حسين البعقوبي - الشريكان

مر عام أو ربما أكثر على سجني.. لست خبيرا في حساب الأيام.. لكن سمعت سجاني يقول لولده انه سيقدم لي هدية بمناسبة مرور عام على سجني . ثم حين ابتعد ولده اقترب مني ونظر إلي وهمس وكأنه يتحدث إلى نفسه : اطمئن.. سأطلق سراحك .
لم أشعر بأنه يعني ما يقوله. غالبا ما كنت أسمعه يردد بعض الأكاذيب. وربما تكون هذه إحداها ، لكنني هذه المرة رأيت عيناه تلمعان بشكل غريب .. ووشت ملامحه بمسحة حزن خفي لم افهم سره .
اقترب من باب السجن وفتحه ، ثم ابتعد ليقف على مسافة قريبة . تسارعت نبضات قلبي وشعرت بالخوف والقلق ، لكن لم اقترب من الباب المفتوح ، بل صرت أتحرك يمينا ويسارا داخل حدود سجني ، وأنا اختلس النظر تجاه سجاني . مرّ بعض الوقت . لاحظت أن السجان بدأ يشعر بالملل . ويبدو أن ظني كان في محله ، فقد انسحب بعد قليل وغاب عن ناظري .
على الرغم من ابتعاده كنت قلقا وأخشى إن أنا اقتربت من الباب أن يفاجئني بضربة خاطفة أو بأي رد فعل عنيف ليعيدني إلى الداخل ويقفل الباب وهو يضحك . فأنا بالنسبة له مجرد وسيلة للهو والتسلية.
لكن الوقت كان يمضي .. والمساء يقترب .. بينما الأجواء تشي بالسكون والصمت المطبق . أخيرا حزمت أمري وقررت أن أخرج قبل أن يحل الظلام .
طرت فرحا وأنا أغادر للمرة الأولى منذ عام ، هذا السجن الذي سلبني حريتي . لم أجد مكانا أستطيع اللجوء إليه ريثما يحل الصباح فاختبأت بين الأشجار . خيل لي بعد حصولي على حريتي أنني سأشعر بالسعادة. لكن ومن مكان ما انبثقت في رأسي صورة صغاري الذين سرقهم هذا السجان ولم أعد أراهم منذ لحظة وقوعي في أسره.
عند الفجر صحوت من النوم .كنت أشعر بالجوع والعطش . ولم يزايلني القلق فقد كنت أفكر في مصير صغاري .. وأتساءل.. ترى ماذا لو كان سجاني يمتحنني .. وإن أنا هربت .. ربما يقتلهم !! هذه الفكرة جعلتني اقفز من مكاني وانطلق مسرعا لأدخل السجن مرة أخرى قبل أن يصحو سجاني . وقد صدقت ظنوني في أن ثمة خدعة ما ، فبعد لحظات جاء السجان وكان أول شيء فعله هو النظر إلى باب السجن وحين تأكد من وجودي بالداخل لاحظت بعض الدهشة على ملامحه .. أو ربما شعر بخيبة الأمل لأنه كان يراهن على هروبي وعدم عودتي مهما كانت التضحية .
مرت ساعات النهار ثقيلة وطويلة ومقلقة .. ربما كان لباب السجن الذي ظل مفتوحا طوال الوقت السبب الرئيس في هذا الإحساس.
ومرة أخرى عندما حل المساء غادرت سجني وابتعدت هذه المرة لمسافة أبعد من السابقة . وكنت أفكر أن أرحل بعيدا عند الفجر .. لكن صورة صغاري كانت تشخص أمامي بقوة.. وتفزعني أصوات صرخاتهم في تلك الليلة المشئومة حين تعرضت أنا للسجن وتعرضوا هم لمصير ما زلت اجهله.. واجهل أيضا سبب سجني وكل ما حدث بعد ذلك .
مرت بضعة أيام ، وباب السجن لم تصله يد السجان ، وأنا أمارس تلك اللعبة في الخروج والدخول إلى السجن. وقد حاولت أكثر من مرة أن أتسلل إلى أماكن خطرة جدا بحثا عن صغاري ، دون أن أراهم أو اسمع أصواتهم .. حتى شعرت باليأس من العثور عليهم . فكان قراري أن أغادر السجن هذه الليلة ولا أعود أبدا .
عند الظهيرة جاء السجان ومعه ولده . دار حوار بينهما.. يبدو أنني كنت أنا محوره . إذ ختم السجان الحديث وهو يقول لولده : حسنا أنه لك .
ظهرت معالم الفرح على وجه الصبي الذي أسرع إلي . خطر لي انه سيخرجني من المكان بالقوة .. لكن يده اندفعت نحو الباب فأقفلته . صدر عن حركته تلك صوت خافت . لكنها كانت أشبه بمطرقة هوت على رأسي . أصابني في تلك اللحظة ما يشبه الجنون ، فرحت أرفرف بجناحي بسرعة كبيرة واندفع بسرعة داخل القفص ..فاصدم الباب بقوة ثم اسقط ، ثم أعاود الطيران في هذه المساحة الضيقة لأضرب الباب بجسدي مجددا . وهكذا واصلت الضرب حتى خارت قواي وسقطت على الأرضية وأنا ألهث بشدة .
عندها اقترب سجاني وهمس وهو يبتسم ربما بخبث أو مرارة .. لا تلمني أيها البلبل .. فأنت لم تغتنم الفرصة حين فتحت لك باب القفص . ثم مضى مبتعدا وهو يردد : لا تحزن كثيرا فحالي ليس بأفضل من حالك .





التفاعلات: أحمد الحلواني
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...