فؤاد التكرلي - سيمباثي


كان منطرحا على فراشه تحت المروحة ، عاري الجذع و شعره الأسود الكث يخفي عينيه ، حين أيقظه رنين الجرس. توتر جسمه وإنكمش ثم إنتصب جالسا على حافة السرير. أزاح خصلة الشعرعن جبهته. لم يكن مستيقظا ، كان يسمع الرنين فقط ، وهو الشيء الوحيد الذي أدركته حواسه المخدرة. تطلع بتبلد نحو الباب ثم قفز من فراشه و ركض نحو الهول. كان سروال بجامته أحمر قاني الحمرة يلتمع تحت الضوء. رفع سماعة التلفون الخضراء وهتف :
- هلو. نعم. هلو ؟
ثم جلس على الكرسي الوثير. كان الهول باردا ، ينتتشر في أنحائه الأثاث وبعض الكؤوس الفارغة والجرائد المرمية بإهمال على الأرض. كان صوته أجش أول الأمر. عاد يتكلم:
- هلو رعد . لا ،لا . زين . إي طبعا كعدت من النوم. ساعة بيش هسه؟
مدد ساقيه وتراجع بجسمه متكئاً على الكرسي ثم تثاءب بين كلامه. كان صدره أبيض ، مغطى بشعر أسود خفيف:
- نمت ورا التلاثة . تعبان جنت. إنتظرت أبويه الى أن جا من الدائرة. الغدا عدنا فد طركاعة. شنو ؟ لا ، ما يصير ناكل كبله . مخبل أنت ؟ يزعل فد اربع تيام. أسبوع يمكن ، حسب المزاج. ليش آني خلصت ورا كل هالانتظار؟ اثناء الأكل شفته ديباوع على شعري وزلوفي. عبالك كاتل الحسين. عرفت راح يهاجمني ، فخليت أكلي على النص وإنهزمت.
تثاءب طويلا ثم تمطى وحك رجله اليسرى بالأرض:
- خلينا يابه. إحنا عليها اليوم. شوكت راح تجي عليَّ ؟ عندك سيارة ، مو؟ أي . طبعا ، طبعا . البطاقات عند ثائر.
سحب بطرف قدمه بعض الجرائد الملقاة على أرض الهول وأخذ يعبث بها. لفتت نظره العناوين الحمراء الكبيرة في الصفحة الأولى :
- اخي أنت هواية متوهم. ثائر يجي للحفلة كبلنا كلنا. طبعا. ثائر إنسان سعيد و يعيش بالجنة. خش للجنة ورا ما مات أبوه. انت عقلك وين رعد؟ انت تدري أمه تمشط له شعره يوميا!
وصرخ :
- يوميا أخي ! يوميا. أما الفلوس.. فلا تحجي عليها. لا تضيع وقتنا بهيجي أسئلة. يكدر يجي لو ما يكدر ! أنت كلي ، راح تجي ريم لو ما تجي؟ هنا ضرب السجاجين . شنو ؟ إنت ما تدري ؟ لعد منو يدري أنعل مذهبك ؟ خابرها أخي ، دز لها برقية. آني ما اكدر اتحمل الحفلة بلا ريم. أدري راج تجي وياها أختها. شعليه. آني راح أركص وياها. فإنت دير بالك رعد ، تره القضية مو شقة . خليني أشوف دربي وياها.
كانت العناوين على الصفحة الأولى حمراء قانية. حمامات الدم في السودان. إعدام محجوب بعد محاكمة صورية. حك صدره:
- هسه ما علينا. شوكن تمر عليّ ؟ من وكت أحسن . ستة ، ستة وربع. منو راح يجي وياك ؟
إعدامات بالجملة. مطاردة العناصر القديمة في كل مكان. الإرهاب والنار والدم في الخرطوم. العالم يستنكر إعدام الشفيع. رفس الجريدة محاولا أن يعدل من طياتها .
- زين. صار. كلي رعد ، هاي شكو بالسودان ؟ يبين كاتل ومكتول. زين يابه. سته وربع لعد. أنتظرك بالباب . لاتنسى ريم عيوني رعودي.
ثم تمطى متثائبا و بدا يهم بالقيام:
- كلي منو راح يعزف ؟ كوكو ، لو هذاك الجربوع سلام ؟ ها. طبعا يطلب ميتين دينارعلى الليلة. حقه أخي . صوته زين وعزفه ممتاز وأداءه حسن. صار. صار. باي باي.
أعاد السماعة الى مكانها وبقي شبه ممدد على الكرسي الوثير. كان الهول باردا يسوده السكون ، وصوت المبردة يأتي من جهة في الدار بعيدة. مر بأصابعه في شعر رأسه الكث وهو ينظر الى السقف. لم تبد على سحنته الفتية أية علامة من علامات التفكير. قام بعد لحظات وسار بخفة على العناوين الحمراء ، قاصدا الحمام.

***

إجتازوا عن قرب سيارة بيضاء صغيرة ثم إندفعوا مسرعين على الطريق الخلوي المظلم. كانوا يصخبون ، والهواء المندفع من النوافذ المفتوحة يعبث بشعورهم. صرخ رعد وهو يترك المقودويرفع يديه عاليا: - هو.. هو.. هو.. طلعناهم ، شفتوا ؟ خرّعتهم. أكيد بالوا جوّاهم. الجربان. أكيد ماتوا من الخوف. شفت جبار؟
كان هو جالسا في المقعد الخلفي وراء رعد. قهقه وأجابه:
- لك بعد شويه تضربهم ، رعد.
بدا ثائر يغني بصوت عال :
- جست ثنك اوف ذوس آوت إن ذي كولد أند دارك. كوز ذيرز نوت انيف لوف تو كو راوند. آند سيمباثي إز وي نيد ماي فريند. أند سيمباثي..
كان منكمشا في المقعد الأمامي قرب رعد ، وشعره الطويل الأسود يتطاير بشكل جنوني وراءه. رافقه " بريق " في الغناء :
- .. اند سيمباثي إز وات وي نيد . اند سيمباثي از وات وي نيد ماي فريند ..
راقص ريم طوال الليل. كانت ثيابها القصيرة سوداء ، وشعرها الأشقر ممسدا طويلا هفهافا. إحتضنها خلال تلك الساعات اللذيذة ولم ينافسه أحد. رقصة بعد رقصة و يداها الحارتان تمسكان به. لكنها لم ترد أن يلتصق بها. مثل الهرة الخائفة ، وعيناها المليئتان بالأخضر والأسود تتحركان بسرعة كلما شدّها إليه.
.. أند سيمباثي إز وات وي نيد ماي فريند. كوز ذيرز نوت اينف لوف تو كو أراوند.
صرخ رعد مرة أخرى :
- و اللهة انعل أجدادكم إذا رادوا يطلعونا. جربان.
ثم اخرج رأسه من السيارة وعاط :
- جربان جربان.
تراجع ثائر وتوقف عن الغناء :
- شكو رعد؟ لويش هالعياط ؟
قفزت السيارة مثل كرة مطاطية ثم إندفعت بسرعة عظيمة تشق الظلام. كان مبتهجا بمسائه الجميل. لم تكلمه طويلا ، لكنها في قبولها المستمر للرقص معه ، أوعدته بشيء ما . أخرج رأسه هو الآخر من النافذة المفتوحة :
- ريم. ر.. ي .. م، ر..ي..م.
عاد ثائر يغني :
- ناو هاف ذي ورلد هيرتس ذي أذرهاف. اند هاف ذي ورلد هاز اول ذي فود. اند هاف ذي ورلد لايز داون أند كوايتلي ستارفز. كوز ذيرز نوف اينف لوف تو كو راوند. اند سيمباثي از وات وي نيد ماي فريند اند سيمباثي..
هتف رعد يكلمه :
- جبار ، بالله ما تشوف هاي السيارة ورانا فيات بيضاء لولا ؟
كانت السيارة بيضاء من نوع ( فيات ) وأضويتها باهرة تعمي البصر. أجابه بالإيجاب . قفزت سيارتهم قفزة أخرى منطلقة بسرعة هائلة. عاد ثائر وبريق يغنيان وقد إرتميا في مكانهما دون مبالاة – كوز ذيرز نوت إينف لوف تو كو راوند. اند سيمباثي . از وات وي نيد ماي فريند.
تمايلت السيارة على جهة من الشارع ، ثم عادت تميل نحو الجهة الأخرى. إلتفت هو الى الخلف . رأى الفيات البيضاء قريبة منهم الى الوراء يحاول سائقها إجتيازهم فيمنعه رعد عن ذلك . صرخ برعد:
- سوك رعد. سوك أخويه. طير.. طير لا توّكر.. طير عيني.
ثم أخرج رأسه من النافذة :
- لج كلبي ريم . ر..ي..م.
قاطعه ثائر :
- شنو هاي جبار. ما تخلينا نغني.
وعادا ، ثائر وبريق ، يغنيان :
- .. اند سيمباثي ..
إنحرفت السيارة بهم الى اليسار. تمايلوا ضاحكين ..
- ..إز وات وي نيد ماي فريند. اند سيمباثي إز وات وي نيد.
إرتفع صوت بوق خلفهم ، قويا غريبا في رنينه ، فمال رعد بالسيارة على جهة و تباطأ لحظات في سيره. خطفت " الفيات " البيضاء قربهم وصمَّ آذانهم بوقها المدوي. أذهلهم ذلك وأخذ رعد في الضغط على البوق هو أيضا :
- سرسرية . سرسرية . جربان .
وتعالى صوت ثائر :
-.. اند سيمباثي ..
فصرخ به رعد :
- إنجب لك ثائر. ما تشوف شلون طلعونا؟
صاح هو مزمجرا:
- لك أنت ما عندك غيرة ، ثائر ؟
- أند سيمباثي از وات وي نيد ماي فريند..
قطعت غناء ثائر صرخة العجلات ُتكبح بغاية القوة ، وإنتبه هو الى السيارة " الفيات " البيضاء تقطع عليهم الشارع . كان رعد ، في محاولته التخلص من الإصطدام ، قد إستدار بعنف نحو اليسار، فإهتزت بهم الكراسي و شعروا بالسيارة ُيعبث بها كلعبة من الورق. ثم جاءت كبحة العجلات الأخيرة فتمايلت السيارة ثم إستدارت حول نفسها نصف إستدارة وإتجهت نحو حافة الطريق حيث توقفت دفعة واحدة بعد أن إنغرست مقدمتها في منخفض ترابي . كانت أنفاسهم مقطوعة وهم يتلفتون بذعر حولهم. لم يتكلم أحد منهم ، وبدا المكان هادئا بشكل مميت. لفتت أنظارهم حركة في السيارة الفيات الواقفة على مبعدة أمتار منهم. كانت الأنوار مشعلة فيها ورأوا أربعة رجال يترجلون منها بسرعة. لم يفهموا الأمر جيدا ولكنهم أحسوا بخطر غامض حين شاهدوهم يتوجهون نحوهم. هتف رعد"
-انزلوا. خلي نشوف شيردون هذوله.
كانوا قد فتحوا أبواب السيارة قبل أن ينتهي من كلامه وتركوا أماكنهم . أحس ضعفا شديدا في ساقيه فإستند على الباب. كان الهواء باردا ، ذا رائحة تشبه رائحة الأعشاب البرية المطبوخة. بدت له أنوار البيوت بعيدة . كانوا محاطين بأرض واسعة غير ذات بناء. خطر له أنه يجب ألا يورط نفسه في تعقيدات قد يسمه بها أبوه بعد ذلك. إلتفت نحو جهة السيارة الأخرى. كان الرجال الأربعة على مبعدة أمتار قليلة. إثنان منهم طويلان عريضا الأكتاف. سمعوا صوتا أجش عاليا يخاطبهم :
- لك هاي على من دتعفطون ؟
ثم طرق أذنه بشكل غامض سؤال ثائر :
- شنو أخي ؟
راى ظلا ينقض كالنمر على ثائر ، وسمع صوتا مكتوما وآهة توجع وألم. أذهلته هذه الحركة وإلتفت نحو رعد. بدا له حائرا في وقفته. لمح" بريق " يتهاوى بسكون على الأرض ثم يتدحرج قليلا قرب العجلة. تملكه الروع حين بان له وجه بريق لحظة، ملوثا بالدماء. رمى نفسه نحو الظلام ، نحو الأرض الخلاء دون إنتظارلأحد. أحس برجليه تغوصان قليلا في التراب فتماسك وعاود الركض بكل قوة. لن ينقذه غير الهرب. كانت أنفاسه تتلاحق و صدره ضيقا ً. إلتفت الى الخلف فأفزعته تلك الأشباح التي بدا كأنها تتعقبه. زاد من سرعة عدوه وهو يرطب شفتيه اليابستين ويلهث كحيوان جريح. سمع نداءا غامضا يتردد خلفه. لم يلتفت وتزايد ذعره . لن يتركوه حياً اولئك القتلة ، لو أمسكوا به. ثم خيل إليه كأن رعد يناديه:
- جبار .. لك عيني جبار . إلحك لي الله يخليك.
تلت ذلك صرخة واحدة .
كان يركض في الظلام ، لاهثا ، دون أن يستدير خلفه. بدت له أضواء المدينة خافتة بعيدة. ليس هناك من يستطيع نجدتهم ، وكان حلقه جافا والعرق يتسايل على وجهه. لم يبق من رفاقه غيره ، هو الذي سيخبر العالم عما جرى لهم. إلا أن أحدا لن يصدقه ، ما دام هو الناجي الوحيد. و سيلعنه والده و يكذبه منذ اللحظة الأولى. كان يسمع قدميه تضربان الأرض الترابية اللينة ويحس بتشنج في عضلات فخذيه. لم يطلب النجدة لو إقترب من البيوت المضاءة تلك. إلتفت خلفه ، كان وسط الظلام الدامس ، يلهث متطاير الشعر ويتصبب عرقاً. رأى من بعيد ، خيط ضوء أبيض يتحرك ، مسح الأفق ثم إختفى. أبطأ قليلا ثم توقف. لم يكن هنالك أحد يتبعه ، وأدهشه الصمت المطبق حوله. كانت أصداء أنفاسه الثقيلة فقط تتردد في رأسه وأذنيه. مرَّ بيده على جبهته ووجهه المبللين ثم رفع ببطء ، نظره نحو السماء السوداء.

1972

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...