عزالدين المناصرة - (المؤرخ والناقد): (النص... وشعرية التاريخ)

1. المبدع، هو حارس النص الشعري.
2. مفهوم الناقد، ومفهوم المؤرخ.
3. وقائع التاريخ: يسار الاحتلال، والاستقلال التام.
4. بين شاعر هتلر... وشاعر التحرر الوطني.
5. التاريخ يضيء النص.
6. حداثة الحاضر، والمستقبل.
7. خلاصة.

مقدمة
النص الأدبي إبداع كائن اجتماعي هو المؤلف. ولا يتم التحقق الكامل للنص إلا بوصوله إلى جمهور. ويحتاج النص أيضاً إلى قارئ من نوع خاص، ويدعى الناقد الأدبي. لكن تواصل النص مع الجمهور ليس له زمن محدد، وإن كان من المفترض دائماً، أن يتأثر ويؤثر في زمان محدد أولاً، في عصر ولادته، وفي جمهور عصره، ويؤثر ثانياً في عصور تالية. والنص في جوهره من الناحية الواقعية، يؤثر في الزمان والمكان، ولكن ليس هذا كل شيء.
- ليس النص الأدبي انعكاساً بسيطاً لواقع اجتماعي، رغم أن كل النصوص، اجتماعية بالطبع، حتى نصوص البياض، هي تعبير عن حالة اجتماعية، أو أزمة فكرية أو سياسية. ليس ثمة أدب اجتماعي، وأدب غير اجتماعي، فالأدب الاجتماعي، هو تعبير مناقض لطغيان مساحة الواقع، كمادة خام، على النص. وبمعنى آخر، فالنص يتفاعل مع الواقع، ويؤثر فيه سلباً وإيجاباً، ويتأثر به، ولهذا فهو نتاج الواقع الاجتماعي، لكنه يختلف عنه في الماهية. وإذا ما نظرنا إلى اللغة كعنصر رئيس في النص الأدبي، فهي ليست كائناً يولد من الفراغ، بل من موروث اجتماعي مشترك، وذوق عام، ومن قدرة المؤلف على تشكيل لغة النص وفق نكهة خاصة به، إذا كان المبدع كبيرا. أما إذا كان مبدعاً عادياً أو متوسطاً، فهذا يعني أنه يرهن نفسه لمعيار اللغة العام، والمبدع – المبدع، هو الذي لا تطغى مساحة الواقع الخام على نصه، أي لا يعكس الواقع بطريقة فوتوغرافية. ومع هذا يمكننا التأكيد على أن النص، حتى الرديء، هو من نوعية أخرى غير نوعية الواقع الاجتماعي. وبطبيعة الحال، مثلما يمكننا أن نقرر عدم وجود ثورات نقية مثالية، يمكننا كذلك أن نقرر استحالة وجود نص نموذجي مثالي مطلق، يكون مرجعاً نهائياً لأحكامه النقدية، أو يقاس عليه بصفته نموذجاً مطلقاً. ولهذا نقول بوجود نص نموذجي نسبي مرتبط بزمان ومكان من حيث الولادة، ولكنه ليس تعبيراً حرفياً عن هذا الزمان والمكان.
ليس في الأمرحكم قيمة بين النص والواقع: من هو الأفضل، النص أم الواقع الاجتماعي، لكننا قد نسأل: من هو الأجمل، النص الذي كتب عن قصة حب، أم قصة الحب نفسها؛ القصيدة أم الفتاة؟. يمكنني أن أجيب: الفتاة أجمل، لأنها تمثل حركة الحياة، ولكن البعض سيقول: النص الجميل أكثر خلوداً، والفتاة تموت لتولد في النص. هذا صحيح، ولكن النص شيء آخر، ولا تصح المقارنة بينهما في النوع. فالدموع التي سفحها (الشاعر) على قبر زوجته الراحلة، ولّت إلى غير رجعة، بينما بقيت دموع النص: هناك فارق في النوعية بين دموع الحياة، ودموع النص. إن كلام ناقد الأدب، قد يتمحور حول دموع الحياة، أي حول السيرة الذاتية، وليس حول النص، كما أن ناقداً آخر قد يعلن موت المؤلف(!!!) نهائياً كما فعل بارث، حيث يتركز كلام الناقد حول النص. كما أن ناقداً ثالثاً قد يمسك بتعاطف الجمهور مع النص، أو مع المؤلف فقط، أي يتركز حول موقف الجمهور. وفي رأينا، أن ثلاثية: النص – المؤلف – القراءة، هي ثلاثية متكاملة شاملة لا تتجزأ، ولكن ترتيب الأولويات، ضروري على النحو الذي يشي برؤية الأهم: النص أولاً، لأنه المنجز الباقي، والمؤلف ثانياً، والجمهور ثالثاً، حيث لا يُلغي هذا الترتيب، أية مفاضلة لأي طرف من الأطراف، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن الجمهور يتغير جزئياً، أو يتغير بصورة جذرية.
- نحن نعتبر أن التمييز بين حقل النقد الأدبي، والنصوص الإبداعية، أمر ضروري، كما ينبغي التمييز بين مناهج النقد الأدبي، ويمكن تقسيم المناهج الحالية إلى ما يلي:
أولاً: النقد العملي الانطباعي، كما هو سائد في الصحف اليومية.
ثانياً: النقد الأكاديمي بفرعيه التاريخي، والتفسيري التذوّقي.
ثالثاً: النقد الأكاديمي البنيوي: واللساني والسميولوجي، الذي يتناول جدلية العلاقة بين مادة النص وبنيته، أي يهتم بالتقنيات.
رابعاً: النقد الإبداعي الإنشائي، الذي يقيم نصاً نثرياً نقدياً، موازياً للنص المفقود.
خامساً: النقد الجدلي التفكيكي التفاعلي، الذي يقرأ النص قراءة جدلية تفاعلية بين البنيات والأنساق والسياق، والدلالة، وهو المنهج الذي أفضله على غيره. هذه الأنواع النقدية جميعها، تؤثر في مصاير النص، وهي أيضاً، قابلة للتغيير نحو الأفضل، أو نحو الأسوأ.

1. المبدع، هو حارس النص الشعري:

المبدع هو حارس النص الفعلي، بينما يبحث النقد في النص، عمّا يتوافق مع إيديولوجيته، ومنظوره للإبداع، والمنظور لدى الناقد، هو الذي يحدد اهتمامه بتاريخية النص أو رفضه له؛ فالبنيويون والسيميولوجيون والإنشائيون، ينفون تاريخية النص، واحتمالات إشعاعاته الاجتماعية في تطبيقاتهم، رغم أنهم يوحون بعلاقة ما من خلال الكلام عن البنية العميقة له، لأنهم يبحثون عن التقنيات، كما هو حال – المنهج البنيوي التكويني، عند بعض النقاد العرب. فالبحث عن (التقنيات)، ليس إلا الخطوة الأولى في الجدلية. أما النقد الأكاديمي بفرعيه التاريخي والتفسيري، فيتحول إلى دراسة تاريخ النص، وما يقع على هامشه من استطرادات تاريخية، دون الدخول في جوهره، فهو نقد أكاديمي مدرسي. أم النقد العملي الصحافي، فهو ذو طابع دعائي إعلامي لا يفيد تاريخ النص، وهو غالباً ما لا يقول الحقيقة في النتيجة. فهو أحياناً يبرر نصاً رديئاً، لكن فائدته الوحيدة هي الإشهار لنص جيّد، إذا تقاطع ضمير الصحافي مع الحقيقة. ومشكلة النقد العملي، أنه لا يقدم لنا معرفة فعلية، بل ربما يقدم لنا معرفة خاطئة، أو يعيد إنتاج المعرفة، دون أن يكون أميناً في نقل الأفكار عن الآخرين.
- هذا النقد العملي، هو حارس خيال السلطة، وحارس إيديولوجيتها، وهو أيضاً حارس خيال الأحزاب، وحارس خيال رأس المال، فالأمر سيان عنده أن يحرس خيال دولة دكتاتورية، أو خيال دولة ديمقراطية، ما دام همه الأساسي، هو التطابق مع خيال السلطة وخيال الأحزاب. فالنقد العملي إذا أجبر على الاختيار بين خيال الدولة وخيال الكاتب، اختار خيال الدولة في أغلب الأحوال. والمدهش حقاً، هو موقف النقد العملي في دولة ديمقراطية، لا وجود فيها لتناقض تناحري بين الكاتب والدولة، حين تشجع الدولة حرية الإبداع، يرفض هذا النقد العملي هذه الحرية الممنوحة له، ويتولى الدفاع عن مدى تطابق برنامج الدولة مع النص الإبداعي، وكأن النص الأدبي يتطابق مع البرنامج السياسي، أو ينبغي أن يكون كذلك. ونلحظ هذا في الثورات في العالم الثالث، حيث زعم البعض أن الأديب إذا كان ملتزماً تماماً ببرنامج الثورة السياسي، فهو من وجهة نظر سلطة الثورة، أديب قائد في الإبداع، ولو افترضنا جدلاً أن هذا الأمر صحيح، لكان ماوتسي تونغ، هو أهم شاعر في الصين، ولكان هوشي مينه، هو أكبر شاعر في فيتنام، ولكان لينين، هو أفضل ناقد أدبي! ولكانت قصائد المديح للحكام، والقادة، والظل العالي، والباب العالي، هي الإكثر إبداعاً: مؤخراً نوقشت في نيويورك مسألة خيال الدولة وخيال الكاتب: وقال 66 كاتباً وكاتبة في بيان وزعوه أن الحكومة الأمريكية، منعت العديد من الكتاب من دخول الولايات المتحدة بسبب قناعاتهم الفكرية، وخاطبوا إدارة البيت الأبيض قائلين: (إن إداراتكم، تؤيد حكومات تُسكت الأصوات وتسجن وتعذب مواطنيها بسبب قناعاتهم)، وقالت توني موريسون، وهي روائية أمريكية زنجية: (لم أشعر ولو للحظة في حياتي بأنني أمريكية). وقال غونتر غراس، وهو كاتب ألماني غربي، بأن الولايات المتحدة دولة قوية تحمي الدكتاتوريات، وندد غراس بسياسة الولايات المتحدة تجاه نيكاراغوا – ولكن الذين حضروا مؤتمر نيويورك، كانوا 700 كاتب من عدد من بلدان العالم. فكيف بعد هذا يمكن أن نقول إن النص لا تاريخ له كما يقول النقاد الشكليون، وكيف لا تؤثر هذه المواقف – رغم أنها تقع خارج النص – على مصيره، وكيف يمكن التعامل مع النص على أنه بنية لغوية فقط، وهل يقع المؤلف والجمهور خارج نطاق التأثير على مصير النص. وهل بعد هذا نستطيع نفي تاريخ النص بارتباطه مع الواقع الاجتماعي، أو ارتباطه بالسلطة.
- (الولايات المتحدةالأمريكية)... تريد تدمير (حضارات الشرق العريقة)، وذلك لاستبدالها بـ(حضارة أميركا الدموية التكنولوجية الاستهلاكية).
- من هذه الزاوية، يمكن للمؤرخ أن يدخل في تاريخ النص، حين يميز لنا بين تاريخ الحكام وتاريح المحكومين، تاريخ القادة وتاريخ الفدائيين، وبالتالي: تاريخ نصوص شعراء الحكام، وتاريخ نصوص شعراء المحكومين. وحين يؤطر المؤرخ لموقع المبدع وموقع النص في التحولات الاجتماعية، فإنه يساهم في إضاءة النص، وقد يبعدنا عن نص آخر، وهذه المساعدة لا تعني أننا دخلنا في عالم النص الفعلي، بل نبقى خارج النص أو بدقة في منطقة حواشيه. بمعنى آخر يبقى حكم المؤرخ على النص تاريخياً، وليس أدبياً، إنه باختصار: يخدم علم التاريخ، إذ كيف يمكن أن نقول بأن كتاب الولايات المتحدة الذين يؤيدون سياسة القمع، التي يمارسها البيت الأبيض، كتاب أحرار تماماً في منظورهم لإبداعاتهم، (هل يمكن أن يخلو هذا الإبداع من خيال الدولة، حتى لو كان هذا الروائي، وهذا الشاعر يكتب بتقنية حديثة)، حين يمكن النظر إلى نصوصهم من خلال رؤية الحداثة التكنولوجية في النص؟!، أي هل يمكن حذف تاريخ النص؟!. ولكن ليس هذا كل شيء.

2. مفهوم الناقد، ومفهوم المؤرخ:
هناك مشكلة تحديد مناهج النقد الأدبي في نظرتها للنص. هناك أيضاً مشكلة التفريق بين إبداعات الكاتب ونصوصه النقدية، التي قد تحمل أفكاراً سياسية وتاريخية واجتماعية. وهناك المشكلة الرئيسة، هي الفارق بين مفهوم الناقد ومفهوم المؤرخ، فرغم التمايز الواضح بين حقل الأدب، وحقل التأريخ، فإن المؤرخ، يبحث دائماً عما هو تاريخي في النص، ويرفعه إلى مرتبة الوثيقة التاريخية. هنا هو جوهر الخلاف، لأن هذا يناقض التاريخ، ويناقض أدبية الأدب الذي لا ننفي اجتماعيته، وبالتالي تاريخيته. نلاحظ أولاً الخلط بين المؤلف والنص، لأن تاريخ المؤلف وتاريخ النص مختلفان. هناك فارق، لأن تاريخ الشخص، لا يتطابق بالضرورة مع تاريخ النص، ولا مع التاريخ الذي ينتجه النص نفسه، بل قد يكون متناقضاً تماماً. ويمكن تقديم شواهد لا تحصى على تناقض سيرة المؤلف الشخصية التاريخية مع نصوصه. ولكن ذلك لا يعني أن الرغبة في النص تتناقض مع الواقع دائماً، فالرغبة منظور مستقبلي له طابع الحلم، أو خلط الواقع بالحلم، وهي تنبع من الواقع، وليس من الفراغ، أي إذا لم يستطع الشاعر أو الروائي مثلاً أن يحقق في تاريخه الشخصي رؤيته، فإنه يعبر عن هذه الرؤية المستقبلية في النص. ولكن لا ينفي هذا، وجود حالات تطابق بين النص والسيرة الذاتية، فكيف يتعامل المؤرخ مع حالة الحلم التاريخية في النص، هل يمكن أن يعتبرها تاريخاً أكيداً؟، وكيف يمكنه أن يميز بين ما هو قريب من نار الواقع ما دام يرى دخاناً، وبين دخان الحلم، الذي هو نقيض للواقع في النص الأدبي؟. بطبيعة الحال، من السهل على المؤرخ أن يلتقط الأفكار التاريخية في نص نقدي فكري، كتبه شاعر عن حالة عصره أو عن حادثة تاريخية. ومع هذا نعتبر أن مثل هذه النصوص تندرج ضمن تاريخ الأفكار. وعلى المؤرخ أن يقوم بإعادة تدقيق تاريخية. وبمعنى آخر، فإن مثل هذه النصوص لا تطابق الوقائع التاريخية المؤكدة، لكن المشكلة تكمن في النص الإبداعي. لو أخذنا المؤلف على حدة، لوجدنا أن تصريحات الكاتب في حواراته الصحافية تعبر عن رغبة، أي ما ينبغي أن يكون، أي الصورة المثالية التي يرسمها لنفسه في أذهان قرائه، أو لإخفاء الضعف في عمله الإبداعي. ونجد الكاتب قليلاً ما يتحدث عن أخطائه، بل نجده أحياناً يكذب، يكتب نصاً مضاداً للديكتاتورية في خيال الدولة، إذا كانت الدولة ديكتاتورية فعلاً، ومع هذا يخاطب الديكتاتور في بيان منشور أمام مقبرة جماعية، لحرب غير عادلة، وغير عاقلة، على أنه، أي (الديكتاتور)، هو منبع إلهامه الفني... حيث يجيء الخطاب السياسي مناقضاً لخطاب النص. أو قد يصرح أنه لم يقرأ للكاتب الفلاني لأنه متأثر به. وهناك كتاب يزوّرون الحقيقة التاريخية، ليس بمعنى إعادة إنتاج وتشكيل الحادثة، بل بمعنى قلب الحقائق عن عمد، بسبب عدم تطابق إيديولوجيتهم معها أو إرضاء لخيال السلطة. هناك شعراء ظلّت مهمتهم الوحيدة طيلة حياتهم، هي كيف يديرون صورتهم الشخصية أمام الرأي العام، بأساليب مشروعة أو غير مشروعة. وقد يتعامل الكاتب مع الحادثة التاريخية في المنظور، أي لا يستطيع تغليب الثانوي على ما هو مركزي، أو عدم قدرته على التمييز بين الصدق التاريخي والصدق الفني، أو رؤية الحادثة كحالة سكونية، أو عدم قدرته على خلق فني حركي دينامي للواقع، أو عدم قدرته على فهم قانون نفي النفي، أو غرقه في التفاصيل وعدم قدرته على ربطها ضمن أطر ومفاهيم. إضافة إلى بقائه مجرد تابع يلتقط الحلقة المركزية في الحدث التاريخي، لكن بمنظور نفعي ذرائعي، أي أنه يعمل على إرضاء الواقع، بينما نجد المبدع الصادق أيضاً لا يقفز عن التاريخ إلى مستقبل وهمي، أو هو لا يحلم بأحلام يقظة، ويسميها حلماً مستقبلياً.
المبدع الذي يمتلك الصدقية، هو الذي يحلل الواقع ضمن منظور جمالي جدلي، ومنظور يعي التحولات الاجتماعية، ثم يتجاوزها إلى استشراف المستقبل، لكن هذا الاستشراف لا يتم بالهروب إلى الأمام. والمبدع الكبير، قد يكون تافهاً في سلوكه (ممارساته الحياتية)، رغم أنه ينبغي أن يكون متشابهاً نسبياً مع نصوصه تشابهاً واقعياً. وقد يخدعنا بالألفاظ الثورية بسبب قدرته البلاغية، لكنني أعتقد أنه من السهل كشف تناقض النص وزيفه، ومن السهل التقاط موقف الكاتب الطبقي، حتى لو غلّف بموقف لفظي. وقد يمارس المؤلف تنظيراً مثالياً إنسانوياً لا يعتمد على التجربة. كل ذلك يدلل على عدم تطابق سيرة المؤلف ونصه بالضرورة: لقد بدأت بذور (ثقافة التأمرك والتأسرل)، عبر (ثقافة التفرنس)، لدى بعض الشعراء الذين انتقلوا من (ثقافة المقاومة) إلى (ثقافة الجمع بين التأسرل والمقاومة!!). لماذا!! وكيف تفسر ذلك.
- أما نقاد الأدب الذي يستخدمون المنهج التاريخي، فمشكلتهم الجوهرية، هي مماثلة وظيفة النص مع وظيفة الحدث التاريخي مماثلة ميكانكية، كأن يقول ناقد عن شاعر وطني فلسطيني معروف في الثلاثينات، بأن كل قصيدة من قصائده كانت تثير، (القلاقل والاضطرابات، وتقض مضاجع ضباط الاحتلال البريطاني وجنوده)، فمثل هذه الأقوال تناقض المنطق والعقل والتاريخ وطبيعة الإبداع نفسه. أو كما نقرأ أحياناً سؤالاً يتكرر: هل عبّر الكتاب والشعراء عن الحدث الفلاني بمستوى الحدث أو أقل منه أو أنهم سبقوا الحدث؟. إنه سؤال غير مفيد وغير صحيح، لأن الحدث والنص مختلفان في النوعية وفي الوظيفة. فالنماذج الإبداعية القوية، هي التي تخفي هدفها وتجعله متوارياً غامضاً قدر الإمكان، لأن النص ليس برنامجاً سياسياً لحزب أو ثورة أو دولة. ولهذا لجأ المؤرخون عادة إلى النماذج العادية أو الضعيفة، للاستفادة منها لجهة التاريخ، لأن هذه النماذج الضعيفة، تفيد المؤرخ، أكثر من النماذج الأدبية العليا.
3. وقائع التاريخ: يسارُ الاحتلال، والاستقلال التام:
كتب الشاعر الجزائري محمد العيد آل خليفة، قصيدة بعنوان "يا فرنسا" عام 1939:
يا فرنسا بك الجزائر لاذت
فاز فيك – اليسار، فاليوم لا عسر
فاز فيك اليسار، فالأمة اليوم
يا فرنسا رُدي الحقوق علينا
وأكنّت لك الولاء الشديدا
أليس اليسار، فألاً حميدا
ستُفدي بما عسى أن يفيدا
وأقلّي الأذى، وكُفي الوعيدا

إن هذا النص من وجهة نظر الناقد الأدبي، هو نص متوسط الحال، لأنه ينظم حادثة نظماً يفيد الحادثة التاريخية، أي يفيد الحادثة – المناسبة ومادتها الخام، دون أن يستطيع إعادة إنتاج وتشكيل الحادثة تشكيلاً جيداً، فهو نص سكوني، يقبع عند حدود هامش الحدث. ثم إنه يستدعي العودة إلى وقائع التاريخ لفهمه، ومدلول هذا أدبياً، أن الشاعر لم يستطع أن يقدم نصاً ذا ديمومة، فالحدث هو الذي حمله، مع أنه من المفترض أن يحمل الشاعر الحدث ويعتصره بسهولة، ليعيد تركيبه وفق منظور جديد. وعلى مستوى لغة النص، يمكن أن نرى أن القصيدة لم تكن ثورية، ولا يسارية، كما توحي ألفاظها. لأن الشاعر المضطهد يطلب ويرجو ويتوسل إلى جلاّده أن يرد إليه "حقوقه". كما أن النص غير ثوري، لأن الشاعر لم يعلن بصراحة شعرية أنه ضد بقاء الاحتلال، بل هو بدقة مع تخفيف مظالمه على الشعب فقط. وهذا كله قيل بلغة سكونية، تكاد تطابق الآراء السياسية لشريحة ما. وهذا يدل على ضعف المنظور الجمالي والرؤيوي، فمعادلة النص تتشكل من طرفين: ظالم ومظلوم:
1. الاحتلال: انتصار يساره، قد يجلب الفأل الحسن – الاحتلال هو الملاذ – اليسار هو اليسر – يسار الاحتلال هو الذي يرد الحقوق.
2. المظلوم: يلوذ المظلوم بالظالم ويكنّ له الولاء الشديد – يستفيد المظلوم من يسار الظالم – المظلوم يطلب إعادة الحقوق، وإقلال الأذى، ووقف الوعيد. والخلاصة أن الظالم يتشكل من يسار ويمين، والشاعر يراهن على يسار الظالم، ويستقوي به من أجل أن يضغط الجزء الإيجابي فيه على الكل السلبي، لمنح الجزائر حقوقها وتخفيف مظالم اليمين.
هذا ما يوحيه النص لناقد لا يعرف الحادثة التاريخية من ضمن منظور المنهج التاريخي والتفسيري، رغم وطنية الشاعر، وحُسن نيّته، لكن ناقد الأدب أيضاً يتطلع إلى مستوى التشكيل اللغوي والإيقاعي، فيقول أن النص ينظم الواقع كما هو. ويقول إنّ الوزن عددي مألوف ومكرر، والصفات تقليدية أخلاقية، لكن (المؤرخ) يشعر بفرح تجاه النص لأنه:
1. يشير إلى موقف شريحة جزائرية من حادثة معينة في زمن الاحتلال الفرنسي (1939)، وهي حادثة فوز تحالف أحزاب اليسار الفرنسي (الجبهة الشعبية) عام 1936 في الانتخابات، ومراهنة شريحة من الجزائريين على هذا الفوز، لأنه سيقلل المظالم، التي كان الاحتلال الفرنسي يرتكبها في الجزائر. وسيقارن هذا الموقف، بموقف شريحة جزائرية أخرى، كانت تطالب باستقلال الجزائر التام.
2. سينصح المؤرخ، (نقاد الأدب الذين يبحثون عن موقف المؤلف) الشاعر، بأن الشاعر يميز بين اليسار الفرنسي، وحكومة الاحتلال الفرنسي، وبالتالي كان الشاعر مؤيداً لليسار على الرغم من كونه، شخصية إسلامية في طابعها العام. وبالتالي يُصنف موقف الشاعر في إطار الاتجاه الإسلامي الوسطي الإصلاحي.
3. سيقول المؤرخ، بأن موافقة مجلة "الشهاب" (التي يرأسها الشيخ عبدالحميد بن باديس، رئيس جمعية العلماء المسلمين)، على نشر القصيدة، تدلل على موقف ابن باديس وجمعية العلماء من فوز الجبهة الشعبية، الذي يفترض أن يتطابق مع موقف النص. وهكذا يصبح هذا النص مفيداً للمؤرخ. وكلما كان النص عادياً ينظم حادثة، كلما كان مفيداً للمؤرخ. أما النص العميق الغامض الذي يعتصر الحدث ويستشرف المستقبل، فإنه غير مفيد للمؤرخ، لأنه يقدم الحادثة بصورة معقدة إبداعياً، حيث يختلط الواقع بالحلم. وهذا ما يذكرنا بمقولة: (يسار الاحتلال الإسرائيلي)، وهو يسار منافق، يعترف أولاً، بشرعية دولة إسرائيل، ثم يتحدث أحياناً عن بعض الظلم الذي تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض الأصلي، لكنه يصطف في الأزمات إلى جانب دولته الاحتلالية.

4. بين شاعر هتلر... وشاعر التحرر الوطني:

بطبيعة الحال، تلعب القوى المسيطرة دوراً اساسياً في إخفاء النص ومنع تأثيره، أو تقوم بالترويج له، حسب قربه، أو بعده عن إيديولوجيتها. فمثلاً انطلاقاً من نظرية "عدو عدوك، صديق" الساذجة، نشرت صحف فلسطينية في الأربعينيات، موالية للزعامات الفلسطينية، قصيدة لشاعر يمتدح فيها هتلر، عنوانها "يا نسور الرايخ"، وأطلقت على الشاعر صفة الشاعر الكبير، ونُشرت القصيدة في الصفحات الأولى من هذه الصحف، بينما نجد في المقابل أن قصيدة للشاعر الفلسطيني "أبو سلمى"، وقد كتبت في الفترة نفسها، تربط بين الاستعمار البريطاني والصهيونية. لم يجد أبو سلمى من ينشر له هذه القصيدة، فاكتفى بطبعها على آلة الستانسل، ووزّها اليساريون الفلسطينيون في الثلاثينات، ولم تجد تأثيرها إلا بعد أن استفاق الشعب الفلسطيني عقب كارثة 1948، حيث هزمت القوى المسيطرة، ولكن الهزيمة دفع ثمنها الشعب الفلسطيني باقتلاعه وتهجير مليون فلسطيني. هذا ما يؤكد أن النص رغم نجاحه إبداعياً، بمقياس الإبداع في ذلك الوقت، ورغم موقفه الثوري، فإن وصوله متأخراًإلى القطاع العريض من الجمهور،أثر على تقويمه نقدياً وتاريخياً. فالنص وحده لا يعطي قيمته الكاملة إلا بوصوله إلى جمهور، بوسائل متعددة. بينما يتطلع المؤرخ إلى الأحداث السكونيةالتي عكستها القصيدة ولو بأسلوب فوتوغرافي، بل كلما كان الانعكاس بسيطاً كلما استفاد المؤرخ من النص. من هنا نؤكد أن هدف المؤرخ يختلف عن هدف الناقد الأدبي. أما حارس النص، وهو المبدع، فهو المظلوم، خصوصاً حين تصبح النصوص العادية أفضل للاستشهاد بها لدى المؤرخ، بل لدى الناقد الذي يتبنى المنهج التاريخي. وفي مقابل هذا التطرف الاستطرادي التاريخي الذي يمارسه المؤرخ، يبرز تطرف آخر مقابل، يعلن "موت المؤلف"، بل موت نكهة النص الاجتماعية والتاريخية، كما فعل رولان بارت مثلاً. وبهذا يكون النص قد ظُلم خمس مرات: مرة بإسقاط التاريخ من خارج النص، بأسلوب قسري، عليه، أو تفسيره تفسيراً تاريخياً كما لو كان هدفه الإساسي هو التاريخ، وكما لو كان مطابقاً دائماً للحقيقة التاريخية، وظُلم مرة أخرى، حين يحذف كل ما هو اجتماعي وتاريخي، أي قتل نكهة النص وتحويله إلى مجرد شبكة من نظام العلاقات الباردة والإرشادات الكومبيوترية، أي دون قراءة جمرة النص، ومرة ثالثة، حين يصبح النموذج العادي والضعيف، هو هدف المؤرخ وهدف بعض نقاد الأدب، لأنه الأكثر سهولة. ومن هنا يظلم النص الإبداعي القوي لصعوبة التقاط اجتماعيته. ومرة رابعة، حين لا يتم التفريق بين ما ينتجه النص نفسه وبين هوامشه الخارجية. ويُظلم مرة خامسة حين لا يميز بين ما هو واقعي، وما هو رغبوي مستقبلي في النص. فالمؤرخ يعتمد مثلاً على "إلياذة هوميروس"، للتأريخ لحرب طروادة، رغم أن "الإلياذة" نص إبداعي قد يوحي بروح العصر وحوادثه، ولكن هذه الحوادث ليست مؤكدة، أي ليست وثيقة تاريخية داخل نص "الإلياذة"، حيث اختلط الواقع بالرغبة والأسطورة بالتاريخ. وإذا ما أخذنا مثلاً معاصراً، هو (مذابح الثامن من مايو 1945)، التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، هذه المذابح التي نقلت القضية الجزائرية إلى قضية عالمية؛ فإن المؤرخ يبحث عن حقائق تاريخية مؤكدة سكونية انتهى زمنها، أي لم يعد باستطاعته تغييرها أو حرف اتجاهها سلباً أو إيجاباً، ولا يستطيع نفي دلالاتها السياسية والتاريخية، فهو يكتفي بتدقيق هذه الأحداث السكونية ويستنبط دلالاتها. أما المبدع، فهو يعيد صياغتها فنياً بإعادة إنتاج مذابح الثامن من مايو، وهو ليس مطالباً بوضع تسلسل تاريخي للأحداث ولا حتى بتدقيقها؛ لكنه مطالب بعدم التناقض مع الحقائق التاريخية وبالصدق الفني في تصويرها. لقد كانت رواية "نجمة"، للروائي الجزائري كاتب ياسين، هي صرخة الشعب الجزائري الوجدانية الإبداعية تجاه مذابح الثامن من مايو: "ما أعلى الأسوار أماه"... لكن هذه الصرخة صيغت بإعادة إنتاج المذابح فنياً بأسلوب مونتاجي تخيّله المؤلف، وخيال الكاتب لم يكن بعيداً عن الواقع، بل يرتكز عليه ليتجاوز الوقائع إلى المستقبل – أو الرغبة والحلم. إنه حين يقول (على لسان سيدة فرنسية بعد المذبحة): (إنهم، أي الفرنسيين، بحاجة إلى هتلر جديد)، فإن هذا القول يعبر عن واقع الاحتلال الفرنسي الهتلري في مذابحه، ولكنه أيضاًيوحي بنهاية الهتلر الفرنسي، مثلما كانت نهاية الهتلر الألماني. من هنا لا يمكن محاسبة رواية "نجمة" على أنها وثيقة تاريخية، وإنما يمكن الانطلاق من مبدأ كونها وثيقة إبداعية توحي بالتاريخ ولا تتناقض معه، ولكنها ترى المستقبل. هذه الرؤية الإبداعية يهملها المؤرخ ما دامت تعبر عن حلم ورغبة، لأن المؤرخ يبحث عن وثائق الأحداث وتواريخها، ولن تفيده الرواية كثيراً في هذا المجال، إلا بكون الرواية تؤكد روح الزمن، لأنها رواية عميقة.

5. التاريخ يضيء النص:

بينما يقدم لنا المؤرخ مساعدة قيمة، حين يكشف عن معلومة تاريخية تفيد في إضاءة النص أو تفسر موقف المؤلف، فإن هذا، لا يعني، أن الحكم التاريخي هو الحكم القاطع حول قيمة النص. مثلاً نقرأ للكاتب الصهيوني الإسرائيلي، شموئيل يوسف عجنون، الحائز على جائزة نوبل، والذي يفترض ميكانياً أنه كاتب إنساني ما دام قد حصل على نوبل، التي يفترض أنها تمنح للكتاب الإنسانيين، (أوهكذا تصور لنا الصحافة الأورو-أمريكية، ذلك)، نقرأ روايته "الأمس الأول – 1945)، فنجد وصفه للعرب على النحو التالي: (لا كرامة لهم ويتحملون الإهانات... يستغلون المستوطنين... قتلة... وهم سبب خراب أرض فلسطين، مزعجون، قذرون... يغشون اليهود، يكرهون الحضارة، يشبهون الكلاب في جلستهم!!). إن الكاتب هنا يناقض الوقائع التاريخية حين يضع كل السلبيات على العرب. وهو موقف عنصري، لهتلرٍ إسرائيلي، مليء بالكراهية لأصحاب الأرض الأصليين (الشعب الفلسطيني)، كما يوحي النص نفسه. أي أن هذا الاستنتاج ليس إسقاطاً لعواطفنا كعرب، بل هو وصف موضوعي. ثم نجد في روايات عنجون، أن موقفه من شخصية "الأخت" في كل رواياته، سلبي دائماً. هذا الاستنتاج يلتقطه الناقد من خلال النص، وهو ليس بحاجة لمؤرخ لكي يقول له ذلك، اعتماداً على وثائق تاريخية تؤكد الاستنتاج نفسه. وإذا قدم لنا المؤرخ مساعدة ما من وثائق أو سيرة ذاتية مؤكدة للموقف، تساهم في إضاءة النص، فإن الأمر مفيد حقاً لناقد الأدب ولا ينبغي رفض هذه المساعدة، لكنها لا تغير من قيمة النص، أي كون النص هو المرجع الأول والأخير للاستنتاج. مثلاً يفيدنا باحث فلسطيني شاب يتبع المنهج التاريخي، ويتقن العبرانية، ويعيش في فلسطين -48، هو (أنطون شلحت)، يفيدنا بالمعلومة التاريخية التالية: (تجدر الإشارة إلى أن أحقاد عجنون هذا، مشوبة بأحقاد شخصية أيضاً، ذلك أن أخته أحبت عربياً فلسطينياً وتزوجته، الأمر الذي دعا عجنون إلى مقاطعتها مدى الحياة). ومعنى هذا أن هذه (الإضاءة الخارجية)، تساعدنا في تنوير النص، لكننا لن نخسر شيئاً في التحليل النصي، إذا لم نكن نعرفها – إنني شخصياً كنت أواجه مشكلة فعلية مع طلابي وطالباتي في جامعة قسنطينة، حين يتعلق الأمر بنص أدبي، اعتمد في مادته قصة قرآنية مثلاً: هم يعتبرون أن النص الأدبي، ينبغي أن يكون مطابقاً لأحداث القصة القرآنية، وأنا أقول إن شخصية "يوسف"، وشخصية "زليخة"، هما مثلاً كما يتناولهما الشاعران الفارسيان، الفردوسي، وعبدالرحمن الجامي، ليستا مطابقتين لأحداث القصة القرآنية، وليس هناك تطابق في المنظور، فهل ننفي عنهما صفة الإبداع الروحي، وأقول إن المسألة لا تطرح من منظور التطابق أو التناقض، لأنهما مختلفتان في النوع: قصص قرآني ديني سماوي، في مقابل، نص إبداعي بشري. وحقائق الإبداع مختلفة في النوع عن الحقائق الدينية. أما المؤرخ، فله – حتماً رؤية ثالثة.

6. جدلية الحاضر، والمستقبل:

كما هو سائد، ينظر المؤرخ للحوادث على أنها انتهت، أي تقع في الزمن – الماضي، بينما ينظر المبدع من خلال أزمنة ثلاثة: الماضي – الحاضر – المستقبل، وهذه الأزمنة ليست مرتبة تسلسلياً كما عند المؤرخ. وهو بإبداعه لنص يقف موقف قانون نفي النفي. والتطبيق لدى ناقد الأدب شرط أساسي للوصول إلى مقولات نظرية، يرى رينيه ويلك، أنه (لو سلمنا بوجود حقائق محايدة نسبياً، وقائع كالتواريخ والعناوين والأحداث الشخصية، فإننا لا نكون قد سلمنا بإمكانية تجميع حوليات تاريخية تتعلق بالأدب)، ومعنى تاريخيته، أنه (يمر من خلال عملية تطور يمكن اقتفاء أثرها)، ولكن (ويليك) يصل إلى نتيجة متطرفة، هي أن مذهبه في المنظور (يقر بوجود شعر واحد، وأدب واحد، قابل للمقارنة في كل العصور)، أي أنه يطبق القيم النقدية الواحدة على شعر كل العصور بالأدوات النقدية ذاتها، لكن هذا التطبيق، يتجاهل (تعددية الهويات) الشعرية، التي تنتج بالضرورة اختلافات شاعرية، وليس توحيداً مطلقاً. وفي مقابل وجهة النظر هذه، نجد في القطب المقابل – النقد "البنيوي" الذي يجعل تاريخية النص في شكله. ولجهة المؤلف نرى خيانات متبادلة بين المؤلف وطبقته التي نشأ فيها، فالولاء الإيديولوجي لم يكن دائماً مرتبطاً بالانتماء إلى شريحة اجتماعية إجبارية نشأ منها الكاتب. ولكن أيضاً لا يمكن أن يتخلى الكاتب تماماً عن إيديولوجيا شريحته الاجتماعية الأصلية. لقد هجر بعض الكتاب (رابطة الانتساب)، كما يسميها إدوارد سعيد، بالعودة إلى رابطة النسب. هناك كتاب انتموا لأحزاب تقدمية وعندما واجهت هذه الأحزاب أزمة ما أو انكساراً ما، رأينا الكاتب يعود إلى رابطة دم القبيلة، أو يكون شيوعياً مثلاً، فإذا به يتحول إلى (يساري ديمقراطي متأمرك)!!. ورأينا العكس، ورأينا بعض الكتاب يمزج بين الرابطتين بموقف تلفيقي انتقائي. ومن هنا نرى الضبابية الإيديولوجية في إبداعاتهم في سيرتهم الذاتية: ثوريون في نصوصهم، متخلفون في ممارساتهم، مضادون لخيال الدولة في نصوصهم، وملتزمون بمديح السلطة في أفكارهم السياسية. نعم يمكننا تقديم شواهد بلا حصر على التناقض: إدوارد سعيد نفسه ينقد (السلطة الثورية وبيروقراطيتها)، وهو مُحق في ذلك، لكنه مع ذلك، (يُطبّع مع مثقفي أعداء شعبه). كذلك: ما هذا الشعب الذي له (شاعر أوحد)، أو (شاعران أوحدان)!!، ولكن حتى لا نظلم الشعب، نقول بدقة أكثر: إن السلطة، هي التي تحاول تكريس هذه المقولة، بفرضها على الشعب، ومع هذا على الشعب أن يرفض ذلك. وإذا لم يرفض مقولة (الشاعر الأوحد!)، فهو لا يستحق الحياة. (الشاعر الأوحد) كان عضواً في (جماعة إيلان هاليفي) منذ أول الثمانينات. وكان عضواً في (لجنة الحوار السرية: الفلسطينية الإسرائيلية) عام 1987. كما أن الشعب الفلسطيني ليس بحاجة إلى بيت شعر مسروق من نيتشه: (على هذه الأرض ما يستحق الحياة)!!.
أما المنظرون الألمان، فيوازنون غالباً بين الحقيقة التاريخية والحقبة الأدبية، رغم أن صفات العصر التاريخية لا تكون مطابقة لصفات العصر الأدبي الذي يرافقه تاريخياً. فالشعر الإنجليزي الحالي مثلاً، هو شعر متوسط الإبداع ولا يوازي التطور الصناعي في بريطانيا حالياً، حيث أصبحت بريطانياتتلذذ بالتبعية للولايات المتحدة. فالشعر لا يعكس كل هذه الأزمات. ويمكننا من جهة أخرى تفسير ازدهار الدراسات الشكلية في هذا البلد العربي أو ذاك، حيث يسير الأدب إلى "ذاته" كما يفول بلانشو. التفسير الوحيد هو اليأس من مواجهة الدكتاتوريات، فبدلاً من المواجهة مع خيال الدولة (غير الديمقراطية)، تتم مهادنتها بتحديد لغوي بارد لا يضر خيال الدولة ولا ينفعه. فما الذي يزعج دولة غير ديمقراطية من نصوص، جميلة الشكل وباردة كالثلج، تقلد فولكلور شعرية الترجمة، كما في بعض قصائد النثر. ومن جهة أخرى، ليس بالضرورة أن يحدث التطور الأدبي موازياً لفعل المقاومة العسكرية والمقاومة السلمية (اللاعنف)، فقد يحدث أن يزدهر أدب المقاومة العسكرية والاجتماعية، لأن الشعر مثلاً هو نتاج أفراد، وقد تكتب قصائد رديئة في أرض محتلة. ويضرب كارل ماركس مثالاً على ذلك بمقارنة اليونان مع الأمم الحديثة، فعلاقة الأدب بالمجتمع يمكن طرحها من زوايا أخرى أهمها الصلات الرمزية أو المعنوية كما سماها رينيه ويلك.
7. الخلاصة:
نصل إلى خلاصة مفادها: أن هدف المؤرخ يختلف عن هدف ناقد الأدب. كما أن المبدع هو حارس النص الشعري. ولهذا يختلف منظور كل منهما إلى النص. وهكذا يلاحظ اهتمام المؤرخ بالنصوص العادية المتوسطة، لأنها تقف عند سكونية المناسبة ومادة الواقع الخام. ولا يقترب المؤرخون من النصوص العميقة إبداعياً، لأنها لا تلبي هدفهم. ونجد أنه لا يوجد تطابق بين النص ومبدعه بالضرورة ولا يمكن الاعتماد على النص أو السيرة الذاتية للمؤلف كوثيقة تاريخية، لكن المؤرخ يساعد الناقد والقارئ على إضاءة هوامش النص. كما أن مناهج النقد الأدبي تختلف في منظورها للنص، وأقربها إلى المؤرخ هو النقد الأكاديمي بفرعيه التاريخي والتفسيري. ويعود كل ذلك إلى الفرق بين خصوصية الإبداع النسبية، ورؤية المؤرخ للوقائع في النص: يفيدنا المؤرخ في مجال تصنيف النص والمؤلف في إطار الإيديولوجيات السائدة في مرحلة تاريخية معينة، حيث لا يعني ذلك أن النص هو مرآة المجتمع كما هي المقولة الشائعة، فهو يعيد إنتاج الواقع باتجاه الرغبة والحلم والمستقبل. كما أن النص، لا يأتي من فراغ اجتماعي وتاريخي... بل نكهة هي له ابنة الواقع الاجتماعي والتاريخي، ولكنها من نوع مختلف عنه في المادة والبنية والوظيفة. والأولوية من حيث الأهمية هي للنص، ثم للمؤلف، ثم للقارئ في عملية شاملة وجدلية. فالنص كائن اجتماعي له خصوصيته النسبية. ثمة فارق بين دم الجسد، ودم النص، ودم التاريخ، رغم أن المنبع واحد.
- وباختصار: لا يمكن فصل الشعر عن التاريخ، لكن يمكن فصل مادة الشعر عن مادة التاريخ، ويمكن التأكيد على اختلاف الوظيفة بينهما. فالقصيدة ابنة زمن حضورها، وهي إن استطاعت امتصاص التاريخ وتجاوزه معاً، تستطيع أن ترى المستقبل في القصيدة، لأن القصيدة لا تنشأ من فراغ.

_______
• محاضرة ألقيت في (ملتقى التاريخ)، الذي انعقد في (مدينة قالمة الجزائرية) بدعوة من جمعية التاريخ الجزائرية، بتاريخ (2-4/5/1986).


ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...