواقع المادي الذي نعيشه، وذلك عن طريقين، الطريق الأولى تعتبر العشق بناءً فوقيًا، يتأثر بالبنية التحتية وهي علاقات الإنتاج الاقتصادي وما يتعلق بها، بشكل جدلي. وأما الطريق الثانية فتربط العشق بإفرازات الدماغ كيميائيا مع إنسان آخر، مع أن كثيرا من الماديين ينفون وجود العشق، يقولون هذا وهم، إنما الموجود علاقة حب مرتبطة بالعلاقة المادية ويشرحوها بحسب الطريقين السابقين. وكلا الطريقين يغض الطرف عن كبرى الأسئلة التي تواجه أفعال العشق!
أما فهم الروحي للعشق، فإما أن يكون روحيا بحت أو روحيا مشوْب بمادة، يفرضها وجود الواقع الموضوعي والتسليم به، فالأول رؤيته نابعة من أن الأصل في العشق أنه معنى ما وراء مادي بالكلّيّة، كمعنى الألوهية، ولا وجود للعشق إلا في أذهاننا وتصوراتنا، وأي تصور عشقي مادي إنما هو كذب وهراء، ليس إلا العشق الروحي، أما الثاني فإنه يحدد الجوانب المادية في رؤيته من خلال الظواهر المادية له وهي تؤكد وجوده الموضوعي.
من هنا فإن الروحي إذا كان روحيا بحتًا فإنه سيقول إن حركات الجسد وظواهره في العشق ليست حقيقية، ووعينا الذي يوجدها، ولهذا بإمكان الوعي أن يصنع ما لا يُحدّ من اعتلالات جسدية، وإن كان روحيا ماديا، فإنه سيربط ظواهر الجسد كما يربط علاقة الإنسان بالله مثلا، فسيقول: أليس الله يخلق في الإنسان اعتلالات لا تضبطها المادة إلا بعد ظهورها، فكذلك العشق واعتلالات الجسد. وأما الماديون فيربطون الاعتلالات بقدر العلاقة ماديا، ولا أكثر.
وأما الثاني من المقابل الموضوعي للعشق، وهو سيلان اللفظ، فإن العشق مدعاة إلى أن يحاول اللسانُ أن يصفه، ومهما ابتكر من المعاني وركّب من الألفاظ لا يفي العشق، ولو جزءا بسيطا، لكنه سيظل يُسابق ويسير ويحاول، فليس للعقل أداة لاستنطاق الوجود وعلاقته بالروح العليا إلا اللغة. فمثل العشق هنا كمثل ما يراه الصوفي في تجليه مع الله، شيء لا يوصف باللغة، بل بالمشاهدة والوقع في العشق، لهذا لا يعرف العشق إلا عاشق، أما من لم يعشق فهو يقارب ما يسمع لفظيا، ولابد أن يقع في أغلاط كثر. يقول جلال الدين الرومي: " سأقولُ لكَ لماذا تمضي السموات في حركاتها الدائرية؟ لأن عرش الله يملؤها، بانعكاسات الحُب، سأقولُ لك: لماذا تهبّ رياح الصباح؟ لأنها تريد أن تعبث بالأوراق النائمة على شجيرات ورود الحب، سأقول لك لماذا يتشح الليل بغلائه؟ لأنه يدعو الناس إلى الصلاة في مخدع الحب، إنني لا أستطيع أن أفسر لك كل ألغاز الخليقة، ولا حل لها إلا الحب"
إنَّ الرومي هُنا يجعل من (الحب) حلًا وعلاجًا شاملًا، فكأنه يقول: حبَّ ما استطعتَ ولا تتوقف، اجعل الحب عقيدتك، وديدنك، وشريعتك في الحياة، وحينَ يتبنى ذلك كل إنسان فإن الحياة تتكامل بالحب، ومن ثمَّ تنحلّ مشاكلها وعقدها. إن اللجوء للحب هو محاولة لحلّ الغامضات بشيءٍ غامض، وهُنا يأتي المفهوم الصوفي للعشق، إنه تجربة روحية خالصة. أما الدعوة للحب العام، فهي شعار يتبنى الدعوة للسلم الاجتماعي ليس إلا، وهي دعوة عظيمة ولكن مالم يُعرف سر النفس البشرية التي لا يمكن أن تحب وتكره بقرار وزاري!، لهذا لا يروضها داخل المجتمع إلا القانون، والقانونُ لا علاقة له بالحب أبدًا. وهذان المقابلان: (أعني: اعتلالات الجسد، وسيلان اللفظ) ليسا إلا ظواهر، أما الجوهر فهو في دواخل العشق، ولا يشرحه إلا العشّاق، وليس باللفظ، بل بالقلب والرقص والبكاء والشهوة الروحية التي ترفع اللذة إلى مقامات الله. وطالما هي ظواهر فسيُختلف عليها ما بين وجودها الفعلي في مقابل العشق الباطني، وبين وجودها الذهني في مقابل العشق، من جهة، وبين أنه لا وجود إلا لهذه الظواهر فحسب، وكل ادّعاء أكثر منها بالاتجاه نحو الجوهر فهو زيفٌ ووهم من جهة ثانية. ومن هذا الاختلاف تتشقق مذاهب الحب: وخلاصتها: أولا المذهب التحليلي للحب الذي يُرجع أمرَه إلى (الانعكاس) فإما أن يكون انعكاسا للغرائز كما هو عند (مدرسة فرويد في علم النفس) التي تقول إن سلوكنا النفسي كله انعكاس لغرائزنا، ومن ثم فإن الغرائز هي التي تُنشئ الحب. يعني كأن فرويد يقول بشكل آخر إن الحب ليس إلا إحساسا، وهذا الإحساس غطاء للرغبة. وطبعا لا يخفى ضعف تفسيره، إذ ثمة وقائع وأحداث أكبر من أن تضبطها هذه النظرية. وإما أن يكون انعكاسا جدليا، كما شرحتُه باختصار في حديثي عن الفرق بين المادي والروحي في النظر للعشق. ثم عندنا –ثانيا-المذهب الفسيولوجي وهو الذي أشرتُ له قبلُ، من أن العشق مرتبط بمتغيرات كيميائية في الجسم. هذا المذهب يرى أن الحب عبارة عن استجابة لأمرين: الأول تغيرات هرمونية تؤثر على الإنسان، ولهذا فالعشق-عندهم-مرتبط بالإنسان الذي وصل لسن البلوغ، والثاني وجود مادة اسمها (الأدْريْنَالين) وهو عبارة عن هرمون تفرزه الغدة الكظرية، ودوره تحضير الجسم لأي انفعال كالخوف أو الإثارة أو القلق أو فرط الضحك أو الغضب، أو الحقد ونحوها. فهذا المذهب يرى أن هذه المادة (الأدْريْنَالين) تزداد في الجسم حين يلتقي شاب وفتاة وقع بينهما إعجاب، لهذا فيزداد لديهما ضربات القلب وسرعة التنفس واحمرار الوجه وشد العضلات، وكل هذا – عندهم-سبب مادّي يشرح الحب، إذ الحب عندهم مثله مثل الخوف والقلق والفرح وغيرها مرتبط بهذه المادة (الأدْريْنَالين). لكن السؤال لهم: لِمَ تختلف ردود أفعال العشاق وكأن كل فرد له حالة خاصة؟! وقد عمل (ستانلي شاشتر) تجربة معملية بأن حقنَ مجموعةً من الأشخاص بهذه المادة، فلم يجد رد فعلٍ متساوٍ منهم، لهذا اكتفى ستانلي بأنْ قال "إعطاء الإنسان هذه المادة يرفع لديه إحساس الحب". لكنه ارتبك في تلك الفجوة بينهم، ولم يستطع أن يُحدد مصدر اختلاف الاستجابة، بل تفاوتها. لهذا جاء مذهب ثالث يحيل الحب إلى النشأة وحسب، فإن تعلم الحب فسيكون محبا، وهذا المذهب يقول إنه اشتراط يأخذه الطفل في لحظة نشأته من إحساساته فمثلا لما ترضعه أمه وتعتني به وتغذيه فإنه سيحبها، ولو فعلت امرأة أخرى هذا الأمر بدلا من أمه؛ لحبها أكثر من أمه التي ولدته. لكن سيظل السؤال حول تلك الاختلافات الكبرى بين الأفراد في العشق من جهة، وأيضا كيف يفسر هذا المذهب عندما يكون العشق التحام بين اثنين، يتفاعلان عشقا، قد يقال: استجابة الآخر للأول هي تَنْشِئه، لكن أين ذلك من نشأته ككل من جهة؟ ومن جهة ثانية كيف نفسر لو كان الطرف الأول جامدا في مشاعره وأعطياته ومع ذلك يعشقه الطرف الثاني؟ لهذا يخرج مذهب رابع يربط الحب بــ (الالتصاق)، وأولها التصاق الطفل بجسد أمه، لهذا فكلُّ حُبّ هو التصاق بشكلٍ ما، لهذا يشبهون أعراض فراق الطفل لأمه بفراق العشيق لعشيقته، ومن هنا فإن هذا المذهب يرى أن الإنسان دائما يبحث عن التصاقٍ ما، فإذا وجده هدأ واطمأن، وإن لم يجده أصبح قلقا، ومن هنا فإنهم يُشبهون فعل العاشق الذي حُرِم من عشقه، بفعل الطفل المحروم من الالتصاق؛ فالطفل المحروم أول أمره يبكي ويبحث عن أمه بقلق، ثم ينتقل إلى مرحلة الحزن العميق على فراق أمه، ثم يعلن انفصاله التام عن الالتصاق بأحد، حتى لو عادت أمه. إذن وجه الشبه بينهما أن كلاهما – أي العاشق والطفل-يلتصقان بشخص محدد، وكلاهما يبحثان عن الأمان، وكلاهما لما يجد حبيبه بجواره يشعر بسعادة، وكلاهما يمارسان الفعل ذاته جسديا، فالطفل يحتضن أمه ويقبلها ويبكي على صدرها، وهذا هو فعل العاشق، وكلاهما لما يشعرا بالبعد يبحثا عن الحبيب من خلال المناداة والبكاء. إن هذا المذهب لم يجاوز التشبيه إلى أفعال مغايرة مرتبطة بالعشق غير المفسر، الذي يبدأ دون التصاق أو التصاق معنوي فحسب، بل إن عدم الالتصاق في بعض الحالات يزيده عشقا، لهذا فإن كثيرا من المذاهب تقارب الحب ولا تفسره. لهذا انتصرَ بعضُ الباحثين لمذهبِ (الفطرة في الحب) بمعنى أنَّ الحبَّ يولد مع الإنسان، ليس له ما يفسره ماديا على طول الخط، وهو مرتبط بالغرائز اللطيفة كالرقة مثلا أو الرحمة أو الحنان وهي أشياء فطرية. وهذا المذهب يتفرع لأشياء كثيرة، منها ما هو في تشعباته مادي أو يحيل إلى مادي، وفيه ما هو روحي بحت، يجعل من العشق نورًا يُقذف من الله في جوف العاشقين. والموضوع طويل في هذا، ومتشعب، وبعض المذاهب مرتبط بعضه ببعض.
أما صاحبنا الأصبهاني فيمكنني أن أجعله في مذهب (المنفعة في الحب) أي أنه يرى أن الحب ما هو إلا وسيلة لتحقيق المصالح الجسدية في المقام الأول، والنفسية في مقامٍ ثانوي؛ بحكم إيمانه التام بالنفس، لهذا لا يعزلها تماما، إنما يجعل لها حظًا ضئيلا في المصالح. وحين نجمع تعليقاته بين الشواهد الشعرية نستنبط مذهبه في الحب.
____________________
أهيمُ بدعدٍ ما حييت فإن أمت/ فوا حزني من ذا يهيم بها بعدي
فلما سمعت قولَه (سكينة بنت الحسين) اعترضت عليه قائلة: " قبحه الله، وقبح شعره ألا قال:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت/ فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي
هنا سكينة نطقت باسم الذكورة وليس الأنوثة، لهذا فالإنسان يتظرّف لعوامل داخلية تتصارع ما بين الأنانية والغيرية من جهة، وبين العلو والدنو من جهة أخرى. وأعني في الأولى التملك التام للمحبوب حتى بعد وفاة مُحِبّه، وهذه درجة عالية في الأنانية التي يتعاطى فيها مع العاشق كنوع من المرض وليس العشق المتجلي، وأما الثاني فسكينة لما قالت قولها هذا لم تكن تعني العاشقين ككل، بل تحديدا الرجل العاشق، أي ربطتها سكينة بكون الرجل يعيب عليه اجتماعيا ودينيا أن يقول هذا القول، أي تريد أن تصفه كمن لا يهتم لو مارست أخته الجنس مع عشيقها. ولم تكن تقصد العاشقين ككل، إذ لو كان بيت نصيب قالته أنثى لما كان رد فعل سكينة كردها هنا. وهذه أعلى درجات الذكورية عند سكينة، من جهتي: التحكم والتملك الذكوري من جهة، والعلو الذكري على الأنثى من جهة ثانية.
أعودُ لما أريدُ أن أفعله هنا، وهو أن أعود إلى شواهدَ الأصبهاني لأفكّكها، وأُبيّن أنَّ ما جاءَ فيها، لا يشرح العشق ولا يغوص في أسراره، ومن ثمَّ لا يمكن الاستدلال بها، بل إن دعواه (ليس بلبيب من لم يصف ما به لطبيب) هي دعوى ملغّمة؛ إذ يريد الأصبهاني أن يؤكد من خلالها مذهبه الفلسفي في الحب. إنه يصنع الدواء في صيدليته ليخلق من خلاله الداء الذي يريد أن يلاحظه ليؤكد نظريته في العشق.
فأول شاهدٍ قول:
ما يعلم الله أني مُذْ هويتكم/ أطيق إظهار ما ألقاه باللفظ
كم قد تحفظته حتى إذا نظرت/ عيني إليك أزالت هيبتي حفظي
في هذا الشاهد يواجهنا أمران: أمّا الأول فهو اعتراف الشاعر بأنه استطاع أن يقابل عشقه باللفظ، طالما المحبوب ليس أمامه. وهذه محاولة منه للمقابلة بين (اللقاء وما قبله) مقابلة بلاغية فحسب، وهذه واحدة من أدلة زيف العشق عندهم، وما يفعلونه هو إظهار قدرتهم على بناء بيت شعري بالطريقة البديعيّة ليصفّق له السامع وينقلها الراوي. فبيتُه هنا يُغفل مضامين العشق ؛ إذ العشق في كلا أحواله لا يقابل باللفظ مهما بلغ من قدرة ونمو تركيبي. والأمر الثاني: في قوله (كم قد تحفظته)، فهل العاشق هنا ذاهب لامتحانٍ أو مقابلة وظيفية؟! فلو كان عاشقا لدفعه قلبه إلى الحبيب، وكيفما كان وصار وورد، فالحب هو المُقرر ما الذي سيجري؟ أما أن يتحفظ وكأنه ذاهب لمقابلة وظيفية، فهذا نسق لتمرير كذب الحب على السامع. إن هذا القول من الشاعر يُبرز جانبا خادعا في عشقه، كانت لذة المقابلة البلاغية في بيتيْه أهمُّ من لقاء العشيقة، هذا بافتراض وجودها، فالخليّ لا يشعر بشوق الشجيّ، وقيل قديما: ويلٌ للشجي من الخلي.
وأذكرُ في هذا المقام قول المتنبي:
أتراها لكثرة العشاق/ تحسب الدمع خلقة في المآقِي
وهذا البيت موصوف بأنه من بدائع المتنبي، وهذا صحيح في سياق الجمال البياني وابتكار المعاني الشعرية في الغزل، لكن في قوله نظرة من خارج العشق وتجربته، فنحن هنا ننطرب لهذا المعنى البديع الذي أوجده المتنبي، لكن لما نتأمله في نسق العشق وتجربته، نراه مشوها، يصور العشاق كقطيع بلا عقل أرادوا الانزواء على أنثى، وهذه الأنثى كالبهيمة لا تدرك ماذا يريدون! قد يُقال: إن المراد حلولا في الحبيبة وتجليا في عشقها لدرجة أن الناس كلهم يعشقونها. لكن لنتأمل: أولا: المتنبي لم يصف تجليه مع العشيقة كأبيات التصوف مثلا، بل وصف صورة واقعية لأنثى وحولها عشاق، فمصدر استقاء المتنبي يوضح أن المراد ليس حلولا في العشيق، بل وصفًا من خارج العشق، اهتم المتنبي بوصف جمال الممدوحةِ المادي الظاهري مما يبين أن هؤلاء العشاق ليسوا إلا مريدين لجسدها فحسب، ومن هنا فهم ليسوا عُشاقا بل مشتهين لجسدها. ومن المفارقة أن القصيدة كلها في مدح ذكر وهو (الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان العدوي التغلبي) بدأها بالغزل، وكأن المتنبي سيقدم هذه الممدوحة الوهمية جاريةً لهذا الأمير التغلبي!! وثانيا: إن اللفظ طريق المعنى، بل هو كاشف لبعض أسرار النفس، فالمتنبي يقول (لكثرة العشاق) إذن نحن أمام كثرة وليس (كل)، ومن ثمَّ لا يصح قول أبي العلاء المعري عن البيت: "فبيّن – أي المتنبي-أن كل عين كذلك إلا عينها؛ لأنها لم تعشق أحداً فلا تجزع للفراق" قد يقال: كل عين قابلتها العشيقة، وأقولُ: إن لفظة (كثرة) تعني أنها رأت من لم يبكِ وإلا فما معنى الكثرة حين لا تقابل القلة؟ لو كان كل عين قابلتها لكان الوصف الأدق كل وليس كثرة. ولكن الإجابة الأدق أن (الكثرة) من وجهة نظر السارد، وهو هنا المتنبي، لهذا لم يلتفت إلا إلى وجهة نظرِه وليس وجهة نظر العشيقة، ومن ثم فالبيت للتجمل البلاغي وليس للعشق الفعلي. وهذا التجمل البلاغي أوقعه في نسق الذكورية. بل دليل ذلك قوله بعدها:
أنت منا فتنت نفسك لكنــــــ/ ك عوفيت من ضنىً واشتياق
أي أن المعشوقة من جملة العشاق، أي عاشقة لنفسها كما يعشقها الناسُ. يقول المعري: "لأن كل أحد يحب نفسك، غير أنك سلمت من ألم الوجد وطول المرض والاشتياق؛ لأن الإنسان لا يشتاق إلى نفسه فلا يتألم من حبها". إذن طالما أننا أمام (كثرة) كما عبر عن ذلك المتنبي، فنحن أمام صورة غير صادقة في العشق، لأننا سنؤلها أيضا بناء على ما نستنبطه من وجهة نظر المتنبي وليس من وجهة نظر العشيقة، فنعود إلى فكرة العشاق القطيع المجتمعين حول أنثى، وهي جهلا وغباء لا تعلم ما بهم، ومن درجة غبائها أنها حسبت الدمع خلقة في المآقي ولم تُسائل نفسها ما بال هؤلاء القلة الذي لا يبكون؟! إن للبيت جمالا في معناه الشعري بلا شك، حين نعزله من سياقه الفلسفي في تأمل أفكار الإنسان وأفعاله، ونتأمله فقط من خلال صورة لكائنات ليست حيّة، فنتخيل ذكر آلي وأنثى آلية فتكون الصورة على أساس أنثى جميلة جدا، لدرجة أن عدد عشاقها لا يحصون، بعلامة أن كل من تقابله تراه يبكي، فظنت أن الدمع موجود أساسا في العيون. لكن الطرب على هذا المعنى ونسيان المعنى العميق في مساره العشقي، كمثل من يضحك على نكتةٍ، وهي فعليا مضحكة جدا في بنائها وتركيبها ونهايتها لكنها تسيء للسود أو للنساء، أو غيرهما حين نتأملها بشكلها الاجتماعي أو في سياقها عموما. لهذا فالسياق هنا تحديدا يريد أن يفتح غطاءً عن شيءٍ مخفي في وصف حالةِ العشق، وليس إلغاء جماليات البيت الأدبية.
وثاني شاهد قول:
أُفكِّرُ ما أقول إذا التقينا/ وأحكم دائبا حجج المقال
فترتعد الفرائص حين تبدو/ وأنطقُ حين أنطق بالمحال
وهذا الشاعر أشدُّ ممن قبله، فهو في البيت الأول كأنه سيقابل الفيلسوف (أرسطو) وليس عشيقته، إذ هو يُفكّر ليحكم الحجج. ومن المعروف أن أرسطو أصّل للحجاج وبنى المنطق الصوري، الذي سمي فيما بعد بمنطق أرسطو، وهو يقوم على المحاججة القائمة على الصور العقلية للحياة عن طريق القياس. وحتى البيت الثاني الذي قد يبهر القارئ طربا، إلا أنه إكمالا لمقابلة (أرسطو) وليس العشيقة، فهو يقول: (وأنطقُ حين أنطق بالمحال) والمحال لفظةٌ تُتَداول منطقيا وفلسفيا كونها تقابل الممكن والواجب، فيقال: الواجب والممكن والمحال. فالشاعر لما أراد أن يتلاعب لفظيا ليوهم أنه عاشق، فضحته هذه المقابلات، لهذا فارتعاد فرائصه لأنه قابل فيلسوفا أذكى منه فحسب وليس لأنه قابل العشيقة. بل حتى لفظ (ارتعاد الفرائص) لا يتناسب مع العشيقة بل مع أسد في غابة.
________________
________________
وإني لأخشى أن أموت فجاءة/ وفي النفس حاجات إليكِ كما هي
وإني لينسيني لقاؤك كلما/ لقيتكِ يوما أن أَبُثّكِ ما بيا
وقالوا به داء عياء أصابه/ وقد علمتْ نفسي مكان دوائيا
ونلحظ هنا أولا أن الأصبهاني توقف عن سرد الشواهد ليُعلق تعليقا طويلا قال: " فهذا يخبر أن لقاءها هو الذي يمنعه من شكوى ما يجدُه، إلا أنه يُشْفق من ضرره على نفسه، ولا يبقى بكتمانه على غيره. على أنه قد قصَّر عنه كثيرٌ من أهل العلم في قول: إن لقاءها يحدث في قلبه حالا لم تكن قبل ذلك ظاهرة من نفسه؛ إذ لو كان الهوى قد استوفى منه حقه، وتناهى به إلى غاية بعده لما كان اللقاء يزيد شيئا ولا نقصه".
والسؤال هنا: لماذا توقف الأصبهاني عن سرد الشواهد ليعلق كالمفجوع على أبيات المجنون، فأورد شيئين: الأول: شرح لمعنى البيت، والثاني ذكر اعتراض على أبيات المجنون من أناس أسماهُم: (كثير من أهل هذا العلم)؟ إن أبيات المجنون فيها خروج عن نسق الذكورية. وقبل أن أوضح هذه النتيجة، سأوضح ماذا يقصد الأصبهاني من كلامه. فأما الشيء الأول وهو الشرح، فقد أخفق في الشرح، إذ معنى قول الأصبهاني ما يلي: إن المجنون يُشفق على نفسه من الضرر الذي سيخلفه الكتمان؛ فلقاء الحبيبة يمنعه من الشكوى؛ لهذا هو يبثّ شكواه لغير مُحبّه. وسيتضح بعد قليل إخفاقه في الفهم. وأما الشيء الثاني وهو الاعتراض، فأولا نلحظ أنه نسبه لأناس مجهولين لكنه وضع لهم وصفا يذر به الرماد في عين القارئ قال: "كثير من أهل هذا العلم". وهذه تُسمى في حجاج أرسطو (الباتوس) وهو التأثير في الآخرين من خلال التركيز على اهتماماتهم أو نوازعهم، فيلجأ الكاتب أو الخطيب للبحث فيما يؤثر على القارئ أو المستمع فيفعله. وهنا الأصبهاني أعطى القارئ ما يشتهيه وهو أنه جاء له بكلام من أهل هذا الاختصاص، وكأن الأصبهاني يريد أن يوجه القارئ لمراده، وهو ما سيأتي في (ثانيا). وثانيا مفاد الاعتراض اتهام المجنون بنقص الحب، إذ لو كان كاملا لما كان اللقاء يزيد شيئا وينقصه. ثم استشهد الأصبهاني ليؤكد كلام المعترضين على المجنون بقول يزيد بن الطثرية:
ولما تناهى الحب في القلب واردا/ أقام وسُدت بعدُ عنه مصادره
فأي طبيب يُبرئ الحب بعدما/ يُسِرُ به بطن الفؤاد وظاهره
وبقول ذي الرمة:
وما زلت أطوي الشوق عن أم خالد/ وجاراتها، حتى كأن لا أريدها
فما زال ينمي حب مية عندنا/ ويزداد حتى لم نجد ما نزيدها
أما كون الأبيات المنسوبة للمجنون خرجت عن نسق الشعر الذكوري، فالأبيات حين نتأملها من جانب اجتماعي؛ نجد أن أنثى تختبئ خلفها؛ إذ هي تخشى أن تموت وفي نفسها حاجات لم تخرج، ولا يعلم بسر العشق ودوائه إلا (نفسها) لنتأمل البيت الثالث (وقالوا به داء عياء أصابه/ وقد علمت نفسي مكان دوائيا) لو كان القائل رجلا، لما كان الوصف بهذه الصورة، حتى لو لم يكن ذكوريا، إذ نلحظ أن الناس قد علموا أن به داء من خلال قوله ( وقالوا به داء عياء) هنا فهم الأصبهاني أنه يبثهم شكواه لهذا عرفوا ما به، لكن الشطر هذا لا يعطي من المعنى إلا أنهم قالوا أنه مريض، ولم يعرفوا سر مرضه ونوعه. ولعلّ تحريف المعنى متعلق بما هو أكبر؛ أي حتى يحرفه من أنثوي إلى ذكوري. وعدم بث الشكوى من أمارات اختباء أنثى خلفه، إذ حتى الشكوى عن عشق يعرضها للمهالك، بعكس الذكر الذي قد يبث ما به لأقرانه وجلسائه، ومن هنا فهمها الأصبهاني.
والملحظ المهم يأتي في الشطر الثاني، وهو أن النفس هي التي تعلم مكان الدواء، يعني لا أحد يعرف أبدا لا العقل ولا الجسد، بل نفسها فحسب. والنفس مؤنث وكأنها إحالة ورمز لجنسها أي جنس القائل بأنه أنثى. والنفس أيضا مرتبطة بكوامن الغيب حين نفسرها بأنها الروح، وهذا رمز آخر للتستر الأنثوي خلف الأبيات، فكوامن الغيب مثل تغييب الأنثى خلف ستر بيتها، وجلوسها الكثير في مخدعها وخبائها. وإذا سافرت صارت في هودج يسترها!.
ولو عدنا للبيت الأول (وإني لأخشى أن أموت فجاءة/ وفي النفس حاجات إليك كما هيا) سنجد أن خوف الموت الفجائي، دون خروج ما في النفس يناسب الأنثى وليس الذكر. فأمامنا خروجان: خروج الروح وهو الموت. وخروج ما في النفس للحبيب؛ وهذا الوصف تحديدا (الخروج) المجازي رمز للخروج الفعلي الواقعي، أي أن تقابل حبيبها وتتغزل به دون مواربة أو خوف. بل إن خروج الروح بالموت هو الطريق الوحيد لخروج ما في النفس؛ لهذا ما في النفس سيكون متلاقٍ مع خروج الروح وذلك لأن النفس كما قلتُ مفسرة هنا بالروح، لهذا هي تؤمن أن العشق مرتبط بالروح، ومن ثم ستلاقي روحُها روحَه وتفصح له. وهذا المعنى أنثوي إلهي، كما أن البيت الثاني (وإني لينسيني لقاؤك كلما/ لقيتكِ يوما أن أَبُثّكِ ما بيا) فيه إشارة مهمة وهي اعتبار المتحدث إليه هي النفس نفسها، في إشارة إلى أن العاشقين روحا واحدة، فهي في السياق كأنها ذكر يحدث أنثى، لكن المتسق مع الخطاب المضاد أنها أنثى تخاطب النفس، أي نفس حبيبها، وهي في الوقت نفسه رمز لاندماج الأرواح. كما أن البيت هذا يشرح لنا طريقة اللقاء العارض المتسق مع خروج الأنثى من بيتها وليس الذكر، إذ قُرن فيه النسيان، والنسيان يتسق مع الخوف من أول الطريق إلى آخره، فضلا عن كون اللقاء هو الأصل؛ فينسيها كل شيء. ولنتأمل أنها لم تقل ينسيني اللقاء ما حفظته أو نحوها، بل قالت (أن أبثك ما بيا) فجمعت بين (البث) وهذا دور اللسان والعقل، وبين (ما بيا) وهنا دور النفس، لهذا فالنفس هي التي ستنطق وليس اللسان والعقل؛ إذ اللسان والعقل نسيا، أما النفس فهي التي لا تنسى. وهذا يخلق دلالتين: الأولى: أن اللقاء لقاء أرواح عاشقة، وليس أجساد، والثانية: أن العشق أنثوي، حين تكون النفس هي المعبرة في اللقاء أما اللسان والعقل فهما يخضعان لظروف الحياة والمجتمع والأعراف والتقاليد ونحوها، فضلا عن كونهما غير قادرين فعليا لأن يقولوا ما يوازي العشق.
أما الاعتراض الذي اعتُرض على الأبيات، فمشكلته عميقة في النسق، إذ ظنوا أن اللقاء يزيد وينقص من الحب، طالما أنه فعلَ بالعاشقِ فعلا يوحي بحالٍ جديدة وقعت عليه. لكنّ السؤال: هل اللقاء أنتج حالا جديدة، بمعنى لو افترضنا شخصا اسمه (رامي) يحب فتاة اسمها (سعاد) فإذا التقى بها وانشغل بتأمل وجهها وتلذذ قربها، عن الحديث إليها، فهل هذا الفعل ينتج حالة عشقية لم تكن موجودة في رامي؟ أي هل رامي كان حبه ناقصا فزاده اللقاء؟ إن هؤلاء المنتقدين يقولون: يفترض أن اللقاء لا يحرك برامي ساكنا، لأنه إذا كان حبه مكتملا، فلا معنى لأي أفعال إضافية!، وهذا مصدر من مصادر الإشكال النسقي، حين يحاكمون العشق محاكمة بالمنطق.
إن اللقاء ليس مرتبطا بالزيادة والنقصان في الحب، فرامي مثلا حبّه لسعاد قد يكون مكتمل الجوانب كلها، وما الأفعال التي تحصل للعشاق، إلا ظاهرة من ظواهر العشق، بمعنى أن اللقاء لم يُحدث حالا جديدة، بل عبّر عن ظاهرة عشقية نفسية في الأعماق، بل قد يكون هذا من معاني العشق الغامض، أي أن العشق متجدد في كل لقاء وهو ثابت في الآن نفسه، مثل لو قلنا أن نصّ (ألف ليلة وليلة) لا تنفد درره، ولا تنقضي عجائبه، فهذا يعني أن القراء مستمرون في النهل من إبداعه وعشقهم له ثابت ومكتمل، لكن الذي يجري أنهم كلما قرؤوا النص اكتشفوا معنى متجددا في النص، فالعشق كتابُ كلِّ الكتب الملحمية وغيرها، والعاشق كلما قابل عشيقته تتجدد قراءته لعشقه لها، أما العشق نفسه فكالنص يوحي بالثبات والاكتمال.
ومما يلحظ أن اعتراض هؤلاء يستسهل العشق لدرجة التعامل معه كسلعة أو نحوها. ولم يلحظوا أن هذه الأبيات تشرح مشكلة العشق؛ بأن تجعل النظر والشم واللمس لها درجات مغايرة للسماع مثلا، وهذه كلها مغايرة لخيالها، وغير ذلك، وهذه كلها مرتبطة بأنَّ العاشقَ يقرأ عشقه لعشيقته، وليس يزيد عشقه أو ينقص. إذن ما نراه قد يكون عبارة عن ظواهر في العشق وليست حالات انتقالية مفترضة.
وهو مع هذا كله؛ فإن الأصبهاني تعمد أن يقرأ قول ابن الطثرية وذي الرمة، على النحو الذي قرأه به، لتصح مقولته، وتفتح صيدليته أبوابها. لكن لو تأملنا أبياتهما لوجدنا أن ابن الطثرية يعني ألا مدخل لحبٍّ آخر غير ما استقر، وأنه لا يوجد طبيب يبرئ الحب، وهو متمكن من ظاهر الفؤاد وباطنه. ويا بُعْدَ هذا المعنى من مراد الأصبهاني لعضد قول المعترضين على أبيات المجنون. وأما قول ذي الرمة فهو إشارة إلى أن حُبَّ ميّة بلغ الذروة عنده، لدرجة أنه ليس عنده ما يزيدها، وهذا معنى لم نختلف عليه، نحن نختلف مع المعترضين على فهم البيت، فلو قال أحدهم: مازال حب كتاب ألف ليلة وليلة يزيد حتى لم أجد ما أزيده. هذا لا يعني أنه إذا قرأ ألف ليلة مرة أخرى لن يجد فيه أسرارا جديدة وتأويلات جديدة، لأن اكتشاف الأسرار والتأويل مختلف عن حبه للكتاب، الاكتشاف هنا من ظواهر عشقه للكتاب وليس هو عشقه له. فــ (ذو الرمة) وصل حب مية لذروته، ومع ذلك إذا قابلها إما يبكي أو يرقص أو يضطرب أو يصمت أو غير ذلك، لأن هذه ظواهر عشقية وليست هي العشق نفسه. ولو قدّر أن يُجمع شعر الإناث الأصيل، وما يؤول أنه شعر إناث متدثر باسم ذكر، لكان لدينا مقارنة في العشق دقيقة، وشرح أعمق لتفاصيله. تقول الأديبة الفرنسية مدام دي ستايل: " الحبُّ عارض في حياة الرجل، ولكنه حكاية المرأة" والأصبهاني – بحكم أن نشأته في بيئة ذكورية- فإنه يرى أن المرأة لا تقول شيئا، وإن قالت فإنها تنسخ ما قاله الرجل، ولكونه من بيئة دينية، - هو فقيه كابن حزم- فإنه في نهاية المطاف سيعدّ العشق خطابا في الفسق والزنى، وهو كابن المقفع الذي يقول: " اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأضرها بالعقل، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار، الغرام بالنساء" إن هذا الخطاب المسيطر هو الذي يجعلني أقول: إن قائل (أهيم بدعد ما حييت فإن أمت/ فوا حزني من ذا يهيم بها بعدي) ليس ذكرا ينتمي للخطاب نفسه، ولعل من المفارقة أن من رد عليه امرأةـ لكن عندما نعلم أنها تحمل الخطاب الذكوري فهي سليلة علي بن أبي طالب، لا نستغرب ردها المستفحل المتسلط. ولهذا أنا هنا لن أقول كما يقول الناقد عبد الله الغذامي بأن المتحدث هنا هو النسق الثقافي، بل إن المتحدث هنا هو نسق ثقافي ضمن أنسقة ثقافية أخرى يُجْليْها التأويل من خلال الشخوص القائلين كسكينة هنا، ومن خلال الخطاب المضاد المنسوب لذكور وهو يعارض النسق الثقافي العام كقول نصيب، السابق، وقول أبي الشيص الخزاعي:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي/ متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة/ حبا لذكرك فليلمني اللوّم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم/ إذ كان حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغرا/ ما من يهون عليك ممن يكرم
وكذلك من خلال نصوص مبثوثة لإناث، تجردوا من بعض المسؤوليات الثقيلة من المجتمع، كالإماء في مقابل النساء اللواتي احتملن ثقلا يكبلهنّ، فهنَّ إما أن تكون متبنّية للثقافة الذكورية، أو متسترة، لا تستطيع أن تفصح عمّا بداخلها فتجعله على لسان أَمَةٍ مثلا، أو ذكر متأنث. فالخطاب العام يسيطر عليه حِسّ التملك، والبتّ في تحديد العلاقة مع الآخر، ولكون الذكر هو المسيطر في تاريخ الثقافات فإنه هو من يحدد التملك ونوع العلاقة، ومَن فكّرت بهذه الطريقة من الإناث فهي تساعد الذكر بالتملك، لهذا تكون ذكورية الفكر/ أنثوية الجسد.
لكن السؤال: ماذا لو تصورنا أنثى تفكر بهذا الخطاب العام ولكن من جهة كونها أنثى؟ فمثلا لو قلنا إن امرأة اسمها (هند) أحبت امرأ اسمه (سَعْد) فقالت: (أهيمُ بسعْدٍ ما حييت فإن أمُت/ فوا حزني من ذا يهيم به بعدي.) فإن هذا المعنى يركز على قيمة العشق ذاتها، وأن الآخر (المحبوب) يجب ألا يفنى مع فناء مُحِبه. لكن لو قالت: (أهيم بسعْدٍ ما حييت فإن أمت/ فلا صلح سَعْد لذي خلة بعدي) فإنها هنا تتملك وتقطع في تحديد علاقة المحبوب بها بعد الموت أيضا.
لكن ما الفرق بين الذكورة والأنوثة هنا في سياق البيت؟ إن الذكورة لا تتحدث عن عشق فحسب، بل عن عيبٍ سيُحَمِّله المجتمعُ إياه، إذ كيف تقول أتمنى أن لا تذبل حبيبتي بعدي، بل أتمنى لها من يعشقها مثلي لتظل حية مورقة، لا تموت بموتي. ومن ثم فإن هذا الوصف –عند العرب-لا يليق بذكر أن يقوله!! لهذا فإن عقل الذكر وخياله سيتحكم بهما النسق الاجتماعي أيضا، وهذا متجردة منه الأنثى، إذ هي التي يُغار عليها ولا تغير، ولا أعني أن الأنثى لا تغير الغيرة المعروفة، لا، إنما أعني أن الذكر اجتماعيا مسموح له أن يفعل بأربع نساء، والأنثى لا يسمح لها أن تفعل بأربع ذكور، ومن هنا فكأن الذكر هو المسموح له أن يغار والأنثى غير مسموح لها.
إذن خطاب التملك عند الأنثى مشتق من الذكورة، وليس نابعا من ذاتها. وهذا افتراض أفترضه لهذا قلبتُ مثال البيت الشعري من رجل لامرأة، فتكون الأنثى (هند) هنا تعشق (سعد) ما دامت حية، وهذا مفهوم، لكن بعد الموت من شدة عشقها له، فإنها لا تريد له أن يذبل، أما لو أرادت له أن يذبل فإنها فضلت مفهوم التملك على مفهوم العشق نفسه، لهذا قلتُ إن معنى بيت نصيب هو أنثوي بامتياز، ورد سكينة بنت الحسين هو ذكوري بامتياز. إن عملية الموازنة بين خطاب أنثوي وخطاب ذكوري، هو الكفيل بتغيير رؤى ذكورية كثيرة؛ لهذا فإن الأديبة مي زيادة لما اعتبرت الرجل حجر العثرة الذي وقف في وجه المرأة فإنها تقصد أنه لم يُتِح لها فرصة التعبير عن نفسها، وقد جاءت مي بشاهد من ثقافة أخرى، وهو موقف (كارودتشي) الذي قال في أول أمره: " يجب على اثنين ألا يعالجا الشعر: الكاهن والمرأة" لكن (كارودتشي) لما اطّلع على أشعار ( إليزابيث براوننج) الإنجليزية، و(مدام ديبور فالمور) الفرنسية، و( آني فيفياني) الإيطالية، قال: " لدى المرأة ما تقوله غير ما تنسخه عن الرجل". تلك الموازنة المشروطة بالحريةِ، حريةِ الأنثى، هي التي تُحرر عقل الذكر وتفك قيوده وتجعله يفكر بطريقة مختلفة. فعندما تتحرر المرأة تحرر الرجل معها. فلو صحّت الموازنة في ثقافة العرب بين الخطاب الأنثوي والذكوري، ومن ثم اندماجهما في خطاب عميق، قاعدته الأنوثة، لرأينا القراءات التراثية القديمة تشير إلى أنساقِ إيثار الآخر وتقديره، والتفاني الصادق في المعشوق لذاته، لا لتملك أعضائه فقط، ومن ثم نرى الشعر الأنثوي يَطفح على سطح ديوان العرب بين الإناث والذكور، بوصف صادقٍ إنساني مثالي اندماجي، لا يرى الفحولة الذكورية شيئا، بل يعلي من معنى العشق الذي يذوّب القلوب، كالسكر في كوب شاي، لتكون قلبا واحدا، محبا رحيما شفوقا، حنونا، مؤثرا على نفسه، يتبارى العاشقان فيه: من يقدم للآخر احتياجاته ورغباته ولذاته.
وتردُ هنا قصة أم عتبة بنت عمر بن الأبجر اليشكرية، مع زوجها غسّان بن جهضم، لما مَرِضَ مَرَضَ الموتِ، خاف أن تتزوج بعده (= وهنا نموذج يرضي المفهوم الذكوري لا على أساس أنه وفاء -إذ الوفاء لا يُحتاج معه إلى أخذ مواثيق، فالعشق هو الكفيل بالوفاء-بل على أساس التملك المجتمعي التام فهو هنا يريدها أن تموت معه وهي حية، لكن لو كان بينهما عشق عميق، لضمن دون أن يتحدث أنها لا تريد غيره بعد موته، ولكن الموضوع كان زواجا اجتماعيا وعشرة حياة، لا عشق وحب وتفانٍ) فدعا الزوج زوجته قائلا:
أخبريني الذي تريدين بعدي/ والذي تضمرين يا أم عقبة
تحفظيني من بعد موتي لما قد/ كان مني من حسن خلق وصحبة
أم تريدين ذا جمال ومُلْكٍ/ وأنا في النيران في سحق وغربة
ولنتأمل قوله (لما قد كان مني من حسن خلق وصحبة) نعم، هو لا يعول على حبّ، بل صُحْبة وأنه لم يسيء لها، ومما يؤكد غياب مفهوم العشق عن ذهنه أنه قابل فعلَه بصاحب جمال وملك، ولم يقل مثلا: أم تريدين التعشّق.
فأجابته زوجته قائلة:
قد سمعت الذي تقول وما قد/ خفْت منه غسان من أم عقبة
أنا من أحفظ النساء وأرعا/ ه، لما قد أوليت من حسن صحبة
سوف أبكيك ما حييت بشجوٍ/ ومراث أقولها وبندبة
إن الزوجة هنا انعكس مفهومها للوفاء من خلال حديث زوجها؛ لهذا هي تقول إنني أحفظ النساء بسبب حسن صحبتك. إلا أننا نلحظ أنها لم تعطِه عهدا بعدم الزواج بعد وفاته، إذ قد شرحت طريقة حفظها للعهد العام بأن تبكيه وترثيه مدى الحياة.
نحن هنا أمام تأويل أنثوي وسوء ظنٍ ذكوري، إذ أجاب الزوج بعدها قائلا:
أنا والله واثق بك لكن/ احتياطا أخاف غدر النساء
بعد موت الأزواج يا خير من عُو/ شِرَ فارعي حقي بحسن الوفاء
إنني قد رجوت أن تحفظي العهد/ فكوني إن مت عند الرجاء
وجدتْ الزوجةُ نفسَها في لحظة ازدواج، بين زوج مات لم تُكِنَّ له عشقا، -والحياة قد تفاجئها بشغفٍ عاشق-، وبين عهد اجتماعي، ظاهره الوفاء وباطنه الموت والكذب والتملك وسوء الظن العام (= أخاف غدر النساء) لهذا لم تُعطه في أبياتها الأولى عهدا صريحا بأنها لن تتزوج؛ إذ هي في داخلها غير مقتنعة لكن ظاهرها يبدي اقتناعا لأنها ربيبة المجتمع الذكوري ذاته؛ لهذا لما تقدم لها الخطّاب بعد وفاة زوجها مباشرة لم تكن أفاقت بَعدُ من هذه الازدواجية فقالت لهم:
سأحفظ غسانا على بعد داره/ وأرعاه حتى نلتقي يوم الحشر
وإني لفي شغل عن الناس كلهم/ فكفوا فما مثلي بمن مات يغدر
سأبكي عليه ما حييت بدمعة/ تجول على الخدين مني فتهمر
لهذا تقول الرواية: إنه لما تطاولت الأيام تزوجت أم عقبة، أراد الراوي أن يقدح بالنساء، مع أن الرواية تُفصح عن مدلولٍ آخر تحمله الأنثى في جوف روحها وهو العشق، ذلك الذي قد لا يفهمه إلا من تأنثت روحه. وفي الرواية إشارة إلى ذكاء أم عقبة الذي جعل منها متمردة من أجل العشق، ذلك الذي لا تعرفه، لكن في داخلها صوت يقول لها عنه، ذلك الصوت هو ما جعلها لا تبرم عهدا واضحا في أول أمرها مع زوجها، وهو الذي جعلها تشير إلى أن ما بينهما مجرد عشرة.
_____
خاتمة:
ولهذا كله أرى بأن قول أبي الشيص الخزاعي (وقف الهوى بي حيث أنتِ) له نسق مغاير، لا أعني أنه نسق خجول لكسر النسق الفحولي كما يقول الناقد عبد الله الغذامي، بل إنه نسق يؤسس لمعنى (طلب الهوان) ولربما أُشبهه بما يسمى (المازوخية) و (السادية) حين نجمعهما في حقل واحد، دون أن يكون هذا التأسيس كسرا للنسق الفحولي؛ إذ إن الأبيات ليست متجردة للآخر، بل فيها لذة تعذيب من قِبل (آخرٍ ما) = (وأهنتيني فأهنتُ نفسي صاغرا/ ما من يهون عليك ممن يكرم). التفاني في الآخر وللآخر، لن يكون بهذا التعبير، إذ لن يَتَخّيّل المغاير –مُحِب الآخر-أن تقع إهانة، لا منه، ولا من الآخر، وإلا لن تكون تفانيا. لهذا هو يقول: ((أشبهتِ أعدائي)) = من خلال الإهانة إما ضربا جسديا أو ألما نفسيا، وتخرج متجلية في اللذة الجنسية، من خلال التعذيب للآخر (السادية) أو من خلال تعذيب النفس (المازوخية). ((فصرتُ أحبهم)) المحبة هنا محبة لذة جنسية؛ لتشابه فعل الآخر بفعل الأعداء من خلال الضرب والإهانة ((إذ كان حظي منكِ حظي منهم)).
لهذا يُروى عن أبي الشيص الخزاعي أنه إذا سئل: ممن أنتَ؟ قال: مِنْ (وقف الهوى بي). ولعلّ السبب أن هذا الأبيات أصبحت إشارة واضحة لأبي الشيص، من خلال فرادتها، فالكثير يُشير إلى تميزها شعرا فقط، وهذا فيه نظر عندي، إذ الفرادة في معانيها التي حاولت تأسيس نسق مغاير غريبا، هو في ظاهره يكسر نسق الفحولة –كما رآه الغذامي-لكنه في باطنه لا يكسره؛ إنما يؤسس له من جهة ثانية، فالفحل يحب أن يَضرب لا يُضرب، يريد أن يَتَسلّط لا يُتَسَلّط عليه، يريد أن يَتَحَكّم لا يُتَحَكّم به، يريد أن يُهيْن، لا يُهان، لا يُحب أعداءه أبدا، ولا يسامحهم. ونلحظ أن الذي جرى في أبيات أبي الشيص الخزاعي، هي أخذ هذه الصفات وإعطائها ضرورة لآخر، الذي قد يكون فحلا أيضا، أو تأسيسه ليكون فحلا، بينما التفاني الحقيقي والاندماج في الآخر المعشوق هو كسر هذا النمط أساسا، لا إعطائه تبريرا للآخر، مما يؤكد أنه قد يكون مرضا وليس تفانٍ في الآخر.
الأصبهانيُّ، ابن داودٍ، فيلسوفٌ ماديٌّ، على أساس أنَّ البدهيات مستمدة من الواقع؛ فالبدهيُّ عنده ليس ما يُطابق الواقع، ولكنه ما يتفاعل بإيجاب في الواقع. ومن هنا كان سبب اتخاذه المذهب الظاهري نِحلة له، إذ المذهب هذا يجعلُ من نظرية المعرفة نظريتين مفترقتين، الأولى للمعرفة البشرية والثانية للمعرفة الشرعية، فهم يحررون المعرفة البشرية التي يحتاجها الناس في حياتهم، ثم يشقّون طريق المعرفة الشرعية القائمة على تلقي النصوص الشرعية كما تظهر لنا؛ إذ ليس الغرض أن نصنع مدلولا بشريا يجاوز ظاهر النص، فيبرز قدراتنا. ومن هنا كان رفضهم للقياس.
وقد استخدم ابن داود هذا التفريق، ليؤسسَ طريقه في (العشق) ومن ثمَّ صناعة كتابِه (الزَهْرة). فابنُ داودٍ يرى أنَّ طريقَ المعرفة البشرية هو الحس، وأما حاجة الحس للبدهيات كي يكتمل طريق الاستدلال؛ فإنه يقرر أن البدهي هو ما يتفاعل بإيجاب في الواقع، لا ما يطابق الواقع. وقد كانت هذه النظرةُ التي وظفها في منتدى الزهرة، -المنتدى المجازي-، نواةً لأول منتدى ثقافي عربي، ذلك الذي أسَّسه أبو القاسم، الحسن بن بشر الآمدي، ليبني مركزا للتعايش بين اللات والعزى؛ يقول في (الموازنة بين أبي تمام والبحتري): "فأما أنا فلست أفصح بتفضيل أحدهما على الآخر، ولكني أوازن ين قصيدتين من شعرهما إذا اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية وبين معنى ومعنى فأقول: أيهما أشعر في تلك القصيدة وفي ذلك المعنى، ثم احكم أنت حينئذ على جملة ما لكل واحد منهما إذا أحطت علما بالجيد والرديء". لكنّ الآمدي ما استطاعَ أن يتجرد من كرسي عرشه على المنتدى، فهو وإن بدأ نصه في الدفاع عن أبي تمام، -عندما انبرى للرد على مقولة أبي علي السجستاني التي تحدُّ إبداع أبي تمام في ثلاث معانٍ-إلا أن هذه البداية قد تؤول أنها لصرف الذهن عن تأويلاتٍ لا يُريدها المؤلف حين يورد: "بل الذي وجدتهم ينعونه عليه كثرة غلطه، وإحالته، وأغاليطه في المعاني والألفاظ" لهذا فقد انطوى في العُزّى ما استُبعِد: (وإن جرت الألفاظ منا بمدحةٍ/ لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني).
لقد كان منتدى الآمدي تأسيسا للمنهجية التي قامت عليها مجالس الأدب لاحقا، إذ سَعَى الآمديُّ إلى تلمُّسِ الأسباب التي أدت إلى الأخطاء، ثم استعرض الرؤية العامة حول هذه الأسباب، ليكشف عن استراتيجيات التلقي والإرسال، لتتوازن المذاهب بين حقائقها وأباطيلها. لكنّ الآمدي في منتداه حمل معه روحَ ابن داود؛ حيث سيطرت عليه فكرة الواقع والحقيقة وسعى إلى تنميط الشعر فيها؛ فمثلا لما جاء إلى قول أبي تمام: (جَلَّيْتَ والموتُ مبْدٍ حُرَّ صَفْحَتِهِ/وقدْ تَفَرْعَنَ في أفعاله الأجـــــــل) قال: كيف اشتق للأجل الذي هو مُطِلٌّ على كل النفوس فعلا من اسم فرعون وقد أتى الأجل على نفس فرعون وكل فرعون كان في الدنيا؟!. من هنا سيطر الحسُ على لغة الآمدي النقدية؛ فهو يحاكم أبا تمام من خلال نافذة الحس! وأبو تمام يتلاعب بالمعاني، ويعقد بينها خيالات لا يسيطر عليها إلا فضاءات الوعي المعقدة.
ابن داود الأصبهاني كان مثليَّا؛ يعشق شخصا اسمه (محمد بن جامع الصيدلاني) ولعل في اسم معشوقه ما يُذكِّر بصيدليته!. ومثليّةُ ابنِ داود مُتعلّقة بفلسفته المادّية. أي أنه يريد تجريب شيء ما، ينتظر نتائج الوعي بشيء ما، بعد أن عقد الصلة بينه وبين المادة بتفاعل مادي. (يُروى أن نفطويه دخل على ابن داود في مرضه الذي مات فيه؛ فقال له: كيف تجدك؟ فأجابَ: حُبُّ مَن تَعلم أورثني ما ترى. فقال نفطويه: ما منعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع على وجهين: أحدهما النظر المباح، والثاني اللذة المحظورة. فأما النظر المباح فأورثني ما ترى، وأما اللذة المحظورة فإنه منعني منها ما حدثني به أبي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا علي بن مسهر، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس عن النبي أنه قال: من عشق فكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة). ولنلحظ أن ابن داود لم يروِ إلا حديثا واحدا عن أبيه، اختار متنَه؛ لأنه مرتبط بالتفاعل الواقعي، فهو يريد أن يجعل من دخول البدهيات إلى تجربته الحياتية، دخولًا ماديا أيضا. لهذا مثلية ابن داود هي مثلية فلسفية، يعيها هو ومحمد بن جامع الصيدلاني، ومن هُنا تُفسَّر تلك الحكاية الغريبة التي يرويها الخطيب البغدادي يقول: ومن الغريب في حكاية عشق ابن داود للصيدلاني، أن الصيدلاني كان يُنفق على ابن داود، وما عُرف فيما مضى من الزمان معشوق ينفق على عاشق إلا هو. والمفارقة أن تلك الفلسفة هي التي قضت عليه، ففي الحديث الذي يرويه بسنده، لم يُفرق بين عِشْق مثليّ أو عشقٍ غيري، لكن نتيجة الشرط (من عشق) متفرعة عن الغيرية، تلك التي لا يستطيع أن يجربها يقينا؛ لهذا هرب منها، وهو لا يَعلم أنَّ مثليةَ الأُنثى هي غيرية في الآن نفسه. ومن هنا كان تشتته، وانقلاب منتداه رأسًا على عقب.
____________________
* بابٌ مثقلٌ بالحديد:
وسيكون حديثي هنا عن جزئية في منتدى ابن داود، الذي ارتضيت أن أُسمّيه منتدى الزهرة؛ نسبةً إلى كتابه الشهير. وهذه الجزئية تتفرع إلى جهتين: الأولى: هل للعشق مُقابل موضوعي؟ بمعنى هل له مقابل لفظي وإيمائي ونحو ذلك يمكن أن يوفيه حقّه، فإن كان فما مدى صحة مقاربته ماديا؟ مما يُمكّن الآخر من ضبط العشق وأفعال العشاق؟ والثانية: تساؤل كبير حول الإرث الأنثوي الذي يشرح هذه الظاهرة (العشق)؛ فالأصبهاني يُعبئ كتابه بإرث ذكوري، ثم يأخذنا معه في دعوى أنه يشرح الباب، بل الموضوع العشقي كله!
لهذا تُربِك الأصبهانيَّ تلك الافتراضات التي تُتداول في منتداه من أن العاطفة الأنثوية إلهية، والعاطفة الذكورية مادّية، ولا يُعنى بالإناث الإفراد، بل مفهوم الأنوثة بصفته يرتكز على عاطفة إلهية، وكذا الذكر في العاطفة المادية، ولعلّ القاعدة في الانطلاق بهذا الافتراض، هو أن الذكور في الخطاب الشعري العربي يَعُدّون العاشق مؤنثا، إذ مرادهم أنه لا يليق بالذكر أن يكون عاشقا، بل هي صفة أنثوية. هم هنا يعدون فعل العشق مثلبة، لهذا نجد تعريف الغزل عند ابن رشيق في العمدة أنه التخلق بما يوافق النساء. ومن هنا قال الناقد عبد الله الغذامي عن هذه الحالة ناقدا لها: " فإن جنس العاشق يختلط، فلا هو رجل ولا هو امرأة، كما أنه ليس عاقلا ولا مجنونا، ولا هو حي ولا هو ميت، إنه كائن مجازي فحسب".
من هُنا فإنَّ هذا الافتراض ينطلق من أساس راسخ في الخطاب الشعري عند العرب، ومن ثمَّ ماذا لو حصلنا على إرث أنثوي نستطيع به أن نتجاوز الفرضية إلى نظرية، ولا أعني بالإرث الأشعارَ التي كتبها نساء فحسب، إنما ما كانت معانيه مضادة للذكورة؛ لننظر إلى أي اتجاهٍ يتجه. لكن كيف نحصل على هذا الإرث والخطاب الذكوري مستبد بالعقل الذكوري والإناثيّ، ويخرجهم على قالب واحد. لهذا فإني أقترحُ أن تُنْبَثَ شواهد متفرقة تنتمي إلى خطاب مغاير للذكورية، ويُركز على كونه خارج من أنثى، أو ما يُشتبه بكونه خارج من أنثى، ولا يلزم الاكتفاء بالشعر التقليدي، بل يُتوسع إلى مفهوم الشعر بصورتها الأشمل التي استخدمها حسان ابن ثابت دليلاً على شاعرية ابنه عبد الرحمن حين لسعه زنبور؛ وذلك أن عبد الرحمن رجع ذات يوم وهو يبكي قائلا: "لسعني طائر"!، وبحكم أن الطائر يحتاج إلى تخصيص لنعرف أي طيرٍ هو؟ فقال حسان: "صِفْه يا بني" فقال عبد الرحمن: "كأنه ملتفّ في بردي حَبِرة" فابتسم حسان وهلل قائلا: "قال ابني الشعر ورب الكعبة". كما أيضا يؤخذ من غير الشعر، شواهد، ولو فتحنا الباب على مصراعيه للعصور الحديثة، لوجدنا الإرث الذي يسعفنا لتفكيكِ العاطفة الذكورية المُزيفة، التي يمثلها قول عمر بن أبي ربيعة:
سلامٌ عليها ما أحبّت سلامنا/ فإن كرهته فالسلام على أخرى
وتأسيس عاطفة أنثوية تشمل الإناث والذكور، ونعرف من أين تَغرف، وإلى أين تتوجه. وأما هنا الآن فإني أريدُ أن أعود إلى شواهدَ الأصبهاني لأفكّكها، وأُبيّن أنَّ ما جاءَ فيها، لا يشرح العشق ولا يغوص في أسراره، ومن ثم لا يمكن الاستدلال بها، ثم سأعرض نموذجًا أو نموذجين أنثويين لعلها توضح مقصدا من المقابلة التي أريد بين الشواهد الذكورية والشواهد الأنثوية، وإلا فليته يحصل أن نضع شواهد كُثر أنثوية في مقابل الشواهد الذكورية، لنأسِسَ منها خطابا موازيا. ولعلّ هذا يحصل في قادم الأيام.
_______________
- بابٌ مثقل بالخشب:
رأيتُ الحُبَّ ليس له دواء/ سوى وضع الصدور على الصدور
وكأن ابن الرومي سمع قول القائل هذا فقال لأُجَرِّبَ، فلما جرب قال:
أعانقه والنفس بعد مشوقة/ إليه وهل بعد العناق تداني
وألثم فاها كي تزول حرارتي/ فيشتد ما ألقى من الهيمانِ
كأن فؤادي ليس يُشفى غليله/ سوى أن يرى الروحين تمتزجان
إن ابن الرومي هنا يرد ردا مؤلما، على سابِقه، وهو في الوقت عينِهِ ردا لنفسه، حين خرج من تجربة (وضع الصدور على الصدور)، بمزيد من التساؤلات عن مصدر العشق؟ فكأنه يقول: إن كان مصدر العشق رغبة جسدية فها أنا وضعت الصدر على الصدر، وما زادني إلا شوقا مختلفا. أي لو كان وضع الصدر على الصدر مصدر العشق، لكان يطلب وضعها مرة ثانية وثالثة، ورابعة وخامسة ...إلى أن يشبع بعد حين، لكن الذي يحصل أن النفس بعد وضع الصدر على الصدر تطلب معنى آخر، لأن الجسد عن ليلى مثله عند سلمى، لكن حين يضع صدره على جسد حبيبته يأخذ في تأمل معانٍ مختلفة، وكأن جسدها مختلف عن أجسادِ البقيّة، فيأتي التساؤل عن هذه المعاني التي تجعل من جسدٍ مميز على جسد، مع أنهما في الظاهر واحد، بل قد يكون غير المعشوق هو الأجمل ظاهريا.
لهذا فالملاحظ من تجربة ابن الرومي أن هيمانَه لم يكن جسديا بل روحيا بعلامة قوله (سوى أن يرى الروحين تمتزجان) أي أنه استسلم لهذا العشق الخِضمّ وقال إن العقل لن يسكت عن التساؤلات إلا بامتزاج الروحين. لكن حين يُسأل كيف تمتزج الروحان؟ لن يُجيب إلا بإعادة القضية إلى سابق عهدها، وذلك بأن يقول فهم العشق مستحيل كاستحالة أن أفهم مزج الأرواح، وقبل ذلك ما الروح؟!.
هو لا يعلم ما الروح؟ لكن يعلم أنَّ مصدر العشق يوازي مفهوم الروح، تلك التي نُحيلها إلى الله؛ لأننا لا نعلم ما الله؟ إلا أنه المُطلق الذي يُدرك كل شيء وهو لطيف لا نُدرك كنهه، فَمَنْ رأينا لطيفًا، عظيما، رؤوفا، حنونا، شفيقا، عطوفا، رحيما، مُؤْثِرا على نفسه، جليلا، مُريْدا، مُتحدّثًا كملاكٍ ينظر إلى السماء، نقولُ عنه: هو من روح الله، مع أننا لا نعلم كنه الله، وفي الوقت نفسه نحدد من يكون من روحه، إن السبب نابع من تلك المعاني المتجردة التي ارتفعتْ عن معاني المادة والنسبيّة، وصراع الأرض.
وقد خرجَ فريق ثالث، -يمكن عَدّهم بين القائلِ الأوّلِ، وابن الرومي-يروْنَ أن العشق ما دون إرادة الولد. ويمكن أن نستشهد لهم بقول القائل:
ما الحبُّ إلا قبلة/ وغمز كفٍّ أو عضُد
من لم يكن ذا حبه/ فإنما يبغي الولد
ما الحب إلا هكذا/ إن ينكح الحب فسد
إلا أنَّ هذا الفريق لم يخرج كثيرا عن الفريق الأول أصحاب الجنس الكامل، إنما خففوا من تعمّقه الجسدي، ومن ثم يصح أن يُقال إن هذا الطريق متفرع عن الأول، وفي الجملة لم يقربا أبدا من تساؤلات العشق.
لهذا اتّجه فريقٌ رابع؛ ليجمع بين الفريق الأول والفريق الثالث، -أي أصحاب الجنس الكامل وأصحاب الغمز واللمس والقُبل-ليبيّن أن القُبل ونحوها طريق لابد منه، لكن لا يكتمل الحب إلا بقضاء كامل الوطر. ويمكن أن نستشهد لهم بقول:
تقول وقد قبَّلتها ألف قُبلة/ كفاك أما شيء لديك سوى القُبل
فقلت لها حب على القلب حفظه/ وطول سهاد تستفيض له المقل
فقالت وأيم الله ما لذة الفتى/ من الحب في قلب يخالفه العمل
____________
- انعطافة بعد الدخول من الباب الخشبي:
أي إن الأبيات التي تُنسب للأنثى من خلال لسان الذكر، لها سياقات (ذكرية) في العموم، ولكن من المهم أيضا الاعتناء بها على افتراض أنها أشعار أنثوية، ومن ثم تُدْرس، ليُحدّد ما هو ذكوري وما هو مغاير، فيُصنف بحسب دقة الرؤية الإنسانية.
فمثلا هنا (البيت الثالث) = (فقالت وأيم الله ما لذة الفتى/ من الحب في قلب يخالفه العمل) يزعم الشاعر أنه ينقل لنا رأي الأنثى التي يُحبها، وهو أنها ترى أن الجنس الكامل هو المعيار الحقيقي للعشق، بدليل أن الاعتقاد القلبي الذي لا يصدقه العمل لا يعول عليه، وهنا وضعت (اللذة) محل (الاعتقاد) أي أن اللذة لا يعول عليها في قلبِ من لا يفعل الجنس الكامل.
ونلحظ أولا (معيارًا) وضعتْه في مقاييسها، وهو اللذة، ومن ثمَّ اعتبرت أنَّ ما يجلب اللذة هو الجنس الكامل فحسب، وهذا قد يكذبه مطلق الحس حين نتأمل التفاعل الجنسي عند الأنثى، فنجد أن الأنثى بالعموم تتلذذ كثيرا بما هو دونَ الجنس الكامل، ومن هنا فالأنثوية تستغرق في التفاصيل الدقيقة، أما الذكورية فهي محبة الأشياء الكبرى والتذمر من كثرة التفاصيل، ولهذا انشغال الذكورية الدائم بالحروب المباشرة على أساس أنها هي الحل السريع والأكبر، وأما الأنثوية فقد كانت تدخل في رحلة احتيال ذكي حتى تظفر بما تشاء، وهذا الاحتيال قد يستغرق مئات التفاصيل الصغيرة. وبعدَ تغيّر الزمن من حيث قلة الحروب والارتضاء بالسَلام الجُزئي على الأقل، استمرّت الذكورية تبحث في الأشياء الكبرى، وتتململ من التفاصيل، بل إنها تندب الزمان الذي ضاعت فيه الثقافة الشمولية! وقد يتضح هذا في التفاصيل الصغيرة في تصاميم البيوت الحديثة أو الصبر الطويل على فن الطبخ، وتشعباته الكثيرة، أو حتى الاستغراق في تفاصيلِ الأزياء، ونحوها مما تنتمي لما بعد الحداثة.
فهل البيت فعليا ينتمي لأنثى؟ أم هو الشاعر نفسه ألَّفَ من خياله حوارا بينه وبين من يدَّعِي حُبَها، بعدَ أنْ تساءل: هل الحب هو قُبل وحسب أم جنس كامل؟ وأضمر أن يَنْسِبَ للأنثى المتخيلة -التي لا يعرفها أحد-ما هو مرفوض اجتماعيا، وينسب لنفسه ما هو عُذري؟ وفي هذا باطن معكوس، حين أخرج للناس مراد مَن يُحبها، أي أنه أخرج هذا الرأي لأنه يتبناه فعليا، ولا يوجد عشيقة ولا ما يحزنون.
ونلحظ (ثانيا) أن (القُبَل) عملٌ، أيضا ولكنها أُسقطت من قاموس الأبيات!، بمعنى إذا كانت الأنثى المتخيلة في الأبيات تقول إن اللذة لا يعول عليها إلا بالعمل، فما بال القُبَل!! أليست عملا؟ وهذا الأمر قد يُشير إلى الإرادة المُسبقة عند قائلها لمدح الجنس الكامل، ولكن خوفًا من غضبةِ أحدٍ أو نحو ذلك جعله على لسان عشيقة مجهولة، بل ليست موجودة.
______________
- عودة إلى طريق الباب الخشبي:
وثالثا فإن هذه الفرق الثلاث (الأول والثالث والرابع) لم يشرحوا العشق وأسرار بقائه أو فنائه، بل تحدثوا عن ظواهرَ تُحَرِّك كوامن شبقية ليس إلا، وهذا ما يجعلهم يربطونها بالأحاسيس وحسب، ومن يخرجها من الأحاسيس عندهم يُخرجونه من خطابهم ومجتمعهم بل يلعنونه لعنة أبدية، كمثل امتزاج الروحان لا مكان لها عندهم، بل هي عبارة مستهجنة عندهم، ولا تعبر إلا عن مجانين أو أناس صدقوا بخرافات غير مادية!!. لهذا يقول قائلهم:
قولا لعاتكة التي/ في نظرةٍ قضت الوطر
إني أريدك للنكاح/ ولا أريدك للنظر
لو كنت مقتنعا بذ/ لك، كان هذا للقمر
_________________
- انعطافة أخرى عن الباب الخشبي:
إذن يُمكِنُ أن نستخرج من هذه الأبيات الذكورية معنىً أنثويًا نطق به الشاعر ليخرج فحولته وتسلطه، ولكن لم يدر أنه ينقل لنا رأيا لامرأة اسمها عاتكة، كانت ترى العشق بتفاصيل لا تخطر على بال الذكر الذي يريد أن يتمتع بجسدها في أسرع وقت، ويذهب إلى أخرى، بينما عاتكة لمجرد أن رأته تلذذت وأحبَّتْ أنْ تعيشَ في نشوةِ هذه النظرة وقتًا كافيًا، ولكن الذكر أفسدها عليها بمطالبته بأن يمارس الجنس الكامل بسرعة!
___________________
- عودة إلى جادةِ الباب الخشبي:
لهذا يمكن لنا الإشارة إلى أن المقابل الموضوعي هو اعتلالات الجسد من جهة، وسيلان اللفظ من جهة أخرى. فأما الأولى وهو اعتلالات الجسد فإن الجسد يستجيب للروح وأسرارها، وتكون استجابته ظاهرة كخفقان القلب وشرود الذهن إلا عن المحبوب، وكالاضطراب حين اللقاء، والفرح اللاواعي، والبكاء الغامض في لحظة صمتٍ وعيّ، والنظر للمحبوب بخلاف حقيقته الطبيعية، أي تختفي عيوبه عن عيني العاشق، مع نظر الحاضرين لها، وكالكلام غير المفهوم. واستجابة الجسد للروح العاشقة لا يُمكن أن تحصى بحركاتٍ ما، إذ يمكن أن يفعل الجسد ما لا يتوقع، وذلك لأن الروح لا يُعْلم كنهها، حتى تحصرَ أفعال استجابة الجسد لها، فلا يمكن إلا تحديد ما ظهر منها، أما مالم يظهر فليس أمامنا إلا طريقين إما أن نقول: غياب الظواهر دليل على عدم وجودها. وهذه الفكرة متولدة عن الفكرة المادية/ المادية، ولهذا يرجعون لتفسير العشق تفسيرا مرتبطا بالدماغ وإفرازاته. أو أن نقول: غياب الظواهر ليس دليلا على عدم وجودها، لأننا أمام متضادين الروح/ المادة، وما إخراج الروح لبعض الأفعال في فترة من الفترات إلا دليلا على أنها تُخرج في أي لحظة شيئا مفاجئا. بمعنى هل الظواهر الجسدية التي تخرج من العشّاق واحدة لم تتغير منذ شعر الإنسان بجاذبية غامضة تجذبه نحو إنسان ما؟ أم هي عوارض وظواهر ازدادت وتغيرت وتبدلت بحسب الزمن؟ فنحن نقرأ في التاريخ في بعض القصص أن القلب توقف من شدة العشق، وهذا لم يحصل إلا قليلا، لكنَّ الماديين سيقولون لا دليل على أنه مات من العشق! لا يوجد أمامنا إلا سبب مادي وهو هبوط الدورة الدموية مثلا أو. أو. إلخ. هنا الافتراق الواضح بين فهم المادي للعشق وفهم الروحي له، إذ المادّي يرى أن العشق مرتبط بالواقع المادي الذي نعيشه، وذلك عن طريقين، الطريق الأولى تعتبر العشق بناءً فوقيًا، يتأثر بالبنية التحتية وهي علاقات الإنتاج الاقتصادي وما يتعلق بها، بشكل جدلي. وأما الطريق الثانية فتربط العشق بإفرازات الدماغ كيميائيا مع إنسان آخر، مع أن كثيرا من الماديين ينفون وجود العشق، يقولون هذا وهم، إنما الموجود علاقة حب مرتبطة بالعلاقة المادية ويشرحوها بحسب الطريقين السابقين. وكلا الطريقين يغض الطرف عن كبرى الأسئلة التي تواجه أفعال العشق!
أما فهم الروحي للعشق، فإما أن يكون روحيا بحت أو روحيا مشوْب بمادة، يفرضها وجود الواقع الموضوعي والتسليم به، فالأول رؤيته نابعة من أن الأصل في العشق أنه معنى ما وراء مادي بالكلّيّة، كمعنى الألوهية، ولا وجود للعشق إلا في أذهاننا وتصوراتنا، وأي تصور عشقي مادي إنما هو كذب وهراء، ليس إلا العشق الروحي، أما الثاني فإنه يحدد الجوانب المادية في رؤيته من خلال الظواهر المادية له وهي تؤكد وجوده الموضوعي.
من هنا فإن الروحي إذا كان روحيا بحتًا فإنه سيقول إن حركات الجسد وظواهره في العشق ليست حقيقية، ووعينا الذي يوجدها، ولهذا بإمكان الوعي أن يصنع ما لا يُحدّ من اعتلالات جسدية، وإن كان روحيا ماديا، فإنه سيربط ظواهر الجسد كما يربط علاقة الإنسان بالله مثلا، فسيقول: أليس الله يخلق في الإنسان اعتلالات لا تضبطها المادة إلا بعد ظهورها، فكذلك العشق واعتلالات الجسد. وأما الماديون فيربطون الاعتلالات بقدر العلاقة ماديا، ولا أكثر.
وأما الثاني من المقابل الموضوعي للعشق، وهو سيلان اللفظ، فإن العشق مدعاة إلى أن يحاول اللسانُ أن يصفه، ومهما ابتكر من المعاني وركّب من الألفاظ لا يفي العشق، ولو جزءا بسيطا، لكنه سيظل يُسابق ويسير ويحاول، فليس للعقل أداة لاستنطاق الوجود وعلاقته بالروح العليا إلا اللغة. فمثل العشق هنا كمثل ما يراه الصوفي في تجليه مع الله، شيء لا يوصف باللغة، بل بالمشاهدة والوقع في العشق، لهذا لا يعرف العشق إلا عاشق، أما من لم يعشق فهو يقارب ما يسمع لفظيا، ولابد أن يقع في أغلاط كثر. يقول جلال الدين الرومي: " سأقولُ لكَ لماذا تمضي السموات في حركاتها الدائرية؟ لأن عرش الله يملؤها، بانعكاسات الحُب، سأقولُ لك: لماذا تهبّ رياح الصباح؟ لأنها تريد أن تعبث بالأوراق النائمة على شجيرات ورود الحب، سأقول لك لماذا يتشح الليل بغلائه؟ لأنه يدعو الناس إلى الصلاة في مخدع الحب، إنني لا أستطيع أن أفسر لك كل ألغاز الخليقة، ولا حل لها إلا الحب"
إنَّ الرومي هُنا يجعل من (الحب) حلًا وعلاجًا شاملًا، فكأنه يقول: حبَّ ما استطعتَ ولا تتوقف، اجعل الحب عقيدتك، وديدنك، وشريعتك في الحياة، وحينَ يتبنى ذلك كل إنسان فإن الحياة تتكامل بالحب، ومن ثمَّ تنحلّ مشاكلها وعقدها. إن اللجوء للحب هو محاولة لحلّ الغامضات بشيءٍ غامض، وهُنا يأتي المفهوم الصوفي للعشق، إنه تجربة روحية خالصة. أما الدعوة للحب العام، فهي شعار يتبنى الدعوة للسلم الاجتماعي ليس إلا، وهي دعوة عظيمة ولكن مالم يُعرف سر النفس البشرية التي لا يمكن أن تحب وتكره بقرار وزاري!، لهذا لا يروضها داخل المجتمع إلا القانون، والقانونُ لا علاقة له بالحب أبدًا. وهذان المقابلان: (أعني: اعتلالات الجسد، وسيلان اللفظ) ليسا إلا ظواهر، أما الجوهر فهو في دواخل العشق، ولا يشرحه إلا العشّاق، وليس باللفظ، بل بالقلب والرقص والبكاء والشهوة الروحية التي ترفع اللذة إلى مقامات الله. وطالما هي ظواهر فسيُختلف عليها ما بين وجودها الفعلي في مقابل العشق الباطني، وبين وجودها الذهني في مقابل العشق، من جهة، وبين أنه لا وجود إلا لهذه الظواهر فحسب، وكل ادّعاء أكثر منها بالاتجاه نحو الجوهر فهو زيفٌ ووهم من جهة ثانية. ومن هذا الاختلاف تتشقق مذاهب الحب: وخلاصتها: أولا المذهب التحليلي للحب الذي يُرجع أمرَه إلى (الانعكاس) فإما أن يكون انعكاسا للغرائز كما هو عند (مدرسة فرويد في علم النفس) التي تقول إن سلوكنا النفسي كله انعكاس لغرائزنا، ومن ثم فإن الغرائز هي التي تُنشئ الحب. يعني كأن فرويد يقول بشكل آخر إن الحب ليس إلا إحساسا، وهذا الإحساس غطاء للرغبة. وطبعا لا يخفى ضعف تفسيره، إذ ثمة وقائع وأحداث أكبر من أن تضبطها هذه النظرية. وإما أن يكون انعكاسا جدليا، كما شرحتُه باختصار في حديثي عن الفرق بين المادي والروحي في النظر للعشق. ثم عندنا –ثانيا-المذهب الفسيولوجي وهو الذي أشرتُ له قبلُ، من أن العشق مرتبط بمتغيرات كيميائية في الجسم. هذا المذهب يرى أن الحب عبارة عن استجابة لأمرين: الأول تغيرات هرمونية تؤثر على الإنسان، ولهذا فالعشق-عندهم-مرتبط بالإنسان الذي وصل لسن البلوغ، والثاني وجود مادة اسمها (الأدْريْنَالين) وهو عبارة عن هرمون تفرزه الغدة الكظرية، ودوره تحضير الجسم لأي انفعال كالخوف أو الإثارة أو القلق أو فرط الضحك أو الغضب، أو الحقد ونحوها. فهذا المذهب يرى أن هذه المادة (الأدْريْنَالين) تزداد في الجسم حين يلتقي شاب وفتاة وقع بينهما إعجاب، لهذا فيزداد لديهما ضربات القلب وسرعة التنفس واحمرار الوجه وشد العضلات، وكل هذا – عندهم-سبب مادّي يشرح الحب، إذ الحب عندهم مثله مثل الخوف والقلق والفرح وغيرها مرتبط بهذه المادة (الأدْريْنَالين). لكن السؤال لهم: لِمَ تختلف ردود أفعال العشاق وكأن كل فرد له حالة خاصة؟! وقد عمل (ستانلي شاشتر) تجربة معملية بأن حقنَ مجموعةً من الأشخاص بهذه المادة، فلم يجد رد فعلٍ متساوٍ منهم، لهذا اكتفى ستانلي بأنْ قال "إعطاء الإنسان هذه المادة يرفع لديه إحساس الحب". لكنه ارتبك في تلك الفجوة بينهم، ولم يستطع أن يُحدد مصدر اختلاف الاستجابة، بل تفاوتها. لهذا جاء مذهب ثالث يحيل الحب إلى النشأة وحسب، فإن تعلم الحب فسيكون محبا، وهذا المذهب يقول إنه اشتراط يأخذه الطفل في لحظة نشأته من إحساساته فمثلا لما ترضعه أمه وتعتني به وتغذيه فإنه سيحبها، ولو فعلت امرأة أخرى هذا الأمر بدلا من أمه؛ لحبها أكثر من أمه التي ولدته. لكن سيظل السؤال حول تلك الاختلافات الكبرى بين الأفراد في العشق من جهة، وأيضا كيف يفسر هذا المذهب عندما يكون العشق التحام بين اثنين، يتفاعلان عشقا، قد يقال: استجابة الآخر للأول هي تَنْشِئه، لكن أين ذلك من نشأته ككل من جهة؟ ومن جهة ثانية كيف نفسر لو كان الطرف الأول جامدا في مشاعره وأعطياته ومع ذلك يعشقه الطرف الثاني؟ لهذا يخرج مذهب رابع يربط الحب بــ (الالتصاق)، وأولها التصاق الطفل بجسد أمه، لهذا فكلُّ حُبّ هو التصاق بشكلٍ ما، لهذا يشبهون أعراض فراق الطفل لأمه بفراق العشيق لعشيقته، ومن هنا فإن هذا المذهب يرى أن الإنسان دائما يبحث عن التصاقٍ ما، فإذا وجده هدأ واطمأن، وإن لم يجده أصبح قلقا، ومن هنا فإنهم يُشبهون فعل العاشق الذي حُرِم من عشقه، بفعل الطفل المحروم من الالتصاق؛ فالطفل المحروم أول أمره يبكي ويبحث عن أمه بقلق، ثم ينتقل إلى مرحلة الحزن العميق على فراق أمه، ثم يعلن انفصاله التام عن الالتصاق بأحد، حتى لو عادت أمه. إذن وجه الشبه بينهما أن كلاهما – أي العاشق والطفل-يلتصقان بشخص محدد، وكلاهما يبحثان عن الأمان، وكلاهما لما يجد حبيبه بجواره يشعر بسعادة، وكلاهما يمارسان الفعل ذاته جسديا، فالطفل يحتضن أمه ويقبلها ويبكي على صدرها، وهذا هو فعل العاشق، وكلاهما لما يشعرا بالبعد يبحثا عن الحبيب من خلال المناداة والبكاء. إن هذا المذهب لم يجاوز التشبيه إلى أفعال مغايرة مرتبطة بالعشق غير المفسر، الذي يبدأ دون التصاق أو التصاق معنوي فحسب، بل إن عدم الالتصاق في بعض الحالات يزيده عشقا، لهذا فإن كثيرا من المذاهب تقارب الحب ولا تفسره. لهذا انتصرَ بعضُ الباحثين لمذهبِ (الفطرة في الحب) بمعنى أنَّ الحبَّ يولد مع الإنسان، ليس له ما يفسره ماديا على طول الخط، وهو مرتبط بالغرائز اللطيفة كالرقة مثلا أو الرحمة أو الحنان وهي أشياء فطرية. وهذا المذهب يتفرع لأشياء كثيرة، منها ما هو في تشعباته مادي أو يحيل إلى مادي، وفيه ما هو روحي بحت، يجعل من العشق نورًا يُقذف من الله في جوف العاشقين. والموضوع طويل في هذا، ومتشعب، وبعض المذاهب مرتبط بعضه ببعض.
أما صاحبنا الأصبهاني فيمكنني أن أجعله في مذهب (المنفعة في الحب) أي أنه يرى أن الحب ما هو إلا وسيلة لتحقيق المصالح الجسدية في المقام الأول، والنفسية في مقامٍ ثانوي؛ بحكم إيمانه التام بالنفس، لهذا لا يعزلها تماما، إنما يجعل لها حظًا ضئيلا في المصالح. وحين نجمع تعليقاته بين الشواهد الشعرية نستنبط مذهبه في الحب.
____________________
- بابٌ مثقلٌ بالطين:
أهيمُ بدعدٍ ما حييت فإن أمت/ فوا حزني من ذا يهيم بها بعدي
فلما سمعت قولَه (سكينة بنت الحسين) اعترضت عليه قائلة: " قبحه الله، وقبح شعره ألا قال:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت/ فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي
هنا سكينة نطقت باسم الذكورة وليس الأنوثة، لهذا فالإنسان يتظرّف لعوامل داخلية تتصارع ما بين الأنانية والغيرية من جهة، وبين العلو والدنو من جهة أخرى. وأعني في الأولى التملك التام للمحبوب حتى بعد وفاة مُحِبّه، وهذه درجة عالية في الأنانية التي يتعاطى فيها مع العاشق كنوع من المرض وليس العشق المتجلي، وأما الثاني فسكينة لما قالت قولها هذا لم تكن تعني العاشقين ككل، بل تحديدا الرجل العاشق، أي ربطتها سكينة بكون الرجل يعيب عليه اجتماعيا ودينيا أن يقول هذا القول، أي تريد أن تصفه كمن لا يهتم لو مارست أخته الجنس مع عشيقها. ولم تكن تقصد العاشقين ككل، إذ لو كان بيت نصيب قالته أنثى لما كان رد فعل سكينة كردها هنا. وهذه أعلى درجات الذكورية عند سكينة، من جهتي: التحكم والتملك الذكوري من جهة، والعلو الذكري على الأنثى من جهة ثانية.
أعودُ لما أريدُ أن أفعله هنا، وهو أن أعود إلى شواهدَ الأصبهاني لأفكّكها، وأُبيّن أنَّ ما جاءَ فيها، لا يشرح العشق ولا يغوص في أسراره، ومن ثمَّ لا يمكن الاستدلال بها، بل إن دعواه (ليس بلبيب من لم يصف ما به لطبيب) هي دعوى ملغّمة؛ إذ يريد الأصبهاني أن يؤكد من خلالها مذهبه الفلسفي في الحب. إنه يصنع الدواء في صيدليته ليخلق من خلاله الداء الذي يريد أن يلاحظه ليؤكد نظريته في العشق.
فأول شاهدٍ قول:
ما يعلم الله أني مُذْ هويتكم/ أطيق إظهار ما ألقاه باللفظ
كم قد تحفظته حتى إذا نظرت/ عيني إليك أزالت هيبتي حفظي
في هذا الشاهد يواجهنا أمران: أمّا الأول فهو اعتراف الشاعر بأنه استطاع أن يقابل عشقه باللفظ، طالما المحبوب ليس أمامه. وهذه محاولة منه للمقابلة بين (اللقاء وما قبله) مقابلة بلاغية فحسب، وهذه واحدة من أدلة زيف العشق عندهم، وما يفعلونه هو إظهار قدرتهم على بناء بيت شعري بالطريقة البديعيّة ليصفّق له السامع وينقلها الراوي. فبيتُه هنا يُغفل مضامين العشق ؛ إذ العشق في كلا أحواله لا يقابل باللفظ مهما بلغ من قدرة ونمو تركيبي. والأمر الثاني: في قوله (كم قد تحفظته)، فهل العاشق هنا ذاهب لامتحانٍ أو مقابلة وظيفية؟! فلو كان عاشقا لدفعه قلبه إلى الحبيب، وكيفما كان وصار وورد، فالحب هو المُقرر ما الذي سيجري؟ أما أن يتحفظ وكأنه ذاهب لمقابلة وظيفية، فهذا نسق لتمرير كذب الحب على السامع. إن هذا القول من الشاعر يُبرز جانبا خادعا في عشقه، كانت لذة المقابلة البلاغية في بيتيْه أهمُّ من لقاء العشيقة، هذا بافتراض وجودها، فالخليّ لا يشعر بشوق الشجيّ، وقيل قديما: ويلٌ للشجي من الخلي.
وأذكرُ في هذا المقام قول المتنبي:
أتراها لكثرة العشاق/ تحسب الدمع خلقة في المآقِي
وهذا البيت موصوف بأنه من بدائع المتنبي، وهذا صحيح في سياق الجمال البياني وابتكار المعاني الشعرية في الغزل، لكن في قوله نظرة من خارج العشق وتجربته، فنحن هنا ننطرب لهذا المعنى البديع الذي أوجده المتنبي، لكن لما نتأمله في نسق العشق وتجربته، نراه مشوها، يصور العشاق كقطيع بلا عقل أرادوا الانزواء على أنثى، وهذه الأنثى كالبهيمة لا تدرك ماذا يريدون! قد يُقال: إن المراد حلولا في الحبيبة وتجليا في عشقها لدرجة أن الناس كلهم يعشقونها. لكن لنتأمل: أولا: المتنبي لم يصف تجليه مع العشيقة كأبيات التصوف مثلا، بل وصف صورة واقعية لأنثى وحولها عشاق، فمصدر استقاء المتنبي يوضح أن المراد ليس حلولا في العشيق، بل وصفًا من خارج العشق، اهتم المتنبي بوصف جمال الممدوحةِ المادي الظاهري مما يبين أن هؤلاء العشاق ليسوا إلا مريدين لجسدها فحسب، ومن هنا فهم ليسوا عُشاقا بل مشتهين لجسدها. ومن المفارقة أن القصيدة كلها في مدح ذكر وهو (الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان العدوي التغلبي) بدأها بالغزل، وكأن المتنبي سيقدم هذه الممدوحة الوهمية جاريةً لهذا الأمير التغلبي!! وثانيا: إن اللفظ طريق المعنى، بل هو كاشف لبعض أسرار النفس، فالمتنبي يقول (لكثرة العشاق) إذن نحن أمام كثرة وليس (كل)، ومن ثمَّ لا يصح قول أبي العلاء المعري عن البيت: "فبيّن – أي المتنبي-أن كل عين كذلك إلا عينها؛ لأنها لم تعشق أحداً فلا تجزع للفراق" قد يقال: كل عين قابلتها العشيقة، وأقولُ: إن لفظة (كثرة) تعني أنها رأت من لم يبكِ وإلا فما معنى الكثرة حين لا تقابل القلة؟ لو كان كل عين قابلتها لكان الوصف الأدق كل وليس كثرة. ولكن الإجابة الأدق أن (الكثرة) من وجهة نظر السارد، وهو هنا المتنبي، لهذا لم يلتفت إلا إلى وجهة نظرِه وليس وجهة نظر العشيقة، ومن ثم فالبيت للتجمل البلاغي وليس للعشق الفعلي. وهذا التجمل البلاغي أوقعه في نسق الذكورية. بل دليل ذلك قوله بعدها:
أنت منا فتنت نفسك لكنــــــ/ ك عوفيت من ضنىً واشتياق
أي أن المعشوقة من جملة العشاق، أي عاشقة لنفسها كما يعشقها الناسُ. يقول المعري: "لأن كل أحد يحب نفسك، غير أنك سلمت من ألم الوجد وطول المرض والاشتياق؛ لأن الإنسان لا يشتاق إلى نفسه فلا يتألم من حبها". إذن طالما أننا أمام (كثرة) كما عبر عن ذلك المتنبي، فنحن أمام صورة غير صادقة في العشق، لأننا سنؤلها أيضا بناء على ما نستنبطه من وجهة نظر المتنبي وليس من وجهة نظر العشيقة، فنعود إلى فكرة العشاق القطيع المجتمعين حول أنثى، وهي جهلا وغباء لا تعلم ما بهم، ومن درجة غبائها أنها حسبت الدمع خلقة في المآقي ولم تُسائل نفسها ما بال هؤلاء القلة الذي لا يبكون؟! إن للبيت جمالا في معناه الشعري بلا شك، حين نعزله من سياقه الفلسفي في تأمل أفكار الإنسان وأفعاله، ونتأمله فقط من خلال صورة لكائنات ليست حيّة، فنتخيل ذكر آلي وأنثى آلية فتكون الصورة على أساس أنثى جميلة جدا، لدرجة أن عدد عشاقها لا يحصون، بعلامة أن كل من تقابله تراه يبكي، فظنت أن الدمع موجود أساسا في العيون. لكن الطرب على هذا المعنى ونسيان المعنى العميق في مساره العشقي، كمثل من يضحك على نكتةٍ، وهي فعليا مضحكة جدا في بنائها وتركيبها ونهايتها لكنها تسيء للسود أو للنساء، أو غيرهما حين نتأملها بشكلها الاجتماعي أو في سياقها عموما. لهذا فالسياق هنا تحديدا يريد أن يفتح غطاءً عن شيءٍ مخفي في وصف حالةِ العشق، وليس إلغاء جماليات البيت الأدبية.
وثاني شاهد قول:
أُفكِّرُ ما أقول إذا التقينا/ وأحكم دائبا حجج المقال
فترتعد الفرائص حين تبدو/ وأنطقُ حين أنطق بالمحال
وهذا الشاعر أشدُّ ممن قبله، فهو في البيت الأول كأنه سيقابل الفيلسوف (أرسطو) وليس عشيقته، إذ هو يُفكّر ليحكم الحجج. ومن المعروف أن أرسطو أصّل للحجاج وبنى المنطق الصوري، الذي سمي فيما بعد بمنطق أرسطو، وهو يقوم على المحاججة القائمة على الصور العقلية للحياة عن طريق القياس. وحتى البيت الثاني الذي قد يبهر القارئ طربا، إلا أنه إكمالا لمقابلة (أرسطو) وليس العشيقة، فهو يقول: (وأنطقُ حين أنطق بالمحال) والمحال لفظةٌ تُتَداول منطقيا وفلسفيا كونها تقابل الممكن والواجب، فيقال: الواجب والممكن والمحال. فالشاعر لما أراد أن يتلاعب لفظيا ليوهم أنه عاشق، فضحته هذه المقابلات، لهذا فارتعاد فرائصه لأنه قابل فيلسوفا أذكى منه فحسب وليس لأنه قابل العشيقة. بل حتى لفظ (ارتعاد الفرائص) لا يتناسب مع العشيقة بل مع أسد في غابة.
________________
- انعطافة عن جادة بوابة الطين:
________________
- عودة لجادة بوابة الطين:
وإني لأخشى أن أموت فجاءة/ وفي النفس حاجات إليكِ كما هي
وإني لينسيني لقاؤك كلما/ لقيتكِ يوما أن أَبُثّكِ ما بيا
وقالوا به داء عياء أصابه/ وقد علمتْ نفسي مكان دوائيا
ونلحظ هنا أولا أن الأصبهاني توقف عن سرد الشواهد ليُعلق تعليقا طويلا قال: " فهذا يخبر أن لقاءها هو الذي يمنعه من شكوى ما يجدُه، إلا أنه يُشْفق من ضرره على نفسه، ولا يبقى بكتمانه على غيره. على أنه قد قصَّر عنه كثيرٌ من أهل العلم في قول: إن لقاءها يحدث في قلبه حالا لم تكن قبل ذلك ظاهرة من نفسه؛ إذ لو كان الهوى قد استوفى منه حقه، وتناهى به إلى غاية بعده لما كان اللقاء يزيد شيئا ولا نقصه".
والسؤال هنا: لماذا توقف الأصبهاني عن سرد الشواهد ليعلق كالمفجوع على أبيات المجنون، فأورد شيئين: الأول: شرح لمعنى البيت، والثاني ذكر اعتراض على أبيات المجنون من أناس أسماهُم: (كثير من أهل هذا العلم)؟ إن أبيات المجنون فيها خروج عن نسق الذكورية. وقبل أن أوضح هذه النتيجة، سأوضح ماذا يقصد الأصبهاني من كلامه. فأما الشيء الأول وهو الشرح، فقد أخفق في الشرح، إذ معنى قول الأصبهاني ما يلي: إن المجنون يُشفق على نفسه من الضرر الذي سيخلفه الكتمان؛ فلقاء الحبيبة يمنعه من الشكوى؛ لهذا هو يبثّ شكواه لغير مُحبّه. وسيتضح بعد قليل إخفاقه في الفهم. وأما الشيء الثاني وهو الاعتراض، فأولا نلحظ أنه نسبه لأناس مجهولين لكنه وضع لهم وصفا يذر به الرماد في عين القارئ قال: "كثير من أهل هذا العلم". وهذه تُسمى في حجاج أرسطو (الباتوس) وهو التأثير في الآخرين من خلال التركيز على اهتماماتهم أو نوازعهم، فيلجأ الكاتب أو الخطيب للبحث فيما يؤثر على القارئ أو المستمع فيفعله. وهنا الأصبهاني أعطى القارئ ما يشتهيه وهو أنه جاء له بكلام من أهل هذا الاختصاص، وكأن الأصبهاني يريد أن يوجه القارئ لمراده، وهو ما سيأتي في (ثانيا). وثانيا مفاد الاعتراض اتهام المجنون بنقص الحب، إذ لو كان كاملا لما كان اللقاء يزيد شيئا وينقصه. ثم استشهد الأصبهاني ليؤكد كلام المعترضين على المجنون بقول يزيد بن الطثرية:
ولما تناهى الحب في القلب واردا/ أقام وسُدت بعدُ عنه مصادره
فأي طبيب يُبرئ الحب بعدما/ يُسِرُ به بطن الفؤاد وظاهره
وبقول ذي الرمة:
وما زلت أطوي الشوق عن أم خالد/ وجاراتها، حتى كأن لا أريدها
فما زال ينمي حب مية عندنا/ ويزداد حتى لم نجد ما نزيدها
أما كون الأبيات المنسوبة للمجنون خرجت عن نسق الشعر الذكوري، فالأبيات حين نتأملها من جانب اجتماعي؛ نجد أن أنثى تختبئ خلفها؛ إذ هي تخشى أن تموت وفي نفسها حاجات لم تخرج، ولا يعلم بسر العشق ودوائه إلا (نفسها) لنتأمل البيت الثالث (وقالوا به داء عياء أصابه/ وقد علمت نفسي مكان دوائيا) لو كان القائل رجلا، لما كان الوصف بهذه الصورة، حتى لو لم يكن ذكوريا، إذ نلحظ أن الناس قد علموا أن به داء من خلال قوله ( وقالوا به داء عياء) هنا فهم الأصبهاني أنه يبثهم شكواه لهذا عرفوا ما به، لكن الشطر هذا لا يعطي من المعنى إلا أنهم قالوا أنه مريض، ولم يعرفوا سر مرضه ونوعه. ولعلّ تحريف المعنى متعلق بما هو أكبر؛ أي حتى يحرفه من أنثوي إلى ذكوري. وعدم بث الشكوى من أمارات اختباء أنثى خلفه، إذ حتى الشكوى عن عشق يعرضها للمهالك، بعكس الذكر الذي قد يبث ما به لأقرانه وجلسائه، ومن هنا فهمها الأصبهاني.
والملحظ المهم يأتي في الشطر الثاني، وهو أن النفس هي التي تعلم مكان الدواء، يعني لا أحد يعرف أبدا لا العقل ولا الجسد، بل نفسها فحسب. والنفس مؤنث وكأنها إحالة ورمز لجنسها أي جنس القائل بأنه أنثى. والنفس أيضا مرتبطة بكوامن الغيب حين نفسرها بأنها الروح، وهذا رمز آخر للتستر الأنثوي خلف الأبيات، فكوامن الغيب مثل تغييب الأنثى خلف ستر بيتها، وجلوسها الكثير في مخدعها وخبائها. وإذا سافرت صارت في هودج يسترها!.
ولو عدنا للبيت الأول (وإني لأخشى أن أموت فجاءة/ وفي النفس حاجات إليك كما هيا) سنجد أن خوف الموت الفجائي، دون خروج ما في النفس يناسب الأنثى وليس الذكر. فأمامنا خروجان: خروج الروح وهو الموت. وخروج ما في النفس للحبيب؛ وهذا الوصف تحديدا (الخروج) المجازي رمز للخروج الفعلي الواقعي، أي أن تقابل حبيبها وتتغزل به دون مواربة أو خوف. بل إن خروج الروح بالموت هو الطريق الوحيد لخروج ما في النفس؛ لهذا ما في النفس سيكون متلاقٍ مع خروج الروح وذلك لأن النفس كما قلتُ مفسرة هنا بالروح، لهذا هي تؤمن أن العشق مرتبط بالروح، ومن ثم ستلاقي روحُها روحَه وتفصح له. وهذا المعنى أنثوي إلهي، كما أن البيت الثاني (وإني لينسيني لقاؤك كلما/ لقيتكِ يوما أن أَبُثّكِ ما بيا) فيه إشارة مهمة وهي اعتبار المتحدث إليه هي النفس نفسها، في إشارة إلى أن العاشقين روحا واحدة، فهي في السياق كأنها ذكر يحدث أنثى، لكن المتسق مع الخطاب المضاد أنها أنثى تخاطب النفس، أي نفس حبيبها، وهي في الوقت نفسه رمز لاندماج الأرواح. كما أن البيت هذا يشرح لنا طريقة اللقاء العارض المتسق مع خروج الأنثى من بيتها وليس الذكر، إذ قُرن فيه النسيان، والنسيان يتسق مع الخوف من أول الطريق إلى آخره، فضلا عن كون اللقاء هو الأصل؛ فينسيها كل شيء. ولنتأمل أنها لم تقل ينسيني اللقاء ما حفظته أو نحوها، بل قالت (أن أبثك ما بيا) فجمعت بين (البث) وهذا دور اللسان والعقل، وبين (ما بيا) وهنا دور النفس، لهذا فالنفس هي التي ستنطق وليس اللسان والعقل؛ إذ اللسان والعقل نسيا، أما النفس فهي التي لا تنسى. وهذا يخلق دلالتين: الأولى: أن اللقاء لقاء أرواح عاشقة، وليس أجساد، والثانية: أن العشق أنثوي، حين تكون النفس هي المعبرة في اللقاء أما اللسان والعقل فهما يخضعان لظروف الحياة والمجتمع والأعراف والتقاليد ونحوها، فضلا عن كونهما غير قادرين فعليا لأن يقولوا ما يوازي العشق.
أما الاعتراض الذي اعتُرض على الأبيات، فمشكلته عميقة في النسق، إذ ظنوا أن اللقاء يزيد وينقص من الحب، طالما أنه فعلَ بالعاشقِ فعلا يوحي بحالٍ جديدة وقعت عليه. لكنّ السؤال: هل اللقاء أنتج حالا جديدة، بمعنى لو افترضنا شخصا اسمه (رامي) يحب فتاة اسمها (سعاد) فإذا التقى بها وانشغل بتأمل وجهها وتلذذ قربها، عن الحديث إليها، فهل هذا الفعل ينتج حالة عشقية لم تكن موجودة في رامي؟ أي هل رامي كان حبه ناقصا فزاده اللقاء؟ إن هؤلاء المنتقدين يقولون: يفترض أن اللقاء لا يحرك برامي ساكنا، لأنه إذا كان حبه مكتملا، فلا معنى لأي أفعال إضافية!، وهذا مصدر من مصادر الإشكال النسقي، حين يحاكمون العشق محاكمة بالمنطق.
إن اللقاء ليس مرتبطا بالزيادة والنقصان في الحب، فرامي مثلا حبّه لسعاد قد يكون مكتمل الجوانب كلها، وما الأفعال التي تحصل للعشاق، إلا ظاهرة من ظواهر العشق، بمعنى أن اللقاء لم يُحدث حالا جديدة، بل عبّر عن ظاهرة عشقية نفسية في الأعماق، بل قد يكون هذا من معاني العشق الغامض، أي أن العشق متجدد في كل لقاء وهو ثابت في الآن نفسه، مثل لو قلنا أن نصّ (ألف ليلة وليلة) لا تنفد درره، ولا تنقضي عجائبه، فهذا يعني أن القراء مستمرون في النهل من إبداعه وعشقهم له ثابت ومكتمل، لكن الذي يجري أنهم كلما قرؤوا النص اكتشفوا معنى متجددا في النص، فالعشق كتابُ كلِّ الكتب الملحمية وغيرها، والعاشق كلما قابل عشيقته تتجدد قراءته لعشقه لها، أما العشق نفسه فكالنص يوحي بالثبات والاكتمال.
ومما يلحظ أن اعتراض هؤلاء يستسهل العشق لدرجة التعامل معه كسلعة أو نحوها. ولم يلحظوا أن هذه الأبيات تشرح مشكلة العشق؛ بأن تجعل النظر والشم واللمس لها درجات مغايرة للسماع مثلا، وهذه كلها مغايرة لخيالها، وغير ذلك، وهذه كلها مرتبطة بأنَّ العاشقَ يقرأ عشقه لعشيقته، وليس يزيد عشقه أو ينقص. إذن ما نراه قد يكون عبارة عن ظواهر في العشق وليست حالات انتقالية مفترضة.
وهو مع هذا كله؛ فإن الأصبهاني تعمد أن يقرأ قول ابن الطثرية وذي الرمة، على النحو الذي قرأه به، لتصح مقولته، وتفتح صيدليته أبوابها. لكن لو تأملنا أبياتهما لوجدنا أن ابن الطثرية يعني ألا مدخل لحبٍّ آخر غير ما استقر، وأنه لا يوجد طبيب يبرئ الحب، وهو متمكن من ظاهر الفؤاد وباطنه. ويا بُعْدَ هذا المعنى من مراد الأصبهاني لعضد قول المعترضين على أبيات المجنون. وأما قول ذي الرمة فهو إشارة إلى أن حُبَّ ميّة بلغ الذروة عنده، لدرجة أنه ليس عنده ما يزيدها، وهذا معنى لم نختلف عليه، نحن نختلف مع المعترضين على فهم البيت، فلو قال أحدهم: مازال حب كتاب ألف ليلة وليلة يزيد حتى لم أجد ما أزيده. هذا لا يعني أنه إذا قرأ ألف ليلة مرة أخرى لن يجد فيه أسرارا جديدة وتأويلات جديدة، لأن اكتشاف الأسرار والتأويل مختلف عن حبه للكتاب، الاكتشاف هنا من ظواهر عشقه للكتاب وليس هو عشقه له. فــ (ذو الرمة) وصل حب مية لذروته، ومع ذلك إذا قابلها إما يبكي أو يرقص أو يضطرب أو يصمت أو غير ذلك، لأن هذه ظواهر عشقية وليست هي العشق نفسه. ولو قدّر أن يُجمع شعر الإناث الأصيل، وما يؤول أنه شعر إناث متدثر باسم ذكر، لكان لدينا مقارنة في العشق دقيقة، وشرح أعمق لتفاصيله. تقول الأديبة الفرنسية مدام دي ستايل: " الحبُّ عارض في حياة الرجل، ولكنه حكاية المرأة" والأصبهاني – بحكم أن نشأته في بيئة ذكورية- فإنه يرى أن المرأة لا تقول شيئا، وإن قالت فإنها تنسخ ما قاله الرجل، ولكونه من بيئة دينية، - هو فقيه كابن حزم- فإنه في نهاية المطاف سيعدّ العشق خطابا في الفسق والزنى، وهو كابن المقفع الذي يقول: " اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأضرها بالعقل، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار، الغرام بالنساء" إن هذا الخطاب المسيطر هو الذي يجعلني أقول: إن قائل (أهيم بدعد ما حييت فإن أمت/ فوا حزني من ذا يهيم بها بعدي) ليس ذكرا ينتمي للخطاب نفسه، ولعل من المفارقة أن من رد عليه امرأةـ لكن عندما نعلم أنها تحمل الخطاب الذكوري فهي سليلة علي بن أبي طالب، لا نستغرب ردها المستفحل المتسلط. ولهذا أنا هنا لن أقول كما يقول الناقد عبد الله الغذامي بأن المتحدث هنا هو النسق الثقافي، بل إن المتحدث هنا هو نسق ثقافي ضمن أنسقة ثقافية أخرى يُجْليْها التأويل من خلال الشخوص القائلين كسكينة هنا، ومن خلال الخطاب المضاد المنسوب لذكور وهو يعارض النسق الثقافي العام كقول نصيب، السابق، وقول أبي الشيص الخزاعي:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي/ متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة/ حبا لذكرك فليلمني اللوّم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم/ إذ كان حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغرا/ ما من يهون عليك ممن يكرم
وكذلك من خلال نصوص مبثوثة لإناث، تجردوا من بعض المسؤوليات الثقيلة من المجتمع، كالإماء في مقابل النساء اللواتي احتملن ثقلا يكبلهنّ، فهنَّ إما أن تكون متبنّية للثقافة الذكورية، أو متسترة، لا تستطيع أن تفصح عمّا بداخلها فتجعله على لسان أَمَةٍ مثلا، أو ذكر متأنث. فالخطاب العام يسيطر عليه حِسّ التملك، والبتّ في تحديد العلاقة مع الآخر، ولكون الذكر هو المسيطر في تاريخ الثقافات فإنه هو من يحدد التملك ونوع العلاقة، ومَن فكّرت بهذه الطريقة من الإناث فهي تساعد الذكر بالتملك، لهذا تكون ذكورية الفكر/ أنثوية الجسد.
لكن السؤال: ماذا لو تصورنا أنثى تفكر بهذا الخطاب العام ولكن من جهة كونها أنثى؟ فمثلا لو قلنا إن امرأة اسمها (هند) أحبت امرأ اسمه (سَعْد) فقالت: (أهيمُ بسعْدٍ ما حييت فإن أمُت/ فوا حزني من ذا يهيم به بعدي.) فإن هذا المعنى يركز على قيمة العشق ذاتها، وأن الآخر (المحبوب) يجب ألا يفنى مع فناء مُحِبه. لكن لو قالت: (أهيم بسعْدٍ ما حييت فإن أمت/ فلا صلح سَعْد لذي خلة بعدي) فإنها هنا تتملك وتقطع في تحديد علاقة المحبوب بها بعد الموت أيضا.
لكن ما الفرق بين الذكورة والأنوثة هنا في سياق البيت؟ إن الذكورة لا تتحدث عن عشق فحسب، بل عن عيبٍ سيُحَمِّله المجتمعُ إياه، إذ كيف تقول أتمنى أن لا تذبل حبيبتي بعدي، بل أتمنى لها من يعشقها مثلي لتظل حية مورقة، لا تموت بموتي. ومن ثم فإن هذا الوصف –عند العرب-لا يليق بذكر أن يقوله!! لهذا فإن عقل الذكر وخياله سيتحكم بهما النسق الاجتماعي أيضا، وهذا متجردة منه الأنثى، إذ هي التي يُغار عليها ولا تغير، ولا أعني أن الأنثى لا تغير الغيرة المعروفة، لا، إنما أعني أن الذكر اجتماعيا مسموح له أن يفعل بأربع نساء، والأنثى لا يسمح لها أن تفعل بأربع ذكور، ومن هنا فكأن الذكر هو المسموح له أن يغار والأنثى غير مسموح لها.
إذن خطاب التملك عند الأنثى مشتق من الذكورة، وليس نابعا من ذاتها. وهذا افتراض أفترضه لهذا قلبتُ مثال البيت الشعري من رجل لامرأة، فتكون الأنثى (هند) هنا تعشق (سعد) ما دامت حية، وهذا مفهوم، لكن بعد الموت من شدة عشقها له، فإنها لا تريد له أن يذبل، أما لو أرادت له أن يذبل فإنها فضلت مفهوم التملك على مفهوم العشق نفسه، لهذا قلتُ إن معنى بيت نصيب هو أنثوي بامتياز، ورد سكينة بنت الحسين هو ذكوري بامتياز. إن عملية الموازنة بين خطاب أنثوي وخطاب ذكوري، هو الكفيل بتغيير رؤى ذكورية كثيرة؛ لهذا فإن الأديبة مي زيادة لما اعتبرت الرجل حجر العثرة الذي وقف في وجه المرأة فإنها تقصد أنه لم يُتِح لها فرصة التعبير عن نفسها، وقد جاءت مي بشاهد من ثقافة أخرى، وهو موقف (كارودتشي) الذي قال في أول أمره: " يجب على اثنين ألا يعالجا الشعر: الكاهن والمرأة" لكن (كارودتشي) لما اطّلع على أشعار ( إليزابيث براوننج) الإنجليزية، و(مدام ديبور فالمور) الفرنسية، و( آني فيفياني) الإيطالية، قال: " لدى المرأة ما تقوله غير ما تنسخه عن الرجل". تلك الموازنة المشروطة بالحريةِ، حريةِ الأنثى، هي التي تُحرر عقل الذكر وتفك قيوده وتجعله يفكر بطريقة مختلفة. فعندما تتحرر المرأة تحرر الرجل معها. فلو صحّت الموازنة في ثقافة العرب بين الخطاب الأنثوي والذكوري، ومن ثم اندماجهما في خطاب عميق، قاعدته الأنوثة، لرأينا القراءات التراثية القديمة تشير إلى أنساقِ إيثار الآخر وتقديره، والتفاني الصادق في المعشوق لذاته، لا لتملك أعضائه فقط، ومن ثم نرى الشعر الأنثوي يَطفح على سطح ديوان العرب بين الإناث والذكور، بوصف صادقٍ إنساني مثالي اندماجي، لا يرى الفحولة الذكورية شيئا، بل يعلي من معنى العشق الذي يذوّب القلوب، كالسكر في كوب شاي، لتكون قلبا واحدا، محبا رحيما شفوقا، حنونا، مؤثرا على نفسه، يتبارى العاشقان فيه: من يقدم للآخر احتياجاته ورغباته ولذاته.
وتردُ هنا قصة أم عتبة بنت عمر بن الأبجر اليشكرية، مع زوجها غسّان بن جهضم، لما مَرِضَ مَرَضَ الموتِ، خاف أن تتزوج بعده (= وهنا نموذج يرضي المفهوم الذكوري لا على أساس أنه وفاء -إذ الوفاء لا يُحتاج معه إلى أخذ مواثيق، فالعشق هو الكفيل بالوفاء-بل على أساس التملك المجتمعي التام فهو هنا يريدها أن تموت معه وهي حية، لكن لو كان بينهما عشق عميق، لضمن دون أن يتحدث أنها لا تريد غيره بعد موته، ولكن الموضوع كان زواجا اجتماعيا وعشرة حياة، لا عشق وحب وتفانٍ) فدعا الزوج زوجته قائلا:
أخبريني الذي تريدين بعدي/ والذي تضمرين يا أم عقبة
تحفظيني من بعد موتي لما قد/ كان مني من حسن خلق وصحبة
أم تريدين ذا جمال ومُلْكٍ/ وأنا في النيران في سحق وغربة
ولنتأمل قوله (لما قد كان مني من حسن خلق وصحبة) نعم، هو لا يعول على حبّ، بل صُحْبة وأنه لم يسيء لها، ومما يؤكد غياب مفهوم العشق عن ذهنه أنه قابل فعلَه بصاحب جمال وملك، ولم يقل مثلا: أم تريدين التعشّق.
فأجابته زوجته قائلة:
قد سمعت الذي تقول وما قد/ خفْت منه غسان من أم عقبة
أنا من أحفظ النساء وأرعا/ ه، لما قد أوليت من حسن صحبة
سوف أبكيك ما حييت بشجوٍ/ ومراث أقولها وبندبة
إن الزوجة هنا انعكس مفهومها للوفاء من خلال حديث زوجها؛ لهذا هي تقول إنني أحفظ النساء بسبب حسن صحبتك. إلا أننا نلحظ أنها لم تعطِه عهدا بعدم الزواج بعد وفاته، إذ قد شرحت طريقة حفظها للعهد العام بأن تبكيه وترثيه مدى الحياة.
نحن هنا أمام تأويل أنثوي وسوء ظنٍ ذكوري، إذ أجاب الزوج بعدها قائلا:
أنا والله واثق بك لكن/ احتياطا أخاف غدر النساء
بعد موت الأزواج يا خير من عُو/ شِرَ فارعي حقي بحسن الوفاء
إنني قد رجوت أن تحفظي العهد/ فكوني إن مت عند الرجاء
وجدتْ الزوجةُ نفسَها في لحظة ازدواج، بين زوج مات لم تُكِنَّ له عشقا، -والحياة قد تفاجئها بشغفٍ عاشق-، وبين عهد اجتماعي، ظاهره الوفاء وباطنه الموت والكذب والتملك وسوء الظن العام (= أخاف غدر النساء) لهذا لم تُعطه في أبياتها الأولى عهدا صريحا بأنها لن تتزوج؛ إذ هي في داخلها غير مقتنعة لكن ظاهرها يبدي اقتناعا لأنها ربيبة المجتمع الذكوري ذاته؛ لهذا لما تقدم لها الخطّاب بعد وفاة زوجها مباشرة لم تكن أفاقت بَعدُ من هذه الازدواجية فقالت لهم:
سأحفظ غسانا على بعد داره/ وأرعاه حتى نلتقي يوم الحشر
وإني لفي شغل عن الناس كلهم/ فكفوا فما مثلي بمن مات يغدر
سأبكي عليه ما حييت بدمعة/ تجول على الخدين مني فتهمر
لهذا تقول الرواية: إنه لما تطاولت الأيام تزوجت أم عقبة، أراد الراوي أن يقدح بالنساء، مع أن الرواية تُفصح عن مدلولٍ آخر تحمله الأنثى في جوف روحها وهو العشق، ذلك الذي قد لا يفهمه إلا من تأنثت روحه. وفي الرواية إشارة إلى ذكاء أم عقبة الذي جعل منها متمردة من أجل العشق، ذلك الذي لا تعرفه، لكن في داخلها صوت يقول لها عنه، ذلك الصوت هو ما جعلها لا تبرم عهدا واضحا في أول أمرها مع زوجها، وهو الذي جعلها تشير إلى أن ما بينهما مجرد عشرة.
_____
خاتمة:
ولهذا كله أرى بأن قول أبي الشيص الخزاعي (وقف الهوى بي حيث أنتِ) له نسق مغاير، لا أعني أنه نسق خجول لكسر النسق الفحولي كما يقول الناقد عبد الله الغذامي، بل إنه نسق يؤسس لمعنى (طلب الهوان) ولربما أُشبهه بما يسمى (المازوخية) و (السادية) حين نجمعهما في حقل واحد، دون أن يكون هذا التأسيس كسرا للنسق الفحولي؛ إذ إن الأبيات ليست متجردة للآخر، بل فيها لذة تعذيب من قِبل (آخرٍ ما) = (وأهنتيني فأهنتُ نفسي صاغرا/ ما من يهون عليك ممن يكرم). التفاني في الآخر وللآخر، لن يكون بهذا التعبير، إذ لن يَتَخّيّل المغاير –مُحِب الآخر-أن تقع إهانة، لا منه، ولا من الآخر، وإلا لن تكون تفانيا. لهذا هو يقول: ((أشبهتِ أعدائي)) = من خلال الإهانة إما ضربا جسديا أو ألما نفسيا، وتخرج متجلية في اللذة الجنسية، من خلال التعذيب للآخر (السادية) أو من خلال تعذيب النفس (المازوخية). ((فصرتُ أحبهم)) المحبة هنا محبة لذة جنسية؛ لتشابه فعل الآخر بفعل الأعداء من خلال الضرب والإهانة ((إذ كان حظي منكِ حظي منهم)).
لهذا يُروى عن أبي الشيص الخزاعي أنه إذا سئل: ممن أنتَ؟ قال: مِنْ (وقف الهوى بي). ولعلّ السبب أن هذا الأبيات أصبحت إشارة واضحة لأبي الشيص، من خلال فرادتها، فالكثير يُشير إلى تميزها شعرا فقط، وهذا فيه نظر عندي، إذ الفرادة في معانيها التي حاولت تأسيس نسق مغاير غريبا، هو في ظاهره يكسر نسق الفحولة –كما رآه الغذامي-لكنه في باطنه لا يكسره؛ إنما يؤسس له من جهة ثانية، فالفحل يحب أن يَضرب لا يُضرب، يريد أن يَتَسلّط لا يُتَسَلّط عليه، يريد أن يَتَحَكّم لا يُتَحَكّم به، يريد أن يُهيْن، لا يُهان، لا يُحب أعداءه أبدا، ولا يسامحهم. ونلحظ أن الذي جرى في أبيات أبي الشيص الخزاعي، هي أخذ هذه الصفات وإعطائها ضرورة لآخر، الذي قد يكون فحلا أيضا، أو تأسيسه ليكون فحلا، بينما التفاني الحقيقي والاندماج في الآخر المعشوق هو كسر هذا النمط أساسا، لا إعطائه تبريرا للآخر، مما يؤكد أنه قد يكون مرضا وليس تفانٍ في الآخر.